بداية ونهاية
بداية ونهاية
بداية ونهاية
بداية ونهاية
تأليف
نجيب محفوظ
بداية ونهاية
1
ألقى الضابط نظرة كئيبة على الردهة الطويلة التي تفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة، وقد شمل المدرسة - التوفيقية - سكون عميق، ثم مضى إلى فصل من فصول السنة الثالثة، ونقر على الباب مستأذنا، ودخل متجها صوب المدرس وأسر في أذنه بضع كلمات، فسدد المدرس بصره صوب تلميذ يجلس في الصف الثاني وناداه قائلا: حسنين كامل علي.
فقام التلميذ وهو يردد بين المدرس والضابط نظرة مليئة بالترقب والقلق، وغمغم: أفندم؟
فقال المدرس: اذهب مع حضرة الضابط.
فخرج التلميذ عن قمطره، وتبع الضابط الذي غادر الفصل في خطوات بطيئة. ولم يطمئن قلبه لهذه الدعوة، وراح يسائل نفسه: ترى أجاءت بسبب المظاهرات الأخيرة؟ وكان قد اشترك في المظاهرات، وهتف مع الهاتفين: «ليسقط تصريح هور» و«ليسقط هور ابن الثور»، وقد ظن أنه نجا من الرصاص والعصي والعقوبات المدرسية جميعا، فهل كان مغاليا في ظنه؟ وسار وراء الضابط في الردهة الطويلة متفكرا، يتوقع بين لحظة وأخرى أن يجبهه بما عنده من تهم، ولكن قطع عليه تفكيره وقوف الرجل حيال فصل من فصول السنة الرابعة ودخوله مستأذنا، ثم بلغ مسمعه صوت المدرس وهو ينادي قائلا: حسين كامل علي.
شقيقه أيضا؟! ولكن كيف يمكن أن توجه إليه تهمة من هذه التهم، وهو لا يشترك في المظاهرات بتاتا؟! وعاد الضابط يتبعه الفتى واجما، وما إن وقعت عيناه على شقيقه حتى غمغم في دهشة: وأنت؟! .. ماذا حدث؟!
وتبادلا نظرة حائرة، ثم تبعا الضابط الذي مضى متسمتا حجرة الناظر. وسأله حسين في لهجة رقيقة مؤدبة: ما الذي أوجب استدعاءنا من الفصل؟
فأجاب الضابط بعد تردد قائلا: ستقابلان حضرة الناظر.
وقطعوا بقية الردهة دون أن ينبس أحدهم بكلمة، وكان الشقيقان متشابهين لدرجة كبيرة؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل، وعينان عسليتان واسعتان، وبشرة سمراء ضاربة إلى العمق، إلا أن حسين في التاسعة عشرة، يكبر أخاه بعامين ودونه طولا، على حين يمتاز حسنين بدقة في قسمات وجهه أكسبته وضاءة ووسامة . ومضى قلقهما يتزايد وهما يقتربان من حجرة الناظر، وتخايل لعينيهما منظره الصارم في رهبة وخوف، وزرر الضابط سترته، ونقر على الباب، ثم دفعه برقة ودخل وهو يومئ إليهما أن يتبعاه. ودخلا وهما ينظران إلى الرجل وقد انكب على مكتبه في صدر الحجرة يقرأ رسالة بعناية دون أن يرفع بصره نحو القادمين كأنه لم يشعر بحضورهم. وحياه الضابط بأدب جم وقال: التلميذان حسين كامل علي، وحسنين كامل علي.
فرفع الناظر رأسه وهو يطوي الرسالة بيديه، وأطفأ عقب سيجارة في النافضة، وجعل يردد بصره بينهما، ثم تساءل: في أي سنة أنتما؟
فقال حسين بصوت متهدج: رابعة رابع.
وقال حسنين: ثالثة ثالث.
فنظر الرجل إليهما مليا ثم قال: أرجو أن تكونا رجلين كما ينبغي. لقد توفي والدكما كما أبلغني أخوكما الأكبر، والبقية في حياتكما.
ووجما في ذهول وانزعاج، وهتف حسنين وهو لا يدري قائلا: توفي أبي! .. مستحيل!
وغمغم حسين وكأنه يحدث نفسه: كيف؟! لقد تركناه منذ ساعتين في صحة جيدة وهو يتأهب للخروج إلى الوزارة.
فصمت الناظر قليلا ثم سألهما برقة: ماذا يعمل أخوكما الأكبر؟
فقال حسين بعقل غائب: لا شيء.
فتساءل الرجل: أليس لكما أخ آخر موظف، أو شيء من هذا القبيل؟
فهز حسين رأسه قائلا: كلا.
فقال الرجل: أرجو أن تتحملا الصدمة بقلوب الرجال، واذهبا الآن إلى البيت، كان الله في عونكما.
2
وغادرا المدرسة إلى شارع شبرا يلتمسان طريقهما خلل الدموع. وكان حسنين أسرعهما إلى البكاء، فأراد حسين أن ينهره في حال عصبية، ولكن أفحمه البكاء، واختنق صوته، فلم ينبس بكلمة. وعبرا الطريق إلى الجانب الآخر، وحثا خطواتهما قاصدين عطفة نصر الله على مسيرة دقائق من المدرسة. وتساءل حسنين وهو ينظر إلى شقيقه كالمستغيث: كيف مات؟
فهز حسين رأسه واجما وتمتم: لا أدري. لا أستطيع أن أتصور. لقد تناول فطوره معنا، وتركناه في صحة جيدة. لا أدري كيف وقع هذا.
وحاول حسنين أن يتذكر الصباح القريب بتفاصيله؛ فذكر أنه رأى أباه أول ما رآه وهو عائد من المرافق، فحياه كعادته قائلا : «صباح الخير يا بابا» فأجابه مبتسما: «صباح الخير، ألم يستيقظ أخوك؟» واجتمعوا بعد ذلك حول المائدة، فدعا الرجل الأم إلى مشاركتهم الطعام فاعتذرت بأن نفسها مصدودة، فتذمر الرجل قائلا: «إذا جلست معنا انفتحت نفسك» ولكنها أصرت على الاعتذار، فقال بعدم اكتراث وهو يقشر بيضة: «على كيفك.» لا يذكر أنه سمعه يتكلم بعد ذلك، اللهم إلا نحنحة مقتضبة. وكان آخر ما رآه منه ظهره وهو يدخل حجرته مجففا يديه في منشفته. ثم انتهى، انتهى، أبشع بها من كلمة! واسترق إلى حسين نظرة مروعة فوجده محزونا واجما كأنما كبر وشاخ، وعاد إلى ذكرياته وهو يكابد لوعة حارة: لا أصدق أنه مات، لا أستطيع أن أصدق. ما هذا الموت؟ لا أستطيع أن أصدقه. انتهى؟ لو كنت أعلم أن هذا آخر ما بقي لنا من عمره ما غادرت البيت. من أين لي أن أعلم؟ أيموت الإنسان وهو يأكل ويضحك؟ لا أصدق. لا أستطيع أن أصدق. وانتبه على أخيه وهو يجذبه من ذراعه إلى عطفة نصر الله التي كاد يفوتها في ذهوله. وسارا في طريقها الضيق تصطف على جانبيه البيوت القديمة، والحوانيت الصغيرة إلى ما يعترضها من عربات الغاز والخضر والفاكهة. وسبقهما البصر إلى عمارتهما ذات الأدوار الثلاثة، والفناء المستطيل الترب، ثم ترامى إلى أذنيهما الصوات، فتبينا صوتي أمهما وأختهما الكبرى، وهزهما حتى الأعماق فأجهشا في البكاء، وجريا لا يلويان على شيء، وارتقيا السلم مهرولين إلى الدور الثاني، فوجدا باب الشقة مفتوحا فتدافعا إلى الداخل، وقطعا الصالة إلى حجرة الأب في نهايتها، ثم دخلا وهما يلهثان. وثبتت عيناهما على الفراش وقد وشى الغطاء بالجسم الممدد تحته، ثم اقتربا من حافته وارتميا عليها وأغرقا في نشيج حار. وكفت الأم والأخت عن الصوات على حين غادرت الحجرة امرأتان غريبتان. وأرادت الأم أن تتركهما ينفسان عن صدرهما فتماسكت واقفة في جلبابها الأسود، وقد احمرت عيناها وانتفخ خداها وأنفها، أما الأخت فقد ارتمت على كنبة وأخفت وجهها في مسندها، وراح جسمها ينتفض من البكاء، وكان حسين يبكي ولسانه يتلو بطريقة آلية بعض السور الصغيرة؛ استنزالا للرحمة. وكان حسنين يبكي في جو من الخوف والذهول والإنكار. وقف حيال الموت محتجا ثائرا، ولكن في نفس الوقت خائفا يائسا، «ليس هذا بأبي. لا يمكن أن يسمع أبي هذا البكاء كله دون أن يتحرك، رباه لماذا يجمد هكذا؟ إنهم يبكون ولكن في تسليم من لا حيلة له. لم أكن لأتصور هذا، ولا أتصوره. ألم أره يمشي في هذه الحجرة منذ ساعتين؟ ليس هذا أبي. وليست هذه حياة.» وبدأ الانتظار وكأن لا نهاية له، فاقتربت الأم من الشابين ومالت نحوهما قائلة: حسبكما. قم يا حسين خذ أخاك خارجا.
وأعادت القول حتى قام حسين وأنهض أخاه، ولكنهما لم يغادرا الحجرة، وقفا يلقيان على الجدث المسجى نظرة طويلة غائمة بالدموع. ولم يستطع حسين أن يقاوم رغبة حارة غامضة، فانحنى على الجثمان، وكشف الغطاء عن وجهه دون مبالاة بالحركة التي بدرت من أمه، فطالعه الوجه الغريب موسوما بميسم الفناء، تشوبه زرقة مروعة، ويرين على صفحته سكون غير دنيوي، في عمق العدم ولا نهائيته، فسرت رجفة في أوصاله. لم يكن أحد منهما قد رأى ميتا قبل هذه المرة، فركبهما الخوف والأسى. ونفذ إلى أعماقهما حزن قهار إلى حيث لم تنفذ عاطفة من قبل. ومال حسين نحو الميت، ولثم جبينه فعاودته الرجفة. ومال حسنين نحوه كذلك، ولثم جبينه في شبه غيبوبة. وأعادت الأم الغطاء على الرأس الفاني، وحالت بينهما وبين الفراش، ثم قالت لهما بلهجة حازمة: اخرجا.
فتراجعا خطوتين، وتولى حسنين عناد طارئ فتوقف، وتشجع به حسين فتوقف كذلك. وجال بصرهما بالحجرة فيما يشبه الذهول، وكأنهما كانا يتوقعان تغيرا شاملا لا يدريانه، ولكنهما وجداها كالعهد بها لم يتغير منها شيء. هذا الفراش على يمين الداخل، والصوان في الصدر يليه المشجب، وإلى اليسار الكنبة التي ارتمت عليها الأخت، وقد أسند إلى حافتها عود انغرست ريشته بين أوتاره، وثبتت عيناهما على العود في دهشة ممزوجة بالحزن. طالما لعبت أنامل الراحل بهذه الأوتار، وطالما التف حولها الأصدقاء مطربين يستعيدون ويعيد، فما أعجب ما بين الطرب والحزن من خيط رقيق، أرق من هذا الوتر. ثم مر بصرهما الحائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش، لا تزال تدور باعثة دقاتها الهامسة، ولعل الراحل قرأ فيها آخر تاريخ له في الدنيا، وأول عهدهما باليتم. وهذا قميصه على المشجب وقد لاحت آثار عرقه ببنيقته، فرنوا إليها بحنان عميق، وقد بدا لهما في تلك اللحظة أن عرق الإنسان أشد ثباتا من حياته العظيمة. ولبثت الأم تنظر إليهما في صمت. لم تجر لها خواطرهما على بال، ولكنها كانت تدرك من هول الكارثة ما لم يدر لهما بخلد. وندت من حسنين تنهيدة حارة لفتت إليه شقيقه، فوضع يده على كتفه وهمس في أذنه: هلم بنا.
وألقى الشابان نظرة أخيرة على الجثمان المسجى وهما يعتقدان - بحكم العادة المتوارثة - أن عيني أبيهما تريانهما رغم الموت، فلم يولياه ظهرهما؛ أن يسيء إعراضهما إلى شعوره، وبعثا إليه بتحية قلبية، وتقهقرا إلى الباب ثم غادرا الحجرة. ولاحت من حسنين نظرة إلى أخيه فطالع في وجهه حزنا عميقا مؤثرا، فخفق قلبه وأحس نحوه بالعطف، كما أحس بحاجته الشديدة إلى عطفه.
3
وغادر الشقيقان الشقة إلى باب العمارة حيث اصطفت بعض الكراسي، فوجدا أخاهما الأكبر - حسن - جالسا في صمت وكآبة. وجلسا إلى جانبه يشاركانه صمته وكآبته. لم يكن لديهما فكرة عما ينبغي عمله، أما حسن فكان ذا تجارب كثيرة. وكان يشبه أخويه إلى حد كبير، بيد أنه اختلف عنهما في نظرة عينيه التي تنم عن جرأة واستهتار، فضلا عن أن طريقته في ترجيل شعره الكثيف المنفوخ، ولبس البدلة، دلت على عنايته بنفسه من ناحية، وعلى قدر غير قليل من الابتذال من ناحية أخرى. كان حسن يعلم بما ينبغي عمله، ولكنه لم يبد حراكا لأنه كان ينتظر مقدم شخص هام. وقد سأله حسين بتأثر: كيف مات والدنا؟
فأجاب قائلا وهو يقطب: مات فجأة فأذهلنا جميعا. كان يرتدي ملابسه وكنت جالسا في الصالة، فما أدري إلا ووالدتنا تناديني بفزع، فهرعت إلى الحجرة، فوجدته ملقى على الكنبة وصدره يعلو وينخفض. وجعل يومئ في ألم إلى صدره وقلبه، فحملناه إلى الفراش، وقدمنا له كوب ماء ولكنه لم يستطع أن يشرب. ثم غادرت الحجرة مسرعا لاستدعاء طبيب، ولكني لم أكد أبلغ الفناء حتى صك مسامعي صوات حاد فعدت فزعا، ووجدت أن كل شيء انتهى.
ورأى وجهي شقيقيه يتقلصان من الألم فازداد وجهه كآبة. كان يشعر بحرج شديد جعله يتوجس خيفة من شقيقيه أن يظنا بحزنه الظنون. كانا يعلمان بطبيعة الحال بما كان يقع بينه وبين والديه من شقاق وملاحاة بسبب حياته المضطربة المستهترة، فخاف أن يحسباه دونهما حزنا وأسفا. والحق أنه يجد لوعة الحزن والأسى. والحق أنه لم يبغض أباه قط على رغم ما كان. وإذا لم يكن حزنه كحزنهما فمرجع هذا إلى تقدمه عنهما في السن - كان في الخامسة والعشرين - وإلى تمرسه بالحياة حلوها ومرها، ومرها على الأكثر، الأمر الذي يلطف عادة من مرارة الموت. حقا كان قلبه يحدثه بأنه لن يجد بعد اليوم من يصرخ في وجهه قائلا: «لا أستطيع أن أعول رجلا خائبا مثلك إلى الأبد، فما دمت قد نبذت الحياة المدرسية، فشق سبيلك بنفسك ولا تلق بنفسك علي.» حقا لن يجد من يقول له هذا بعد اليوم، ولكنه لن يجد كذلك من يئويه إذا ضاقت به السبل، وكثيرا ما تضيق به حتى لا يوجد بها منفذ لأمل. إنه أعظم إدراكا لحقيقة الكارثة التي وقعت من هذين الطفلين الكبيرين، فكيف تنقصه دواعي الحزن والأسف؟! واختلس من الوجهين المحزونين نظرة سريعة من عينيه البراقتين، ثم عض شفتيه. كان يحبهما على رغم الظروف التي تدعوه إلى الحقد عليهما، وفي مقدمتها جميعا نجاح حياتهما المدرسية وتمتعهما بعطف أبيه. ولكنه لم يكن يرى في المدرسة ميزة يحسد عليها أحد، ومن ناحية أخرى كان مقتنعا بأن أباه يحبه كشقيقيه وإن ران على حبه السخط والغضب، وأهم من هذا كله أن الشعور برابطة الأسرة كان ولا يزال قويا في آل كامل بفضل الأم قبل كل شيء.
وعند الضحى أقبل عليهم رجل وامرأة في ثياب ريفية، فعرفوا فيهما خالتهم وزوجها عم فرج سليمان، وقد عزاهم الرجل وشاركهم جلستهم، على حين هرولت الخالة إلى الداخل وهي تصرخ «يا خراب بيتك يا اختي» فدوت العبارة في آذانهم دويا مفجعا وعاود الشابين البكاء. وراح عم فرج سليمان يحادث حسن بينما خلا الشقيقان إلى نفسيهما في صمت طويل، والتقت أفكارهما وهما لا يدريان في مصير أبيهما بعد الموت. وكان حسين راسخ العقيدة عن وراثة وبعض العلم، فلم يداخله شك في النهاية، وسأل الله بقلبه أن يلقى أباه في ذلك اليوم البعيد، وهما على أحسن حال من رضوان الله. وأما حسنين فكان في حيرة من كرب الموت لا يدع للعقل راحة للتأمل والتفكر. وكان يسلم بالإيمان تسليما وراثيا لا شأن فيه للفكر، وقد حملته أمه يوما على أداء الفرائض فأداها دون وعي، ثم هجرها في شيء من التردد دون تكذيب أو زيغ. ولم تتسلط العقيدة على فكره. ولم تشغل باله كثيرا، ولكنه لم يجد نفسه خارجا على حقائقها قط. وقد دفعه الموت إلى التفكير ولكنه لم يطل به، وسرعان ما عاوده التسليم تؤيده هذه المرة عاطفة حادة: «هل الموت هو النهاية؟ ألا يبقى من أبي إلا التراب ولا شيء من وراء هذا؟ معاذ الله. لن يكون هذا. إن كلام الله لا يكذب.» ولبث حسن وحده لا يشغله شيء من هذه الأفكار، ولم يستطع الموت نفسه أن يدعوها إلى رأسه، كأنه كان وثنيا بالفطرة. والحقيقة أنه لم يتأثر بأي نوع من التربية أو التهذيب. كان ابن الشارع كما كان يدعوه أبوه في ساعات الغضب. وقد طبع على العبث فلم يعد قلبه تربة صالحة لبذور العقيدة، وما انفك يتخذ منها مادة لمزاحه ودعابته، وحتى الأثر الخفيف الذي علق بقلبه من وحي أمه ضاع في خضم الحياة التي اكتوى بنارها. لذلك تاه به الفكر في وديان بعيدة عن الأبدية، تتركز حول هذه الحياة، وحظه وحظ أسرته منها. بيد أنه لم يطل به المكث مع شقيقيه وزوج خالته؛ فقد تراءى عن بعد رجل يهرول قادما، ما إن وقع بصر حسن عليه حتى قال بارتياح كأنه كان ينتظره: فريد أفندي محمد!
وكان القادم يجفف جبينه بمنديل على رغم لطافة الجو الخريفي، ولكنه كان بدينا مفرطا في البدانة، ذا كرش عظيمة، ووجه مستدير مكتنز لاحت فيه قسماته دقيقة صغيرة، على أن بدانته وكهولته وأناقته أيضا أضفت عليه وقارا مما يعتز به موظفو الحكومة، والكتبة منهم خاصة. وعلقت به أعين الأخوة برجاء يستحقه من كان جارا مثله، وصديقا قديما لأبيهم، وأقبل الرجل عليهم معزيا. ثم خاطب حسن قائلا: طلبت إجازة اليوم من الوزارة. هلم بنا إلى ديوان المرحوم لصرف الدفنة، ثم لابتياع اللوازم الضرورية.
وجعل يسأل عما كان وصاه به قبل ذهابه إلى الوزارة من إجراءات تستدعيها الوفاة، ثم تأبط ذراعه وذهبا معا.
4
وعند اقتراب موعد الجنازة بلغ الاضطراب بحسنين مداه، اضطراب من نوع جديد، كان يشغله عن الحزن نفسه. كان يرجو لأبيه جنازة رائعة تليق بمقامه وبمكانته هو، التي يحب أن يظهر بها أمام الناس. لم يكن أخواه ليكترثا كثيرا لهذا الأمر، أما هو فكان يعد إخفاق الجنازة كارثة كالموت نفسه؛ غضبا لأبيه الذي يحبه، ولنفسه هو. وقلب عينيه فيمن تجمع من المشيعين فلم ير أحدا يملأ العين إلا جارهم الكريم فريد أفندي محمد، أما زوج خالته فكان في حكم العمال، وليس عم جابر سليمان البقال بخير منه، والحلاق أدهى وأمر، ونفر غيرهم غيابهم أشرف من حضورهم. وانقبض صدره وغشيه كدر عميق. ولكنه كان قليل الصبر، فما وافت الساعة الرابعة حتى تدفقت جماعات الموظفين حتى سدوا عطفة نصر الله سدا. وردت إليه الروح فعاد إلى حزنه خالصا من القلق. ثم حدث ما لم يدر له في حسبان، فجاءت سيارة فخمة تنطق بالعز والجاه، ووقفت على بعد يسير من البيت وغادرها ساع ففتح بابها، ثم نزل منها رجل ينم مظهره على الألقاب والرتب. وتقدم بجسمه الطويل العريض الذي عقدت عليه الخمسون هالة من وقار فهرع إليه الإخوة بأدب، واندس بينهم فريد أفندي محمد ليحظى باستقبال الشخصية الممتازة التي ينبغي أن يقدرها - كموظف - أكثر من سواه، وتساءل القادم في صوت منخفض: أليس هذا بيت المرحوم كامل أفندي علي؟
فبادره فريد أفندي قائلا باحترام: بلى يا سعادة البك.
ولم يجدوا ما يقدمونه له إلا كرسيا خيزرانا على قارعة الطريق، فشعروا بحرج غير قليل. وكان حسنين قد امتلأ ارتياحا لمقدمه، ولكنه وجد ضيقا لسؤاله عن بيت المرحوم؛ مما دل على أنه لم يكن يعرف البيت، واقترب من أخيه حسن يسأله: من يكون هذا الرجل؟
فقال حسن: أحمد بك يسري، مفتش عظيم بالداخلية، وصديق حميم للمرحوم.
فسأله بغرابة: لماذا سأل عن البيت كأنه لا يعرفه؟
فحدجه حسن بنظرة غريبة وقال: كان والدنا كثير التردد على بيته، أما هو .. إنه رجل عظيم كما ترى!
وصمت الشاب لحظة ثم استدرك قائلا: كان المرحوم يحبه ويعده أعز صديق.
وتناسى حسنين هذا، ولم يشأ أن يفسد على نفسه زهوها، وود لو يراه - ذلك المفتش - المشيعون جميعا. ثم حلت اللحظة المفجعة، فخرج النعش من البيت وعلا الصوات من الشرفة والنوافذ. انتظمت الجنازة بالمشيعين جميعا يتقدمهم النعش. وعلقت أعين الشقيقين بالنعش في ذهول وإنكار، وتساقط دمعهما طوال الطريق. وبلغوا المسجد فأخذوا في توديع المشيعين وشكرهم. وأظهر البعض استعدادا لمرافقة النعش حتى مستقره الأخير، ولكن حسنين همس في أذن أخيه الأكبر قائلا: لا تسمح لأحد بالذهاب مهما كلفك الأمر.
كان حريصا على ألا تقع عين على القبر؛ حفظا لكرامة الأسرة. ووفقوا إلى صرف المشيعين، وركبوا سيارة الموتى وليس في ركابهم إلا عم فرج سليمان، وفريد أفندي محمد الذي أبى الرجوع إباء لم ينفع فيه الرجاء. وانطلقت السيارة بهم إلى باب النصر، ووقفت بهم ناحية قامت بها القبور في العراء ثم ووري جثمان كامل أفندي في قبر غير بعيد من الطريق الملتوي الذي يشق المدافن كأنه من قبور الصدقة. ووقف حسنين غارقا في الحزن والبكاء، ولكنه على حزنه كان يسترق النظرات إلى محمد أفندي فريد في خجل واستياء «لو علم التلاميذ بالوفاة لجاءوا معزين، ولرافقني بعضهم حتما إلى هذا القبر. الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. لا مقبرة ولا يحزنون. لماذا لم يبن والدنا مقبرة تليق بأسرتنا؟!»
5
انتصف الليل أو كاد، وخلت الشقة إلا من أهلها. وآوت الأسرة إلى الصالة ومعهم الخالة وزوجها. وراحت الأم تعيد قصة الوفاة للمرة العشرين في ذاك اليوم الحزين، وأنصت إليها حسين وحسنين باهتمام، على حين وجم حسن متفكرا.
وتحدث حسنين عن أحمد بك يسري متحاشيا مسألة جهله للبيت؛ لوجود خالته وزوجها من ناحية، ولأنه لم يكن يحب أن يذكرها من ناحية أخرى. وكان شعور العطف نحو والده يملأ عليه نفسه، فجعل يرنو إلى باب حجرته المغلقة بطرف حزين، ويتخيل فراشه الخالي بإنكار وأسف، ثم نظرت الأم إلى الأبناء وقالت: قوموا للنوم.
وأذعنوا لمشيئتها بلا اعتراض بعد يوم شاق أليم، ومضوا إلى حجرتهم. وكان بالحجرة ثلاثة أسرة صغيرة فأخلوا واحدا لزوج خالتهم الذي لحق بهم على الأثر، وشارك حسنين حسين في فراشه. ولكنهم لم يستسلموا للنوم، أو تأبى النوم عليهم، فراحوا يتحدثون عن أبيهم بحزن وحنان، ويذكرون أيامه الأخيرة، وميتته المفاجئة. ثم قال حسين: كانت جنازته تليق بمقامه حقا.
فقال عم فرج سليمان مؤمنا على قوله: كان رحمه الله رحمة واسعة رجلا عظيما، فلا عجب أن تكون جنازته عظيمة مثله. ولقد امتلأت عطفة نصر الله بالمشيعين من البيت إلى شارع شبرا.
ولم يرتح حسنين لصوت الرجل، وكان يشعر لوجوده بضيق، ثم ذكر حانقا أنه رأى القبر العاري، فقال: العجيب أن والدنا وقد أفنى مالا كثيرا لم يفكر في بناء مقبرة تليق بالأسرة.
فعاد الصوت الذي لم يرتح إليه يقول: وهل كان يظن أنه سيهلك في مثل هذه السن؟ إن والدك في الخمسين. وعندنا في الريف كثيرون يتزوجون للمرة الثانية أو الثالثة في هذه السن.
وصمت الرجل مليا ثم استدرك قائلا: ولا تنس أن والدك قد هاجر مع جدته من دمياط إلى القاهرة، وهو في مثل سنك يا سي حسنين، فلستم من أهل القاهرة الذين يتوارثون المقابر جيلا بعد جيل.
فقال حسنين بامتعاض: حقا لسنا من أهل القاهرة، وإن كانت أسبابنا بآلنا في دمياط قد انقطعت.
وذكر في حزن أنه لا يعرف لنفسه أقارب غير خالته هذه، وسيبقى هذا القبر المغمور في العراء رمزا لضياعهم المخجل في هذه المدينة الكبيرة، وازداد ضيقا بوجود هذا الرجل الذي احتل فراشه. فآثر الصمت حتى يقطع عليه سبيل الكلام. وساد الصمت حتى رنق النوم بأجفانهم. وفي الصالة لم تبارح الأم وأختها وابنتها مجلسهن، ولم يتعبن من الحديث عن الفقيد العزيز. وكان الشعور بالفاجعة هنا أعمق من الحجرة الأخرى. وقد ارتسمت أماراته على وجه الأم النحيل البيضاوي وعينيها الملتهبتين. وكانت بأنفها القصير الغليظ وذقنها المدبب وجسمها النحيل القصير؛ توحي بأنها وهبت الأسرة خير ما فيها، فلم يبق من حيويتها إلا نظرة قوية تنم عن الصبر والعزم.
وكان التغير الطارئ عليها من العمق بحيث يتعذر تصور ما كانت عليه أيام شبابها، إلا أن ابنتها نفيسة كانت تعيد حياتها وصورتها بدقة كبيرة، كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل والأنف القصير الغليظ والذقن المدبب، إلى شحوب في البشرة، واحديداب قليل في أعلى الظهر، فلم تكن تختلف عن أمها إلا في طولها المماثل لطول شقيقها حسنين. كانت بعيدة عن الوسامة وأدنى إلى الدمامة، وكان من سوء الحظ أن خلقت على مثال أمها، على حين ورث الإخوة خلقة أبيهم. وكان الحزن قد أتى عليها فبدت في صورة بشعة واستغرقت فكرها ذكريات والدها الحبيب. أما الأم فعلى حزنها الشديد دارت برأسها خواطر أخرى. كان يداخلها نحو أختها شعور بعدم الارتياح. ولم تستطع أن تنسى أنها كانت تنغص عليها حياتها، وأنها كان يحلو لها كثيرا أن تقارن بين حظيهما فتقول: إن أختها تزوجت من موظف، أما زوجها هي فعامل في محلج قطن، وإن أختها تقيم في القاهرة، وهي مقضي عليها بالحياة في الريف، وإن أبناء أختها تلاميذ وأبناءها هي لا حظ لهم إلا حظ العمال، وإن كرار أختها لا ينضب معينه، أما بيتها فلا يعرف السعة إلا في المواسم. لعلها لا تجد الآن ما تحسدها عليه. وامتلأت نفسها امتعاضا إلى ما بها من حزن. إنها تدرك من هول الكارثة ما لا يدركه أحد. انتهى زوجها، وإنها لتتلفت يمنة ويسرة فلا تجد أحدا تعرفه إلا هذه الأخت التي لا يعقد بها رجاء. لا قريب ولا نسيب. ولم يخلف الراحل شيئا. وهيهات أن تأمل في معاش مناسب وقد كان مرتبه كله يستنفد في ضرورات الأسرة. وقد وجدت في محفظته جنيهين وسبعين قرشا هي كل ما تملك من نقود حتى تنتظم الأمور. ورنا بصرها إلى حجرة الأبناء في سهوم. اثنان في المدرسة، معفيان من المصاريف حقا، ولكن هيهات أن يغني هذا عنهما شيئا. أما الثالث ففي حكم الصعاليك! وتنهدت من الأعماق، ثم حولت عينيها إلى نفيسة فتقطع قلبها ألما. فتاة في الثالثة والعشرين من العمر بلا مال ولا جمال ولا أب. وهذه هي الأسرة التي باتت مسئولة عنها بلا معين. بيد أنها لم تكن من النساء اللاتي يفضضن همومهن بالدموع. وأن حياتها الماضية وإن أمست حلما سعيدا موليا إلا أنها لم تكن يسيرة، خصوصا في مطلعها حين كان المرحوم موظفا صغيرا ذا جنيهات معدودات، وقد علمتها الصبر والجلد والكفاح. كانت دائما قوية، وكانت محور البيت الأول، بل كانت على الأرجح تقوم بدور الأب، على حين كان المرحوم أدنى إلى حنان الأمهات وضعفهن. والأبناء أنفسهم مثال حي على التباين بين الأب والأم، فكان حسن شاهدا تعيسا على رخاوة الأب وتدليله، وكان حسين وحسنين شاهدين على حزم الأم وحسن تربيتها. أجل كانت أرملة قوية، ولكنها لم تمتلك في تلك اللحظة من الليل إلا اجترار الحزن والقلق.
6
في مساء اليوم التالي لم يبق في الدار أحد غير أهلها، وقد كوم أثاث حجرة الراحل في ركن منها وأغلق بابها. واجتمع الأبناء حول أمهم وهم يشعرون بأنه آن لهم أن يسمعوا لها. وكانت الأم تعلم بأنه ينبغي لها أن تتكلم. ولم يختلط عليها الأمر فيما يجب قوله؛ فقد كانت فكرت فأطالت التفكير، ولعله لم يكن يحيرها شيء مثل هذا التناقض بين ظاهرها الدال على الحزم والقوة، وباطنها الذي يندى رحمة وعطفا على أسرتها البائسة. وخفضت عينيها متحامية النظرات المصوبة نحوها وقالت: مصيبتنا فادحة، ليس لنا إلا الله، والله لا ينسى عباده.
