وكان حسين مشغولا بالتفكير في طلب الاستخدام والتوصية القوية، فلم يعن بالرد على أخيه، فقال حسنين حانقا: إني أعجب لما تتحلى به من رضا وهدوء! ولكنه تظاهر لا يمكن أن يخدعني.
فغمغم حسين مبتسما: وما جدوى الحنق؟ لن نغير الدنيا! - يجب أن تتغير! من حقنا ولا شك أن ننعم بالسكن النظيف، والمأكل الصحي، والمركز المرموق. ولكني أراجع حياتنا جملة فلا أجد بها خيرا أبدا.
فحدجه حسين بنظرة غريبة لم يفهم معناها وقال له: ولكنك تتمتع بالحب، وستكمل تعليمك، أليس هذا خيرا؟
ونظر إليه ثم نظر في ما أمامه؛ ترى ماذا يعني؟ وشعر بعدم ارتياح، وتضاعف ضيقه. ثم روح عن صدره متسائلا: ألم يكلفك هذا التضحية بنفسك؟ إن لنا حقوقا بديهية، ولا يجوز أن يضيع شيء منها، فأين نحن من هذا؟ .. كيف نعيش؟ .. ماذا تكابد أمنا؟ .. أين أخونا حسن؟ .. كيف انقلبت أختنا خياطة؟
وقطب حسين وقد تنغص عليه صفوه، وتناسى جوهر الموضوع ووقف عند الصفة الأخيرة حانقا، وصاح في أخيه بلهجة تنم على العتاب: خياطة!
فقال حسنين في هياج وانفعال: نعم خياطة، هل تكره هذا حقا؟ أتتمنى حقا لو كانت تزوجت كأمثالها من الفتيات؟! كذب. لو كانت تزوجت، بل لو لم تكن خياطة لاضطر كلانا إلى الانقطاع عن المدرسة والبحث عن مهنة حقيرة، هذه هي الحقيقة.
واشتد الغضب بحسين، لا لأنه لا يسلم بما قال أخوه، ولكن لأنه يسلم به في أعماقه، ولأنه ما كان يرحب بزواج الفتاة وسعادتها؛ «إننا نأكل بعضنا بعضا، ينبغي أن نسر بتهريج حسن وعبثه، ما دام يجيئنا كل شهر بفخذ خروف! وينبغي أن نسر بأختنا الخياطة ما دامت تعد لنا لقمتنا الجافة، وهذا الشاب المتذمر ينبغي أن يسر بانقطاعي عن التعليم، ما دام سيتم تعليمه هو! يأكل بعضنا البعض؛ أي وحشية! أي حياة! لعلي لا أجد إلا عزاء واحدا وهو أن قوة أكبر منا جميعا تطحننا طحنا وتلتهمنا التهاما، وأننا نصمد ونقاتل.» وتركز تفكيره في الخاطر الأخير، فيما سماه العزاء الوحيد، فسكنت نفسه، وسكت عنه الغضب، وقال وكأنه يخاطب نفسه: نحن لا يأكل بعضنا البعض! لا تقل هذا (لم تكن هذه العبارة من قول شقيقه، ولكنه لم يفطن لهذا) ... لا تقل هذا أبدا، نحن أسرة بائسة، ولنا نظائر وأشباه لا يحيط بهم حصر، وواجب كل واحد منا أن يجود بما يقدر عليه من البذل والتضحية!
ثم طلب إلى أخيه في حزم أن يمسك عن الجدل، وكانا بلغا محطة الترام.