لم يكن بوسعها أن تتساءل «ما عسى أن نفعل؟» وهيهات أن تنتظر جوابا من أحد من المحيطين بها، حتى كبيرهم حسن. وليس في الدنيا أحد تستطيع أن تلقي إليه بهذه الاستغاثة فتشركه في بعض همها.
شعرت بالخلاء يكتنفها، ولكن أبت أن تستسلم لليأس، واستدركت تقول: ليس لنا من قريب نعتمد عليه، وقد رحل العزيز الغالي دون أن يترك شيئا إلا معاشه، ولا شك أنه دون المرتب الذي كان لا يكاد يكفينا. فالحياة تبدو كالحة الوجه، ولكن الله لا ينسى عباده. وكم من أسرة مثلنا صبرت حتى أخذ الله بيدها فشقت طريقها إلى بر الأمان.
واختنق صوت نفيسة بالبكاء وهي تقول: لا أحد يموت جوعا في هذه الدنيا، وسيأخذ الله بيدنا، أما المصيبة التي تجل عن العزاء فهو موته هو. أسفي عليك يا بابا.
ولم تحدث هذه الدموع أثرا عميقا؛ لأن كلام الأم أنذر بأمور خطيرة استأثرت بجل اهتمامهم، فثبتت أعينهم على أمهم التي عادت تقول: لا يجوز إذن أن نيئس من رحمة الله، ولكن ينبغي أن نعرف رأسنا من قدمنا وإلا هلكنا، وأن نوطن نفوسنا على تحمل ما قدر لنا من حظ بصبر وكرامة، وربنا معنا.
وأحست بأن معين الكلام العام قد نفد، وأنه ينبغي أن تخاطب الأبناء، كل بما يعنيه، ورأت عن حكمة أن تبدأ بمن هو أقل خطورة، تمهد به لمن هو أشد خطورة، فنظرت صوب حسين وحسنين، وقالت بصوت هادئ أن تكشف عما لحق قلبها من تأثر: لن يكون في الإمكان إعطاؤكما أي مصروف يومي، ومن حسن الحظ أن المصروف ينفق عادة في وجوه تافهة.
وجوه تافهة! اشتراك نادي الكرة، السينما، الروايات، أهذه وجوه تافهة؟! وقد تلقى حسين الحكم في وجوم، وتاه عقله متخيلا الحياة بلا مصروف، ولكن دون أن ينبس بكلمة. أما حسنين فقد انقض الحكم عليه كالصاعقة، وسرعان ما قال معترضا، وبلا وعي تقريبا: كل المصروف؟! ولا مليم؟!
فحدجته أمه بنظرة طويلة ثم قالت بحزم: ولا مليم.
أحزنها اعتراضه، ولكنها رحبت به لأنه أتاح لها أن تؤكد قولها بما لا يدع سبيلا إلى الشك فيه، ولكي يسمعه شخص آخر تخشى متاعبه أكثر من شقيقيه. وفتح حسنين شفتيه، وهمهم دون أن يبين، ثم قال بصوت منخفض: سنكون التلميذين الوحيدين اللذين تخلو جيوبهما من مصروف.
فقالت أمه بحدة: إنك واهم، المصائب كثيرة، والتلاميذ المصابون لا حصر لهم .. ولو أنك فتشت جيوب التلاميذ جميعا لوجدت أكثرها فارغا. وهبكما الوحيدين الفقيرين فما في هذا من عيب، ولست المسئولة عما وقع.
ولاذ حسنين بالصمت متذكرا أنه يخاطب أمه. كان دائما يجد عند أبيه من التسامح ما لا يجده عندها، وكان الرجل يحبه كثيرا فلم ينزل من نفسه هذه المنزلة إلا ابنته نفيسة. أما الأم فلم تكن تتخلى عن حزمها قط. ولما فرغت من الرد على اعتراضه استطردت قائلة: كذلك أحذركما من ترك نصيبكما من الغداء المدرسي كما تفعلان عادة.
وكان الشقيقان يقنعان من غدائهما المدرسي بلقمات معدودات كي يتناولا وجبتهما الرئيسية في البيت. وكان التلاميذ الذين يأكلون في المدرسة حتى الشبع موضع غمز عادة. فتساءل حسنين برقة: لماذا لا نأكل في بيتنا كعادتنا؟
فقالت الأم بامتعاض: من يدري؛ فلعله لن يتاح للبيت الطعام الذي تحب!
وارتسمت على شفتي حسن - الذي أصغى إلى الحديث كله في صمت عميق - شبه ابتسامة، أخفاها بتقطيبة مصطنعة، ولكنها لم تخف على الأم، فصمتت على أن تواجهه بالحقيقة - إن كان حقا في حاجة لذلك - بعد هذا التمهيد الطويل. فتساءلت بلهجة حزينة: وأنت يا حسن؟!
هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول! ولكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنها كرهته. إنها أبعد ما يكون عن هذا. ولكنها أسقطته من حسابها؛ فتوارى من مرموق آمالها في حسرة بالغة. انزوى في ركن مظلم، ولم يعد حبه يتحرك في فؤادها إلا مصحوبا بالأسف والحزن وقاتم الذكريات. وقد كان ولا يزال المشكلة المستعصية لهذه الأسرة. كان في البدء ضحية لفقر أبيه وتدليله، فلم يبعث به إلى المدرسة إلا في سن متأخرة. وسرعان ما ظهر تمرده على الحياة المدرسية، وتكرر هروبه من المدرسة، وتوالى سقوطه عاما بعد عام، حتى انقطع عنها ولم يجاوز السنة الثالثة. واستحال ما بينه وبين أبيه إلى نقار وشجار، ثم إلى ما يشبه العداوة الحقة، فكان يطرده أحيانا من البيت فيقضي أياما متسكعا ثم يعود إلى البيت، وقد اكتسب شرورا جديدة من مخادنة الأشقياء والغوص في الإثم والإدمان وهو دون العشرين. ولما بلغ اليأس من أبيه مداه ألحقه بحانوت بقال، فمكث به شهرا ثم طرده صاحبه بعد معركة كاد يذهب الحانوت ضحية لها. ثم عمل في شركة سيارات وطرد منها إثر عراك أيضا. ولم يعد يأبه لا بغضب أبيه ولا بحزم أمه، ففرض نفسه على البيت فرضا، يلقى سخطهم باستهانة أو بدعابة أو بشجار، ولكنه لا يتزحزح ولا يبحث جادا عن عمل. وبدا وكأنه لا يعمل للمستقبل حسابا، وظل سادرا مستهترا حتى فاجأه موت الأب. إنه يدرك خطورة الحال؛ فهو الوحيد الذي عرف مرتب أبيه، وقدر على وجه التقريب معاشه. وفهم ما تعني الأم بتساؤلها «وأنت يا حسن؟» «أنت تقولين إن الله لا ينسى عباده، وأنا عبد من عباده. فلننظر كيف يذكرنا. لماذا أخذ والدنا؟ ولماذا يعلن عن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟» ولكنه طالعها بابتسامة مؤدبة، وشعور ممتلئ عطفا وتقديرا للمسئولية، ثم قال: إني أدرك كل شيء.
فقالت المرأة في ضيق متسائلة: ما عسى أن يجدي الإدراك وحده؟ - لا بد من عمل شيء.
فقالت في انفعال: هذا ما نسمعه كثيرا. - الآن تغير الحال. - أليس ثمة أمل أن تتغير أنت؟!
فقال حسن في نبرات قوية: مثلي لا يضيع في الحياة؛ إني أستطيع أن أشق سبيلي. والفرص كثيرة، والأسلحة في يدي لا حصر لها، أصغي إلي يا أماه؛ لن أطالبك بغير المأوى واللقمة!
هذا أسلوبه ! يبدأ وكأنه يسلم بكل شيء، ثم ينتهي وكأنه يطالب بحقوق جديدة. المأوى واللقمة، وماذا يبقى بعد ذلك؟! ورمقته باستياء وقالت: إن حالنا لا يحتمل هذا الهذر. - الهذر؟! - أجل، نحن في حاجة إلى من يطعمنا فكيف نهيئ لك اللقمة؟! لماذا تضطرني إلى مصارحتك بهذا؟
فابتسم ابتسامة باهتة وقال: أعني إلى حين. حتى تفرج. لن يضيق البيت بي، أم تريدين أن تطرديني؟! وسوف ألتقط رزقي ما وجدت إليه سبيلا. ولكن هبي أياما انقضت دون أن أجد عملا، فلا أحسبك ترضين أن أموت جوعا. وعلى أية حال سأقاسمك رغيفك حتى أجد عملا!
وتنهدت في يأس. إنها حيال مشكلة حقا ولا تدري ماذا تفعل. وأخوف ما تخاف أن يستسلم لحياة البطالة والكسل والتسكع، خاصة إذا فتر تأثره بموت أبيه، فقالت برجاء: أرجو أن تبحث بجد وإخلاص عن عمل.
فقال بلهجة تنم عن الصدق: أعدك بهذا، وأقسم لك بقبر والدنا.
وأثار قسمه عاصفة حزن في الصدور لموقعه الأليم، وهزتهم «قبر والدنا» هزة عنيفة، فأجهشت نفيسة في البكاء، وغاص قلب حسنين في صدره، على حين رمق حسين أخاه بنظرة حيرة وعتاب، ولبثت الأم صامتة مليا تكابد جرحا عميقا، ولكنها لم تنس - حتى في هذه اللحظة - أنها لم تفرغ بعد من قول ما تريد قوله، فرددت عينيها اللتين انتفخ جفناهما واحمرت أشفارهما بين أبنائها ثم قالت: أما نفيسة فتحسن الخياطة. وهي تخيط كثيرا لجارتنا محبة ومجاملة، ولست أرى بأسا في أن تتقاضى على تعبها مكافأة.
وهتف حسن بحماس: عين الصواب.
ولكن حسنين صاح بغضب وقد اصفر وجهه غضبا: خياطة؟!
فأجابه حسن معترضا: ما عيب إلا العيب، فلتكن.
فقال حسنين بحدة: لن تكون أختي خياطة، كلا، ولن أكون أخا لخياطة.
وقطبت الأم في غضب وصاحت به: أنت ثور، تأكل وتنام، ولا تدري عن الدنيا شيئا، وهيهات أن يفهم عقلك الغبي حقيقة حالنا!
وفتح فاه ليعترض ولكنها صاحت به: اخرس.
فنفخ دون أن ينبس بكلمة. ورأت الأم أنها فرغت من معارضته؛ فالتفتت إلى حسين، فالتقت عيناهما برهة قصيرة، ثم خفض الفتى عينيه وتمتم على مضض: إذا لم يكن من هذا بد فالأمر لله!
فقالت الأم بتأثر: ما عيب إلا العيب كما يقول حسن. لست أحب لأحد منكم المهانة، ولكن للضرورة أحكام، ولا حيلة لي.
وساد صمت مؤلم. وكان حسين أشبه الأبناء بأخلاق أمه في صبرها، وعقلها، وإخلاصها للأسرة. وقد تألم كثيرا لمصير أخته، ولكنه استسخف الاعتراض على اقتراح أوحت به الضرورة. وشعر في ألمه بأنه تعلم في هذين اليومين ما لم يتعلم في حياته كلها. أما نفيسة فسكتت مغلوبة على أمرها. ولم تكن تسمع الاقتراح لأول مرة؛ فقد أقنعتها أمها بضرورته ووجاهته معا. وكانت الخياطة هوايتها وملهاتها، فلم يبق إلا أن توطن النفس لقبول الأجر. لهذا كله تضاعف حزنها على أبيها الذي لم تعد بعده شيئا. ثم قطع حسن الصمت قائلا بلهجة تنم عن الحسرة: من المؤسف حقا أن المرحوم أبى على نفيسة أن تواصل تعلمها في المدرسة. تصوروا لو كانت أختنا مدرسة الآن!
وحدجوه بغرابة، فأدرك أنه تورط فيما يشبه الدعابة وهو لا يدري. أفلم يكن الأولى به أن يعرف للتعليم قيمته، فيواصل حياته المدرسية؟! وقطب مغيظا وقال: التعليم ينفع أمثالها ممن لا حيلة لهم.
7
وفي صباح اليوم التالي مضت الأم إلى وزارة المعارف مصطحبة معها حسن أكبر الأبناء. ولما علم هناك أنها أرملة المرحوم كامل علي أفندي أظهر كثير من زملائه استعدادهم لأن يكونوا في خدمتها، وطلبت المرأة صرف المستحق من مرتبه فدلها بعضهم على إجراءات إثبات الوراثة. وسألت عن معاشه فذهب معها أحد الزملاء إلى إدارة المستخدمين. وتبين أن المرحوم خدم الحكومة حوالي الثلاثين عاما فبلغ مرتبه 17 جنيها، واستحق معاشا قدره خمسة جنيهات لورثته، لم تكن المرأة تتصور هذا، ولا كانت تعلم شيئا عن نصيب الحكومة من معاش المتوفى، ولكن الذي أفزعها حقا هو ما قيل عن الإجراءات الطويلة التي تسبق صرف المعاش، والتي تستغرق أشهرا طوالا. هالها الأمر فلم تملك أن قالت: وكيف يتيسر لنا الانتظار طوال فترة الانتظار؟
وقال حسن مسوغا قلق أمه: نحن لا نملك إلا هذا المعاش المنتظر!
وندم حسن على قوله عقب إلقائه مباشرة لأنه بدا غريبا من شخص في مثل طوله ورجولته، ولكن الموظف قال دون أن يلقي بالا إلى هذا: أعدك يا سيدتي بألا نضيع دقيقة واحدة بلا عمل. أما إجراءات وزارة المالية فلا حيلة لنا فيها.
ما جدوى هذا الكلام الطيب؟ ولكن أية فائدة تنتظرها من التذمر والشكوى؟! وغادرا الوزارة في شبه ظلام من القلق واليأس. وهتفت المرأة: كيف نلقى الحياة هذه الأشهر؟! وكيف نعيش بخمسة جنيهات بعد ذلك؟!
وخفض الشاب بصره في وجوم وضيق، ولاح لعيني المرأة المكدودتين بصيص من نور فقالت: سأزور أحمد بك يسري. إنه مفتش عظيم نافذ الكلمة، وكان صديقا عزيزا لأبيك.
فقال حسن بأمل: رأي حسن، إن الكلمة منه تغير إجراءات الحكومة.
فنظرت إليه باهتمام وقالت: لا تضيع وقتك معي. لعلك تدرك حالنا على حقيقتها فاذهب وابحث لك عن عمل مهما كلفك الأمر.
وعادت إلى شبرا بمفردها، ولبثت في البيت حتى العصر، ثم قصدت شارع طاهر أو حي الأعيان كما يسمونه. وكان يقع شمال عطفة نصر الله بثلاث محطات، متفرعا من الطريق العام. تقوم على جانبيه الفيلات الأنيقة والعمارات الحديثة. واسترشدت ببعض السابلة حتى استدلت على فيلا البك. وكان بناء جميلا مكونا من دورين تحيط به حديقة مونقة. وذكرت للبواب صفتها «حرم المرحوم كامل أفندي علي»، فعاد إليها مسرعا وقادها إلى بهو استقبال فاخر موصل بفراندة كبيرة، ثم أخبرها أن البك قادم بعد ارتداء ملابسه. وخيل إليها أن فترة الانتظار قد طالت، ولكنها لبثت بمكانها دون أن ترفع النقاب الأسود عن وجهها. وقد شغلت بأفكارها المضطربة عن رؤية المنظر النفيس الذي يكتنفها. بيد أنها كانت كبيرة الرجاء في هذا الصديق العظيم. طالما ذكره المرحوم أمامها بالحب والفخار، وطالما لمست بنفسها أنعم هذه الصداقة في أقفاص العنب والمانجو تهدى إليهم في المواسم، وكان المرحوم يقضي أكثر سهراته في هذه الفيلا، وربما في هذا الموضع منها حيث تجلس الآن - وقد ألقت على ما حولها نظرة حزينة - يلعب بأوتار عوده، ويسمر هزيعا طويلا من الليل. فليس بعيدا أن تغادر هذه الفيلا مجبورة الخاطر، وإنها لمغرقة في أفكارها إذ فتح الباب الداخلي للبهو وجاء البك بجسمه الطويل العريض، وشاربه المفتول بعناية بالغة، فقامت المرأة في أدب، وسلم عليها البك وهو يقول برقة: تفضلي يا ست بالجلوس، شرفتنا. رحمة الله على زوجك، كان صديقا عزيزا أحزنني فقده، وسوف يحزنني طوال العمر.
فاستبشرت المرأة خيرا بهذا اللقاء، وشكرت له عطفه، وراح البك يحدثها عن الفقيد حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وزادها الموقف استفاضة فلم تحاول منعها مدفوعة برغبة غريزية في استثارة عطفه. ثم ساد الصمت حينا فأدركت رغم حزنها واضطرابها أن شارب البك وسوالفه مصبوغة، وأنه يغالي في العناية بمظهره، إلى ما تطيب به من رائحة زكية عميقة الأثر. ولما تكرم بسؤالها عن طلبتها قالت: جئت مستشفعة بسعادتك؛ لاستعجال صرف معاش المرحوم. قالوا لي يا سعادة البك إن إجراءات صرفه تستنفذ أشهرا.
فتفكر الرجل مليا، ثم قال: لن أدخر وسيلة في سبيل ذلك، وسأقابل وكيل المالية بنفسي.
فأثلج صدرها ارتياحا، وشكرته، ثم ترددت لحظات وقالت: الحال يا بك تستدعي السرعة، والله المطلع.
فقال الرجل باهتمام: طبعا، طبعا. إني فاهم كل شيء. هل أنت في حاجة إلى مساعدة؟!
يا له من سؤال! إنها لا تملك إلا جنيهين هما ما تبقيا من المبلغ الذي وجدته بمحفظة المرحوم، ولن تجد سواهما حتى يصرف لها ما يستحق من مرتبه حتى تاريخ الوفاة. ولكن كيف تفصح له عن هذه الحقيقة؟ لم تتعرض لمثل هذا الموقف من قبل، وإنه لموقف يستوجب أن يألفه المرء حتى يخرج منه بطائل، وعقل الحياء لسانها فسكتت قليلا ثم قالت بصوت منخفض: أحمد الله على الستر. بوسعي أن أنتظر قليلا.
وارتاح البك للجواب. لقد انزلق إلى السؤال متأثرا بالحياء والذوق، ولم يكن ارتياحه لبخل مركب في طبعه، ولا لأنه يكره أن يمد يد المساعدة إلى أرملة صديقه، ولكن لأنه كان على ثرائه لا يكاد يبقي على شيء؛ لكثرة نفقاته على نفسه وأفراد أسرته. كان يضايقه أن يأخذ بيد هذه الأسرة حتى تبلغ بر السلامة. ولكنه كان على استعداد للبذل لو سألته المرأة إياه. وقد غاب عن المرأة أن زوجها لم يكن صديقا للبك بالمعنى الذي يفهمه البك من الصداقة. ولعله كان صديقا من أصدقاء الدرجة الثالثة. كان يحبه، ويقربه، ويود سمره وفنه دون أن يعده ندا له، أو صديقا كسائر البكوات والباشوات. ولكن نيته صدقت على السعي لخدمة هذه المرأة حتى يصرف لها المعاش؛ إكراما لذكرى الراحل، وتفاديا من التورط في مساعدتها، ونهضت المرأة مستأذنة في الانصراف فودعها بالاحترام. ولما خلصت إلى الطريق تنهدت في أمل، ولكنها قالت لنفسها في شبه ندم: «لو أوتيت قدرا من الشجاعة لما ضيعت على نفسي معونة أنا في أمس الحاجة إليها.»
8
وخلا حسين وحسنين لنفسيهما أول مرة بعد الوفاة. كانت نفيسة في المطبخ والأم في وزارة المعارف سعيا وراء همومها الجديدة، وحسن لا يعلم بمكانه إلا الله، وكان حسين متربعا على فراشه، والآخر جالسا إلى مكتب المذاكرة بركن الحجرة، يرعش بين أصابعه قلما في نرفزة ويقول: يبدو أن الحياة لم تعد تطاق.
وانتظر أن يتكلم حسين، ولكنه تجاهل ملاحظته فرفع إليه بصره في حنق. كان حسنين آخر عنقود الأسرة، فلم يكن غريبا أن يبحث لمشكلاته عن حلول عند الآخرين. وضاق صدره بصمت أخيه فسأل: ما رأيك؟
فتساءل حسين متجاهلا: فيمه؟ - فيما قالت! أتحسب حقا أن حالنا بهذا السوء؟
فهز منكبيه قائلا: ولماذا تكذبنا؟
فتألقت عينا الفتى ببريق أمل، وقال: كي تكسر من حدتنا، كي نخاف ونتئد. وليس هذا عجيبا؛ فالشدة مركبة في طبعها، ولولا المرحوم والدنا ما عرفنا المرح!
فقال حسين بحزن: ليتنا ما عرفناه قط! - ماذا تقول؟ - أقول ليتنا ما عرفنا التدلل أبدا؛ إذن لهانت الحياة الجديدة المقضي علينا بها!
فقال حسنين وقد ساوره الخوف: إذن فأنت تصدق ما قالت! أحقا لم يترك والدنا شيئا؟ ألا يسد المعاش نفقاتنا؟
فتنهد حسين قائلا: إني مؤمن بكل كلمة نطقت بها. هذه هي الحقيقة.
فتساءل حسنين في جزع: كيف نطيق هذه الحياة؟
فارتسمت على شفتي حسين ابتسامة حزينة. كان يشارك أخاه حزنه وقلقه، ولكنه رأى من الحكمة أن يقف منه موقف المعارضة فقال: كما يطيقها الكثيرون. أم حسبت الناس جميعا يحظون بأب كريم ورزق موفور؟! ومع ذلك فهم يعيشون ولا ينتحرون.
فامتلأ حسنين غيظا، وهو يحدق في وجه أخيه، وهتف به: لشد ما يحنقني برودك.
فقال حسين مبتسما: لو جاريتك في عواطفك لركبك اليأس وأجهشت باكيا.
فقال حسنين بسخط: إن من يستسلم للأقدار يشجعها على التمادي في طغيانها!
فابتسم الآخر ابتسامة ساخرة وقال في شبه دعابة: هلم نثر عليها، دعنا نهتف لتسقط الأقدار كما هتفنا: ليسقط هور. - ألم تفدنا ليسقط هور؟! - هيهات أن تفيدنا الأخرى!
وقطب حسنين في كدر وتساءل: من لنا الآن؟
فابتسم حسين ابتسامة عريضة فرطحت أنفه الذي بدا في تلك اللحظة شبيها بأنف أمه الغليظ، وقال باقتضاب: الله!
وزاد الجواب من حنقه! إنه لا يشك في هذا، ولكنه لا يقنع به. الله للجميع حقا، ولكن كم في الدنيا من جائع ومصاب! لم يتنكر يوما لعقيدته ولكنه يتلهف في خوفه على سبيل محسوس للطمأنينة. وتوهم أن أخاه يحرجه ليتخلص منه فتشبث بعناده وقال: لقد شاء أن يأخذ والدنا ويتركنا بلا معين!
فقال حسين وكأنه يمعن في إثارته: هو المعين.
فانفجر حسنين قائلا: إن هدوءك الكاذب لا يجوز علي، أأنت مطمئن حقا؟!
فأصغى حسين إليه في امتعاض وألم، ثم قال ولعله كان يداري عواطفه: المؤمن لا تخونه طمأنينته. - إني مؤمن وقلق معا.
فقال حسين في غير إيمان بما يقول: هذا من ضعف الإيمان.
فقال حسنين بحنق: أوه، ليكن، إني أعرف تلاميذ يجاهرون بالشك! - أعلم هذا. - هم أذكياء ومطلعون. - أتحب أن تفعل مثلهم؟
فقال في خوف: كلا، لست من هواة الاطلاع. أنت نفسك تقرأ كثيرا؟
فقال حسين مبتسما: هذا حق ولكني لم أنتزع الله من قلبي. والحق أننا نغالي في تحميل الله مسئولية مصائبنا الكثيرة. ألا ترى أن الله إذا كان مسئولا عن موت والدنا فليس مسئولا بحال عن قلة المعاش الذي تركه.
وشعر حسنين أن تطور الحديث نأى به عن مخاوفه الحقيقية فقال بضيق: دعنا من هذا وخبرني كيف نعيش بلا مصروف؟ أي بلا سينما ولا كرة. والأدهى من هذا كله أني كنت شارعا في تعلم الملاكمة!
فقطب حسين قائلا: تحام ما يؤلم أمنا، إذا لم يكن في وسعنا أن نساعدها فلا أقل من أن نريحها من منغصات لا داعي لها. واذكر أنها وحيدة فلا أعمام لنا ولا أخوال! - لا أعمام ولا أخوال! كان هذا يهون لو لم تصبح أختنا خياطة! رباه ما عسى أن يقول الناس عنا؟!
وضاق صدر حسنين، وغلبه الحزن، ووقعت لفظة «خياطة» من نفسه موقعا مؤلما، فقال بغضب: نستطيع أن نعيش دون مبالاة بما يقول الناس.
وأراد أن يقطع الحديث فنهض قائما وغادر الحجرة.
9
شعرا بحرج وهما يدخلان فناء المدرسة لأول مرة بعد الوفاة. لن يستطيعا مواصلة الحياة الأولى، وسيتغير كل شيء، وهيهات أن تخفى خافية على أعين التلاميذ. وكانا يعانيان من هذا شعورا مؤلما وإن تباينت درجة ألمهما. ولم يكن قد علم بالوفاة إلا قليل فسرعان ما ذاع الخبر بين الأصدقاء، وأقبلوا عليهما معزين. وقال أحدهم محذرا: يجمل بذويكما أن يحسنا اختيار الوصي عليكما؛ فإنني لم أدرك حقيقة الفاجعة بموت أبي حتى ابتليت بوصاية عمي!
الوصي! وتظاهر حسين بالإصغاء إلى نفر يتحدثون عن المظاهرات الأخيرة، والمساعي المبذولة لضم الصفوف، ولكنه سمع حسنين وهو يجيب صاحبه قائلا: نحن مطمئنون إلى الوصي كل الاطمئنان.
فقال محدثه: إني أغبطكما على حظكما، بيد أن الأمر يتوقف على نوع التركة، فإذا كانت أراض زراعية تيسرت سبل الخداع، وإذا كانت عقارا ضاقت السبل على الوصي بعض الشيء، أو هذا ما تقول أمي.
فقال حسنين بهدوء: من حسن الحظ أن تركتنا عقار!
وأصغى إليه حسين في غيظ. لم يحنقه الكذب فحسب ولكنه أشفق من عواقبه. «كيف نواجه الحال الجديدة إذا ظن بنا الإخوان اليسار؟ ماذا نفعل وماذا نقول؟ إنه يكذب بلا مبالاة. سحقا له!» وصوب عينيه نحو أخيه محذرا، فتحاشاه الفتى في تذمر. ثم تساءل تلميذ كيف مات والدهما، فأجاب حسنين في تأثر قائلا: قيل لنا إنه مات فجأة. ومن عجب أنه لما رآني خارجا إلى المدرسة صباح اليوم الذي توفي فيه، وقبل أن يتوفى بساعة واحدة، وضع يده على منكبي ورنا إلي في حنان، وقال لي بلا داع ظاهر «مع السلامة .. مع السلامة!»
فمن كان يدريني أنه يودعني؟!
لم يكن شيء من هذا قد حصل، ولا يدري كيف قاله، والأعجب من هذا كله أنه قاله بتأثر صادق كما لو كان وقع حقا. وقد نطق به ارتجالا مدفوعا برغبة غامضة في تبجيل والده. وعجب حسين لوصفه ثم دهش لتأثره، فكاد يغلبه الابتسام، ونحى وجهه جانبا فرأى عن بعد قريب رئيس فرقة كرة القدم، فأراد أن ينفس عن ضيقه بمواجهة الحقائق، فمضى إليه وحياه ثم قال: أرجو أن تعفيني وأخي من الاشتراك في نادي شبرا.
ولاحت الدهشة في وجه الرئيس، وأزعجه الطلب، خاصة فيما يتعلق بحسنين - جناح الفريق الأيمن - فقال معترضا: لعل أمرا ضايقكما!
فقال حسين بتأثر: توفي والدنا!
فوجم الرئيس مليا، ثم عزاه برقة، وصمت لحظات ثم قال: ألا ترى أن هذا لا يدعو إلى حرمان النادي من عضوين بارعين مثلكما؟
فقال حسين بلهجة خاطفة: إن الحداد يقضي بهذا!
فقال الفتى بإشفاق: إن الحداد لا يتعارض مع الرياضة!
فقال حسين باشا: إن ظروفنا تقضي بهذا. إني آسف!
ثم حياه مرة أخرى وغادره متحاميا النظر إلى عينيه، وانضم إلى أصدقائه، ووجدهم يتحدثون في السياسة، وكان أحدهم يقول: رحمة الله على شهداء الآداب، والزراعة، ودار العلوم!
فقال آخر: لا بد من التضحية؛ فالدم هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز.
فقال ثالث: لم يضع الدم الطاهر عبثا، ألم تسمعوا عن الدعوة إلى الاتحاد؟ - وهذه التيمس تلمح إلى المفاوضة.
ودق الجرس فاتجهوا إلى الفصول وهم يتناقشون.
10
قطعا فناء البيت في صمت حاملين كتبهما، ثم قال حسنين وهما يرتقيان السلم: عما قليل يبدأ فريق نادي شبرا في التمرين استعدادا للمباراة القادمة!
فلاذ حسين بالصمت. وجعل يتخيل الملعب واللاعبين، فكأنه يسمع الرئيس وهو ينبئ الآخرين بانفصالهما؛ «لظروف الأسرة الجديدة!» لا لعب ولا مسرة ولا رحمة من شكوى حسنين المتواصلة. وطرقا الباب ثم دخلا. وتسمرت أقدامهما وراء الباب لمنظر غريب لم يتوقعاه. رأيا أثاث البيت مكوما في اضطراب شامل، وقد رصت المقاعد فوق الكنبات ولفت الأبسطة وفكت الدواليب، ولاحت الأم ونفيسة مشمرتين يعلوهما التراب ويتصببان عرقا على لطافة الجو. وهتف حسنين: ماذا حصل؟
فقالت الأم: سنترك الشقة. - إلى أين؟! - إلى الدور التحتاني، سنتبادل السكن مع صاحبة البيت.
شقة أرضية بمستوى التراب، لا شرفة لها، ونوافذها مطلة على عطفة جانبية تكاد تبدو منها رءوس المارة، وطبعا محرومة من الشمس والهواء، وتساءل حسنين في امتعاض ولو أنه كان يعرف الجواب مقدما: لماذا؟!
فقالت الأم بصوت واضح: لأن إيجارها 150 قرشا!
فقال الشاب متذمرا: فرق الإيجار أقل من 50 قرشا لا يتناسب مع الفرق بين الشقتين!
فسألته الأم ساخطة: هل تتعهد بدفع هذا الفرق التافه؟ - لماذا رضينا إذن بأن تشتغل نفيسة خياطة؟
فالتهمته الأم بنظرة من نار وصاحت به: كي نأكل، كيلا تموتوا جوعا!
وحافظ حسين على طلاقة وجهه أن يفتضح امتعاضه وسأل أمه بلهجة لا أثر فيها للاعتراض: متى تم هذا يا أماه؟
فقالت المرأة وهي تمسح جبينها بكم ثوبها الأسود: عرضت الأمر على صاحبة البيت غير مخفية شيئا من حالنا، فأظهرت روحا طيبا، ووافقت بلا تردد.
فقال حسنين في استياء: لو كانت ذات روح طيب حقا لنزلت عن فرق الإيجار مع إبقائنا في شقتنا!
فقالت الأم في حدة: للناس أعمال أخرى غير العناية برفاهيتك! - وكيف ننام ليلتنا؟
فقالت نفيسة بصوت كسير دل على أنها لم تفق بعد من صدمة الوفاة: سننام في الشقة الجديدة.
وخرج في تلك اللحظة حسن من حجرة المرحوم، حاملا بين يديه المشجب، وهي آخر ما بقي من الأثاث في الحجرات وقال بسرعة: كفاكم نقارا وهلموا نرفع الأثاث إلى الدور التحتاني؛ فليس بيننا وبين الليل إلا ساعتان. وأراد أن يضرب لهم مثلا عمليا، فرفع كنبة من جانب وخاطب حسين قائلا: ارفع.
وفتحت نفيسة الباب على مصراعيه وسار الشقيقان بحملهما الثقيل، وجعل حسين يتساءل وهو يهبط في السلم بحذر: ترى هل يراهما أحد من أسرة فريد أفندي محمد جارهم الكريم بالدور الثالث؟! «ليس الفراق شر ما في الموت، إن الفراق حزن المطمئن! متاعبنا تتلاحق بحيث لا تدع لنا وقتا للتفكير في الحزن. لشد ما نتغير وتتدهور، ولكن ينبغي أن نصبر أو في الأقل أن نتظاهر بالصبر. أكبر جريمة في نظري أن نضاعف بجزعنا شقاء أمنا. سأخاطب حسنين بحزم أكثر!» ثم تبعتهما الأم والأخت تحملان ما تقدران على حمله من قطع الأثاث. ولم يستطع حسنين أن يقف متفرجا فانضم للعاملين. وما زالت الأسرة في نزول وصعود، والأثاث يتحول من فوق لتحت. وكانت صاحبة البيت قد أخلت الشقة وجمع أثاثها في الفناء إلى جانب الحمالين الذين وقفوا ينتظرون دورهم في العمل. وكانت الأسرة جميعا - الصامت منهم والساخط - سواء في الحزن والألم. ولم يكن وجه الأم مما تسهل قراءته، أما نفيسة فابتلت عيناها بالدموع. واشتغل حسن بهمة كأنه يتملق بجهده أمه فلا تلحف في تأنيبه على تعطله، وكان أقل الأخوة تأثرا للتغير الذي قلب الأسرة كما ينبغي لرجل ذاق التشريد وألف التسكع، وهمس حسنين في أذن حسين وهو يلهث من الجهد: ألا ترى أن خسارتنا بموت أبينا لا تعوض أبدا؟!
وانسابت من عينيه دمعتان.
11
غادر حسن البيت مبكرا، عقب خروج شقيقيه للمدرسة. لم يكن ثمة داع ضروري لهذا الخروج المبكر، ولكنه أراد أن يتفادى من الاصطدام بوالدته أن يصبحها بنقار هي في غنى عنه، بما تكابد من تغير الزمن، وتجهم الحظ. انطلق من عطفة نصر الله بلا غاية ولا أمل. «ابحث عن عمل! لا تفتأ تردد على مسمعي هذه الجملة. أين يوجد هذا العمل؟ صبي بقال؟! هذا معناه الإسعاف ثم البوليس.» ولكنه لم يكن يائسا للحد الذي توجبه حاله. كان كبير الثقة بنفسه، وكان في طبعه تفاؤل لا يدري من أين يأتيه. ولكنه لم يستطع أن يتجاهل دقة موقفه وراح يخاطب نفسه قائلا «يا أبا علي، مات الوالد رحمه الله ففقدت الركن الذي كنت تأوي إليه، حقا كنت تلتقط رزقك بالشجار والنقار، وتتحمل في سبيله السب واللعن، ولكنه كان على أي حال رزقا مضمونا. هذه البدلة التي تجعل منك أفنديا لا بأس به، من نقوده رحمة الله عليه. أجل أبى أن يبتاعها لك بادئ الأمر، ولكنك هددته بأن تمشي في الطرق باللباس والفانلة، وأن تقتحم عليه مجلسه بقصر أحمد بك يسري شبه عار، فأذعن على مضض وكلف الخياط بأن يفصلها لك. الآن لو مشيت عاريا بلا لباس ولا فانلة، فلن تجد من يسأل عن صحتك إلا الشرطي!» كانت البدلة حسنة وإن لم تخل من بقع باهتة عند ثنية الركبة. وكان يربط رقبته ببابيون، فبدا القميص في حال لا يحسد عليها. وكان شعره أعجب ما فيه؛ فقد تركه حتى غزر واسترسل، وتصاعد في جعودة جعلت منه رأسا مستقلا فوق الرأس الأصلي. أما وجهه فكان حسن كشقيقيه إلى جسم طويل مفتول العضلات عريض العظام. سار متفكرا فيما خاطب به نفسه، ثم واتته ثقته بنفسه فجأة فقال: «يا سيدي، لا تسمح للهم بأن يركبك؛ فما يجوز أن يركب إلا البهائم من عباد الله. سوف تعيش طويلا وتلقى الحياة بخيرها وشرها. لم أسمع عن إنسان مات جوعا. الأغذية تسد الطرق سدا. ولست طماعا فما تريد إلا اللقمة والسترة، وكم كأس من الكونياك، وكم نفس من الحشيش، وكم امرأة من النساء، وكل أولئك متوفرة بكثرة، أكثر من الهم على القلب. توكل على الله ولا تحمل هما.» ولم يكن خلو الجيب؛ فقد أشرف على جنازة أبيه، وخرج منها بأربعين قرشا لم يعلم بها أحد، وقد تساءل ألم يكن الأخلق به أن يعطيها لوالدته؟ «كلا لو نزلت عنها ما أفادت أمي منها نفعا مذكورا، ولكن ضياعها يضرني ضررا لا شك فيه. لا أدري متى يتاح لي الحصول على مثلها!» وأخذت قهوة الجمال تلوح لعينيه الحادتين فحث خطاه حتى انتهى إليها. هي قهوة صغيرة لم تؤت من ميزة إلا وجودها على الطريق العام. ولم يوجد بها في هذه الساعة المبكرة إلا زبونان جلسا إلى مائدة على الطوار يتشمسان ويحتسيان القهوة، على حين قبع في ركن بالداخل شبان ثلاثة يدل مظهرهم ونظرات أعينهم الحائرة على الفراغ واليأس، فلم يكن عجيبا أن يقصدهم الشاب وينضم إلى مجلسهم، وما لبث أن طلب أحدهم الورق فتهيئوا للعب الكومي. وكان كل منهم يمني نفسه بأن يربح رزق يومه - خمسة قروش فوق الكفاية - من رفقائه. بيد أن حسن كثيرا ما يكون الصائد؛ لمهارته من ناحية ولخفة يده وعينيه من ناحية أخرى. لهذا قال أحدهم قبل البدء في اللعب: لا نريد غشا.
فقال حسن: طبعا.
فقال الشاب: فلنقرأ الفاتحة.
وقرءوا الفاتحة جميعا بصوت مسموع، ولعل حسن تعلم حفظها حول هذه المائدة، ثم لعبوا مقدار ساعة فربح أحدهم دورا، وربح حسن دورين، كان صافي ربحه أربعة قروش ونصفا بعد خصم نصف قرش ثمن فنجان القهوة، واقترح بعضهم أن يمدوا وقت اللعب، ولكن دخل القهوة شاب ما إن رآه حسن حتى نهض قائما، وأقبل نحوه في احترام وسرور وهو يقول: صباح الخير يا أستاذ علي صبري.
فمد له القادم يده في حركة تشي بشعوره بقدر ذاته، وقال: صباح الخير.
وجلسا إلى مائدة متقابلين، واجتاحت نفس حسن موجة كرم عاتية فنادى النادل وطلب للأستاذ علي صبري قهوة، ثم قال الأستاذ للنادل قبل أن يذهب: ونارجيلة.
وغاص قلب حسن في صدره أن يلزم بدفع ثمن النارجيلة أيضا، فيضيع عليه ما ربح باللعب والحظ واليد والعين. ولكنه سرعان ما تناسى قلقه ليفرغ إلى استطلاع وجه الأستاذ. وكان علي صبري في منتصف عقده الثالث، متوسط القامة نحيل العود، صغير القسمات، أما شعره فأشبه ما يكون بشعر حسن، إلى سوالف تزحف حتى منتصف خده، وكان مظهره بوجه عام يدل على سوء الحال، ولكنه يغطيه بنفخة كاذبة وغرور غير محدود. قال حسن بأسف وهو يستطلع وجهه: لم نسمع صوتك من زمان!
وكان أذاع مرات من المحطات الأهلية، وبدا وكأن الحظ يبتسم له ، فلما ألغيت المحطات الأهلية وأنشئت محطة الإذاعة الرسمية حيل بينه وبين إحياء الحفلات، وضاعت مساعيه وراء هذا الأمل هباء. وكان حسن أحد أفراد تخته المعطل، وطبيعي أن العمل لم يكن يدر عليه أكثر من قروش في الحفلة، ولكنه كان يحبه ويؤثره على العمل الجدي الذي لم يصادف فيه توفيقا على مشقته و«حقارته!» وقال الأستاذ: سأبدأ نشاطا جديدا عما قريب.
فخفق قلب حسن وقال برجاء: نحن رجالك، وفي الخدمة دائما.
فهز الأستاذ رأسه في رضا؛ لأنه لم يكن يشعر بالعزة إلا إذا خاطبه أحد أفراد تخته المتسكعين، خصوصا حسن، ذلك الشرس الجبار، الذي ينقلب بين يديه وديعا متملقا، ثم قال: طبعا. إنك تردد ترديدا حسنا، وصوتك لا بأس به.
فانطلقت أسارير حسن في بشر وقال: ولقد حفظت كثيرا من الطقاطيق. - مثل ماذا؟! - اللي حبك، ظالمني ليه، لما انكويت بالنار.
فهز الأستاذ منكبيه استهانة وقال: إن محك الفن الدور والليالي. ماذا يسمع الآن في الراديو؟ لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء، ولو كانت المحطة تراعي وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبد الوهاب. وعبد الوهاب نفسه يخاف كثيرا أن تخونه حنجرته فتراه يتحامى النفس الطويل، ويشطره أجزاء قصيرة متواريا وراء ما يسميه بالتجديد، ثم يغطي ضعفه بضجيج الآلات. إليك كيف غنى «يا ليل» في الحفلة الأخيرة.
وتنحنح ثم راح يغني يا ليل مقلدا عبد الوهاب. وجاء النادل بالنارجيلة والقهوة وهو يغني فتناول الخرطوم دون أن يمسك عن الغناء حتى انتهى، وحينذاك هتف رفاق حسن «الله .. الله»، فأخذ نفسا من النارجيلة دون أن يلتفت إليهم، ثم قال لحسن همسا: هذا إعجاب بالصوت لا بالفن. اسمع هذه الليالي في نفس واحد كما كان ينبغي أن تغنى.
وأنشد بصوت ملأ القهوة الصغيرة حتى رفع صاحب القهوة رأسه عن صندوق الماركات، وأسارير وجهه تراوح بين الابتسام والاعتراض. وانتهى الأستاذ علي صبري، وعاد إلى النارجيلة وفي نيته أن يشكر في هذه المرة للرفاق استحسانهم إذا أبدوه، ولكن ساد الصمت فلم يسمع إلا قرقرة الماء في قنينة النارجيلة، وقطب الأستاذ وقال في ثقة: هذه أصول الفن.
فقال حسن بحماس: لا شك في هذا.
فقال بلهجة الناصح: مرن صوتك، لا تكف عن التمرين. أكثر من الليالي. ولا تن عن مص السكر النبات. - يا سلام! - مفيد جدا، ويا حبذا لو استيقظت حين الفجر وأذنت للصلاة؛ فهو خير مران للحنجرة، وهو ما كان يفعله سلامة حجازي.
فضحك حسن وقال: ولكني أنام عادة قبيل الفجر. - إذن قبل النوم. - في مسجد؟! - المهم الأذان نفسه في هذه الساعة المبكرة. في مسجد، في حانة، كيفما اتفق! - وإذا كان الإنسان من غير مؤاخذة سكران أو مسطولا؟ - يكون أفضل. فما تستطيعه وأنت غائب عن وعيك تستطيع أضعافه وأنت صاح. - ينبغي أن نتقابل كثيرا حتى يفتح الله علينا.
ثم التفت صوب الرفاق الثلاثة وسألهم: ماذا كنتم تفعلون؟ - كنا نلعب الكومي.
فقال الأستاذ علي صبري باهتمام: هلم نجرب حظنا.
ونهض الرفاق وأقبلوا نحوهما بلا تردد، ثم تحلقوا المائدة والطمع يلعب بقلوبهم جميعا، بيد أن حسن كان قلقا مشفقا من مغبة هذا اللعب. «ما عسى أن أصنع مع ابن القديمة هذا؟ إذا كسبت أغضبته، وإذا خسرت ضاع اليوم هدرا؟!»
12 - لا أدفع مليما واحدا أكثر من الثلاثة الجنيهات.
قالها تاجر الأثاث وهو يلقي نظرة على فراش المرحوم. ولم تعد تجدي مساومة الأم. وكانت قد أجمعت على بيع الفراش ولوازمه لما يثيره وجوده من الأحزان، ولأنها باتت في مسيس الحاجة إلى نقود، وكانت ترجو له ثمنا أكثر من هذا لعله يسد بعض عوزها الملح إلى النقود، ولكنها لم تجد بدا من الإذعان، فقالت للتاجر: غلبتنا سامحك الله، ولكنني مضطرة للقبول.
ودفع الرجل إليها بالجنيهات الثلاثة، وهو يشهد الله أنه المغلوب، ثم أمر تابعين بحمل الفراش.
واجتمعت الأسرة في الصالة تلقي نظرة الوداع على فراش فقيدها المحبوب. وتمثل الراحل لهم فكأنهم يرونه رؤية العين، وغلب الحزن نفيسة فأجهشت في البكاء، وأطبقت الأم شفتيها كاتمة آلامها. كانت تحرم على نفسها البكاء أمام أبنائها؛ أن تعاودهم حدة الحزن، لم يكن لهم من أحد يعتمد عليه سواها، فوجب أن تظهر بمظهر الرجولة. ولو وجد هذا الشخص للاذت بالدموع كسائر النساء، ولكن لم يكن لها محيد عن التصبر والتجلد. وفضلا عن هذا كله فلم تواتها فرصة للتنفيس عن حزنها بما جبهها من هموم العيش وأثقاله، ووجدت نفسها في الغالب مضطرة إلى تناسي أحزان القلب لتناضل ما يتهدد أسرتها من الضراء. «يحز في نفسي ألا أجد فراغا للحزن عليك يا سيدي وفقيدي. ولكن ما الحيلة؟ حتى الحزن نفسه محرم على أمثالنا من الفقراء.» ولم يكن حسنين يتصور أن يفرطوا في مخلفات أبيه، ولكنه لم يفكر في الاعتراض. والواقع أن حال الأسرة لم تعد تخفى على أحد. ومضى التاجر بالفراش وأغلق الباب فساد الوجوم حينا، وأرادت الأم أن تبدد سحابة الحزن التي أظلتهم فقالت مخاطبة حسين وحسنين: هيا إلى حجرتكما للمذاكرة.
وقبل أن تبدأ حركة قالت نفيسة بانفعال: لن أسمح لمخلوق بأن يمس ثياب أبي.
فقال حسن مؤمنا على قولها: وما من فائدة ترجى من بيعها.
وساد الصمت حينا، ثم قال حسن مستدركا وكأنه يواصل حديثه: وفضلا عن هذا فلن ينقضي وقت طويل حتى تشتد حاجتنا إلى الملابس!
فتساءلت نفيسة في ارتياع: أيمكن أن تستعملوا ملابس أبي؟!
ولم يجرؤ أحد على الاعتراض، ولكن الرقة مست قلب الأم فقالت: ما في ذلك من ذنب، وليس فيه ما يسيء إلى المرحوم، بل لعله مما يطيب ثراه، ولكني سأحتفظ بها بنفسي حتى تمس الحاجة إليها حقا.
وتشجع حسن بقولها فقال في ارتياح: نطقت عن حكمة، وإني أذكرك بأني الوحيد الذي لا أكاد اختلف طولا أو عرضا عن المرحوم أبي.
وتناسى الشقيقان الحزن الذي ران على صدريهما فقال حسنين محتجا: إني وإن كنت أطول منك قليلا إلا أنه يمكن مد ثنية البنطلون!
وقال حسين بلهجة ذات معنى: أو ثنيها مرة أخرى.
فقالت الأم في ضيق: لا داعي للنزاع. توجد أكثر من بدلة في حال لا بأس بها، وسأوزعها تبعا للحاجة لها.
ثم بلغ المسامع طرق على الباب فقطع عليهم الحديث، وخفت نفيسة إليه ففتحته، فدخلت خادم فريد أفندي محمد حاملة سلة مغطاة بغطاء أبيض وضعتها على السفرة وهي تقول: ستي تسلم عليك يا ستي، وتقول إن هذا فطير القرافة.
فحملتها الأم السلام والشكر، وذهبت الخادم من حيث أتت، واقترب حسن من السلة وحسر عنها الغطاء، فبدت الفطائر بألوانها الوردية، وطار عرفها الشهي إلى الأنوف، ولم يكن تهيأ للأسرة طوال الأسبوعين المنصرمين طعام شهي؛ لما أخذت به الأم نفسها من الحذر والتقتير. ولاحت الرغبة في أعين الأخوة، ولكن الأم كانت تتجهم لها الخواطر، والحقيقة أن تلك الأيام لم تكن تضمر لها خيرا، وحتى خيرها لم يخل من نكد، وبدا التفكير في تجاعيد وجهها وهي تقول: هدية مشكورة، ولكن الواجب أن نهدي ما يماثلها عقب العودة من القرافة، فما العمل؟!
وجد الإخوة خيبة، وأراد حسين أن يخفف عن أمه فقال: فلنعد الهدية إلى أصحابها شاكرين!
فقالت الأم في حيرة: يعد مثل هذا العمل معيبا، لا أثر للمودة فيه.
فقال حسن متحمسا لقول أمه: بل يعد سلوكا عدائيا.
وتناول فطيرة، وشمها ثم قال باستهانة: لا تحملوا هما. إنما ترد هذه الهدايا في أوقاتها، فإذا مات فريد أفندي بعد عمر طويل أهدينا إلى أسرته سلة فطائر، ولن يعجزنا صنعه وقتئذ بإذن الله.
وراح يلتهم الفطيرة. وتبادل الشقيقان نظرة ثم مدا يديهما إلى السلة، حتى نفيسة سمعت تمطقهم فلم تعد تقاوم.
13
جلست نفيسة على الكنبة في الحجرة التي تنام فيها مع أمها، مكبة على ماكينة الخياطة، وقد نثرت على أرض الحجرة قصاصات من الأقمشة. كانت الأم في المطبخ، والشقيقان في المدرسة، أما حسن فحيث لا يدري أحد. وقد باتت الفتاة تضمر لشقيقها الأكبر مر اللوم، فلو أنه وجد لنفسه عملا لما وجدت نفسها في الوضع التي هي فيه. لا يؤمن أحد بأنه جاد - كما يقول - في البحث عن عمل، ولكنه يغيب النهار ونصف الليل، ثم يعود كما خرج صفر اليدين، ولم تعد الأيام تطالعهم إلا بما يسوء؛ فاليوم اضطرت الأم إلى الاستغناء عن الخادم الصغيرة لتوفر أجرتها فأصبح عليها هي واجبان يوميا؛ أن تبتاع حوائج البيت من الطريق لتسد الفراغ الذي تركته الخادم، وأن تعكف سحابة يومها بعد ذلك على ماكينة الخياطة. وقد مهدت لها الأم سبيل العمل بنفسها منذ يومين، فقالت لصاحبة البيت التي جاءت بقطعة من القماش لتفصيلها: هل عندك مانع من مكافأة نفيسة على عملها؟
فقالت المرأة بلا تردد: أبدا يا ست أم حسن. هذا حق وعدل. وهيهات أن نوفي ما علينا من دين لست نفيسة.
ما زال سمعها يرجع هاتين الجملتين. وما تذكر أنها وجدت نفسها في مثل هذا الموقف طوال عمرها. لقد تصاعد الدم إلى وجهها الشاحب فكاد ينضح به، وشعرت بأنها تهوي من عل، وأنها أمست فتاة أخرى. ليس بين الكرامة والضعة إلا كلمة. كانت فتاة محترمة فانقلبت خياطة. وأعجب شيء أنه لم يستجد جديد بالنسبة إلى العمل نفسه، فطالما خاطت ثياب صاحبة البيت، وامرأة فريد أفندي وابنتها وغيرهن من الجيران. فالخياطة هوايتها، ولها فيها من البراعة ما يجعلها قبلة الجيران والصديقات، لشد ما تغير شعورها. أحست بالخزي والهوان والضعة، وتضاعف حزنها على أبيها، فبكته بكاء حارا، وبكت نفسها فيه. مات الفقيد المحبوب فمات بموته أعز ما فيها.
كانت تخيط منقبضة الصدر، لا ضاحكة الثغر ولا مترنمة كعادتها فيما ولى من أيام. وكانت تنتظر حضور صاحبة البيت بين آونة وأخرى؛ لتفصل لها بعض ثياب داخلية بعثت بها إليها هذا الصباح. أجل بعثت بها هذا الصباح فحسب، عقب حديث أمها بيومين، مما جعلها تظن أنها أرسلتها على سبيل الإحسان! وقد أفضت بأفكارها إلى أمها فانتهرتها قائلة: لا تسلطي هذه الأوهام على نفسك وإلا خاب مسعانا جميعا.
ولم تكن تجرؤ على معارضة أمها إلى ما باتت تكنه لها من الرثاء في هذه الأيام الأخيرة. «ما أغباني! هل حسبتها راضية عن حالي؟ إنها تكابد حيرة قاتلة، وهي أحقنا بالعطف. إن التعاسة تنفذ في لحمنا كما تنفذ هذه الإبرة في قطعة القماش. ما كان أبي ليسمح بشيء من هذا، ولكن أين هو؟ إن حزني عليه يتضاعف يوما بعد يوم، لا للضر الذي مسنا بعده فحسب، ولكن لأن هذا الضر نزل بمن يحبهم ويحب لهم الخير. إني آلم لألمه، لا بد أنه يتألم لنا، لشد ما كان يحبني، كأنه يحدس ما يرصدني من شقاء. اضحكي؛ ما أحب ضحكتك إلى نفسي! هكذا كان يقول لي كلما تعالت ضحكتي الرنانة، وكان يقول لي أيضا الخفة أنفس من الجمال، كأنه يعزيني على دمامتي. لله ما ألطفه وما أعذبه! لم يكن مثله أحد في الرجال. مات، مات! لن أنسى ما حييت إيماءته إلى صدره، وهو ملقى على الكنبة: أبي يستغيث ولا مغيث. لتندك الجبال على الأرض. حياة بغيضة مفجعة لا خير فيها. أبي ميت وأنا خياطة، عما قليل تجيء صاحبة البيت لا ضيفة كما كانت ولكن زبونة. كيف ألقاها؟ بأي عين تنظر إلي؟ حسبي، حسبي، داخ رأسي.» وسمعت أمها تخاطب شخصا في الصالة فكفت يدها عن الماكينة وأرهفت السمع، فقرع أذنيها صوت تاجر الأثاث وهو آخذ في مساوماته التي لا تنتهي، وأمها تحاوره بصوت ملؤه الإشفاق واللوم. «ليست أمي بلهاء، وما كانت لتغلب في مثل هذا الموقف، ولكنها الحاجة القاسية التي تركبها، متى يصرف لنا المعاش؟ لا أدري، ولا أحمد يسري يدري. هيهات أن يكفينا المعاش، خمسة جنيهات؟! كارثة. جاء الرجل ليحمل المرآة الكبيرة بحجرة الاستقبال ولما يمض أسبوعان على بيع الفراش العزيز. وسيأتي غدا وبعد غد حتى يترك الشقة أرضا عارية. لماذا خلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء والمسكن؟ هذا سر متاعبنا.» وخفت إلى باب الحجرة، ففتحته ورأت التاجر ومعاونيه يحملون المرآة الطويلة إلى الخارج وقد فتح باب حجرة الاستقبال على مصراعيه، ووقفت أمها على عتبتها. وكان الرجل الذي يحمل مؤخرة المرآة قصيرا فحملت المرآة في وضع مائل ورأت سطحها ينعكس عليه ركن سقف الصالة متأرجحا بحركة الرجلين، كأنما سرى بأوصال البيت زلزال. وذكرت وهي لا تدري نعش أبيها. واشتد انقباض صدرها وهي تلقي نظرة الوداع على المرآة التي عاشرتها منذ رأت النور. وعادت إلى مجلسها ، «ينبغي أن تكون المرآة آخر ما أحزن عليه. لن تعكس لي وجها أسر به. الخفة أنفس من الجمال! هذا قولك يا أبي وحدك، ولولاي ما قلته أبدا. لا جمال ولا مال ولا أب. كان يوجد قلبان يساورهما القلق على مستقبلي، مات أحدهما، وشغلت الهموم الآخر. وحيدة، وحيدة، وحيدة، في يأسي وألمي، ثلاثة وعشرون عاما! ما أبشع هذا، لم يأت الزوج بالأمس والدنيا دنيا، فكيف يأتي اليوم أو غدا؟! وهبه جاء راضيا بالزواج من خياطة فما عسى أن يقوم بنفقات الزواج؟ لماذا أفكر في هذا؟ لا فائدة، لا فائدة. سوف أظل هكذا ما حييت.»
ودق الباب، ثم جاءت صاحبة البيت متهللة كعادتها، واحتضنتها وقبلتها. ثم جلستا جنبا إلى جنب، وتحدثت المرأة برقة ومودة، ولعلها حرصت على الرقة والمودة أكثر من ذي قبل. وتظاهرت نفيسة بالرضا والارتياح تداري بهما ارتباكها وخجلها، ولكن من المؤكد أن مبالغة المرأة في إظهار مودتها آلمها وآذاها، وضاعف من ارتباكها وخجلها. وقد جربت المرأة الفستان الذي انتهت نفيسة من خيطه، وقاست الثياب الداخلية، ثم جلست لصقها وغمرت يدها بنقود فضية وهي تقول: هيهات أن نوفي دينك السابق.
ومكثت معها ردحا من الزمن ثم ودعتها وانصرفت. وبسطت نفيسة يدها فرأت قطعتين من ذوات العشرة القروش. وثبتت عيناها عليهما وصدرها جياش وقلبها خافق. ثم قهرها الحياء والهوان «شيء مؤلم، ولكن لا ينبغي أن أفكر في هذا، ما جدوى وجع الدماغ؟ روضي نفسك على قبول ما لا بد منه. هذه حياتي ولا حياة لي غيرها ...» وجاءت الأم وهي لا تزال تنظر إلى النقود، فأخذتها من يدها وسألتها: أجرة الثياب كلها أم الفستان وحده؟
فغمغمت الفتاة: لا أدري.
فقالت الأم وهي تزدرد ريقها بصعوبة: أجرة حسنة على أية حال.
وتحاشت الأم أن ينم وجهها على شيء مما يقوم في نفسها.
14
ومضت أسابيع، وكان الليل قد أرخى سدوله وشملت الشقة كآبة وما يشبه الصمت. وكان الشقيقان يجلسان إلى المكتب متقابلين، منهمكين في المذاكرة، على حين جلست الأم ونفسية في الصالة في شبه ظلام قانعتين من النور - على سبيل الاقتصاد - بما ينبعث من حجرة الأبناء، وتناجتا في صوت منخفض شأنهما كل مساء، وكانت هموم العيش أكثر ما يستأثر بحديثهما. لم تزل الحاجة همهما الأكبر، وما انفك الخوف يقض مضجع الأم، ويجعلها ترمق المستقبل بقلق وحزن عميقين. بيد أن العادة كانت تحدث أثرها الملطف في تهوين الخطب وإساغته، فلم يعد التقشف في الغذاء مزعجا كما كان بادئ الأمر، وأخذت نفسية تألف مهنتها الجديدة، وتتطلع إلى زبائن جدد، في شيء من الانكسار وكثير من الرجاء. حتى الشقيقان، تعودا أن يجعلا من غذاء المدرسة وجبتهما الرئيسية، وأن يبيتا بلا عشاء في صبر وجلد. كانت العادة تحدث أثرها، وكان حزم الأم يسيطر على ضبط أعصاب الأسرة المنكوبة. وفي ذاك المساء جاء فريد أفندي محمد وزوجه يزوران الأسرة، فاستقبلتهما الأم ونفسية بترحاب وقاداهما إلى حجرة الاستقبال.
وكان فريد أفندي يرتدي جلبابا ومعطفا، أما حرمه فقد التفت بالروب، وكأنهما في شقتهما بغير ما كلفة. وجلس الرجل على الكنبة ليفسح المجال لجسمه المكتنز، وراح يحدث حديثه الودود في لطف وإيناس. وكانت زوجه - ست أم بهية - بدينة مثله مع ميل إلى القصر، إلا أنها كانت تعد أجمل امرأة في العمارة؛ لبياض بشرتها وزرقة عينيها، وقد قالت تخاطب أم حسن متسائلة في لهجة تنم عن العتاب: لماذا تلزمان البيت هكذا؟ لماذا لا تروحان عن نفسكما بزيارتنا كما كنتما تفعلان؟
فقالت الأم: هجم برد الشتاء وما إن يأتي المساء حتى يركبنا الكسل. أما نهارنا فلا يخلو ساعة من هموم البيت.
فقال فريد أفندي: نحن أسرة واحدة، وينبغي أن نمضي جل فراغنا معا.
كان فريد أفندي ممن لا يبرحون بيوتهم بغير داع قهار، ويرى طيلة فراغه متربعا على الكنبة ومن حوله زوجه، وبهية ابنته، وسالم ابنه الصغير، يسمرون، ويمصون القصب أو يشوون أبا فروة. وكانت الأم تكن مودة صادقة لعطفه ومروءته، ولا تنسى له ما تجشم من تعب يوم وفاة زوجها. وفضلا عن هذا كله فقد أقرضها بعض المال لحين صرف المعاش، ولم يكن يني عن الذهاب إلى وزارة المالية للاستعلام والاستعجال. بيد أنه كان موظفا تافه الشأن، وهو ما غاب عن تقدير المرأة. ولم يرق إلى الدرجة السادسة إلا حديثا على بلوغه الخمسين. وكانت جيرته للأسرة ترجع إلى عهد بعيد. وتوثقت أواصر الصداقة بينهما لطيب معشرهما، وقرب أسباب المعيشة بين الأسرتين. وكانت حياة لا بأس بها، ولا تخلو من ألوان الترفيه. ثم نعمت أسرة كامل أفندي برفاهية جديدة حين رقي المرحوم إلى الدرجة السادسة قبل وفاته بخمسة أعوام. واستقبل فريد أفندي عهدا جديدا منذ عامين، فورث بيتا بالسيدة زينب، يدر إيجاره عشرة جنيهات شهريا، وبلغ به دخله ثمانية وعشرين جنيها، مما يعد ثروة في عام 1933. وبات فريد أفندي سيد عطفة نصر الله، وزاد ترهلا على ترهل، ولولا حرص زوجه على الاقتصاد لمواجهة مستقبل فتاتهما وابنهما الصغير؛ لنفذ الرجل ما أراده يوما من الانتقال إلى شقة بشارع شبرا.
وتنقل بهم الحديث من واد لواد، ثم قال فريد أفندي مفصحا عن رغبة لعلها كانت أول ما بعثه إلى هذه الزيارة: يا ست أم حسن، إني قاصدك في رجاء.
فقالت الأم: مر يا سيدي. - ابني سالم، وهو في السنة الثالثة الابتدائية، ضعيف في الإنجليزي والحساب. وقد رأيت على سبيل الاقتصاد - لأن المدرسين طماعون كما تعلمين - أن أعهد إلى حسين وحسنين بالقيام بهذه المهمة، ساعة كل يوم، أو يوما بعد يوم، هذا رجائي يا ست أم حسن.
وأدركت المرأة أن الرجل يهيئ سبيلا غير ماس بالكرامة لنفح ابنيها بمصروف شهري يرفه عنهما، هذا واضح كالنهار، ويتفق مع ما طبع الرجل عليه من دماثة ورقة، وقالت برقة وحياء: إن حسين وحسنين ابناك، وهما طوع أمرك!
فقال الرجل بسرور: فليسعفاني بسرعة إذن، وليبدآ يوم الجمعة القادم.
وعادوا إلى حديثهم الطويل، ثم غادر الرجل وزوجه الشقة حوالي التاسعة. وهرعت نفيسة إلى حجرة أخويها حاملة خبرا سارا لأول مرة منذ عهد ليس بالقصير، وقالت بمرح وقد استردت شيئا من طبيعتها الأولى: مفاجأة!