46
وتبين لحسين أن الوظيفة - أو التضحية التي رضي ببذلها عن طيب خاطر- لم تكن منالا يسيرا؛ فقد انصرمت ثلاثة أشهر وهو يتردد في هم ويأس ما بين فيلا أحمد بك يسري ووزارتي المعارف والحربية، وأخيرا أخبره البيك أنه أمكن إلحاقه بوظيفة كاتب بمدرسة طنطا الثانوية، وحثه على تقديم نفسه للقومسيون والاستعداد للسفر لتسلم عمله في أول أكتوبر. وسر الفتى، وسرت الأسرة، ولكنه سرور لم يكن خالصا، وشابته مرارة! كانت الأم تنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر كي تنتشل الأسرة من وهدتها، وتبدلها حالا بعد حال! فجاء السفر مخيبا لهذا الرجاء، وتحيرت الأم بين فرحها وحسرتها، وأيقنت أن الوظيفة لن ترفه عن الأسرة إلا قليلا، وأن خيراتها ستتبدد ما بين طنطا والقاهرة، وإلى هذا كله فقد لاح في أفق الأسرة شبح فراق جديد لم تألفه، فتوجعت قلوبها، وعجبت الأم لهذا الحظ الذي يأبى أن يمنحها ابتسامة إلا تحت عبوسة متجهمة، والذي يمد يد النوى بينها وبين الابن الوحيد الذي لا يخلق لها المتاعب! كانت ترى في حسين صورة من نفسها الهادئة الصابرة، وكانت تجد عنده من الأنس والراحة ما لا تظفر به عند غيره. أجل لم يكن أحب الجميع إلى قلبها؛ إذ كان حسنين الطفل المشاكس الذي يحظى بهذه المنزلة، ولكنه بدا لعينيها وقتذاك كأنفس ما تملك في حياتها. ووقع الفراق من نفس حسين موقعا سيئا، وحزن له حزن رجل لم يبتعد عن بيته يوما واحدا في حياته، وضاعف أثره في نفسه تعلقه الشديد بأمه وإخوته، وما كان يأمل من الترفيه عنهم بوجوده بينهم. وكان يقول لنفسه كثيرا «سأعيد نفيسة إلى بيتها سيدة محترمة حال تسلمي أول مرتب من الحكومة.» ولكنه رأى حلمه يتبدد، وغدا يذهب إلى بعيد مخلفا أسرته المحبوبة وراءه على حال ليست أفضل كثيرا مما كانت عليه، ولعل هذا ما جعله يمضي إلى أحمد بك يسري مستشفعا بنفوذه على إبقائه في القاهرة، ولكن البيك - وكان ضاق به - أخبره بأن رغبته بعيدة عن التحقيق في الوقت الحاضر، ثم اعترضته مشكلة جديدة تتعلق بالنقود التي يجب أن تتوافر له ليقيم بها أسباب معيشته في طنطا حتى يتسلم أول مرتب له في نهاية الشهر؛ من أين له بهذه النقود؟ واتجه نحو أخته نفيسة، ولكن الفتاة كانت تنزل لأمها عن جل أرباحها المحدودة، ولا تكاد تبقي لنفسها على شيء إلا ما يلزم لكسائها، وإلى هذا فما تبقى من أثاث البيت لا يفي ثمنه - إذا بيع جميعه - بمطلبه، فلم يجد من ملاذ أمامه إلا أخاه حسن. وخاطب أمه فيما تراءى له فوافقت عليه، ولم يداخلها شك في نجدة ابنها الأكبر إذا وسعه ذلك، وأطلعته على عنوان أخيه لأول مرة، فمضى من توه إلى شارع كلوت بك، وراح يبحث عن عطفة جندف، وكان غادر البيت كبير الأمل، ثم تسلل القلق إلى نفسه رويدا رويدا حتى تساءل في النهاية ترى هل يعطيني حسن ما أريده حقا؟! وإذا لم يفعل فهل تضيع الوظيفة من أجل بضعة جنيهات لا يجدها؟! ثم اهتدى إلى عطفة جندف وهو على حال من التشاؤم مؤلمة، ووجدها عطفة ضيقة متعرجة، تقوم على جانبيها بيوت متداعية، وتسطع في هوائها الفاسد رائحة السمك المقلي، وتكتظ بالمارة وعربات اليد، وتتجاوب في جوها نداءات الباعة تتخللها شتائم ونحنحات محشرجة وبصقات غليظة، ثم تأخذ أرضها المغطاة بالأتربة ونفايات الخضر، وروث الدواب في الصعود تدريجيا حتى خيل إليه في النهاية أنها مقامة على سفح تل. ومضى الشاب إلى البيت رقم 17، وهو بيت قديم من دورين يلفت الأنظار بضيقه، فكأنه عمود ضخم، وقد جلست غير بعيد من مدخله بائعة دوم ولب وفول سوداني؛ فدخل كالمتردد وارتقى سلما حلزونيا بغير درابزين، وقد زكمت أنفه رائحة نتنة صاعدة من بئر السلم، حتى انتهى إلى الدور الثاني وطرق الباب، كانت الساعة حوالي الحادية عشرة صباحا، وكان أخوف ما يخافه ألا يجد أخاه في الشقة، وزاد من خوفه أن أحدا لم يلب الطارق، وعاود الطرق بشدة ويأس حتى كلت يداه، ثم وقف يائسا لا يدري ماذا يصنع، وقبل أن يتحول عن موقفه جاءه صوت غليظ من الداخل يهتف بحنق: من ابن الكلب الذي يطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟!
نامعلوم صفحہ