فرفعا رأسيهما إليها في استطلاع فقالت: فريد أفندي راغب في اختيار مدرس لسالم. - وما شأننا في ذلك؟ - منكما؟ - لأي مادة؟ - الإنجليزي.
فصاح حسنين: أنا طبعا!
فقالت مبتسمة: والحساب أيضا.
فقال حسين وهو يتنهد: أنا.
فقالت في مكر: يريدكما معا، وطبعا بالمجان!
فهتفا معا في سرور وقد أدركا ما وراء كلامها: طبعا!
15
لم يكن ثمة ما يدعو إلى ارتداء البدلة في ذهابهما إلى شقة في نفس العمارة، فارتديا معطفيهما على البيجامتين، وإلى هذا كانت أمهما تحرم عليهما ارتداء البدلة - أن يبليها طول الاستعمال - إلا للضرورة القصوى. وكان الضحى بسام الشمس، فلطفت حرارتها من برودة الجو. وارتقيا السلم يملؤهما السرور والأمل. ومرا في صعودهما بباب شقتهما القديمة فألقيا عليها نظرة صامتة، وانتهيا إلى الشقة العليا فوجدا الباب مواربا، ووقفا لحظات مترددين، ثم اقترب حسنين من الباب ورفع يده ينقر عليه، ولكن يده جمدت في الهواء ورنت عيناه إلى الداخل على رغمه. رأى فتاة مولية الباب ظهرها ومنحنية على شيء بين يديها - لعلها تبحث في درج من أدراج البوفيه - وقد برز ردفاها اللطيفان، وانحسر الفستان عن ساقيها وباطن ركبتيها، ساقان مدمجتان يكسوهما بياض ضاحك، تكاد العين تحس طراوتهما. وثبتت عيناه على المنظر فلم يبد حراكا. وعجب حسين لموقفه فدنا منه في اهتمام وألقى ببصره من فوق كتفه، وهو يشرئب بعنقه فغمرته دهشة، ولكن سرعان ما ارتد عن فرجة الباب كالهارب، وجذب أخاه من ذراعه وهو يرميه بنظرة حادة؛ كأنما يقول له «أمجنون أنت؟» ولبثا حينا وقد ركبهما ما يشبه الشعور بالذنب، وكأن المنظر ذر في شقوق صدريهما الشطة. ومال حسنين على أذن حسين وهمس: بهية.
فغمغم الآخر متظاهرا بعدم الاكتراث: لعلها.
فتردد حسنين وفي عينيه بسمة شيطانية ثم قال: ألا نسرق نظرة أخرى؟
فلكزه في كتفه ونحاه جانبا، ثم اقترب من الباب وطرقه، وسمعا وقع أقدام آتية، وفتح الباب عن وجه جميل، مستدير ممتلئ أبيض، مشوب بشحوب خفيف، تزينه عينان زرقاوان صافيتان. وما إن رأت القادمين حتى تراجعت في خفر. ثم جاء من بعيد صوت فريد أفندي وهو يهتف: تفضلا يا حضرتي الأستاذين الكبيرين!
ودخلا إلى الصالة - حجرة السفرة أيضا - فرأيا فريد أفندي جالسا على كنبة في مواجهة البوفيه، في جلباب فضفاض، جعل منه كهيئة المنطاد. وسلما عليه وهو يتصفح وجهيهما باهتمام وترحيب، ثم نادى سالم، فجاء الغلام ووقف في حياء وارتباك، فقال فريد أفندي: سلم على أستاذيك. أنت تعرفهما طبعا، ولكنهما من الآن فصاعدا شخصان جديدان. هما أستاذاك، فتأدب في محضرهما كما تتأدب أمام معلميك.
فاقترب منهما الغلام في أدب وهو يغالب ابتسامة حيال الشابين اللذين لم يألف احترامهما بعد، وأشار الأب إلى حجرة إلى يسار الداخل وقال: حجرة الاستقبال أوفق حجرة المدرس، وبها الشرفة إذا أراد أحدكما أن يتشمس.
ومضى الأستاذان إلى الحجرة يستقبلهما التلميذ، وبادر الغلام إلى الشرفة ففتح بابها، ثم أغلق باب الحجرة. وكانا يدخلان الشقة لأول مرة؛ لأنه لم يكن لفريد أفندي ابن في سنهما فتدعوهما صداقته إلى التردد عليها. ووجدا حجرة الاستقبال بمنزلة حجرتهما بوجه عام؛ فهي مكونة من طاقم قديم ذي كنبتين أفرنجيتين وستة كراسي، ومرآة كبيرة ذات حوض مذهب يحوي وردا اصطناعيا، بيد أن حجرتهما بقيت على قدمها وبيعت مرآتها، أما هذه فيبدو أن يد النجاد قد جددت حشوها وكساءها. وجلس حسين على كنبة فجاء سالم بكرسي وجلس قبالته واضعا بينهما خوانا صفت عليه الكتب والكراسات، على حين خرج حسنين إلى الشرفة في انتظار دوره. وجعل حسين يتصفح كراسات الغلام وكتبه، ثم قال له: سأعيد الدروس من الأول شارحا ما يغمض عليك؛ على أن نبدأ في الدرس التالي بتسميع ما تم شرحه.
وبدأ الدرس في اهتمام جدي.
ووقف حسنين في الشرفة مرتفقا حافتها كما كان يفعل أيام كان لهم شرفة. وكان المنظر الذي أثاره لا يزال ناشبا في مخيلته؛ الساقان البديعتان، والوجه البدري ذو العينين الزرقاوين، نظرة هادئة رزينة توحي بالثبات لا بالخفة، جمال يبهر وإن شابه شيء من ثقل الدم، ولكنه لم يترك أثرا سيئا في نفسه، لا يزال دمه يتدفق حارا في عروقه، وقلبه يخفق بنشوة المنظر، ورأسه لا يمسك عن خلق الصور والأحلام. هذه أسطح البيوت المحدقة به، وهذه عطفة نصر الله في أسفل، وهؤلاء خلق كثيرون ذاهبون آيبون، كل أولئك يلوح وراء غلالة حمراء نشرها خياله المحتقن الدم، متى تعود السكينة إلى نفسه؟ إنه يذكر بهية. كان يرها كثيرا وهي صغيرة تحجل في فناء العمارة، ولكنها اختفت منذ الثانية عشرة، وانقطعت عن المدرسة أيضا قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانوية. ولعلها في الخامسة عشرة، ولكن كان كأنه يراها لأول مرة؛ «إني بحاجة إلى مثل هذه الفتاة؛ نذهب إلى السينما معا، ونلعب معا، ونتحدث كثيرا. وما من بأس في أن أقبلها وأعانقها. ليس في حياتي وجه جميل يجذبني إليه، وحسبي ما صادقت من فتيان المدرسة ونادي شبرا. أريد فتاة، أريد هذه الفتاة. في أوربا وأمريكا ينشأ الفتيان والفتيات معا كما نرى في السينما. هذه هي الحياة، أما هذه فما إن رأتنا حتى توارت عن الباب كأننا وحوش نروم التهامها. وكان أجدادنا يقتنون الجواري، لو نشأت في بيت مليء بالجواري، لعرفت حياة أخرى على رغم أمي وإنذاراتها ولكماتها. حتى الخادمة الصغيرة طردت لفقرنا. ماذا يخبئ لنا المستقل؟ أظن أكبر ذنب يؤخذ به في الآخرة هو أن نترك هذه الدنيا دون أن نستمتع بحلاوتها. أجمل منظر حقا هو بطن ركبتها، في وسطه عضلة رقيقة مشدودة تشف بشرتها عن زرقة العروق. لو انحسر الفستان قليلا لرأيت مطلع الفخذ! أجمل منظر في الدنيا منظر امرأة تخلع ثيابها. أجمل من المرأة العارية نفسها، يقولون إن مدرس التاريخ زير نساء. متى أجد نفسي رجلا حرا؟! عندنا غدا حصة تاريخ ويجب أن أحفظ هذه الليلة القبائل الجرمانية.
فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، هذا أمرك يا رب، ولكن هذا البلد لم يعد يحترم الإسلام.» وتابع أحلامه في نشاط، حتى ترامى إليه صوت حسين يدعوه إلى درس الإنجليزي فغادر موقفه.
وعند انصرافهما بدت لهما الفتاة جالسة في الحجرة المقابلة لحجرتهما، أما حسين فقد غض بصره في وقاره المعهود، وأما هو فقد رنا إليها بنظرة قوية فخفضت عينيها في حياء.
16 - كم تظن أن يكون أجرنا؟
فقال حسين متظاهرا بعدم الاكتراث: لا تكن شحاذا ثقيلا.
فقال حسنين بأمل: نحن ندرس لسالم يوما بعد يوم، وقد مضى زمن لا بأس به، فلعله ينقدنا أجرنا أول الشهر، نينة لا تستبعد أن يعطي كلا منا نصف جنيه، وهو مصروف عال! ستعود أيام الكرة والسينما وشيكولاتة المقصف في الفسحة.
كانا يرتقيان السلم وقد غاب نهار الشتاء القصير في ظلمة المساء المبكرة. وطرقا الباب كعادتهما وانتظرا أن يجيء من يفتحه، وهما يطويان في صدريهما أملا يتجدد مساء بعد مساء دون أن يتحقق. وجاءت الخادم وقادتهما إلى حجرة الاستقبال. كانت الصالة خالية والضوء ينبعث من حجرة نوم الوالدين في نهاية الصالة، فسار حسنين وهو يلحظ المكان بجانب عينيه دون جدوى، ثم جاء سالم وأغلق وراءه الباب، وجلس أمام حسين وبدأ الدرس، وشعر حسنين بخيبة وملل. وكان أحضر معه كتابا يذاكره حتى يجيء موعد درسه فراح ينظر فيه بعينين غائبتين. وجعل يرفع بصره إلى الباب المغلق بحنق شديد، ثم تساءل بمكر: ألا يحسن بنا أن نغلق الشرفة اتقاء للبرد ونفتح الباب؟
وهم سالم بالنهوض، ولكن حسين أشار له بالجلوس وقال: أغلق الشرفة إذا أردت على أن يبقى باب الحجرة مغلقا.
ورمقه بنظرة ذات معنى، فتلقاها حسنين باستياء مكتوم. وضاق بمجلسه فقام إلى الشرفة متناسيا أنه كان يقترح إغلاقها منذ لحظات. ووجد حيال الظلمة كآبة مثل تلك السحب التي كانت مرنقة بصفحة السماء تزيد الظلمة عمقا ووحشة، لم يكن بالآفاق نجم واحد، ولاحت أضواء المصابيح خافتة تحت غاشية من الضباب، وخيم على الكون سكون ثقيل وبرودة صامتة، كأنما كتمت أنفاسه، «حنبلي، حنبلي. يجب أن يكون رجلا وقورا قبل الأوان. ولا يبدو أنه يريد أن يعاونني، من يدري لعلها لو كانت لها أخت لتغير سلوكه، إنه كأمه جاد صارم. ينبغي أن أفض هذه المشكلة بالحل الموفق» وراح يتفكر باهتمام حتى سمع صوت سالم يناديه فغادر موقفه إلى الحجرة. وقال له الغلام: تفضل شايا.
ورأى قدحين من الشاي على الخوان فتناول أحدهما ، وقد خفف منظر الشاي من توتر أعصابه، وقبل مضي دقيقة سمعا صرير الأكرة فنظرا صوب الباب ففتح قليلا وبدت بهية! كانت تحمل السكرية فأعطتها لسالم وهي تقول: خذ هذه؛ فربما لم يكف ما بالشاي من سكر.
كانت ترتدي فستانا بنيا تكاد تمس أهدابه أعلى القدم فأضفى طوله على قامتها المائلة للقصر ملاحة. وحملق الشقيقان في وجهها وهي لا تحول عينيها عن الغلام. ثم غض حسين بصره ولما يفق من وقع المفاجأة، بينما ظل حسنين يحملق في وجهها كأنه عجز عن استرداد بصره. ورأى الغلام يجيء بالسكرية، وأخذت الفتاة ترد الباب فملأ الجزع قلبه الخافق، وعز عليه أن تختفي وهو غارق في ذهوله وجموده، وطفرت من أعماقه رغبة في الإفصاح لا تقاوم، فقال بعجلة: شكرا، الشاي به الكفاية!
وتحولت عيناها إليه في ارتباك، ثم اختفت دون أن تنبس بكلمة، ولعل عينيها نمتا عن ابتسامة مكتومة. وتحاشى النظر صوب أخيه فحصر بصره في قدح الشاي، «مفاجأة لم أكن أنتظرها، حلم سعيد. على الرغم من الباب المغلق!» ورشف رشفة كبيرة من السائل الساخن فلسعت لسانه وسقف حلقه، وجعلته ينفخ في جزع. ولكن سخونة الشاي لم تغيبه طويلا عما يعاني من إغراء؛ «جسم لدن، عينان جذابتان. هيهات أن يخفي هذا الفستان الطويل ما انطبع في حسي من صورة الساقين، وبطن الركبة خاصة؛ لا الفستان ولا الباب ولا الظلام. أعظم واجب في هذه الدنيا أن تلاعب فتاة جميلة تحبها، إني أعجب كيف أن فتاة يمنعها الحياء من التحديق في وجه حبيبها تستطيع يوما أن تنزع ثيابها بين يديه دون مبالاة! هذا التطور خاصة خليق بأن يبعث بهيج الأمل في موات النفوس. أو لعلها العادة؟! يجوز. هذه العادة التي جعلتنا نألف المبيت على الطوى! كيف يحق لي أن أفكر في الحب على ما نكابد من قساوة الحياة! شكرا، الشاي به الكفاية! أحسنت بشكرها صنعا! لا يحب طبعي الجبن والتردد، وبذلك يمكن أن أقتنص فرص الحب وسط برودة الفقر. الفقر! لو كان رجلا لقتلته! ولكنه امرأة، تقتلنا ونحن راضون. ترى هل يتألم أبي لحالنا؟ ترى ما هيئته الآن؟ لهفي عليك يا أبي! حقا الحياة أكذوبة ضخمة، ولكنها جاءت بنفسها بالسكرية! جاءت لي أنا في الواقع. أريد أن أكون شارلمان عصري. لو عدت يوما إلى عطفة نصر الله محاطا بعظمة فروسيته لألقت بنفسها علي من الشرفة ...» وما يدري إلا وحسين يقول له: دورك.
اللغة الإنجليزية! وحل محل أخيه، وألقى درسا ممتلئا عطفا وحبا للغلام الذي يجري في عروقه الدم الذي يجري في عروقها؛ ذلك الدم الذي استشفه في بطن ركبتها، وانتهى بعد زمن لم يدرك له طولا، ثم غادرا الشقة معا إلى السلم المظلم. ولم يعد يطيق صبرا فقال: كان ظهورها اليوم مفاجأة بديعة!
فقال حسين بلهجة تنم عن الانتقاد: حاذر لا تكن وقحا. هذا بيت محترم! - ماذا فعلت فأستحق هذا التأنيب؟ - لا تفعل شيئا تندم على فعله إذا كان فريد أفندي معنا.
وغلبه السرور فقال وكأنه يناجي نفسه: جاءت بنفسها! لله ما ألطفها! - ليس في هذا ما يعيب. - ترى أكلفها أبوها بإحضار السكرية؟
فقال حسين بملل: من أدراني بذلك! - أم جاءت من تلقاء نفسها؟ - ليكن هذا أو ذاك. - وإذا كان من تلقاء نفسها، فهل جاءت تحت بصر والديها؟
فلم يجبه الآخر، وإن ظل منتبها لما يقول في اهتمام شديد، فعاد حسنين يتساءل: أو جاءت خفية؟!
فهتف حسين: خفية؟!
فضغط الشاب على ذراع أخيه، وقال وهما يغادران آخر درجات السلم: ألا يقولون «من القلب للقلب رسول»؟!
17
جئت الآن وحدي، وسيجيء حسين بعدي، حتى لا يضيع وقتنا بلا ضرورة!
فقال سالم بأدب: هذا أفضل.
واتخذ كلاهما مجلسه، ولكن حسنين قال قبل أن يبدأ درسه: الأوفق أن تغلق الشرفة وتفتح الباب.
ونهض سالم فحقق رغبة أستاذه، ورأى الصالة مظلمة صامتة، ولكن لم يفتر أمله، فلا يزال في الوقت متسع للشاي، ثم للسكرية، وأراد سالم أن يتودد إلى مدرسه بأن يفضي إليه بما في نفسه فقال: بابا وماما عند ستي.
فخفق قلبه بعنف، ونظر إلى الغلام طويلا، ثم سأله: متى ذهبا ؟ - بعد العصر.
وساوره القلق أن تكون قد ذهبت معهما فتساءل: وكيف تبقى وحدك في البيت؟
فقال الغلام: معي أبلة بهية.
وابترد صدره بلذة الارتياح والأمل: «الشاي والسكر. السكر خاصة، بل السكرية. سأتحقق اليوم مما إذا كانت تتعمد الظهور أمامي!» وأمر الغلام أن يطالع وبدأ الدرس، وأصغى إليه دقائق ثم مضى يغيب عنه؛ «هل أطلب شايا؟ قلة ذوق! ولكن إذا تأخر الشاي فلا بد من طلبه، إني مضطرب أكثر مما ينبغي. إننا وحيدان في الشقة أنا وهي. لا يخدش هذه الوحدة سالم أو الخادم الصغير، فنحن وحيدان. فلأنعم طويلا بهذه الوحدة الخيالية. لو كانت الدنيا بسيطة كبساطتها الحلوة الأولى لقمت إليها وأخذتها بين ذراعي، وسألتها باطمئنان كامل أن تكشف لي عن ساقيها، ما الذي يجعلني أحجم عن رغبة كهذه؟ هذا سخف الدنيا الذي قتل أبي وأنزل بنا ما نحن فيه.» وانتبه إلى سالم وهو يسأله عن معنى كلمة فذكر له معناها، وأمره أن يواصل المطالعة. وقبل أن يغيب عنه صوت الغلام سمع وقع أقدام تقترب فاتجه بصره ناحية الباب المفتوح، ثم رأى صينية الشاي تتقدم حاملها، ووقع بصره على الساعدين اللتين تحملانها فخفق قلبه خفقة عنيفة، ونهض قائما كمن به مس، وجاءه صوت رقيق وهو يخطر نحو الباب يقول بصوت كالهمس: سالم.
فظهر حيالها وهو يتفحصها بنظرة عارمة ثم همس: ألف شكر.
وتورد الوجه الأبيض المائل للشحوب، ولعله لم يتوقع ظهوره، ثم غضت بصرها في ارتباك، ومد حسنين يده فتناول الصينية، فأطبقت يده اليمنى على أصابع يسراها، وسرى مسها في يده، وذراعه، وجسمه، وروحه، في أقل من الثانية. ولم تقف به جرأته عند حد فضغط على أصابعها ضغطة غير خافية، فاستخلصت يدها في استياء، وفي وجهها عبوسة، وتحولت عن الباب في حدة الغضب. وعاد إلى الخوان بالصينية شديد التأثر، ثم جلس على مقعده وهو يقول للغلام في ارتباك: استمر. «ترى هل تعجلت الأمر قبل أن ينضج؟ ما أقل صبري! هكذا أنا دائما، يا لها من عبوسة! عبست وتولت. إن يكن حياء فهو عز المنى، وإن يكن حنقا فلعله الختام. هيهات أن أتراجع! هيهات أن يطيب لي التردد أبدا، لماذا جاءت بنفسها؟ لماذا لم تكلف الخادم بحمل الصينية؟ جاءت لي أنا. هذا واضح، لا داعي للخوف.» وكان ينتبه إلى سالم في أويقات متقطعة، ويلقي عليه بعض الأسئلة، ثم يغيب عنه في قلق يراوح بين الإشفاق والسرور. ولما أن انتهى الدرس خطرت له فكرة فصمم على تنفيذها دون تردد. ونهض قائما، وغادر سالم الحجرة ليوسع له الطريق فأخرج منديله من جيب معطفه وتركه على المقعد، ثم غادر الشقة، ولكنه لم يبرح مكانه بعد إغلاق الباب؛ وقف يرهف السمع إلى خطوات الغلام حتى ضاعت، وتريث لحظة ثم نقر على الباب. وانتظر وقلبه يثب وثبا من شدة الخفقان. «إذا جاءت الخادم ضاع تدبيري هباء، ولكن من المحتمل أن تأتي هي، أمري لله.» وأضاء نور الصالة وسمع وقع أقدام قادمة ثم فتح الباب. هي، ولم يبال ما ارتسم على وجهها من آي الدهشة، ولم يضيع وقته سدى فتساءل في رقة وإشفاق: أخاف أن أكون أغضبتك!
فتراجعت خطوة دون أن تفتح فاها، فقال بعجلة: لا أطيق أن تغضبي أبدا.
فغمغمت في استنكار كأنها لا تحتمل أن يوجه إليها خطابا: لا، لا، لا، هذا كثير!
ولم يستطع أن يتكلم؛ لأن سالم ظهر على عتبة الغرفة اليسرى وهو يتساءل: جاءت ماما؟
فقال حسنين بصوت مرتفع: نسيت منديلي في الحجرة!
وجرى سالم إلى الحجرة، وسارعت الفتاة بالعودة إلى الداخل، ثم جاءه الغلام بالمنديل فتناوله، ومضى وقد نسي أن يشكره.
18
ورفع حسين رأسه عن المكتب وتفحصه بدهشة ثم سأله: ما لك؟
فضحك حسنين ضحكة قصيرة دون أن يجيب، فسأله الآخر بلهجة ذات معنى: أأعطيت درسك؟
فارتمى حسنين على فراشه وتساءل: هل أبدو متغيرا؟ - بلا ريب.
فتنهد الشاب قائلا: يحق لي أن أحمد الله على أن أمنا تجلس فيما يشبه الظلام. - ماذا حدث؟
هل يخبره بما حدث؟ ولكن هل يلقى منه إلا زجرا؟ قال: لم يحدث شيء؟ - واضطرابك؟! إنك إذا اضطربت توتر أنفك كالحمار.
قال حسين ذلك، ثم تساءل في نفسه هل يتوتر أنف الحمار حقا؟ كيف أختار هذا التشبيه؟ ولكن الآخر تضاحك قائلا: هيجان شعور، هذا كل ما هنالك. - وبعد؟ - ولا قبل!
فقال حسين بجد واهتمام: أريد أن أعرف مقصدك. - لا أفهم ما تقول. - لا تتجاهل ما أعني، أنت تفهم كل شيء. لماذا لا تتركها وشأنها؟ ألا تخاف أن يفطن فريد أفندي إلى عبثك أو يبلغه أمرك عن طريق الفتاة نفسها؟ سترمي بنا إلى مركز حرج.
فقال حسنين مبتسما: والله يا أخي، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتركها ما تركتها أو أهلك دونها.
فضحك حسين على رغمه، ثم قال وهو يستعيد مظهر الجد والرزانة: ماذا تريد منها؟
يا له من سؤال! يبدو غاية في البساطة، ولكن من له بأن يجيب عليه، ولم يكن طرح على نفسه هذا السؤال فلم يدر له جوابا. كان اندفاعه بوحي من عواطفه وغرائزه دون حاجة إلى تفكير. ثم قال في حيرة: في مثل حالتي لا تفريق بين الباعث والغاية. - لا أفهم ما تقول. - ولا أنا بفاهم! - إذن دعها وشأنها كما قلت لك. - لن أزال وراءها حتى ...
فتفحصه حسين بنظرة كئيبة، وتمتم متسائلا: حتى ماذا؟ - حتى تقع كما وقعت. - ثم؟!
فقال الشاب الحائر: حسبي هذا!
فهز حسين رأسه في حدة وقال: أنت مخطئ. إنها فتاة مهذبة، ومن أسرة طيبة، ولن ترضى عن سلوكك. - هي ما قلت وأكثر، ولكني لن أتخلى عن أملي.
وقام إلى المكتب فأخذ كتبه، وكراساته، وعاد إلى الفراش، ثم وضعها على حافة النافذة المغلقة التي تلي فراشه مباشرة، وجلس متربعا حيالها كأنه جالس إلى مكتب، فسأله حسين متعجبا: لم لا تجلس إلى المكتب؟ - أريد أن أتربع لأدفئ ساقي.
وكان يفكر في أمر ذي بال، ففتح كراسة، واقتطع منها صفحة وأمسك بالقلم وراح يعمل ذهنه في اهتمام ووجد واضطراب؛ «سأكتب لها كلمة، لن تتاح لي فرصة لمخاطبتها فلا حيلة لي إلا هذه، ولكن ماذا أكتب؟» وركز فكره مستعينا بالسكون الذي يغشى الحجرة لا يخدشه شيء إلا خشخشة أوراق الكراسة إذا قلبها حسين، ولكن أخذت أذناه تستبين صوت راديو يتسلل من النافذة المغلقة وانيا من بيت من بيوت العطفة، وقطب متظاهرا بالضجر، ولكنه ارتاح إلى سماعه هربا من حيرة أفكاره. وأصغى إلى «عادت ليالي الهنا» فسلم سريعا بمجامع نفسه وجاش صدره بالحنان وندى بالعطف، وهفا قلبه نشوة للحب والحياة. وغمرته موجة حماس فامتلأ نشاطا وتمنى لو ينطلق إلى الخلاء متلفعا بالظلماء. وجعل يغيب عن النغم رويدا بعد أن فتح لروحه أبواب جنة عامرة بالأحلام والرؤى. «يجب أن أكتب كلمتين. جملتين فحسب، حتى لا أسود إلا ورقة صغيرة إذا رميت بها عند قدميها لم يستبنها أحد.» وحرك القلم كاتبا: عزيزتي بهية، إني آسف جدا لأني أغضبتك. «أليس الأفضل أن أقول: لا تغضبي يا عزيزتي؟ .. سيان. ثم ماذا؟ ينبغي أن أعترف لها بحبي، أريد جملة غير مبتذلة. اللهم عونك.» وقطع حسين عليه تفكيره متسائلا: ماذا تكتب؟ - موضوع إنشاء. - ما هو؟
فقال بلا تردد: أثر الموسيقى في نهضة الأمم.
عزيزتي بهية، إني آسف جدا لأني أغضبتك، أيحق لك الغضب لأني أحبك؟ «يكفي هذا؛ فخير الكلام ما قل ودل. كلا، لا يكفي. النغمة ناقصة، استشهد ببيت من الشعر. كلا، فهذا يثير الضحك عادة. وضحكة واحدة خليقة بأن تفوت علي الغرض. جملة أخرى مؤثرة. يا رب يا معين!» ووثبت إلى ذهنه عبارة لا بأس بها، فشرع يكتب: والله ما فعلت ما فعلت ... ولكن حسين قاطعه مرة أخرى قائلا: هل انتهيت من نقط الموضوع؟
فانزعج حسنين وقال في غيظ مكتوم: تقريبا .. عن إذنك لحظة واحدة!
وعاد إلى الخطاب في تصميم من يريد الفراغ منه، فكتب: والله ما فعلت ما فعلت إلا لأني أحبك، وسأحبك ما حييت، ولا حياة لي إلا برضاك عني.
وأعاد قراءتها بعناية، ثم تنهد في ارتياح عميق، وطواها وثنى طرفيها ثم أودعها جيبه. «سأنتهز فرصة اقترابها من الباب، أو مروري بها في الصالة، ثم أرمي بها إليها، وليكن ما يكون.»
19
وجدت نفيسة نفسها في حجرة متوسطة الحجم، قامت على جانبيها كنبتان كبيرتان وبضعة مقاعد، أما أرضها ففرشت ببساط أسيوطي، وفي جدارها المواجه لمدخلها شرفة تطل من الدور الرابع على شارع شبرا. كان الأثاث قديما والظاهر أن الحجرة كانت معدة لجلوس الأسرة في أوقات الفراغ، كما يمكن أن يستدل عليه من وجود الراديو بداخلها على كثب من الباب. وقد لاحظت الفتاة مذ وطئت قدماها الشقة أنها على قدر وافر من الجاه يبدو في الصالة الصغرى التي أثثت كمدخل للبيت، والصالة الكبرى الفاخرة المعدة للسفرة، فحق لها أن تصدق صاحبة بيتهم بعطفة نصر الله حين قالت لها: «جئت لك بزبونة ملآنة، عروس ومن أسرة كريمة، فأرجو أن تخيطي ثيابها بما تستحق من عناية علها تفتح لك مغلق الأبواب.» وكانت نفيسة مضطربة لدخولها بيتا غريبا للعمل أول مرة. وجلست على مقعد قريب من الباب تنتظر. وكانت ترتدي ثوب الحداد وقد أرسلت شعرها الأسود في ضفيرة قصيرة، فبدا وجهها العاطل من الزواق والحسن شاحبا بائسا، «بيت غريب وأناس غرباء. خطوة جديدة في سبيل المهنة. لست إلا خياطة، ليست كرامتي التي تعز علي، ولكن كرامتك أنت يا أبي.» ولم يطل بها الانتظار إذ جاءت الحجرة فتاة في العشرين على حسن ورشاقة، فقامت تستقبلها، وسلمت عليها القادمة وهي تلقي نظرة متفحصة ثم قالت: أهلا وسهلا. حضرتك الست نفيسة التي أرسلتك ست زينب؟
فقالت الفتاة في حياء: نعم يا هانم، وحضرتك العروس؟
فأومأت بالإيجاب مبتسمة، ثم جلستا، وهي تقول: ست زينب تثني عليك جميل الثناء. وإني أتوسم فيك الخير.
فابتسمت نفيسة ابتسامة باهتة، وانفرجت شفتاها دون أن تنبس بكلمة. «لعلها قالت إني خياطة ماهرة، هذا حسن. أمدح أم ذم؟ لا أدري. ترى هل قصت عليك نبأ أسرتنا؟ كان أبي كأبيك. وكنت سيدة مثلك، وطالما انتظرت العريس، ولكنه لم يأت. ولن يأتي.» وسألت العروس في رقة وهي تعلم الجواب: لماذا ترتدين السواد؟
فأجابتها في حزن: توفي والدي منذ شهرين، وكان رحمه الله موظفا في وزارة المعارف. - حدثتنا بذلك ست زينب، البقية في حياتك. - حياتك البقية. نحن من بنها، وخالتي تقيم هناك مع زوجها الذي يملك محلجا للقطن.
ودخلت عند ذاك خادم حاملة بقجة، فوضعتها إلى جانب سيدتها وذهبت، وحلت العروس عقدتها فانحسرت عن كوم من الحرائر مختلفة ألوانها، وأدركت نفيسة من النظرة الأولى أنها أقمشة للثياب الداخلية. ولعلها أرسلت بالفساتين إلى خياطة كبيرة، وارتاحت لهذا لأنها كانت تشفق من أن تعرض سمعتها لتجربة شاقة لا قبل لها بها، عمل في حدود طاقتها وربح مضمون، وقامت إلى مجلس العروس وراحت تتفحص الأقمشة وتتحسسها قائلة: مبارك عليك، يا له من حرير نفيس.
فافتر ثغر العروس عن ابتسامة سعيدة وقالت: نبدأ الآن بالقياس، وعلى فكرة أعندك مانع من مباشرة العمل هنا في بيتنا؟ عندنا ما تحتاجين إليه من الأدوات كلها، وليس ثمة أطفال في البيت، وفضلا عن هذا كله فبيتنا غير بعيد من عطفتكم، فتستطيعين الحضور كل يوم في غير مشقة.
ولم تر نفسية بدا من أن تقول: لك ما تشائين يا هانم.
وقامت الفتاة ووقفت أمامها، وجعلت نفيسة تقيس الأقمشة عليها، امتلأ أنفها الغليظ برائحة الحرير الجديد، وشعرت لمسه وهو ينزلق بين أصابعها بإحساس غريب، فيه اشتهاء وفيه ألم. بيد أنها أحست كذلك، حيال استسلام الفتاة، وما تعقده على مهارة يديها من رجاء بنوع من السيادة. فكأنها ظفرت بأمل في العزاء، ولكن سرعان ما فتر واخلف وراءه يأسا قاتما «عروس وحرير، أحقا أخيط هذه الثياب لهذه العروس؟ كلا هذه الثياب الداخلية تهيأ للعريس قبل العروس! ستداعب أنامله أهدابها الناعمة ومادتها اللطيفة، إني أشارك في هذا الزواج، وسأشارك في زيجات كثيرة دون أن أتزوج، قانعة من هذا كله بأحلامي المحرقة. يا لها من فتاة مليحة وسعيدة، تكاد السعادة تتوهج في عينيها! اليوم تجهز الحرير، وغدا تنتظر الحبيب، وتتنسم أنفاس الأمومة الحارة تهفو عليها من أفق وردي. طالما حلمت بهذا وأبي يقول لي إن الخفة أنفس من الجمال، ثم بلغت الثالثة والعشرين بين الإشفاق والرجاء، وبموته مات الرجاء. لماذا خلقت هكذا دميمة؟ لماذا لم أخلق كإخوتي الذكور؟ ما أجمل حسنين، وحسين، حتى حسن، إني ميتة كأبي، وهو في باب النصر وأنا في شبرا» وسمعت العروس تسألها: أتحبين أن تتسلمي بعض أجرك مقدما؟
فقالت بعجلة: لا داعي لذلك مطلقا.
ثم عضها الندم على ما قالت فتضاعف حزنها ويأسها. وسمعت أطيط حذاء يقترب فرفعت رأسها نحو الباب فرأت شابا يدخل الحجرة هاشا، وأقبل على العروس فالتحمت يداهما، وتبادلا ابتسامة سعيدة، ثم سألها: أين والدتك؟ - في حجرتها.
ثم التفتت إلى نفسية، وقالت تقدم لها الشاب: حسان خطيبي.
ثم عطفت رأسها إليه قائلة: ست نفيسة الخياطة.
20
وغادرت بيت العروس قبيل الأصيل متعبة. وكانت عطفة نصر الله تبعد عن البيت محطتين فشقت طريقها بين السابلة على مهل وتراخ، وأنعشها الهواء البارد فحثت خطاها. ووجدت ذكريات مما مر بها في بيت العروس تنثال على مخيلتها في لذة وألم معا؛ كانت تجلس على كنبة وقد جلس الخطيبان على الكنبة المقابلة. كانا ملتصقين، وكانا يتحدثان في صوت مسموع حينا، وينخفض حينا فيصير مناجاة وهمسا. وكم ودت وقتذاك أن ترفع رأسها عن الماكينة إليهما، ولكنها خافت وعقلها الحياء أن تلتقي عيناهما بعينيها. ومرة رفعت عينيها من تحت رأسها المنحني فوقع نظرها على ساقين ملتصقتين، ثم انتبهت على العروس وهي تضربه على يده قائلة في لهجة تنم على الدلال والوعيد: حذار!
استغرقها الخيال حتى كادت تصطدم بالمارة ثم دخلها إحساس نهم بالتحرق إلى الحب. لم تحظ طوال حياتها بقلب يحبها ويعطف عليها، ولم تجد من متنفس عن توتر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها وأخواتها والناس، فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي تتوارى خلفه مرارة في الأعماق. ولم تكن لها حيلة في إحساسها؛ فالواقع أن غريزتها الأنثوية كانت الشيء الوحيد بها الذي سلم من النقص والضعف، واستوى ناضجا حارا، فلم يخل صدرها من عذاب سجين، وقفت له تربيتها وكرامتها وأسرتها بالمرصاد، ولكن منظرا كالذي رأته اليوم ببيت العروس كان خليقا بأن يهزها هزة عنيفة قاسية. ولما تخايلت لعينيها عطفة نصر الله، عابثها أمل جديد داعبها كثيرا في الأيام الأخيرة. هنالك بقالة عم جابر سلمان التي تقع قبل عمارتهم بقليل، أو هناك سلمان جابر سلمان، ابن عم جابر وصبيه. ولقد اعتادت التردد على البقالة بعد طرد الخادمة لابتياع ما يلزمها، فعرفت الفتى معرفة أخذت تزداد بكرور الأيام. واستحضرت صورة الفتى بقامته الطويلة المائلة للامتلاء ووجهه البيضاوي الأسمر، وعينيه الضيقتين، وتساءلت ترى هل حقا يبدي نحوها اهتماما أو أنها واهمة؟ خيل إليها كثيرا أنه يبتسم إليها في تردد، ولعله لم يستطع أن ينسى بعد أنها كريمة كامل أفندي علي، وكانت على جفوة طلعتها تحظى بمظهر الفتيات المحترمات، أما سلمان فما هو إلا ابن بقال بسيط، ولا تعلو منزلته في دكان أبيه عن صبي. وكانت تعلم بهذا كله، ولكن لم يكن بوسعها أن تنفر من إنسان أيا كان، إذا أبدى نحوها ميلا، لا يسعها إلا أن تحب من يحبها. بيد أنها ردت فجأة إلى فتور وامتعاض وأطبق عليها شبح اليأس القديم؟ وكان قلبها يقول لها: لا تغرري بنفسك ولا تسمحي لكواذب الأمل أن تعبث بعقلك. ارتضي اليأس، واقنعي منه بالراحة وهي السلوى الوحيدة لفتاة مثلك؛ لا مال ولا جمال ولا أب لها. ولكنها كانت تعلم أنها لن تطيع قلبها أو - على الأصح - صوت مخاوفها. وكانت تزداد استسلاما كلما قربت من عطفة نصر الله، وعاودها الأمل والحنان. الله قادر على كل شيء. وكما يقضي عليها بالأحزان، يهب إذا شاء الأمل والعزاء، ما لي من رجاء سواه. ولن يخيب عنده رجاء، لم أجن ذنبا أستحق عليه الهوان، ولم تجن أسرتنا ذنبا، فلا بد أن تنكشف هذه الغمة. لكن من سلمان؟ هل يرضى به حسنين؟ إنهم جميعا ذوو كبرياء، ولا أظن الفقر بغالب على كبريائهم. وحسن ليس له من الأمر شيء، حسن! ليته يغير من طبعه وينتشلنا مما نحن فيه؛ لا معاش أبي ولا عملي بكافيين، فماذا صنع هو؟ لن يرضى أحد بسلمان ولن يأتي من هو خير منه. ومن أدراني أنه يفكر في حقا؟! ومالت إلى العطفة تسبقها عيناها إلى بقالة عم جابر سلمان حتى بلغتها. وخطر لها أن تمضي إليها لتبتاع شيئا، أي شيء، ومضت إليه دون تردد. كان عم جابر سلمان العجوز جالسا إلى مكتبه الصغير، عاكفا على دفتر حسابات، بينما وقف ابنه الشاب سلمان جابر وراء الطاولة التي تعترض مدخل الدكان. وانتبه الفتى إليها حال وقوفها أمامه فنظر إليها متهلل الوجه، وقد لمعت عيناه الضيقتان؛ كانت قسماته تشي بالغباء والحيوانية والجبن، وكان شاربه الصغير الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتصف بالجمال في وجهه. وأبى إلا أن يبادرها بالكلام فقال: أي خدمة يا ست نفيسة؟
فقالت الفتاة وهي ترمش ارتباكا: حلاوة طحينية بقرش.
فتناول السكين وقطع لها قطعة وافية، ثم قشط قطعة صغيرة وهو يقول بصوت منخفض: هذه الزيادة إكراما لك يا ست نفيسة.
ولف الحلاوة في ورقة وقدمها لها، ثم أخذ القرش وهو يلحظ أباه بطرف خفي، ولما وجده مكبا على الدفتر، تشجع وقال همسا: سأحتفظ بقرشك بركة!
فابتسمت ابتسامة خفيفة وذهبت. ابتسمت عمدا كأنها تشجعه وترحب به، وقد كلفها هذا جهدا كبيرا، «لم يعد يقنع بلغة العيون فتكلم، وحسنا فعل.» وعلى رغم ضآلة شأنها ومنظره اهتز قلبها سرورا، وجاش صدرها بالانفعال. وكانت تخيلت هذا الموقف - قبل أن يحدث - وهي عاكفة على عملها ببيت العروس؛ فلم يفترق الواقع عن الخيال إلا قليلا. تخيلت نفسها واقفة أمامه لتبتاع الحلاوة فجعل يلتهمها بعينيه، ثم قال لها وهو يتناول القرش «أنت أحلى من الحلاوة.» حقا لم يقل هذا، ولكنه قال قولا يضاهيه. وتنهدت بارتياح، ثم طار خيالها إلى ذكريات عشاقها الغابرين! كان أولهم وزيرا، وقد رأته في صفحة من مجلة المصور ثم راحت تنسج حول صورته وشيا من أحلامها حتى أنجبت له غلاما فريدا، وكان فريد أفندي محمد نفسه العاشق الثاني، وبسببه خاصمت في الخيال زوجه وأسرته. أما سلمان فهو أسوأهم حالا، ولكنه العاشق الوحيد الحقيقي. ولما بلغت منتصف الفناء خافت أن تلومها أمها على قضاء النهار خارج البيت فضاق صدرها، وقالت كأنما ترد عليها: كفي عن لومك؛ فما عدت أحمل أكثر مما بي.
وعلا صوتها ورن في بئر السلم فنظرت فيما حولها بحذر، وكتمت بأصابعها ضحكة كادت تفلت من شفتيها!
21
غادر حسنين شقة فريد أفندي محمد، وأغلق الباب وراءه. كان من الكآبة في غاية، واتجه نحو السلم طاويا صدره على اليأس والقهر، ولكنه توقف ويده على الدرابزين، ودفع رأسه متتبعا حفيف ثوب. فرأى طرف فستان أو معطف، وقد عبر صاحبه بسطة السلم الأخيرة المفضية إلى سطح العمارة. من؟! من عسى أن يرتدي هذا اللون الأحمر من سكان العمارة الذين يعرفهم حق المعرفة؟ ودق قلبه بعنف وشعر بقوة تدفعه إلى الأعلى، فألقى على الباب المغلق نظرة حذرة، وأنصت في انتباه وقلق، ثم تحول عن موقعه، وقطع الردهة أمام الشقة على أطراف مشطه متجها صوب السلم الأخير الصاعد إلى السطح: لعلها هي. لم يعد يراها منذ ألقى برسالته المطوية تحت قدميها، لا في الحجرة ولا في الصالة. اختفت غاضبة ولا شك غير عابئة برسالته وعواطفه، ولم تعد ساعات الدرس بعدها إلا عذابا وضجرا. وقد ارتقى السلم دون أن يحدث صوتا حتى بلغ البسطة الأخيرة فرأى شعاع الشمس المائلة للغروب في مستوى عينيه، ونسمت على جبينه موجات لطيفة من الهواء، وألقى على السطح نظرة شاملة ما بين سوره المطل على عطفة نصر الله، والسور الخلفي فلم يجد أثرا لإنسان، ولم يكن به من قائم إلا حجرتان خشبيتان للدجاج، إحداهما في مواجهة باب السطح، والأخرى في ركن السطح عند طرف السور الخلفي، وهي الخاصة بأسرة فريد أفندي، واقترب من الحجرة البعيدة في سكون ووقف قريبا من بابها مرهف السمع، ولم يسمع بادئ الأمر إلا قوقأة الدجاج، ثم سمع صوتا يدعو الدجاج «ك ك ك ك» فلم يستطع أن يتبين حقيقة صاحبه، وخاف أن تكون الأم التي بالداخل فتراجع خطوة مضطربا، وهم بالهروب، ولكن فتح الباب وبدت على عتبته بهية في معطف أحمر. واتسعت عيناها الزرقاوان دهشة، وثبت بصرها عليه في ذهول، ثم تضرج وجهها بحمرة شديدة كأن صفحته استحالت رقعة من مخمل المعطف. ولكن لم يدم هذا إلا لحظات، ثم تمالكت نفسها فجازت العتبة وأغلقت الباب، وابتعدت عن موقفه متجهة إلى الباب. ولم يسمح لها بالإفلات فوثب خطوتين ووقف معترضا سبيلها، فحدجته بنظرة غضبى، واستقام رأسها في حدة وقالت مستنكرة: هذا كثير!
فقال الشاب بجرأة ورقة معا: دائما غضبى! إني أعجب لحظي فما أجد منك غير الغضب! فلاح في وجهها الضجر، وقالت باستياء: دعني أمر من فضلك.
فبسط ذراعيه وكأنه يريد سد الفراغ كله وقال: هذه فرصة لم يكن بوسعي أن أحلم بها، فلا يمكن أن أدعها تفلت من يدي. ويحق لي أن أستبقيك بعض الوقت بعد اختفائك المتعمد الذي عذبني أشد العذاب، لماذا تختفين؟ أو دعيني أسألك ماذا وجدت برسالتي؟
فقطبت في استياء وقالت بحدة: أتذكر هذه الورقة! يا لها من جرأة غير محمودة لا أوافق عليها!
وكان يرنو إليها بين الأمل والخوف؛ «هل أصدق هذا الغضب الظاهر؟ قلبي يحدثني بأنه مبالغ فيه، لعله عرض من أعراض الحياء. إنه كذلك حتما؛ لو أرادت أن تشق طريقها ما وسعني منعها، لا أريد أن أصدق. ولكن لماذا أصرت على الاختفاء؟» وقال باستعطاف: جرأة حملت عليها بعد أن أعياني الصبر!
فهزت رأسها متبرمة وتمتمت: الصبر! لا تعبث بهذه الألفاظ، ودعني أذهب من فضلك.
فقال في صدق وحرارة: ما قلت إلا الصدق، والصدق وحده كان محرضي على كتابة رسالتي الصغيرة، فكل ما بها صدق. وإنه ليسوءني كل الإساءة ألا تلقى عواطفي منك إلا الغضب والنفور!
وازدرد ريقه وهو يلهث، ثم استدرك قائلا بصوت متهدج: أجل، إني أحبك.
وأدارت وجهها جانبا وهي لا تزال مقطبة كما بدا من انقباض حاجبها وزمة شفتيها، ولكنها لاذت بالصمت قليلا - مما بعث فيه روحا جديدا من الأمل - ثم قالت بصوت بدا ألطف موقعا مما سبقه: دعني أذهب، ألا تخشى أن يقتحم السطح علينا أحد؟!
رباه! ألم يعد يضايقها شيء إلا أن يقتحم السطح عليهما أحد؟! وتمشت في جوارحه نشوة سرور، فقال بحماس وعيناه العسليتان تضيئان بنور بهيج: دعيني أفصح لك عن شعوري؛ إني أحبك، أحبك أكثر من الحياة نفسها، بل ليس في الحياة من خير إلا أني أحبك. هذا ما كتبته، وما أقوله وما أعيده. صدقيني ولا تلزمي السكوت فما أطيق هذا السكوت.
فعطفت وجهها نحوه فطالع في صفحته النقية الرزانة والجد، ولكن خيل إليه أنه يرى نوعا من التأثر لعلها بالغت في كتمانه. ثم سمعها تقول بصوت منخفض كالهمس: حسبك! هلا تركتني أذهب؟!
تأبى أن تجلو هذه القناع! لشد ما تستكين لحيائها! وتنهد بصوت مسموع وتمتم: لا أريد أن أعود لعذابي بغير نفحة أمل، لقد فتحت لك صدري وأريتك قلبي، ولا أطمع في أكثر من كلمة طيبة ترد إلي روحي.
ولكنها بدت أعجز من أن تقول هذه الكلمة، واشتدت عليها وطأة الارتباك فندت عنها هذه العبارة: رباه! كيف أغادر هذا المكان!
فغلبه التأثر، ولكن زاده التعلق بالأمل عنادا وإلحاحا فقال بحرارة: لا تجزعي هكذا؛ إني أحبك، ألا يثير هذا الاعتراف في نفسك إلا الضيق؟! لن أعود يائسا إلى العذاب، لن ... لن. - وبعده؟!
وتفحص وجهها المورد في سمرة المغيب الهادئة فاستفزته عاطفة هيام جامحة، فشعر بأن الهلاك أهون من التراجع، وقال باستعطاف منبعث من الأعماق: كلمة واحدة! إذا لم تستطيعي فإيماءة ... وإذا تعذر هذا فحسبي صمت أستشف منه الرضا!
فتحركت شفتاها دون أن تنبس، ثم التصقتا، ثم عطفت عنه وجهها وقد اشتد تورده عمقا. ووثب قلبه في صدره من حرارة النشوة، وهتف في طمع متزايد: أهذا الصمت الذي أريده؟! إني أحبك، وأعاهدك أن أكون لك حتى الموت.
ومال وجهها إلى الوراء أكثر دون أن تخرج عن صمتها المحبوب، فسرت في جسده هزة سرور طاغية حتى سكر بصره، وما يدري إلا وهو يهفو إليها، ولكنها تراجعت في جفول كمن يستيقظ من حلم عميق على هزة عنيفة، وتفادت منه فيما يشبه الوثب، ثم ولت مسرعة. وتسمر في مكانه مرسلا وراءها بصرا هائما حنونا حتى غيبها الباب. وتنهد من القلب وأطلق بصره بعيدا في سمرة المغيب، والأفق أطياف وشيات، فأحس بروحه تذوب في الكون وتفنى في بهائه. ثم تحرك في بطء مخمورا متوهجا حتى شارف الباب، ولكنه شعر وهو يمر بالحجرة الخشبية الأخرى بشيء يجذب إحساسه فلاحت منه التفاتة إلى يساره، فرأى أخاه حسين واقفا وراء جدار الحجرة.
22
وقال بدهشة: حسين!
وسرعان ما لاحظ تغير لونه. كان الشاب غاضبا مكفهر الوجه، وكان يبذل غاية جهده ليضبط أعصابه، ويتمالك نفسه. وتساءل حسنين عما جاء به إلى السطح، ورجح أن يكون - حين صعد لإعطاء درسه - لمحه وهو يرتقي السلم محاذرا إلى السطح فشك في الأمر وتبعه! هذا هو التفسير المعقول. بيد أن التواري وراء الجدران لاستراق النظر والسمع ليس من شيمه! ولم يدر له بخلد أن يسأله عما جعله يقف هذا الموقف، وعلى العكس من هذا تولاه الحياء والارتباك، ولم يكن الآخر - على تغيره - بأقل منه حياء وارتباكا. لعله أراد أن يداري حياءه وارتباكه بالتمادي في الغضب فقال: رأيت أمورا ساءتني كثيرا. كيف تطارد الفتاة هذه المطاردة الوقحة؟! هذا سلوك شائن لا يليق بجار يحترم واجبات الجيرة!
ووجد حسنين في لهجة أخيه القاسية ما أنقذه من حيائه وارتباكه فقال عابسا: ما أتيت منكرا! ولعلك سمعت ما قلت!
فأغضى حسين عن ملاحظته الأخيرة، وقال بحدة أشد: وهل من منكر وراء اعتراضك لسبيلها على هذا النحو غير اللائق؟! - لا أحسبها تعده كذلك!
فقال حسين: ستخبر أباها. - لن تخبره!
فتناهى الحنق بحسين وقال بحدة: لشد ما خفت أن تتهجم عليها، ولو فعلت لأدبتك تأديبا قاسيا!
ودهش حسنين لهذا الوعيد المتأخر، فكاد يطيح الغضب برأسه، ووثبت كلمات شديدة إلى طرف لسانه ولكنه نجح بأعجوبة في القبض عليها، وصمت مليا حتى ذهبت عنه وقدة الغضب ثم قال: ما كان لك أن تخاف حدوث شيء كهذا.
فتفكر حسين قليلا ثم قال متراجعا: يسرني على أية حال أن أسمع هذا القول. وإذا حق لي أن أنصحك فنصيحتي إليك أن تلزم دائما جادة الشرف.
فقال الآخر ببرود: لست في حاجة إلى مثل هذه النصيحة.
وغادر موقفه فتبعه حسين، ونزلا معا دون أن ينبس أحدهما بكلمة. ولم يذهب حسين إلى شقة فريد أفندي، ولاحظ حسنين هذا دون تعليق. أما الأم فقالت لحسين متسائلة: ما الذي عاد بك سريعا؟
فقال حسين: لم يحفظ سالم درسه السابق، وسأعود إليه غدا.
وذهبا إلى حجرتهما فجلس حسين إلى كرسيه من المكتب، ومضى حسنين إلى النافذة ففتحها وجلس على حافة الفراش. «أسوأ نهاية لأحسن بداية، ما أحمقه! كيف سولت له نفسه التجسس علي، أفسد علي شاعرية الموقف السعيد. كلا، لا يمكن أن يفسدها شيء، سيزول كل شيء وتبقى هي وضيئة سعيدة باهرة. هيهات أن أنسى لحظة الصمت الناطق! قالت كل شيء دون أن تنبس بكلمة.» - أغلق النافذة، هل أنت مجنون؟!
أفزعته صيحة أخيه، ثم ركبه الحنق والعناد فقال: الجو محتمل ولطيف.
فصاح به حسين: أغلق النافذة بلا مكابرة.
فحملته لهجة أخيه على التمادي في العناد فقال: انتقل إلى الكرسي الآخر تبتعد عن تيار الهواء، إن كان ثمة تيار!
فنفخ حسين متغيظا وقام إلى النافذة فأغلقها بشدة، ففرقعت في السكون طقطقة مزعجة وتحطم لوح من الزجاج. وساد صمت ورعب، وسرعان ما أعماه الغضب فلطم حسنين صارخا: أنت السبب!
وجن جنون حسنين فضربه بقبضة يده في رأسه، ثم اشتبكا في عراك. وما لبثت الأم ونفيسة أن هرولتا إلى الداخل، وبحضور الأم كف كلاهما وهو يدمدم ويهينم. ووقفت الأم حيالهما تردد بينهما بصرا غاضبا، ثم استقرت عيناها على الزجاج المحطم، وتساءلت في هدوء ينذر بالعاصفة: ما خطبكما؟
فقال حسنين بعجلة ولهوجة: كان يغلق النافذة بقوة فتحطم الزجاج ثم لطمني.
وقال حسين بصوت متهدج: فتح النافذة في هذا الجو البارد، فطلبت إليه أن يغلقها، فأبى بوقاحة، فقمت لأغلقها بنفسي وحصل ما حصل.
فزفرت الأم قائلة: رحماك يا ربي، ألا يكفيني ما بي!
وقبضت بيديها على منكبيهما وجذبتهما إلى وسط الحجرة، وصاحت في وجه حسين قائلة: ألا تخجل من نفسك وأنت في سن الرجال.
ودفعته في صدره بقبضة يدها مرتين، ثم لطمته، وانقضت على حسنين الذي تراجع وهو يصيح: هو البادئ بالضرب، وهو الذي حطم الزجاج.
ولكنها هوت بكفها على فمه، ثم كيلت له الضربات على رأسه ووجهه؛ حتى حالت بينهما نفيسة، وصاحت المرأة: حذار أن أسمع لأحدكما صوتا، أما النافذة فستبقى مكسورة حتى تصلحاها بنفسكما.
وغادرت الحجرة منكفئة الوجه تملؤها تعاسة لا حد لها. ولبثت نفيسة بينهما برهة محزونة ثم تمتمت: زمن العراك انتهى. أنتما رجلان الآن!
ثم خاطبت حسين مبتسمة: ضقت بالهواء لحظة فماذا أنت فاعل الآن وقد فتحتها إلى الأبد؟! ألصقا جريدة مكان الزجاج وإلا فعليه العوض فيكما.
ولما لم تجد لقولها الأثر الذي انتظرت غادرت الحجرة. وعاد حسين إلى كرسيه صامتا على حين ارتمى حسنين على الفراش منفعلا. كثيرا ما ينتهي الشجار بينهما بتدخل الأم على هذا النحو. ولم تكن حياتهما تخلو من ملاحاة وشجار على صداقتهما الوطيدة، وصحبتهما التي لا غنى لأحدهما عنها. وكانت الغيرة كثيرا ما تعكر عليهما صفوهما، ولكنهما ظلا رغم هذا صديقين يتبادلان الأخوة والحب ولا يستغني أحدهما عن صاحبه. وكان حسين أعقل الأخوين وحسنين أقواهما، فكان الأول يقوم بمهمة الإرشاد والتوجيه فيما يعرض لهما من مشكلات يتعلق أغلبها باللعب والمسائل الاقتصادية الصغيرة، وكان الآخر يحمل عبء الدفاع الأكبر فيما يشتجر بينهما وبين الآخرين من عراك، خصوصا وأنهما كانا يتفاديان من الاستعانة بحسن إذا اشتد الخصم عليهما أن يتحول النزاع من عراك بين تلاميذ متخاصمين إلى معركة حقيقية دامية وخيمة العواقب، بيد أنه أصبح من النادر جدا أن يتشاجرا في الأعوام الأخيرة، وندر بالتالي أن تؤدبهما الأم بالضرب، وقد سبقت المعركة الأخيرة بفترة سلام طويلة كادت تقارب العام. ومهما يكن من أمر فلم يكن أثر الخصام ليحول بينهما أكثر من يوم، ثم يبدأ المعتدي بمخاطبة أخيه في شيء قليل من الارتباك، ولا يلبثان أن يتناسيا العراك كأنه لم يكن. شخص آخر كان يعاني من شجارهما أكثر مما يعانيان؛ هي الأم، فكان يترك في نفسها ألما عميقا ونكدا متغلغلا. ولم تجد من وسيلة لتأديبهما خيرا من الضرب؛ لعله يصلح ما أفسد الأب بتدليله لهما. ولم يكن أبغض لنفسها من أن يشذ أحد أبنائها عن حدوده، أو أن يبدر منه ما يعد افتئاتا على رابطة الأسرة المقدسة. وكان لها من حسن عبرة بذل الحياة أهون عليها من أن تتكرر. وحسن نفسه لم ينج من لكماتها ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة. وكانت لا تفتأ تلوم نفسها وأباه على تلفه، ويعذبها أشد العذاب أنه كان ضحية للتهاون والفقر، ومر شطر من الليل والشقيقان صامتان جامدان، واشتد السكون بعد أن آوت الأم ونفيسة إلى حجرتهما. ثم بدأ حسين يطالع في الكتاب محاولا أن يركز انتباهه المشتت، وراح حسنين يراقبه اختلاسا وهو يتساءل ترى ماذا يجد نحوه؟ وكان يحظى بذكريات جميلة خليقة بأن تعزيه عما أصابه، وبأن تثيبه إلى طمأنينته. وسرعان ما رفت على شفتيه ابتسامة. «كل شيء حسن، لاذت بالصمت، ومعناه أنها تحبني، حقا؟! لشد ما يشوقني أن أسمعها قولا تتحرك به الشفتان الشهيتان. رويدك! كل آت قريب، الصمت بداية، أما النهاية ...» ولاحت منه التفاتة نحو أخيه فعاوده الابتسام؛ «ما كان ضرني لو أغلقت النافذة؟! يبدو أنه لا يستطيع متابعة القراءة. لو وهب مثل حظي السعيد لما أعياه النسيان!» وداخله نحوه شيء من العطف.
23
عادت نفيسة إلى عطفة نصر الله عند الغروب، كعادتها في هذه الأيام الأخيرة. وكان يبدو عليها أنها أخذت تعير نفسها اهتماما وعناية، وهو ما أهملته طويلا؛ حدادا على وفاة والدها، فكحلت عينيها وصبغت خديها وشفتيها بحمرة خفيفة؛ شيء خير من لا شيء، بل إن دأبه على التودد إليها ومغازلتها خلق بها بعض الثقة بنفسها، والطمأنينة والأمل. ولم تعد تذكر أنه ابن بقال وأنها ابنة موظف؛ فاهتمامه بها أنزله من نفسها منزلة أثيرة رفعته فوق مقام أفضل الناس في نظرها، وانساقت إلى تشجيعه بدافع من عواطفها المشبوبة المكبوتة، ويأسها الخانق، والرغبة في الحياة التي لا تموت إلا بالموت. وبات مع الأيام صورة مألوفة، بل محبوبة، أنبتت لها في جدب الحياة زهرة مترعة بالأمل، فلم تعد تستقبل يومها بعين خابية لا تنتظر جديدا. وها هي تنقل خطاها في عطفة نصر الله بعد نهار حافل بالعمل، فيهزها سرور حار دافق يسري من القلب، وينتشر مع دمها في الأعصاب والأعضاء، قال لها مرة: «تريدين حلاوة؟ ما الحلاوة إلا أنت!» وغزا قوله نفسها فابتسمت في بهجة ومرح، وقد حدثتها نفسها أن تقول له «لا تكذب، لست من الحلاوة في شيء!» ولكنها أمسكت في حيرة وشك، وذكرت نفسها بقول القائل «لكل فولة كيال» من يدري؛ فلعلها ليست بالقبح الذي تظن! وجعلت تطوي الطريق وعيناها على الدكان حتى وقفت أمامه وجها لوجه. ولاح السرور في وجه سلمان فقال: أهلا وسهلا، كنت أتساءل متى تأتين؟
ورمت بنظرة إلى مقعد الأب فوجدته خاليا، ثم لمحته يصلي وراء العمود القائم وسط الدكان محملا بالعلب والبطرمانات فداخلتها طمأنينة وقالت في دلال: ولماذا تتساءل؟
فضيق عينيه الضيقتين وقال مبتسما: حزري! اسألي قلبي.
فرفعت حاجبيها المزججين وقالت: أسأل قلبك؟ ماذا وراءك يا قلبه؟!
فقال الشاب همسا: يقول قلبي أنه يسر لرؤياك وينتظره على لهفة! - حقا؟!
فاستدرك في جد أكثر من ذي قبل: ويقول أيضا إنه يرغب في أن يلقاك الآن في الشارع ليفضي إليك بأشياء هامة.
والتفت صوب أبيه فسمعه يقرأ التحيات فقال لها بعجلة: في وسعي أن أغيب عن الدكان دقائق، فاسبقيني إلى الشارع العام!
ونظرت إليه في اضطراب وحيرة. وجدت في نفسها رغبة إلى ملاقاته، ولكنها أبت أن تذعن دون ممانعة من جانبها وإلحاح من جانبه، فقالت: أخاف أن أتأخر.
فقال بجزع وهو يومئ صوب أبيه محذرا: دقائق معدودات. اسبقيني قبل أن يختم الرجل صلاته.
ولم تجد في الوقت متسعا للتمنع والدلال فتحولت عن موقفها وقلبها يدق، ثم اتجهت بعد لحظة تردد إلى شارع شبرا. ركبها الاضطراب والقلق والخوف، ولكنها أمعنت في السير دون أن تفكر في العدول. خطوة جديدة هون من وقعها طول ما حلمت بها. وما لبثت أن تغلبت على الخوف فارغة للأمل الحلو الذي يتخايل لعينيها في نهاية الطريق. ولما انتهت إلى الشارع نظرت وراءها فرأته يحث خطاه وقد ارتدى جاكتته على جلبابه، فمالت إلى اليمين وأوسعت خطاها مبتعدة عن حيها. ولحق بها مهرولا فقال بسرور: استأذنت من أبي دقائق.
وألقت على زيه نظرة لم يخف عنه معناها فقال كالمعتذر: لا يمكن أن أرتدي البدلة إلا ساعات العطلة!
وكان يبدو فرحا مسرورا، لم تكن عينه العاشقة من العمى بحيث تراها جميلة، ولكنه كان من أبيه المستبد في ضيق وحرمان. فرحب بهذه الفرصة التي تتيح له الممكن من الحب، فتى في مثل حالها من اليأس والدمامة والعجز، ووجد فيها - مهما تكن - أنثى تنتسب للجنس المحبوب العزيز المنال. وخاف أن تمضي الدقائق دون أن يقول ما يريد قوله، فقال بعجلة: الدكان يغلق عادة عقب ظهر الجمعة، فقابليني عصر الجمعة ومن ثم نذهب معا إلى روض الفرج.
فقالت باستنكار: نذهب معا؟! هذه طريقة لا أرضاها. - ماذا علينا لو فعلنا؟ - لست من أولئك الفتيات! - حاشاي أن أظن بك السوء. ولكن ينبغي أن نجد مكانا آمنا للحديث. - أخاف أن يرانا أحد من إخوتي. - من السهل أن نتفادى هذا!
فهزت رأسها وقالت في حيرة: لا أحب هذه الحياة المليئة بالمخاوف. - ولكن ينبغي أن نتقابل.
فتفكرت مليا ثم تساءلت: لماذا؟
فنظر إليها في دهشة ثم قال: كي .. كي نتقابل!
فقالت بقلق: لا .. لا .. لست لهذا! - أليس لدينا ما نقوله؟ - لا أدري. - لدي الكثير. - فما هو؟ - ستعلمينه في حينه؛ ليس لدي الآن متسع من الوقت.
فساورها الشك حينا ثم قالت وقد تورد وجهها: قلت لك إني لست من أولئك الفتيات!
فقال الشاب بلهجة تنم عن الأسف: يا سلام يا ست نفيسة! أنا رجل سوق وأفهم الناس!
فداخلها الارتياح، وإن تساءلت لماذا لا يقول الكلمة التي تتلهف على سماعها ويريح قلبها؟ وعاد وهو يسأل: هل نتقابل إذن يوم الجمعة القادم؟
فترددت قليلا ثم غمغمت: إن شاء الله.
وعادت إلى البيت كثيرة الفكر. هذا بدء الحب الذي طالما تلهفت عليه، نفض قلبها الغبار عن جوهره، ودبت فيه حياة مفعمة بالنشوة والحرارة والأمل. كل هذا حق، بيد أنها قلقة متحيرة لا تدري شيئا عما يمكن أن يتمخض عنه ، ولا عما يمكن أن يقابل به نبؤه في أسرتها!
24
انتهى حسنين إلى باب السطح، ثم تنهد بصوت مسموع ليبلغها صوته، ولكنها تجاهلته وسارت متمهلة صوب الحجرة الخشبية، فتنحنح، ثم اندفع نحوها بجسارة والشمس تلقي عليها أشعة الوداع، فدارت على عقبيها وطالعته بوجه كتوم يأبى أن يعلن عن غضب أو رضا، ثم تمتمت: أما لهذا من آخر؟
فضحك ضحكة قصيرة وقال: إنك تؤدبينني أدبا لن أنساه.
فقالت وهي تحافظ على سكون وجهها: ليتك تزدجر.
ففرقع بإصبعه وهتف: هيهات!
ثم تنهد بصوت مسموع وكان يتطاير من الفرح لما آنسه من رغبتها في محادثته. - هيهات أن أنثني عن حبك.
فتورد وجهها، وعبست قائلة: لا تردد هذه الكلمة.
فقال بعناد وهدوء وتوكيد: أحبك! - أتروم إغاظتي؟ - لا أروم إلا حبك.
فقالت بحدة: سأصم أذني.
فرفع صوته قليلا قائلا: أحبك، أحبك، أحبك!
فلاذت بالصمت، وجعل يلتهم وجهها بعينيه في شوق وانجذاب، حتى لم تعد تحتمل وقع نظراته فولته ظهرها مبتعدة، ولكن اندفع وراءها فالتفتت نحوه مقطبة، وقالت: أرجو أن تدعني وتذهب.
فقال بدهشة: لا محل لهذا القول الآن. مضى زمنه وبات قديما، نحن الآن في «أحبك»! - وماذا تريد؟ - أن أحبك!
وهمت بانتهاره؛ فغلبها الابتسام الذي أعياها كتمانه، ثم ضحكت ضحكة مقتضبة مكتومة، خرجت من أنفها نفخة لطيفة، ولم تملك أن خفضت رأسها في حياء. وهزته هذه الحركة فهاجت صبوته وأقبل نحوها متشجعا طامعا، ومد يده ليمسك يدها، ولكنها تراجعت فيما يشبه الرعب، وخاطبته بلهجة جادة لا تترك ريبة في جديتها: لا تمسني!
فغاضت ابتسامة الظفر في شفتيه، ولكنها لم تباله واستطردت قائلة بنفس اللهجة الجدية: لا تحاول أن تمسني أبدا، لا أسمح بهذا ولا أتصوره!
فوجم قليلا ثم قال بدهشة: إني آسف، ما قصدت سوءا، إني أحبك بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى صحيح.
فقالت وهي تنظر إلى قدميها، وقد نم مظهرها على شعورها بخطورة ما تقدم على قوله: إني شاكرة لك هذا، ولكن ليس «أنا» الذي أملك الرد عليه!
ووقع قولها من نفسه موقع المفاجأة والدهشة. كان يجري وراء عاطفته مستغرقا فيها دون أن يفكر فيما عداها. كان يحب ولا يرى إلا الحب، فأعاده قولها إلى رشاده، وفهم ما فاته فهمه، وأدرك أن الأمر جد لا لهو ولعب. ولم يأسف على هذا، بل زاد سرورا، ولكن غشيته غاشية خوف وقلق لم تخف عليه دواعيها. وخرج من حيرته بأن قال: إني أدرك وجاهة رأيك، وأوافق عليه، ولكن ليس هذا كل شيء. إني أسأل قلبك أولا؟
ولانت ملامحها، ولكنها لم تفقد السيطرة على إرادتها، فقالت: أرجو ألا تستدرجني لحديث لا أحبه! - لا تحبينه!
ولم تكن تعني ما قالت بالضبط، ولكنها لم تر بدا من أن تغمغم قائلة بصوت ضعيف: أجل ...
فقال حسنين بارتياع: هذه طعنة دامية في قلبي!
فقالت بحيرة وارتباك وحياء: لا أحب أن أسلك سلوكا أو أقول قولا يستوجب الإخفاء!
فلم يملك أن ابتسم قائلا: ولكن هذه ضرورة لا بد منها، وما فيها من عيب!
فلم ترتح لقوله ولا لابتسامته، واشتد تورد وجهها، فقالت بشيء من الحدة: كلا! لا أحب المداعبات ولا الغزل! - ولكني أحبك حبا صادقا. - أف، لا تقسرني على سماع ما لا أطيق سماعه!
فتساءل مبتسما: هل أقتل نفسي؟
فابتسمت أفكارها دون أن يبدو شيء على وجهها وقالت: لا داعي مطلقا لقتل نفسك، لقد قلت ما عندي!
وأعادته العبارة الأخيرة إلى حيرته وخوفه، فقال بعد تردد: لست إلا شابا في السابعة عشرة، وتلميذا بالسنة الثالثة الثانوية، فكيف أفتح هذا الحديث؟
فنحت عنه وجهها قائلة ببرود: انتظر حتى تصير رجلا!
فقال في دهشة ممزوجة بالاستنكار: بهية!
فقالت في هدوء: ما من سبيل إلا هذا.
وشعر بغيظ، وضاق بما تلقاه به من حزم، ولكنه أحس في الوقت نفسه بحبها يغلبه على أمره ويطيح بخوفه وقلقه، فقال باستسلام: لك ما تشائين. سأحدث من بيدهم الأمر.
فرفعت إليه عينيها لحظة ثم خفضتهما، وبدت حينا كأنها تهم بالكلام، ولكن غلبها الصمت فقال: سأحدث فريد أفندي. - أنت! - نعم.
فلاح في وجهها الاعتراض دون أن تنبس، فتساءل: هل من الضروري أن تقوم أمي بهذه المهمة؟
فترددت قليلا ثم قالت بصعوبة ووجهها يتضرج بالاحمرار: أظن هذا!
وضاق صدره بهذا القول الصريح الذي يساوره الاعتراف في قلقه. تخايلت لعينيه صورة أمه الحزينة وهي قابعة في الصالة التي لا يضاء مصباحها توفيرا للنفقات، فاضطرب صدره، وقال بصوت منخفض: سأحدثه وأقنعه بمفاتحة أمي في الأمر.
فتساءلت الفتاة في دهشة: ولماذا لا تحادثها بنفسك؟!
أوشك أن يقول «لا أستطيع» ولكنه أطبق فاه، ثم قال متجاهلا سؤالها: لشد ما أخاف أن يسخر مني، أو أن يعترض على استبقائك في الانتظار حتى أتم مرحلة التعليم الطويلة.
وقالت بصبر نافد وبلا وعي تقريبا: سيوافق على الانتظار ما دمت أوافق عليه!
وعضت على شفتيها في حياء وألم، فتطلع إليها في لهفة وشغف، ومد إليها ذراعيه وقلبه يضطرم اضطراما، ولكنها تراجعت عنه، مقطبة لتخفي تأثرها، وتمتمت: كلا، كلا، أنسيت ما قلت لك؟!
25
كان الشقيقان يجلسان حول المكتب كعادتهما كل مساء. وكان حسنين يعتمد وجهه بيده غائبا في أفكاره، تنم نظراته وقضمه لأظافره من آن لآخر على قلقه وتوتر أعصابه. وحسين نفسه لم يبد عليه أنه يجني ثمرة تذكر من نظره في كتاب مفتوح أمامه، وكان يختلس من وجه أخيه نظرات متقطعة فلا يتمالك نفسه من التبسم، وعواطف شتى تتناوب قلبه، وضاق بالصمت فقال بلهجة ذات معنى: طالت المفاوضات!
فانتبه إليه حسنين في فزع ثم تنهد قائلا: مرت ساعة، بل أكثر، ترى ماذا هناك؟
فقال حسين ساخرا: انقلبت الآية؛ فالمتبع أن يذهب آل الشاب لطلب يد الفتاة، ولكن في حالتك يجيء والد الفتاة لطلب يد الفتى!
فقال حسنين بنرفزة وحنق: يحق لك أن تسخر مني فلا خوف عليك. ترى ماذا يقال الآن في حجرة الاستقبال؟ ماذا تقول أمي؟!
فقال حسين في هدوء: عما قليل ستعلم بكل شيء! - أتظنها ترفض رجاء رجل كفريد أفندي؟ - من يدري؟ الذي أعلمه علم اليقين أننا سنخسر - في حالة الرفض - مرتبنا الشهري الذي لم نحلم به!
فرماه حسنين بطرف حائر ثم تساءل: إلام يطول هذا الانتظار الموجع!
وعادا إلى الصمت، وكانا قلبا المسألة على جميع وجوهها، وطال حديثهما عنها في أوقات متقطعة منذ أفضى حسنين إلى شقيقه بما كان من حديث بينه وبين فريد أفندي محمد. وقد رحب الرجل بطلب الشاب ترحيبا وقع من نفسه موقع الدهشة، فلم يكن ينتظره، ولم يكن ينتظر بعضه، ثم وعد بمخاطبة الأم وتذليل أية عقبة مهما تكن خطورتها! ولمح حسين - تفسيرا لهذا - إلى أزمة الزواج من ناحية، وطيبة فريد أفندي وحبه المأثور لأسرتهم من ناحية أخرى. ولم يبق الآن إلا أن ينتظرا النتيجة الوشيكة الظهور! وجعل قلق حسنين يتزايد بمرور الوقت؛ «بعد دقائق أعلم كل شيء، هل تكون بهية لي أو أدفن هذا الأمل الوليد؟ لا سبيل إليها إلا بهذا، إني أريدها ولا غنى لي عنها، ترى فيم تفكر هي في هذه اللحظة؟ ألا يتوزعها القلق على مصيرنا؟ إنها تحبني بلا ريب. حسبي هذا من الدنيا جميعا. تبا له! إنه يطالع في هدوء، ويستمتع بمراقبة المعركة من بعيد، لا حب ولا قلق، لشد ما تسومنا هذه العاطفة الطاغية من عناء! من قال إنها تقيم في القلب؟ الأرجح أنها تعشش في العقل؟! وهذا سر الجنون!» واستيقظ على صوت حسين وهو يقول: إنهما خارجان!
وأرهف حسنين السمع فبلغه ما يتبادل الرجل وزوجه وأمه من عبارات المجاملة المألوفة. ومضوا إلى الباب الخارجي، إلا نفيسة قد جاءت إلى باب الحجرة، ووقفت تنظر إلى أخيها بغرابة ثم قالت: يا ما تحت السواهي دواهي! أتريد حقا أن تتزوج؟!
وغمغم حسين: أول الغيث قطر!
وانتقل حسنين مدفوعا بغريزة الدفاع عن النفس من كرسيه إلى فراشه في أقصى الحجرة لصق النافذة التي حل ورق الصحف محل زجاجها المفقود. ثم سمعوا وقع أقدام الأم وهي قادمة، ودخلت تسير في خطى ثقيلة صلبة القسمات جامدة النظرة، وبحثت عيناها عن حسنين حتى استقرت عليه في آخر الحجرة، ولبثت تنظر إليه حينا ثم مضت إلى الكرسي الذي تركه وجلست عليه في شبه إعياء. وساد الصمت مليا فلم يجرؤ أحد على خرقه حتى نظرت المرأة إلى حسين وسألته في هدوء: ألا تدري فيم كان يحادثني فريد أفندي وزوجه؟
فارتبك الشاب الذي لم يكن يتوقع استجوابا، وظن أنه بالنسبة للمسألة كلها من المتفرجين، فلم يحر جوابا، حتى قالت له الأم بخشونة: أجب.
فتحول بصره صوب حسنين في حيرة واستغاثة، فاقتنعت الأم بهذا الحركة وسألته: متى علمت؟
فقال في إشفاق: أول أمس! - ولماذا أخفيت عني؟
فلاذ بالصمت لاعنا أخاه وحظه اللذين أورطاه في المسئولية بلا ذنب جناه، وتنهدت عند ذاك وقالت بأسى: الأمر لله؛ فإن شقائي بكما فاق ما ألاقي من زماني الأسود!
وكانت نفيسة تكره جو الشقاق بطبعها، فأرادت أن تلطف من حدته. ولا يعني هذا أنها كانت تشجع أخاها على رغبته، ولعلها كانت أشد غضبا من أمها، بل إنها عدت الأمر كله تدبيرا دنيئا لاختطاف شقيقها، ولكنها رغبت صادقة في تحامي نزاع لم يعد يجدي، فقالت مخاطبة أمها: لا تهيجي دمك؛ ما كان كان، فارحمونا من وجع الدماغ.
فانتهرتها أمها بحدة قائلة: اخرسي!
والتفتت إلى حسنين قائلة بازدراء: لعلك ملهوف على معرفة ما انتهى إليه مسعاك الذي دبرته بليل ...
وهزت رأسها في أسى ثم قالت: لك قلب تحسد عليه؛ فإنه يستطيع رغم فجيعتنا وتعاستنا أن يعشق، وأن يستهين بنا جميعا في سبيل سعادته، والحق أني ذهلت حين حدثني فريد أفندي عن آمالك الواسعة، وهيامك العجيب، ولكني حدثته بدوري عن كفاحنا وتعاستنا، حدثته عن أثاثنا الذي نبيعه قطعة قطعة لنحصل على الضروري من القوت، وعن شقاء أختك التي تمتهن الخياطة وتقطع النهار بين هذا البيت وذاك، ثم صارحته بأن أحدا من أبنائي لن يتزوج حتى ينهض بأسرته المنهارة.
وسكتت المرأة وعيناها لا تتحولان عن وجهه وهو خافض العينين تعلوه كآبة وقنوط، ثم استطردت قائلة بحزن: ومهما يكن من أمر فلا يسعني إلا أن أشكر لك عطفك وإنسانيتك!
وقامت المرأة وغادرت الحجرة لا تكاد ترى ما بين يديها من الغضب والحزن، وخلفت وراءها صمتا ثقيلا، وبلغ التأثر من نفيسة فتناست غضبها الدفين، واقتربت من حسنين وقالت متظاهرة بالمرح: نينة لم تقل كل شيء. وأؤكد لك أن ثمة ما يدعو حقا لحزنك، وما كان بوسعها إلا أن تبقي على صداقة فريد أفندي ومودته، ومن ذا يستطيع أن ينسى جميله ومروءته؟! قالت له أنها تعد موافقته على طلبك شرفا كبيرا، بيد أنها ذكرت له حالنا الذي يعرفه حق المعرفة، وسألته أن ينتظر حتى تنهض أسرتنا من عثرتها، مكتفيا بكلمتها على أن تعلن الخطبة في حينها إذ أنت رجل مسئول. وقالت له أيضا إنه يسعدها أن تختار بهية زوجا لابنها، فلا داعي للحزن على الإطلاق.
ونظرت الفتاة إلى وجه أخيها والإشراق يعاوده فدخلها غيظ مفاجئ، ولكنها أحسنت كتمانه وقالت بلهجة لم تخل من حدة: اعذر نينة؛ فهي مسكينة حزينة، ومما يعزيها ولا شك أن نشاركها همومها، أما إذا وجدت منا ... ما علينا، لا أحب أن أعود إلى هذا، وحسبي أن أقول لك إن الأمور ستسير كما تحب (ثم ضاحكة) لعنة الله عليك وعلى الحب معا!
26
قال سلمان جابر سلمان: فلا يداخلك شك في هذا. سنتزوج كما قلت لك، وهذا عهد مني أمام الله.
فأنصتت نفيسة باهتمام وقلبها يتابع ضرباته، لم يعد جديدا أن تسير متأبطة ذراعه في شارع من الشوارع المتفرعة عن شارع شبرا؛ حيث يغلب الظلام على جنباتها، ويقل المارة. وكان يبدو لها دائما، على دمامته وحقارته، فتى رائعا؛ لحرارة عاطفته وشدة انكبابه عليها، وكانت لهذا تحبه من أعماقها، بل باتت مجنونة به.
واعتقدت أنه الحبيب الأول والأخير. ليس لها سواه، ولن يكون لها سواه، فتعلقت به بقوة الأمل، وبقوة اليأس! وأحبته بأعصابها ولحمها ودمها، ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها من الأعماق.
كان أول رجل بعث فيها الثقة، وطمأنها إلى أنها امرأة كبقية النساء. وكان إذا قال لها «أحبك» تخلق خلقا جديدا، فترى الدنيا - على كثافة الظلام المحيط - نورا وبهاء، بيد أنها لم تقنع بكلمات الحب، تلهفت إلى شيء آخر ليس دون الحب منزلة، أو لعلهما شيء واحد في نظرها، فلم تفتأ تستدرجه حتى قال ما قال ثم تشجعت بالظلمة وتساءلت: وماذا أنت فاعل؟!
فقال بلا تردد: كان من الطبيعي أن أعلن أبي برأيي، ثم نذهب معا إلى والدتك لنطلب يدك، أليس كذلك؟ - أظن هذا.
فتنهد بصوت مسموع وقال: يا ليت! هذا أمل بعيد المنال في الوقت الراهن.
فانقبض قلبها وتساءلت في انزعاج: لماذا؟
فقال بغيظ: أبي! .. لعنة الله عليه. رجل عجوز أحمق عنيد، ويطمع أن يزوجني من ابنة جيران التوني البقال عند تقاطع شبرا بشارع الوليد. ولست في حاجة إلى أن أقول لك إنني لم أوافق، ولن أوافق، ولكنني لا أستطيع أن أقترح عليه الزواج من أخرى في الوقت الحاضر، وإلا كان جزائي الطرد.
وأحست جفافا في حلقها، ورمقته بازدراء، ثم تساءلت في قلق: والعمل؟! - نصبر، ثم نصبر. ولن تحولني قوة في الأرض عن غايتي، بيد أنه يجب أن نأخذ حذرنا أن يفطن الرجل إلى علاقتنا. - وإلام نصبر؟
فتردد في حيرة ثم تمتم: حتى يموت!
فهتفت بانزعاج: يموت؟! هبنا متنا قبله!
فضحك ضحكة جافة في ارتباك وقال: دعي هذا لي وللزمن، لم تضق بنا الحيل بعد!
كلام عائم لا يروي غلة؛ «لا أستطيع أن أقول له أني أخاف أن يتقدم لي أحد في أثناء الانتظار لطلب يدي. هذه حجة وجيهة في يد غيري ممن يحظين بقسط من الجمال أو المال. أما أنا فمن عسى أن يتقدم لي في هذه الأيام التي لا يتزوج فيها أحد! رضيت بالهم، ولكن الهم لا يرضى بي، ابن بقال! إن البدلة تبدو على جسمه قلقة نابية.» وشعرت بيد القهر تقبض على عنقها. وزادها الخوف تعلقا به فلو وزن في هذه اللحظة بالدنيا كلها لرجح بها في قلبها. إنها لا تدري على وجه الوضوح كيف يمكن أن تتزوج منه حتى ولو ذلل ما يعترضه من عقبات، فإن أمها لا تستطيع أن تقدم لها شيئا، فضلا عن أن الأسرة باتت لا تستغني عن القروش التي تربحها لها، ولكنها تريده، تريده من الأعماق، وبأي ثمن. وتجهم وجهها، وفتحت فاها لتتكلم، ولكن لاحت منها التفاتة إلى شبح قادم فجمد الدم في عروقها. وشهقت شهقة فزعة وكادت تطلق ساقيها هاربة لولا أن مر القادم تحت المصباح فتنور وجهه وتنهدت تنهد الأمان بعد الرعب، وعجب سلمان لشأنها فسألها: ما لك؟
فقالت وهي تلهث: حسبته أخي حسن!
وانتهز الشاب الفرصة ليفصح عن رغبة طال احتضانه لها، فقال: لن نأمن الخوف ما دمنا نخبط على وجوهنا في هذه الطرق. أصغي إلي، لماذا لا نذهب إلى بيتنا فنمكث فيه قليلا بعيدا عن الأنظار؟
فصاحت به في دهشة: بيتك؟! - نعم. أبي يقضي مساء الجمعة حتى منتصف الليل عند شيخ الطريقة الشاذلية، وأمي في الزقازيق عند أختي التي جاءها المخاض اليوم، وليس في البيت أحد!
فقالت في ذهول وقلبها يدق بعنف: كيف أذهب معك إلى بيتك؟ أجننت يا هذا؟!
فقال بضراعة حارة: إني ألتمس مكانا آمنا، بيتي آمن ودعوتي بريئة، أريد أن أخلو إليك في أمان؛ فنعالج همومنا في روية بعيدا عن المخاوف والعيون ...
كان يتكلم وكانت تصغي مقطبة، وكانت تتخيل على رغمها البيت الخالي في قلق وخوف، وحاولت أن تطمس خياله بالتمادي في الغضب، ولكنه ظل قائما في رأسها، وقالت في حدة: ليس في بيتك ...
فقال الشاب باستعطاف وهو يشد على راحتها: لم لا؟! ظننتك ترحبين بدعوتي، أليس لك ثقة في؟ أليس لك ثقة في نفسك؟ أريد أن نخلو لذاتنا، وأن نتحدث، وأن أطلعك على مدى حبي وآمالي وخططي. ليس فيما أدعوك إليه من عيب ولن يدري بنا أحد.
فهزت رأسها في عناد وقلبها يوالي ضرباته الشديدة، ودت لو تستطيع أن تخلو إلى نفسها لتتفكر طويلا، وشعرت برغبة في الهروب. ولكنها لم تبد حراكا، وسارت إلى جانبه وراحتها في يده وعبثا حاولت أن تبعد خيالها عن البيت الخالي المنتظر، ثم جاءت لحظة فشعرت بأن باطنها ينقلب رأسا على عقب وأنها تغوص في أعماق ما لها من قرار. وازدادت اضطرابا وقلقا فقالت في ضيق: ليس في بيتك!
فشد على يدها بيد مرتجفة وقال: بل في بيتي، فكري قليلا، ماذا تخافين؟ إني أحبك وأنت تحبينني، ونريد أن نتحدث عن حبنا ومستقبلنا في أمن من العيون. هذه فرصة وهيهات أن نجد البيت خاليا مرة أخرى. إني أعجب لترددك ...
وإنها تشاركه عجبه من ناحية أخرى. إنها تتردد حقا، ولو أرادت أن ترفض رفضا حاسما لما أعياها البيان، ولكنها يبدو أنها تدأب على الرفض المتردد الذي لا يحكم إغلاق الباب. إنها في الغالب خائفة وخجلة، ولكن لم تعد تستطيع تجاهل الانقلاب الذي حدث في باطنها. وفاضت نفسها بالقلق والاضطراب والتوتر، ثم قالت بصوت ضعيف: الأفضل أن نواصل المشي ...
فجذبها بإغراء وهو يقول: قد تنشق الأرض في أي موضع وفي أي لحظة عن أخيك حسن!
فوجدت نفسها تجاريه في تخوفه قائلة في استسلام: إني أخاف هذا!
فقال وهو يتنهد في ارتياح، زافرا من صدره شواظا من نار: لنذهب إلى البيت!
فقاومت يده في وهن وهي تقول: كلا، لن أذهب. - دقائق معدودات، عطفتنا معتمة ولن يرانا أحد.
وسار بها وهي تتبعه في تثاقل قائلة: كلا.
وكان قلبها يدق يكاد تصدع له الضلوع.
27
وفتح الباب بمفتاح معه وهمس في أذنها «تفضلي» فقالت بتوسل: لنعد.
فدفعها برقة وهو يقول: لابد أن تشرفي البيت.
ودخل وراءها وأغلق الباب فوجدت نفسها في ظلام دامس، وارتفع وجهها إلى السقف في انتظار النور، ولكنها شعرت بيده تتحسس منكبيها فسرت بها قشعريرة وهمست في خوف: النور.
فقال معتذرا: مصباح الصالة تالف.
فقالت بضيق: أشعل أي مصباح نستضيء بنوره.
فأحاط خاصرتها بذراعه وجذبها معه وهو يقول: إني أعرف الطريق إلى حجرتي.
وحاولت أن تتملص من ذراعه، ولكنه شد على خاصرتها فلم يتخل عنها وسار بها ببطء وجنباهما ملتصقان، فجثم على صدرها ضيق خانق، وجعلت تتساءل في نفسها: «ماذا فعلت بنفسي؟» ثم أخذت تألف الظلمة رويدا، فلاحت لها في الظلام أشباح كراسي وصوان وأشياء أخرى لم تتبينها، وقطعا الصالة في بطء وحذر، ثم مد يده الأخرى ففتح بابا مزق صريره الصمت المخيف، ودفعها أمامه من خاصرتيها ثم رد الباب بقدمه، وسرعان ما تخلصت من يده بحدة: أشعل المصباح؛ فقد ضقت بالظلمة.
فجاءها صوته يقول برقة وحذر في لهفة تنم عن الاعتذار: آسف يا ستي؛ فإن شقة عمي ملاصقة لشقتنا، ولا آمن إذا رأوا نورا بها أن يطرق أحد منهم بابنا!
فسألته في دهشة واستنكار: هل نبقى في الظلام؟
فقال متوددا: في نورك الكفاية.
فقالت في توسل: دعني أخرج.
فتلمس يدها في الظلام حتى عثر بها ورفعها إلى فمه، فقبلها مرة مرة ثم قال بصوت مضطرب: بل تجلسين لتستريحي، وستألفين الظلمة فلا تزعجك.
ومال نحوها - فيما يشبه الانقضاض - فرفعها بين يديه، وسار بها إلى نهاية الحجرة وأجلسها على كنبة، وجلس لصقها، وهي مستسلمة من شدة الاضطراب والذهول، ثم قال: دعينا من الأخذ والرد، ينبغي أن نجلس في هدوء وأن نتحدث. لقد تجشمنا مشقة كبيرة في سبيل المجيء إلى هنا، وسيان أن نمكث في الظلام أو النور، ليس هذا بذي بال ولا يصح أن يكدر صفونا.
وتناول ساعدها وأمطره قبلات من شفتيه الغليظتين، وهي ترتجف وتحاول عبثا أن تجمع شتات أفكارها. ثم تزحزحت بعيدا عن جنبه الملتصق بها لتسترد أنفاسها فمال نحوها، ولكنها حالت دونه بيديها، وهي تقول لاهثة: دعني وحدي، إني متعبة.
فاسترد أنفاسه وقال ضاحكا: تشجعي. ما لك خايفة مرتجفة! .. أنت في بيتك، في بيت زوجك.
وكانت نبضات قلبها تدق في أذنيها وتقرع رأسها، فتنفست من الأعماق، وشعرت بيده تتناول يدها فهمت بجذبها ولكنها عدلت عنه، وكأنها استسخفت نفسها، فأبقاها بين يديه، وقال بصوت تغيرت نبراته: كل شيء هادئ ولطيف، إني أرى جمالك رغم هذه الظلمة.
فقالت بلا وعي تقريبا: لست جميلة.
فدلك يدها براحتيه وقال: دعي تقدير هذا لي، إني لا أجن للاشيء ...
وساد الصمت مليا فتركز انتباهها وهي لا تدري في راحتها التي تلتهمها كفاه، وسرت فيها دغدغة بثت في ساعديها وذراعيها وصدرها تخديرا، فاقشعر بدنها وهمست: حسبك ...
فقال بصوت متهدج: أعطيني شفتيك أقبلهما، سأقبلهما كثيرا مائة قبلة أو ألفا، سأقبلهما حتى أموت.
واندلق عليها وقبل شفتيها قبلة طويلة شرهة حتى مال رأسها إلى مسند الكنبة ثم أمطرها قبلا نهمة حامية، ورفع وجهه عن وجهها أنملة وهمس: قبليني، أريد أن أشعر بشفتيك تأكلان شفتي .. هه.
وكانت بحال من الإعياء لم تدع لها قدرة على العصيان، فرفعت وجهها قليلا وقبلته، ثم غمغمت: لم نجئ هنا لهذا ... - إذن لماذا؟ - لنجلس ونتحدث!
فأطبق شفتيه على شفتيها، ثم عطف وجهه فجعل يده على فيها وهمس في أذنها: هذا أفضل، لقد تكلمنا كثيرا، وأعيد عليك أنك زوجي، زوجي ولو ناصبتني الدنيا العداء. هي مسألة وقت لن يطول ...
لعله يظن أنها جزعة متعجلة، فلتدعه في وهمه، ولعل الانتظار أوفق لحال أسرتها التي لا ترحب بزواجها الآن، ولا تستطيع أن تعد العدة له. ليس في الانتظار ضرر ولكنها لن تعلن عما في ضميرها، وعاد سلمان يقول: مسألة وقت، ولكن ما أحوجنا في فترة الانتظار إلى الترفيه.
ومد يسراه وراء ظهرها، ويمناه حول صدرها، فشعر بثدييها تحت ساعده ناهدين صلبين، فغلا دمه وضمها إليه بوحشية، وانهمرت أنفاسه على خدها وعنقها. وعاودها الذهول والتخدير، والرغبة والخوف، وامتزج في صدرها القلق واللذة واليأس، ثم اشتدت الظلمة، ظلمة عميقة غريبة، كأنما تنشر أجنحتها على فضاء لا نهائي، فلا مكان ولا زمان. •••
قالت لها أمها: تأخرت أكثر من كل يوم.
فقالت واجمة: أردت أن أنتهي من عملي، وقد انتهيت.
ثم وضعت في يد الأم خمسة وسبعين قرشا واستطردت قائلة: أعطوني الحساب كله وسأحتفظ لنفسي ببقية الجنيه.
وسكتت الأم فمضت الفتاة إلى حجرتها وأخذت تخلع ملابسها، وفي السكون الشامل ترامى إليها صوت حسنين وهو يطالع، فترك في نفسها أثرا عجيبا، لم تدر إن كان خوفا أم حزنا خالصا.
28 - بهية ولطافة المغيب هم شيء واحد في نفسي.
قالها وهو يومئ إلى الشمس الغاربة، رانيا إلى وجهها الأبيض البدري، وقد افتر ثغرها عن در، فقالت: لن تفتأ تتبعني إلى هنا حتى يرانا أحد!
فقال حسنين بزهو: إني خطيبك، ولي الحق في كل شيء! - لا حق لك على الإطلاق!
فضحك من قلب جذل ضحكة من لا يصدق قولها ، وملأ عينيه العاشقتين من منظرها، كانت ملتفة في معطفها الأحمر، ينحسر جيبه في أعلى الصدر عن فستان رمادي، وتنهدل على ظهره ضفيرتان مكتنزتان. وكان عمق حمرته يضفي على بشرتها البيضاء وعينيها الزرقاوين نقاء وبهاء. «هي ميالة إلى القصر، فلو التصقت بها لمس مفرق شعرها ذقني، ولكنها بضة ريانة، فتبا للمعطف الذي يخفي قسمات هذا الجسم وثناياه، حريصة محافظة، تعجبني بقدر ما تغيظني!» وقال متعجبا: لا حق لي على الإطلاق!
فقالت في هدوء ينم عن القوة: طبعا.
أتعني ما تقول حقا؟! يا لها من جميلة! لقد سما بها هذا السطح عن الدنيا وجعل من آفاق السماء إطارا لصورتها. وما من شيء يشابهها كهذا الإطار في هدوئه وحشمته وتنائيه. تقول نفيسة عنها إنها ثقيلة الدم، وما هي بالخفيفة، ولكن هيهات أن يقلل هذا من قيمتها. إنه يحبها بعقله وجسمه، أو لعل إحساسه غالب عما عداه! أتعني حقا ألا حق له؟! عجبا، لقد حسب أن الخطبة ستملكه حقوقا وحقوقا! قال بدهشة: يخيل إلي في بعض الأحيان أنه لا قلب لك!
فتورد وجهها، وخفضت عينيها في حياء، ثم رفعتهما قائلة في خشونة: ما دليل القلب عندك؟
فقال في حماس: أن تصرحي لي بأنك تحبينني ... وأن ... - وأن ... - وأن نتبادل قبلة ...
فقالت بحدة: إذن حقا لا قلب لي. - يا عجبا ألا تحبينني يا بهية!
فلاذت بالصمت في ارتباك وضيق. - ألا تحبينني؟
فتنهدت قائلة: إذن لماذا تم ما تم؟!
فابتل صدره المحترق وهتف برجاء: أحب أن أسمعها بأذني ... - لا تكلفني ما لا أطيق!
فتنهد بدوره في شبه يأس، ثم قال بلين: إن أعياك الكلام، فلن تعييك قبلة. - يا خبر أسود ... - يا خبر وردي كالشهد! من غير هذه القبلة أموت كمدا. - إذن فليرحمك الله! - لا تطيقينها أيضا؟! لن تكلفك شيئا. ابقي كما أنت ثم أتقدم خطوة وأضع شفتي على شفتيك فتكون الحياة التي ما بعدها حياة ... - أو الفراق الذي ليس بعده تلاق! - بهية! - أفندم! - أنت لا تعنين ما تقولين ... - أعني ما أقول تماما. - ولكنها قبلة وليست جريمة! - جريمة في نظري. - ما سمعت هذا قبل الآن.
فتفكرت قليلا ثم تمتمت: ولكني سمعته كثيرا. - أين؟
فعاودها التفكير، وترددت مليا، ثم قالت بصراحة وسذاجة: ألم تقرأ ما تنشره الصباح عن فتيات مهجورات لاستهتارهن؟ ألا تسمع الراديو؟
ففغر فاه، وندت عنه ضحكة، ثم صاح: من يقول إن القبلة استهتار؟ ألم تقرئي ما قال المنفلوطي في القبلة وهو الشيخ المعمم؟ إنك تحرمين على نفسك ما أحل الحب الطاهر لنا. الصباح؟ .. الراديو؟ .. كلام فارغ!
فرمقته بريبة وحذر وقالت: لا تضحك مني، هو الحق، قالت أمي لي مرة «إن الفتاة التي تتشبه بالعشاق كما يظهرون في السينما فتاة ساقطة خائبة الأمل ...»
بنت الكلب! .. أهي التي قالت لك هذا؟ القصيرة الماكرة، أفسدتها علي وأفسدت حياتنا. إن الغيظ يقتلني. ماذا أفدت من الخطبة التي تجرعت بسببها تقريعا ولوما مرا؟! لا شيء، فتاتي عنيدة مجنونة، السبب أمها بنت الكلب «حمالة الحطب» وتساءل في يأس: أتأخذين نفسك بهذا التقشف حقا؟ - طبعا. - إذن هو حب اسمي فحسب؟ - ليكن.
وتفحصها بنظرة طويلة فرآها ثابتة عنيدة قوية. وجرى بصره مع عنقها الرقيق، وتخيل أصله المتواري تحت الفستان، والمنكبين، والصدر الناهد، فركبته عاطفة جامحة حارة، وأفلت زمامه من يده، فانقض عليها وهو يسدد ثغره صوب شفتيها. ولم تكن تتوقع انقضاضه فتقهقرت فزعة، وتلقته براحتيها ثم هتفت به لاهثة: حسنين، إياك ...
لمح في عينها غضبا يتقد فخمدت حدته، وارتد خجلا مرتبكا، فغمغمت: احذر أن أغير رأيي فيك ...
ثم استدركت في جزع: أظن آن لك أن تعود ...
ودارى ارتباكه بضحكة قصيرة وتمتم: على شرط ألا تكوني غاضبة؟
فسكتت هنيهة قبل أن تقول بلهجة رقيقة: وعلى شرط ألا تعود لهذا مرة أخرى.
وتحول في خطوات ثقيلة، يلوح في مظهره الارتباك واليأس، فرق قلبها له وقالت وهي لا تدري: إن سعادتي في أن أصون لك ...
وكأنما تنبهت إلى نفسها فعضت على شفتيها ولم تنبس بكلمة.
29
وجاء عيد الأضحى فجذب أفكار الأسرة وعواطفها إلى واد واحد تلتقي فيه ذكريات الأمس واليوم، واجتمعت الأسرة ليلة الوقفة في الصالة حتى حسن كان بينهم، واستعرت في الصدور رغبة كظيمة في الاحتفال بالعيد. وطافت برءوسهم ذكريات الأعياد الماضية في حنين دافق لم تعلن عنه ألسنتهم، كان الخروف - في مثل هذه الليل - بمربطه في شرفة شقتهم الأولى يشرئب بعنقه بين قضبانه ثائجا، مذيعا بثؤاجه في عطفة نصر الله احتفال الأسرة بالعيد. ولم يكن الشقيقان ليفارقاه، فهما إما يعلفانه ويسقيانه، أو يناطحانه أو يحلمان بالغد القريب في أمل وفرح.
وفي الصباح وعقب ذبح الضحية يبدأ سباق إلى شي اللحوم والتهامها، والأم مشغولة بهذا وبتوزيع الصدقات على بعض الفقراء؛ كالكناس، وصبي الفران، وغيرهما، أما الأب فيتناول فطوره من الشواء على السفرة ثم يأوي إلى حجرته في انبساط فيضم عوده إلى صدره ويمضي في مداعبة أوتاره. وهناك - غير هذا - العيدية والملابس الجديدة ونزهة الصباح في الخلوات، وفسحة الليل في السينما، وما بين هذا وذاك من ألوان الحلوى واللعب والمفرقعات. وها هي الأسرة مجتمعة ولكن بلا أب. وإنهم لينظرون فيما حولهم فلا يجدون بشيرا بمقدم العيد ولا أملا في بهجته، ثم يسترقون النظر إلى أمهم المتلفعة بالسواد بأعين مستطلعة وألسنة قلقة مشفقة. كلا، لا عيد ولا بشيرا به. وتساءل حسنين في سره «ترى هل يمكن أن يمضي العيد كما كان يمضي غيره من الأيام؟!» وقال حسين لنفسه: «لا عيد، إني أعلم ذلك، انتهى، انتهى.» حسن وحده كان أدناهم إلى التفاؤل. ولعل كثرة تغيبه عن البيت جعلته بمنأى بعض الشيء عن نوع الحياة التي يحياها أهله. وكان إلى هذا - شأنه شأن بقية الأخوة - يعد أمه قادرة على كل شيء، وكثيرا ما يتعزى عن كسله وتلفه فيقول لنفسه «لديهم المعاش وأرباح نفيسة!» وقد اعتاد دائما إذا رجع إلى البيت أن يخلو إلى نفيسة فيسألها: «كيف الحال؟» فكانت تجيبه بالشكوى المرة، ولكن قلبها لم يكن يطاوعها على تجاهل يده إذا مدها لها طامعا في بضعة قروش. كان متفائلا رغم ما يحدق به من تجهم، ومنته نفسه بنصيب هائل من اللحم يعوض عليه أياما طوالا انقضت دون أن يذوق للحم طعما ، وضاق بالجو الكئيب الصامت، فمال على أذن نفيسة وسألها همسا: ماذا أعددتم للعيد؟!
وفطنت الأم إلى همسه فعاجلته متسائلة: ماذا أعددت للعيد يا رجل الأسرة؟
فضحك قائلا: لنا أم نحسد عليها! خفيفة الروح وبنت نكتة ولطيفة، ماذا أقول يا أماه؟ لم يأمر الله بالرزق بعد، وحسبكم أني كفيتكم شري فلم آكل لقمة في بيتكم منذ وفاة أبي إلا مرات معدودات.
وكانت يئست من نصحه ولومه معا فتنهدت صامتة، وتشجع حسنين بفتح باب الكلام فتساءل: ماذا سنأكل في العيد؟
فتطوع حسن بالإجابة قائلا: لحما طبعا، هذا أمر ربنا، لا حيلة لنا فيه!
وندت عن نفيسة ضحكة، ولكنها لم تسترسل خشية أن تتهم بتشجيعه، وقالت الأم بحزن: هذا أمر ربنا حقا، ولكن كيف لنا بتحقيقه؟
فقال حسن في ملق بارع: نحققه بفضلك أنت. أنت الخير والبركة، أنت الحزم والتدبير، ثم إنك أعظم طاهية في العالم، كيف يمضي العيد دون أن نشبع من المشوي والمسلوق، والمحمر والكفتة، والكستليتة والممبار والموزة؟ سفرة الست أم حسن، أنعم بها وأكرم.
وسرى في الجو القاتم نسيم مرح لطيف، وجرت على فم الأم الجاف بسمة خفيفة، ولكنها قالت بأسف: طاهية ماهرة، ولكنها مقطوعة اليدين!
ونظرت نفيسة إلى أمها نظرة ذات معنى ثم قالت لإخوتها: اسمعوا، علمنا أن فريد أفندي سيهدي إلينا نصف خروف!
وتطلعت إليها الأبصار في دهشة ووجوم، ولم يعد في وسع المرأة السكوت فقصت عليهم كيف حادثها فريد أفندي في الأمر بلباقة، وكيف رفضت شاكرة فتأثر الرجل لحد الغضب، وذكرها بأنهم أسرة واحدة ... إلخ. وكانت تلوح في عيني حسين نظرة كئيبة، وبدا حسنين وهو يزدرد ريقه بصعوبة، أما حسن فقال: يا له من رجل فاضل وفي!
فهتف حسنين في ضيق وألم: مستحيل .. لن يقع هذا.
فبادره حسن قائلا: ليس في الأمر ما يمس الكرامة، إن هي إلا تقاليد مرعية، وليس فريد أفندي بالرجل الغريب ...
وخافت نفيسة أن يفضي تصريحها إلى فتنة فقالت: لا داعي للنزاع، فإذا أبيتم قبول الهدية فلنشتر بضعة أرطال من الضأن.
فتساءل حسن في حدة: كم رطلا؟ - ما يسعنا شراؤه، عشرة أرطال مثلا!
فصاح حسن في انزعاج: عشرة أرطال على أربعة أيام! إياكم أن ترفضوا الهدية؛ النبي قبل الهدية يا هوه! أم تريدون أن تغضبوا أسرة تود مصاهرتكم!
فصاح به حسنين: هذه شحاذة!
فقال حسن بيقين: كلا، الشحاذة شيء آخر، اسألني أنا عنه. أما هذه فهدية، هدية، هدية!
وتكلم حسين لأول مرة فقال: هدية من النوع الذي كنا نهديه في الأعياد إلى الكناس وصبي الفران ...
وغضب حسن؛ لأنه كان يطمع أن يضم حسين إلى رأيه أو أن يبقى على الحياد في الأقل، وقال محتدا: لا تخلط بين الهدية والصدقة، إذا أعطيت الكناس فهي صدقة، أما إذا أعطيت صديقا فهي هدية.
وكان حسنين يعلم بأن مناقشة حسن هذر غير مجد فخفض عينيه وقال في حياء وألم: الواجب أن يكون المهدي هو الخطيب لا الخطيبة.
فقال حسن ساخرا: هذا إذا كان هو الذي طلب يد الخطيبة، أما إذا كانت هي التي طلبت يده ... - حسن! - أرحنا من الفلسفة التي لا تشبع من جوع، لا عيب في قبول هذه الهدية، كانت هدايا أحمد بك يسري تحمل إلينا في المواسم، على فكرة ما باله قد نسينا هذا العام ابن الكلب؟!
هذا رجل غير وفي، فريد أفندي رجل الوفاء حقا. من حسن الخلق أن نقبل هديته، ثق بأنه إذا كان في القبول ما يمس الكرامة لكنت أول الرافضين.
فقال حسين بكآبة: تصور ماذا يقولون عنا! - تصور الشواء وأنت تقلبه على النار والرائحة الشهية تملأ البيت.
والتفت حسنين إلى أمه وسألها: علام نويت؟! - فقالت المرأة دون أن تنظر إليه: لم يسعني إلا القبول ...
وساد الصمت لا لأن أحدا لم يجرؤ على الاحتجاج فحسب، ولكن لأن هذا القبول أنقذهم من النزاع القائم في صدورهم بين غضبة ضمائرهم ورغبتهم في الاستمتاع ببهجة العيد ولذائذه. وهم إلى هذا كله كانوا يؤمنون بأمهم إيمانا كبيرا، كأنها لا يمكن أن تخطئ، فإذا كانت قد ارتضت قبول الهدية فلا ضير من قبولها. هذا ما قالوه لأنفسهم ، أو هذا ما قاله لنفسه الحائر منهم لينجو من حيرته. وكانت الأم أسوأ حالا منهم، ولم تجد من عزاء إلا في هذه الحقيقة؛ وهي أن فريد أفندي اضطرها إلى القبول بإلحاحه، وحرارة صداقته، وقد رحبت بإثارة نفيسة للموضوع؛ لعلها تجد في قبول الأبناء عزاء، فلما أنست من الابنين المهمين معارضة تضاعف ألمها وصرحت بالحقيقة فيما يشبه الاعتراف بالذنب، وضاعف من آلامها أنهم باتوا لا يشبعون إلا في الأعياد شأن المساكين الذين كانوا يقصدونهم فيمن يقصدون من أهل الخير، انحدار يعقبه انحدار ولا تدري أين يقف. أما حسن فقد اطمأن، ولم ير بأسا من أن يتفلسف فقال بلهجة الوعظ: قبل النبي مرة هدية أهداها إليه يهودي فهل يكون فريد أفندي شرا من اليهود؟!
فتساءل حسين في دهشة: من قال هذا؟ - التاريخ! - أي تاريخ!
فصاح به حسن: أحسبت أنهم يقولون لك كل شيء في المدرسة؟
فقال حسنين بحدة: حدثنا عن التاريخ الذي تعلمه الشوارع!
فتظاهر حسن بالغضب وقال: قسما برب العزة، لولا أنك سبب هذه الهدية لكسرت رأسك.
ثم استدرك قائلا: وعلى هذا كله كان الواجب يقضي بأن يهدوا إلينا خروفا كاملا لا نصف خروف (ثم ملتفتا إلى نفيسة) احذري أن تقبلي الهدية إلا إذا كان فيها نصف الكبد أيضا.
30
وقفا متقابلين ينتظران الترام، هي في معطفها القديم الذي تود أن تستبدل به أحسن منه ولو نصف عمر، وهو في البذلة التي تبدو عليه قلقة جافية. وكان يلوح في وجهه التردد، والرغبة المعذبة في الإفصاح عن شيء يثقل عليه الإفصاح عنه، ثم خاف أن يجيء الترام قبل أن يتكلم فقال في ارتباك: نفيسة، يخجلني جدا أن أصرح لك بأمر.
فتساءلت الفتاة: ماذا بك؟
فقال همسا: أمرني أبي أن أصحبه اليوم إلى حضرة شيخ الشاذلية فرفضت حتى أثرت غضبه.
وشعرت بخوف لم تدر كنهه، لعل ذكر أبيه الذي هيجه، وتوقعت خبرا غير سار، فرمقته بعين متسائلة دون أن تنبس، فقال بصوته الهامس: ثار غضبه لعنادي وحرمني أجرة يومي!
وحلت الدهشة محل الخوف وسألته : أليس معك نقود؟ - كلا، أبي رجل جبار، ربنا يأخذه.
فقالت لنفسها «آمين» ثم تمتمت: معي بعض النقود.
فسكت لحظات في قلق ثم سألها في خجل: هل تدفعين ثمن التذكرتين أمام الجالسين؟
وفطنت إلى ما يريد، فرقت له، وفتحت حقيبتها وتناولت شلنا وأعطته إياه، فأخذه وهو يلحظ الواقفين بحذر ثم قال: شكرا لك، سأرده إليك في اللقاء الآتي.
ثم قال مستطردا بعد تردد: أو خذي إذا شئت به حلاوة أو جبنا.
فتساءلت مدفوعة بغريزة الحرص: ألا تخاف أن يلاحظ أبوك أنني لا أدفع ثمن ما آخذه؟
فضحك قائلا: إنه لا يرى أبعد من موضع قدميه.
وجاء ترام روض الفرج فصعدا إليه وجلسا متجاورين «كيف أبذر نقودي على هذا النحو؟ البيت في شديد الحاجة إلى كل مليم مما أجني من عملي الطويل. أمي لا تفتأ تبيع قطع الأثاث، حتى أخي حسن أحق بهذا الشلن من هذا المفلس. ماذا أفعل بنفسي؟ إني أبعثر نقودا أخرى لابتياع البودرة والأحمر، أواه! إنه ليس رجلا، لو كان رجلا لما تعلق بأبيه هذا التعلق المضحك، ولما خافه هذا الخوف، حرمه الرجل يوميته كما يحرم الطفل مصروفه. بيد أني أحبه وأريده، إني له نفسا وجسدا، ليس لي سواه! من أين لي هذه النفس التي تسيمني هذا كله؟!» وسمعته يهمس في أذنيها: من المؤسف حقا أن أمي عادت من بلدة أختي فلم يعد البيت خاليا.
ليست بحاجة إلى من يذكرها بهذا، فهي تعلمه حق العلم، بيد أنها سرت في أعماقها بفتحه هذا الباب، ودبت في جسمها يقظة، فنشط خيالها وتذكرت الظلمة الشاملة والأصوات الهامسة، تذكرت هذا في حرارة مشوبة بخوف، ولم تشأ أن تعلق على قوله فتجاهلته عن حياء، وتورد وجهها الذي جعله الزواق مثيرا للنظر؛ أمي عادت، وأبي لا يرضى! متى ينتهي هذا كله؟! متى تملكه بلا خوف، وبشرع الله؟ آه ثم آه، لشد ما يركبها الخوف أحيانا فتود الموت نفسه والراحة من الحياة جميعا. وعاد صوته الهامس يقول: ولكني سأخلق الفرص بنفسي، لا بد أن تعاد الفرصة ، وأن يخلو البيت.
فقالت بصوت بارد: لا .. لا .. لا داعي لهذا. - الله يسامحك، أنسيت؟ أنسيت حقا؟! لا يجوز أن نموت في فترة الانتظار، لا أحب الانتظار ...
أليس الانتظار خيرا مما فعلت بنفسها؟ بلى، كلا، بلى، كلا، بلى بلى، كلا كلا، بلى بلى بلى، كلا كلا كلا. وتنهدت في حيرة، وعاودها شعور اليأس الذي ألفته، ولكنها قالت: لا أحب الانتظار مثلك، ولكني لا أحب هذا أيضا.
فقال بمكر: كاذبة، تحبينه وتحبينه، هل نسيت ...؟ محال. - لا أذكر شيئا. - لن أنسى ما حييت! أنت غاية في الحرارة والحياة، كأن حرارتك لا تزال تلفحني. - هس، أنت مجنون ولا شك! - مهما يكن من أمر فسنجد حتما طرقات خالية مظلمة. - حذار، بصرك ضعيف كأبيك، وقد تحسب الطريق خاليا والشرطي أمامك! - البركة في عينيك أنت.
ثم قال متنهدا بعد لحظة صمت: متى يتاح لنا الزواج؟!
فآلمها تساؤله وأغاظها، وأخجلها في الوقت نفسه، ولازمها فتور ووجوم بقية الطريق.
31
انتصف الليل ولم يكد يبقى في قهوة الجمال إلا نفر قليل، وكان حسن يجلس إلى مائدة خالية بعد أن فارقها أصحابه تاركين في جيبه ما استطاع أن يظفر به من قروشهم. كان يجلس كالمتفكر ملقيا على المقهى نظرة جامدة من عينيه المتعبتين؛ هذا صاحب القهوة وقد أخذ يراجع حساب اليوم مكوما الماركات في طبق صاج كبير، على حين وقف النادل مستندا إلى إحدى ضلف الباب، واضعا إحدى يديه في جيب المريلة يعبث بالقروش؛ فيتصاعد وسواسها في إغراء شهي «رحمك الله يا أبي، ألا تعلم بأني تعبت كثيرا بعد موتك؟ كان نزاعنا لا يهدأ، وكنت أشعر أحيانا بأني أمقتك، ولكن أين أيامك؟ فيما عدا أيام العيد لم أتناول لقمة في بيتنا، وماذا يأكلون؟ الفول غذائي الوحيد، فول، فول! الحمير تجد شيئا من التنويع.» لماذا لا يبحث جادا عن عمل؟ جرب حظه مرتين فانتهى في كل مرة بمعركة كادت تودي به إلى السجن؛ كلا ليست هذه الأعمال التافهة بمبتغاه، ولا يزال يؤثر عليها حياة التسكع والمقامرة الحقيرة، الواقع أنه يتعيش من السرقة ، إنه ورفاقه يعلمون ذلك حق العلم؛ إنهم يتصيدون الزبائن الأغراب ويوهمونهم بأنهم يلاعبونهم على حين أنهم يسرقونهم! حياة شاقة محفوفة بالمخاطر في سبيل قروش، كيف يستنيم إلى هذه الحياة! لم يكن لا سعيدا ولا راضيا، وكأنه كان ينتظر معجزة تنشله من وهدته إلى حلم من الأحلام! كانت حياته ضارية كالمخدر المهلك، اعتاد أن يعيش بلا عمل حقيقي، حائزا - رغم هذا - مركزا مرموقا مرجعه الرهبة والخوف، فلم يحتمل أن يبدأ من جديد صانعا بسيطا أو عاملا مطيعا، ولم يكن يغيب عنه مدى حاجة أمه إلى جده، ولا تزال تطن في أذنيه شكاتها المكروبة، تطارده كلما أفاق إلى نفسه. إنه يحب أمه ويحب أسرته، ولكنه ينتظر، وينتظر، دون أن يحرك ساكنا. لا أزال في البداية، عمل حيواني طويل بقروش. حماقة خير منها. - مساء الخير يا سي حسن.
ورفع رأسه منفتلا من سحابات أفكاره، فرأى الأستاذ علي صبري يجلس قبالته في هدوء وكبرياء؛ فاهتز صدره فرحا وهتف به: مساء الخير يا أستاذ.
ونادى الأستاذ النادل، وطلب نارجيلة ثم التفت إلى حسن وقال دون تريث: قررت أن نعمل معا! أعني أن أضمك إلى تختي.
واتسعت عينا حسن ولاح فيهما بريق خاطف؛ إن التخت هو العمل الوحيد الذي يحبه، لا لميل فني مركب في طبعه، ولكن لأنه يسير ولذيذ، وينسم جوه عادة بأريج الخمر والمخدرات والنساء. ومع أن أمله في علي صبري كان دائما محدودا، إلا أنه كان يراه شيئا خيرا من لا شيء، ولعله عتبة لما بعده، أجل من يدري؟ قال: حقا يا أستاذ؟ - بدون شك. - هل نعمل في صالة أو قهوة؟
فتخلل الأستاذ شعره الثائر بأصابعه الطويلة النحيلة وقال: سترسي إلى هذا يوما قريبا. وربما غزونا الراديو نفسه. ولكننا سنقتصر بادئ الأمر على الأفراح ...
وسرعان ما خمد الحماس، ولو كان علي صبري شخصا لا يعقد به رجاء ولو ضئيلا لصعقه بضربة تجعل عاليه سافله. لقد عمل معه بالفعل في بعض الحفلات العائلية نظير ريال والعشاء، وما كان هذا ليحدث إلا مرات في العام ، فما الجديد في هذا؟! وشعر بأن وراء هذه الدعوة أمر وداعبه أمل جديد، فتظاهر بالسرور وقال: ستحتل المكانة التي تليق بك يوما بلا شك؛ أنت لك بحة ليست لعبد الوهاب نفسه.
فانبسطت أسارير وجهه، ثم سأله: ماذا تختار من آلات التخت؟ كنت حدثتني عن المرحوم والدك كعواد بارع؟ - لم أتعلم آلة على الإطلاق. - ولا الدف؟
فقال حسن بقلق: سبق أن جربتني كسنيد، وأظنني أنفع «سنيدا».
فهز الأستاذ رأسه قائلا: كما تشاء، هل تحفظ أدوارا كثيرة؟ - مواويل وأدوار وطقاطيق. - أحب أن أسمعك منفردا.
وشعر حسن في أعماقه بسخرية؛ نفخة كذابة وامتحان لحساب أمل ضعيف! ولكنه كان مصمما على مجاراته إلى النهاية. كان يحلم بأن يغني لحسابه الخاص يوما ولو في المقاهي البلدية. وانتظر حتى جاء النادل بالنارجيلة واستمتع الأستاذ بالأنفاس الأولى، وتنحنح ثم سأل الأستاذ: ما رأيك في موال: يا عيني ليه بتبكي؟ - عال.
وراح حسن ينشد الموال في صوت غير مرتفع، مجيدا ما وسعته الإجادة، والآخر يذهب معه برأسه ويجيء، متظاهرا بالاستغراق، حتى انتهى حسن، فقال: هذا فوق الكفاية بالنسبة لسنيد، أحب أن أسمعك في الهنك أيضا، هل تحفظ «في البعد يا ما كنت أنوح؟»
فتنحنح الشاب مرة أخرى وقد حميت حنجرته، واشتعل حماسه واندفع يغني الدور حتى أتى عليه، فقال الأستاذ: عال، عال، هل تعرف أصول النغم؛ السيكا والبياتي والحجاز وغيرها؟
وكان لا يداخله شك في جهل الأستاذ بهذه الأصول فقال بجرأة ندر أن توجد في غيره: طبعا. - أسمعني ليالي رست.
فأنشد بعض الليالي كيفما اتفق، فهز علي صبري رأسه قائلا: برافو .. هات أخرى نهاوند.
وانطلق يغني وهو يغالب سخريته القلقة في صدره، والآخر يتابعه باهتمام ظاهري، ثم لاح في وجهه التفكر فجأة وبدا كأنه يريد الإفصاح عن شيء هام. وكان حسن ينتظر هذه اللحظة بغريزته فتساءل متحيرا ترى هل يريد أن يندبني إلى معركة؟ ماذا يريد على وجه التحقيق؟ وقال الأستاذ: صوتك حسن، بيد أن العمل في التخت يتطلب مهارة أخرى؛ ينبغي أن نتفاهم تماما، وعلى سبيل المثال أقول لك إنك يجب أن تأخذ بقسط وافر من أساليب الدعاية. - الدعاية؟ - نعم، كأن تنوه بفني في المناسبات، أن تسعى لإغراء البعض بطلبي لإحياء الأفراح، ولك جزاء طبعا، أن تكون في حفلة يحييها مغن ما، فتعلن نقدك لصوته، وتقول لمن حولك آه لو كان علي صبري في مكان هذا المغني، وهكذا.
فابتسم حسن قائلا: هذا هين، وأكثر منه.
فقال علي صبري بعد فترة تفكر: ثم إنك شاب قوي وجريء، وينبغي أن تستغل مواهبك إلى أقصى حد، ولكن دعني أسألك سؤالا قبل كل شيء: أي المخدرات أحب إليك؟
ما الذي يدعوه إلى هذا التحقيق؟ أيريد أن ينفحه بهدية؟ إنه يجيد قبول الهدايا، أما الجود بها فهذه عادة لم يمارسها، أم يرمي إلى إشراكه في عمل هام؟ ودق قلبه لهذا الخاطر، طالما حلم بتجارة المخدرات، على أنه آثر الحرص والحذر فقال بمكر: أظن أن المخدرات تؤذي الحنجرة.
فضحك علي صبري، ثم انطلق يغني من الليالي ما شاء في صوت كالرعد وفي نفس طويل قوي، ثم تساءل: ما رأيك في هذا؟ - لم أسمع له مثيلا!
فقال ساخرا: هذا نتيجة خمسة عشر عاما من تعاطي الحشيش والأفيون والمنزول، منها خمسة أعوام أدمنت فيها الكوكايين. - يا سلام! - المخدرات دم الغناء، وما من مغن يستحق هذا الاسم إلا وقد تعاطى من المخدرات مثلما التهم من الملوخية والفول المدمس.
فضحك حسن وقال بلهجة تنم عن التسليم: هذا لو تيسرت. - صدقت، وهذا ما خمنته؛ إنك لا تكره المخدرات، ولكنك لا تستطيعها، وإذن فاعلم أنه من اليسر أن تجعل الأنهار خمورا والجبال حشيشا، إنك جريء قوي، ولكني لا أخفي عليك بأني خفت كثيرا. - خفت ماذا؟
فضحك علي صبري ضحكة قصيرة كشفت عن أسنانه الصفر وقال: أكره الناس إلي من يقول «أخلاقي لا تسمح لي بكيت وكيت» أو من يقول «اتق الله» أو من يتساءل في خوف «والبوليس؟!» فهل أنت أحد هؤلاء؟
فقال حسن مبتسما وهو يشعره بأن صبره الطويل يوشك أن يظفر بحسن الجزاء: إني أعيش في هذه الدنيا على افتراض أنه لا يوجد بها أخلاق ولا رب ولا بوليس.
فضحك علي صبري بقوة زلزلت القهوة كغنائه وقال: فلنقض بقية الليل في بيتي؛ فما زال في الحديث بقية.
ولبث حسن متفكرا دون أن تخونه ثقته بنفسه لحظة واحدة، كان قليل الثقة في محدثه، ولكنه لم يكن يائسا منه كل اليأس. كان يشعر في أعماقه بأن ثمة انتظارا طويلا لا يزال أمامه قبل أن تثبت الأرض القلقة تحت قدميه.
32
كانت الأم ونفيسة جالستين بالصالة، قانعتين من النور بما يشع من حجرة الإخوة حين زارتهما صديقتهما صاحبة البيت، ورحبا بها ترحيبا يليق بأياديها البيض على نفيسة، وجلست المرأة بينهما على الكنبة، وأبت حتى أن يضيئا مصباح الصالة. وجعلت هي والأم تتسليان بالحديث على حين ذهبت نفيسة إلى المطبخ لإعداد القهوة، وكانت الأم تنتظر دائما من وراء زيارة صديقتها عملا مريحا لنفيسة، وقل أن خيبت لها رجاء، لم يكن عقلها يخلو أبدا من هموم العيش، خاصة بعد أن استدار العام واقتربت العطلة المدرسية، وبات من المتوقع قريبا أن يضاف إلى واجباتها واجب جديد هو تغذية ابنيها بدلا من المدرسة، كانت تشكو إلى صاحبتها ما عانت من حياتها في الأشهر المنقضية والمرأة تواسيها وتشجعها، حتى عادت نفيسة بالقهوة. وأرادت المرأة أن تعلن عما دعاها إلى هذه الزيارة فقالت وهي تبتسم ابتسامة حلوة تنم عن طيبة قلبها: جئتك بعروس جديدة.
فضحكت نفيسة ضحكة سرور وقالت: يحق لي أن أطلق على نفسي خياطة العرائس! - أسأل الله أن تعدي ثياب عرسك بنفسك قريبا.
فتمتمت الأم قائلة: آمين.
وأمنت نفيسة على الدعاء بقلبها، على ما أثار في نفسها من قاتم الذكريات «متى يمكن أن أكون عروسا؟ ليس قبل أن يموت عم جابر سلمان، يا للسخرية! أمل كلفني نفسي وجسدي، هل يدور هذا لأمي في خلد؟ إنها تحسب أن هموم المعيشة أكبر الرزايا، يا لها من جاهلة بائسة!» وتساءلت الأم: من تكون الزبونة الجديدة؟ - العروس الجديدة هي كريمة عم جبران التوني البقال.
وتنبهت حواس نفيسة لهذا الاسم الذي لا يمكن أن تنساه، فدق قلبها بعنف وقالت متسائلة: دكانه عند تقاطع شارعي شبرا والوليد؟ - بالضبط.
وضحكت الأم قائلة: أصبحت جوالة يا نفيسة كشيخ الحارة.
فضحكت الفتاة ضحكة آلية وقالت لنفسها «هي دون غيرها.» هي الفتاة التي كان عم جابر سلمان يرغب في أن يزوجها لسلمان كما قال لها الفتى، فلتتزوج ولترفع عن صدرها كابوس ذكراه، وتساءلت الأم: وهل جبران التوني هذا غني؟ - على جانب من اليسار لا بأس به. - ومن العريس؟
فضحكت المرأة وقالت: إنه أقرب مما تصورين؛ هو سلمان ابن عم جابر سلمان البقال. - سلمان!
ندت عن نفيسة كالصرخة، فالتفتت المرأتان صوبها في دهشة، وظنت الضيفة أنه كبر على الفتاة أن يحظى بمثل هذه العروس شاب تافه كسلمان فقالت: نعم سلمان، والظاهر أن عم جبران لم يمانع لصداقته لعم جابر سلمان. وربك يعطي الأرزاق بلا حساب.
أدركت رغم هول الصدمة أنها كادت تفضح نفسها فتماسكت في جهد شديد. لقد انفجرت الصرخة في صدرها بلا وعي وانطلقت من فيها دامية، ولم تعد تستطيع أن تتابع حديث المرأتين، وشعرت بأنها تموت موتا سريعا منقضا، وساعدتها الظلمة في إخفاء معالم وجهها فشدت على أصابعها حتى لا تصرخ مرة أخرى، ماذا قالت المرأة! ليس ما بها كابوس أو جنون، إنه حقيقة بلا ريب؛ سلمان جابر سلمان، دون غيره، وعاودتها ذكرى مخاوف قديمة كانت تنتابها من حين لآخر في ساعات انفرادها، مخاوف غامضة أحيانا كقلق ينشب أظافره في صدرها، أو واضحة أحيانا أخرى تتبدى في صورة بشعة يقشعر لها البدن. وخالت في ذهولها لحظة أن ما بها ليس إلا حالة مرعبة من هذه الحالات، ولكن لم تكن إلا لحظة واحدة، ثم عاودها هذا الشعور الثقيل الرهيب بأنها تموت؛ لقد ذاقت قساوة الدنيا مع أسرتها جميعا، ولكنها لم تصدق أنها قاسية إلى هذا الحد، وعضت على شفتيها وهي لا تدري كيف تقاوم هذا الانحلال والتهدم، الساريين في روحها وجسدها؛ ما هي بخيبة الحب، هي خيبة الحياة كلها، ولكن يجب أن تتمالك نفسها، وعسى أن تدعوها الضيفة إلى الحديث لأية مناسبة فلا يصح أن ترتعش نبرات صوتها، أو تحتنق من شدة التأثر. ولعله من الخير أن تلوذ بالفرار إلى حين، ولم تن عن تحقيق نيتها فتناولت قدح القهوة ومضت إلى المطبخ، هنالك زفرت من الأعماق، وشدت بيديها على ضفيرتيها القصيرتين بشدة وهي تحملق في سقف المطبخ الملوث بالهباب، وقد عشش العنكبوت بأركانه، ولبثت في جمود كالذاهلة، ولم يكن أملا، ولكن خدعة، كذبة مفزعة، ضربة قاضية، سرقة، لطخة، جرحا لا يندمل، وحلا، لقد انتهت، انتهت بلا أدنى ريب! لا يمكن أن تتخيل أمها هذا، أما حسين وحسنين فهيهات! رباه كيف استطاع خداعها إلى هذا الحد؟ كانا معا يوم الجمعة الماضي فأي مجرم هذا وأي إجرام؟! ماذا يجدي الغضب أو الحقد، أو الكراهية؟ شعرت نحوه بالكراهية تقتل أي أثر للخير في النفس. ما أشد حاجتها إلى التفكير والتدبر! إنها تتلهف على مكان قصي خال ينأى بها عن هذا المحيط الذي باتت تضمر له البغض أشد البغض، مكان تستطيع أن تسأل فيه نفسها كيف هوت بمثل هذه السهولة، وبمثل هذه السرعة، وبمثل هذا الهوان. - نفيسة!
بلغ نداء أمها مسامعها فانتفضت في ذعر، ثم حنقت عليها حنقا شديدا كأنه المقت، ولم تأت حراكا، فأعادت الأم النداء فذهبت وهي تعض على نواجذها، ووجدت الضيفة متأهبة للذهاب وأمها تودعها عند الباب الخارجي، وقالت لها وهي تسلم عليها: تعالي إلي بعد غد فنذهب معا إلى بيت العروس.
فأومأت برأسها بدلالة الإيجاب دون أن تنبس، ولما أغلق الباب قالت الأم: سلمان! والله ما يستاهل هذا الحظ.
فشعرت بخنجر ينغرس في شغاف قلبها، ولم تعلق بكلمة. وضاق صدرها بالمكان والجو وأيقنت بأنها أعجز من أن تتحمل المكث إلى جانب أمها، وخطر لها خاطر كلسان من لهب انشق عنه صدرها، فمضت بقدم ثابتة إلى حجرتها، ثم عادت وقد ارتدت معطفها فسألتها أمها بدهشة: أذاهبة إلى الخارج؟
فقالت وهي تتوجه صوب الباب: نعم سأشتري شيئا للعشاء، وربما ذهبت إلى شقة فريد أفندي ساعة.
33
ومالت نحو فناء البيت وأنفاسها تتردد في ثقل وصعوبة، كانت السماء صافية مرصعة بالنجوم، والجو بارد بعض الشيء تتخلله نسمات لطيفة من طلائع الربيع، وسارت إلى الباب الخارجي ثم عرجت غير هيابة إلى دكان عم جابر، كان الرجل العجوز عاكفا على مراجعة الحساب الختامي لليوم، على حين وقف سلمان مرتفقا الطاولة ناظرا فيما بين يديه في شرود. واقتربت منه وهي تلقي عليه نظرة حادة ملتهبة، فرفع إليها عينيه الصغيرتين ولم تلبث أن لاحت فيهما نظرة جفول وارتباك ثم قال ببلاهة: أي خدمة يا ست نفيسة؟
فقالت بعزم وثبات: الحق بي في الحال.
فأومأ لها بالإيجاب وهو يتظاهر بأنه يقدم لها شيئا من الدكان، ومضت إلى الشارع ووقفت تنتظر عند رأس عطفة نصر الله، وهي تتفحص ما حولها بعناية وحذر، وطابت نفسها بما فعلت؛ فما كان في وسعها أن تصبر دون حراك حتى مطلع الصباح، وجعلت تنظر داخل العطفة حتى رأته قادما بجلبابه وجاكتته مسرعا في خطاه الملهوجة؛ حقير تافه، شيء تعافه النفس، مخادع مخاتل كذاب، ما أحقر هذا! ماذا هي فاعلة به؟ أترتمي على قدميه باكية مستعطفة! هل تضرع إليه أن يظل لها وحدها؟ بدا أن هذا كله شيء فظيع مستنكر، وعلى هذا فقد وشى بمشاعر عميقة صادقة لا تدري كيف تفصح عن نفسها، فقبل ساعة واحدة كانت تعده رجلها وتعد نفسها امرأته، والهلاك أهون من أن تنفصم هذه العروة بين يديها، كانت شيئا وليست الآن شيئا على الإطلاق، عدم مخيف ويأس قاتل، واقترب منها في حذر وغمغم دون أن يلتفت إليها: خير؟
وأثار صوته حنقها، ولكنها كظمت نفسها وقالت وهي تسير: اتبعني إلى شارع الألفي.
ومضت إلى الشارع الجانبي بعيدا عن الأعين المستطلعة، ثم أبطأت الخطو حتى لحق بها، وبادرته قائلة وقد نفد صبرها: أليس عندك ما تريد إخباري به؟
فتساءل متجاهلا في قلق وخوف: عم تسألين؟
فغاظها لدرجة الجنون وقالت بحدة مخيفة: ألا تدري حقا عما أسأل؟! هات ما عندك وكفاك خداعا!
فتنهد في تسليم وغمغم في خوف: تقصدين مسألة الزواج .
فقالت في سخرية مريرة: أظن هذا، ألا تراها مسألة تستحق السؤال؟
فقال بصوت شاك: أبي؟
فصاحت بحدة وجسمها ينتفض غضبا وهياجا: أبي، أبي، أرجل أنت أم امرأة؟
فقال بذل وخنوع وتسليم: رجل، ولكن كعدمه! - يعني امرأة! - سامحك الله، لا أسمع إلا نهرا وتقريعا سواء منك أو منه، ماذا أصنع؟
ورمته بنظرة حامية وصدرها يستعر حنقا وغيظا، امرأة، جبان، حقير، كيف أحبته، كيف هانت عليها نفسها فسلمت له! إن سعيها إليه، وتعلقها اليائس به، وحرصها الذليل على استرجاعه، هي شر ما تسيمها الدنيا من بؤس وعذاب، وصاحت به: يا لك من شاك باك حقير! كيف سولت لك نفسك الغدر بعدما كان، كيف أخفيت عني الأمر؟ أجب ...
فنفخ قائلا: مضى أبي إلى هدفه على رغمي، غير مقيم لرأيي وزنا حتى وجدت نفسي بين أمرين لا ثالث لهما؛ فإما النزول عند إرادته، وإما الموت جوعا. - لماذا لا تبحث عن عمل في غير دكان أبيك؟
فتمتم في نبرات يائسة: لا أستطيع، لا أستطيع.
فاحتدم الغيظ في صدرها وقالت: يا لك من جبان حقير! ألا تعرف ماذا يعني هذا بالنسبة إلي؟
فقال بلهجة تقطر أسفا وحزنا: أعرف وا أسفاه! الله وحده يعلم بحزني وأسفي.
فألقت عليه نظرة حامية وقد أثارتها لهجته الأسيفة لحد الكراهية القاتلة، وقالت بصوت مرتعش: حزين وآسف، يا لك من مسكين! وماذا تظنني صانعة بحزنك وأسفك؟ إن الحزن وحده لا يصلح الخطأ، فماذا تظنني صانعة بحزنك؟ لقد أوقعتني في ورطة قاتلة، فلا يجوز أن تدعني وحدي وتهرب: ألا تفهم هذا؟
وبدا وكأن الحيرة تمسك بلسانه، ونظر صوبها في خوف دون أن يحير جوابا. وأثارها صمته كما أثارها تظاهره - كانت متأكدة من هذا - بالأسف، فقالت بحدة: ما عسى أن أصنع؟
فازدرد ريقه وقال بصوت متقطع منخفض: وا أسفاه! .. إني أدرك حرج موقفك .. لشد ما يؤلمني هذا .. ولكن ... أعني ... ما عسى أن أصنع أنا؟
فقالت بحقد وهي تكظم عواطفها الثائرة: ارفض هذا الزواج، لا نجاة لي إلا بهذا.
فقال بعجلة ضاعفت حنقها: أرفضه؟ .. فات الوقت. - يجب أن ترفضه؛ لم يفت الوقت بعد، يجب أن تفكر في، لا نجاة لي إلا بأن ترفضه.
وقال بلهجة اليائس وهو يشعر بالخوف: ليس في وسعي هذا.
وتولاها القنوط، ولم يوح لها الشخص الخائر الماثل أمامها بأقل رجاء، وصاحت بانفعال: كان في وسعك أن تفعل ما فعلت. وكان بوسعك أن تقبل الزواج من هذه الفتاة، ولكن ليس بوسعك أن تصلح الخطأ، ليس بوسعك أن تمد يدا لإنقاذي. - ما أشد ضيقي! إن أسفي لا حد له. - ماذا يفيدني هذا الأسف؟
ولما وجدته صامتا صرخت في وجهه: ما يفيدني أسفك؟
فغمغم: ماذا عسى أن أصنع؟
وركبها شيطان الغضب واليأس فالتفتت نحوه، وانقضت عليه بسرعة البرق وأمسكت بتلابيبه وهي لا تدري ماذا تفعل، وصاحت في وجهه: أتسألني عما تصنع! هل حسبتني لعبة تلهو بها حين تشاء وتحطمها حين تشاء؟!
فقال وهو يحاول عبثا أن يخلص سترته من يديها: نفيسة، اعقلي، نحن في شارع ...
فصاحت به وقد فقدت وعيها: جبان، سافل، وغد، غادر ...
وسحبت يدها بسرعة وهوت بقبضتها على وجهه بقسوة جنونية، مرة، وأخرى، حتى رأت الدم يسيل من أنفه، وجعلت تلهث وصدرها يضطرب في عنف وعدم انتظام، وتحسس سلمان أنفه بيده وبسطها أمام ناظريه في صمت، ثم أخرج منديله من جيبه ووضعه على فمه وأنفه. وبدا هادئا ساكنا على غير ما كانت تنتظر، شعر بادئ الأمر بخوف، ثم حل محل الخوف ارتياح غريب كأنه جاز منطقة الخطر، ولم يعد ثمة ما يخافه. انفرجت الأزمة، وزال الخطر، وسقط ما كان لها من شبه حق عليه بعد هذا الدم المسفوح، وقال في هدوء وصبر: سامحك الله يا نفيسة، أنا عاذرك.
وهيجها حديثه فجأة فعاودها الجنون، وانقضت عليه مرة أخرى بدافع غريزي، ثم أمسكت بتلابيبه كشيء يريد الإفلات وتأبى عليه - بكل قواها - أن يفلت، وركبه الذعر فانحل تماسكه، ونتش سترته فجأة فخلصها من يدها وتراجع صارخا: إياك وأن تلمسيني، ابعدي عني، ابعدي لا حق لك علي.
وهجمت عليه، ولكنه دفعها في صدرها وصاح بها في هياج أحدثه الذعر: لا تلمسيني، لم أجبرك على شيء، لقد ذهبت معي إلى البيت راضية، لا تلمسيني وإلا ناديت الشرطي!
وواصل تراجعه حتى ابتعد عنها مسافة غير قصيرة ثم دار على عقبيه ومضى مهرولا كأنه يفر فرارا.
وتسمرت في مكانها وجسمها ينتفض انتفاضا؛ فقدت سلطان الإرادة على جسدها وروحها وعواطفها، وبدا لها الأمر كحلم، أو هذيان مرض، أو حال لا تمت بصلة إلى عالم الحقيقة؛ هذا شارع وهذه شجرة وهذا مصباح وهؤلاء بعض السابلة، أشياء هذه أم أشباح؟! إنها لا تدري، بدا كل شيء بعيدا عن الواقع والحقيقة. ولعلها لم تثب إلى وعيها إلا حين انفجرت باكية بدموع حارة ملتهبة صاعدة من أعماق صدرها.
34
كان سلمان يمسح الطاولة حين رأى ظل شخص ينعكس عليها؛ فرفع رأسه فرأى حسن واقفا حياله، وسرت في جسده قشعريرة رعب فكأن صاعقة انقضت على رأسه، وكان حسن يقف بقامته الطويلة، منفوش الشعر، وقد حال لون بدلته من كثرة الاستعمال، ينبعث من عينيه نور حاد ينم عن العنف والجرأة، وقال سلمان لنفسه: «إني هالك، إذا كانت نفيسة قد أفضت إليه بسرها فساعتي قد دنت ولا شك.» ونظر إليه كما ينظر الفأر إلى القط دون أن ينبس، وقال حسن بصوت مرتفع رن في أذنيه رنينا مؤلما مخيفا: السلام عليكم.
ورد جابر سلمان من وراء مكتبه قائلا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. كيف حالك يا سي حسن؟
وذهل سلمان في خوف عن رد التحية، وقال لنفسه: «ما هذه بتحية؛ هي نذير، رباه كيف تعرضت لفتاة لها مثل هذا الأخ؟!»
وقال حسن: الحمد لله. لقد جئتكم لأحدثكم في أمر هام جدا ...
إنه يعلم بهذا الأمر، وعما قليل يعلم أبوه بالفضيحة؛ ها هو الشيطان يقترب، لقد رفع طرف الطاولة ومرق إلى الدكان، لا يفصله عن قبضة يده شبر! أية حماقة جعلته يعتدي على نفيسة؟ ليته يمهله حتى يرفض الزواج ويصلح خطأه، ومال حسن على المكتب معتمدا حافته بكلتا يديه، وردد بصره بين الأب والابن، وسلمان مطرق في توقع مروع للضربة المتجمعة، وقال حسن: علمت أن زواج سلمان قريب؟
فقال عم جابر: إن شاء الله، العقبى لك. - وليلة الفرح؟ - قريبا جدا إن شاء الله. - فنقر حسن بإصبعه على المكتب وقال بجرأة: نحن جيران يا عم جابر، وأحسبني خير من يحيي هذه الليلة!
واتسعت عينا سلمان الصغيرتان؛ إنه لا يصدق أذنيه، ألهذا الغرض جاء؟ كيف غاب عنه أن نفيسة تفضل الموت نفسه على البوح بسرها لهذا الأخ الجبار! وندت عنه ضحكة، وأردفها بأخرى ثم انفجر ضاحكا ضحكا عصبيا لم يتمالك معه نفسه حتى التفت حسن وأبوه نحوه في دهشة وإنكار، وسرعان ما أمسك. ثم خاطب حسن قائلا في أريحية وسرور: لا كانت الليلة إن لم تحيها أنت.
وابتسم حسن في رضا، وخاف الأب عواقب هذا الوعد الأحمق، فقال: على العين والرأس يا سي حسن، لا يمكن أن يوجد مانع من ناحيتنا، ولكنني أخشى أن يكون لوالد العروس رأي آخر.
فرمقه حسن بريبة ثم قال: الرأي رأي والد العريس.
فقال عم جابر برقة: أنت من نفضل يا سي حسن، ولكن أمهلني حتى أشاور عم جبران التوني.
فتفكر حسن مليا، وقد أخذ دم الغيظ يجري في عروقه، ثم قال بلهجة ذات معنى: شكرا لك يا عم جابر، ولكني أحب أن أذكرك بالفوائد التي تقترن بإحيائي ليلة الفرح، وأهم هذه الفوائد في نظري أن شخصا مهما بلغ من القوة والشر لن تحدثه نفسه بالاعتداء على الحفلة كما يحدث كثيرا.
فلاح الاهتمام في وجه الرجل العجوز، وأدرك بسهولة ما وراء هذا الكلام الطيب من الوعيد، ونظر في وجه الشاب المخيف مبتسما، وتساءل في لين ورقة وابنه يتابعه فاغرا فاه: لا تخلو ليلة من حفلة فرح تمر بأمن وسلام.
فضحك حسن ضحكة غريبة وقال: يوجد كثيرون لا هم لهم إلا الشر والاعتداء، وهم يتصيدون الأفراح عادة للنهب والاعتداء ...
فقال العجوز بحذر: كان هذا في الزمن الغابر، أما الآن فلعلهم يخافون الشرطة.
فقال حسن وهو يهز رأسه مبتسما: إنهم لا يحسبون للشرطة حسابا، وينتهون من عدوانهم عادة قبل حضور الشرطة، وما أيسر عملهم الذي يتوجه بادئ الأمر إلى تحطيم المصابيح، فإذا انقلب الفرح ظلاما وركب الخوف النفوس أتم المدعوون عملهم وهم يتخبطون في الظلام لا يدرون أين تقع أرجلهم، فتنهار الزينات وتنقلب المقاعد ويندلق الطعام، وتسرق الملابس، ويصاب أهل العروسين بجروح خطيرة. وإذا انجابت موجة الشر يجد القوم أنفسهم أشد حاجة إلى رجال الإسعاف منهم إلى رجال الشرطة، وأين الفاعل؟ مجهول! وإذا أرشد إليه أحد عرض نفسه لخطر أكبر يحول القضية من محكمة الجنح إلى محكمة الجنايات، وأعطني عقلك؛ ما جدوى العقاب على فرض نزوله بالجاني بعد ضياع الأنفس والأموال؟
وأنصت عم جابر بانتباه، وفي تشاؤم ثقيل، وشعر بعجزه حيال الشر الماثل أمامه الذي يعرف من سيرته ما يعرف الجميع، ولم يدر كيف يدفعه؛ فتعزى قائلا إنه على أية حال يحسن الغناء لدرجة لا بأس بها، وابتسم الرجل ابتسامة باهتة وقال: مهما يكن من أمر هؤلاء الأشرار فلن تسول لهم نفوسهم الاعتداء علينا وأنت مطرب ليلتنا!
فابتسم حسن في ارتياح وقال: إنك رجل كريم يا عم جابر، ولعل الأيام تسعدني بإحياء فرحك أنت إذا نويت الزواج مرة أخرى.
فضحك سلمان ضحكة من ينعم بلذة النجاة بعد الخطر المحقق، أما الأب فابتسم ابتسامة صفراء وغمغم: عفا الله عنك ...
وسعل حسن سعالا مصطنعا، وقال بلهجة جديدة ودون تلعثم: لا أحب أن أطيل عليك. آن لي أن أذهب شاكرا بعد قبض مقدم الأتعاب.
فقال العجوز بجزع: الآن؟! - خير البر عاجله؛ لست إلا مغنيا متواضعا لا تتعدى أتعابه - هو وتخته - الخمسة جنيهات، وأقنع الآن بجنيه واحد.
وصمت الرجل متحيرا حينا، ثم قال لنفسه: «الأمر لله من قبل ومن بعد.» وفتح درج المكتب وتناول جنيها ووضعه على المكتب فأخذه حسن وذهب وهو يقول: ربنا يتم بالخير.
35
جاء الترام فركبت نفيسة وتبعتها على الأثر صاحبة البيت، أرادت المرأة أن تصحبها إلى بيت عم جبران التوني لتقدمها إلى آله بنفسها، وقد أخذت نفيسة زينتها، وصنعت من وجهها خير ما يمكن أن يصنع منه، وارتدت أحسن ما عندها من الثياب، ولم يكن يغيب عن شعورها لحظة واحدة ما في رحلتها من غرابة. وقد قالت لنفسها كثيرا إنه من الجنون أن تذهب إلى هذا البيت، ولكنها لم تدر كيف تنبذ هذه الفرصة السعيدة التي فرحت بها أمها أيما فرح. والحق الذي لا مرية فيه أن حديثها لنفسها هذا لم يعبر عن حقيقة رغباتها، أو أنه دارى هذه الرغبات مداراة لم تخف عنها، كانت تود رؤية العروس مهما كلفها هذا من عناء، وكانت رغبتها من القوة والتغلغل بحيث لا يمكن مقاومتها. وليس يمكن القول بأنها كانت تريد أن تقيس جمالها بجمالها؛ فهي تعلم بالبداهة أنها - العروس - أجمل منها، وليس في هذا من جديد، ولكن على رغم وضوح هذه الحقيقة ظلت رغبتها في رؤية الفتاة مشتعلة لا تقاوم، وكأن رباطا وثيقا يصل أسبابها بأسبابها، ويقرن مصيرها بمصيرها، ولم تكن أفاقت من أثر الصدمة العنيفة التي هرست نفسها وجسدها هرسا، ولكن انقضاء أيام أخمد الثورة الهائجة، في ظاهرها على الأقل، وأحل محلها مرارة سامة ويأسا مميتا، وشعورا معذبا بالوحشة، كأنها غريبة بين أهلها، شاذة عن المخلوقات، إلى إحساس بالظلم طاغ بعث في نفسها رغبتين متناقضتين تناوبتاها تناوبا متواصلا؛ رغبة في التمرد والجموح، ورغبة في الاستزادة من الظلم والتعذيب حتى الموت، وقد ركبت الترام وهي على هذه الحال، وتلهفت على اللقاء القريب وهاتان الرغبتان المتناقضتان تتعاورانها. وغادرتا الترام بعد محطات أربع، واتجهتا إلى شارع الوليد، ثم مالتا إلى عمارة كبيرة تقوم في أسفلها بقالة عم جبران التوني، وصعدتا إلى الدور الثاني، ودخلتا شقة به، واستقبلتهما سيدة في الخمسين متوسطة القامة مفرطة في السمنة، بيضاء البشرة، فدخلن جميعا حجرة الاستقبال، وما إن استقر بهم المجلس حتى قالت الست زينب - صاحبة بيت نفيسة: هذه ست نفيسة، وستشهدين لها بالمهارة والذوق.
فقالت السيدة: حدثتنا ست زينب عنك كثيرا، أهلا وسهلا.
وآلمها الثناء كأنه سب وهجاء، وأغاظها وأحنقها لسبب لا تدريه، وتزعزعت ثقتها في أعصابها أن يفلت زمامها من يدها. أما السيدة فمالت نحو باب الحجرة ونادت بصوت مرتفع «عديلة» ودق قلب نفيسة، ورجحت أنها تنادي العروس وخيل إليها أنها تسمع سلمان وهو يهتف بهذا الاسم، وخالته يضمها إلى صدره وقد أذهلته حرارة العاطفة وراح يقول لها بصوته المتهدج «عديلة، أحبك، أحبك أكثر من الدنيا والآخرة معا»، فهذا قوله عادة إذا أذهلته حرارة الإحساس. وهو قول كاذب أو هكذا كان بالنسبة إليها، والغالب أن الدنيا كذبة كبيرة. وتوجه رأسها نحو الباب، متألمة قانطة حانقة، وعندما سمعت وقع أقدام آتية داخلها إحساس آخر بالخوف فودت لو كان بوسعها أن تختفي، ولعله كان إحساسا عارضا سطحيا. وجاءت فتاة في مقتبل العمر، متوسطة القامة كأمها بيضاء البشر، بيضاوية الوجه، كبيرة القسمات، ولكن في تناسق حسن، بيد أنها سمينة لحد الإفراط. وتساءلت نفيسة في نفسها كيف تصير إذن إذا تزوجت! واضطربت في أعماقها ضحكة ساخرة متوترة، لم يتح لها التنفس. وذهب عنها الخوف العارض، وشعرت باضطراب عصبي بذلت جهدا شديدا للتغلب عليه، وتم التعارف وتبادل السلام دون أن تنبس؛ خشية أن تخونها نبرات صوتها. ولدغتها الغيرة فمزقت قلبها شر ممزق؛ هذه التي سلبت رجلها، رجلها دون غيرها بعد ما كان، فلا توجد امرأة لها مثل ما لها عليه من حقوق، فكيف تكون هذه الجاموسة عروسة، وتكون هي الخياطة التي تعد لها ثياب العروس؟! من أجل هذا تستحق الدنيا أن تكون طعمة للنيران، ولن تكون أحمى من النيران التي تلتهم قلبها. رباه! كيف تستطيع العمل بهذه الأعصاب المريضة؟! وغادرت المرأتان الحجرة تاركتين الفتاتين معا. وجاءت خادم بالأقمشة ووضعتها إلى جانب نفيسة على الكنبة، فوجدت مهربا من أفكارها وراحت تتفحصها باهتمام ظاهري، وعيناها المنكستان تسترقان النظر إلى قدمي العروس، وسألتها العروس قائلة: هل سبق أن خطت ثياب عرائس؟
ورفعت إليها عينيها فيما يشبه الدهشة، كأنها لم تكن تتوقع أن توجه إليها خطابا وقالت باستهانة: كثيرا جدا ... - أظن هذا يجعل العمل يسيرا عليك. - لا أجد فيه أثرا لصعوبة.
كانت إجابتها تعبيرا عن إحساس بالتمرد والثورة، يتجمع في أعماقها لم تعبأ معه بالحقيقة والواقع، وصمتت العروس هنيهة، ثم عادت تسألها قائلة: هل تسكنين في عمارة ست زينب؟
فقالت مدفوعة بالإحساس نفسه: نعم، منذ أعوام طويلة. كان المرحوم أبي موظفا بوزارة المعارف. - أخبرتنا بهذا ست زينب، ألا تعرفين أن بقالة العريس قريبة من عمارتكم؟
ووجدت شكة دامية في قلبها، وخفضت عينيها أن ترى الأخرى ما ارتسم فيهما، ثم تمتمت: تعنين عم جابر سلمان؟ - هو نفسه. العريس ابنه، ألا تعرفونه؟ «أعرفه أكثر منك! لن تعرفيه مثلي قبل أشهر، وستجدينه حيوانا وغدا.» قالت: نعرفه حق المعرفة. ألم تريه؟ - قابلته هنا مرة واحدة.
وسألتها بدافع لم تستطع مغالبته: هل أعجبك؟
فضحكت ضحكة كرهتها على إثر سماعها أضعافا، وقالت: كانت الحجرة مزدحمة بالمدعوين، وأنت تعرفين هذا الموقف طبعا!
فقالت بلهجة باردة: لست أعرفه.
فضحكت العروس قائلة: دعيني أسألك أنت التي تعرفينه حق المعرفة، ما رأيك فيه؟
ودهمها السؤال، لم تكن تتوقعه! وانهارت القوة التي تغالب بها أعصابها، انهارت بغتة كأنما انفجرت فيها قنبلة خفية، واجتاحتها موجة طاغية من التمرد والجموح والجنون، فقالت بصوت غريب: ليس هو من النوع الذي يعجبني.
وغاضت آثار الضحكة في عيني العروس، واتسعت عيناها في دهشة وإنكار، وجعلت تنظر إلى نفيسة لحظة ساهمة واجمة، كأنها لا تصدق أذنيها، ثم تساءلت بغرابة: حقا؟! ترى ما النوع الذي يعجبك؟
فقالت ببرود دون أن تفارقها هذه الروح الجنونية: دعك من هذا، المهم أن يعجبك أنت، أليس كذلك؟
فقالت ولما تفق من دهشتها: أظن هذا. - مبارك عليك.
ولكن الفتاة لم تقبل أن ينتهي الحديث عند هذا الحد؛ أفاقت من دهشتها وكبر عليها قول الأخرى فثار بها الغيظ، وقالت متسائلة في تهكم: وزبوناتك الأخريات من العرائس ألم يكن أزواجهن من النوع الذي يعجبك؟
وأدركت نفيسة ما في قولها من التهكم والتحدي، فتمادت بها روح الشر التي ركبتها واندفعت قائلة وكأنها تلقي عبئا ثقيلا عن كاهلها: جميعهم جديرون بالإعجاب حقا؛ فهم موظفون محترمون!
فاستنكرت العروس هذه الوقاحة التي لم تكن تتوقعها، وتساءلت بغضب: ألا يكون الإنسان محترما إلا إذا كان موظفا؟
فقالت نفيسة بصوت مرتعش النبرات أعياها التحكم فيه: أعتقد هذا.
فصرخت العروس قائلة: وإذا كان خياطة؟
فقالت نفيسة بحقد وغضب: لا علي أن أكون خياطة، إخوتي طلبة مثقفون، وكان أبي موظفا محترما. - حقا لا يستاهل الرحمة كل المساكين ما دام يوجد بينهم من هو في قلة أدبك! - لا يدهشني هذا السباب من ابنة بقال.
فهبت العروس واقفة وهي تنتفض غضبا وصاحت: يا مجرمة، يا قليلة الأدب، اغربي عن وجهي قبل أن أدعو الخدم ليرموك خارجا.
ونهضت نفيسة فاقدة الوعي، وتناولت بقجة الأقمشة، وقذفتها في وجهها فانتشرت الحرائر على كتفي العروس وتحت قدميها، وتلوت على الأرض في ألوانها الزاهية، ثم غادرت الحجرة مهرولة وصراخ الفتاة ينطلق وراءها بأقذع أنواع السباب، وتركت الشقة في لهوجة الفرار. وتراخت أعصابها المتوترة وداخلها ارتياح غريب، وكاد يغلبها الضحك. ولكن هذا لم يدم طويلا فسرعان ما انقلبت واجمة متفكرة، وبدا لها سلوكها على حقيقته. «ما هذا الذي فعلت؟ سيقولون كل شيء لست زينب، وستقول هذه بدورها كل شيء لأمي، لا بد أن تغضب أمي، وستحزن كثيرا على الربح الذي أضعت بحماقتي. ولكنني أقول لها إن العروس خاطبتني بعجرفة، وأهانتني بلا سبب حتى ثرت لكرامتي، وإذا لم تقبل عذري أبث شكواي بصوت مرتفع ليبلغ مسمع حسنين، فيغضب لغضبي ويثور لكرامتنا، وينتهي كل شيء. هذا حسن! ولكن كيف اندفعت إلى هذا! أي جنون! لم يكن في نيتي شيء من هذا فكيف حدث؟ وضاع عمل مربح، ولكن لا داعي للأسف، لدي عمل لا بأس به في هذا الشارع نفسه، لست آسفة على ما وقع.» وانتهت إلى شارع شبرا ولم يعد يرى من شعاع الشمس إلا أثر خفيف في أعلى الدور. وسارت على الطوار في اتجاه المحطة، فمرت في طريقها بجراج لإصلاح السيارات، وكانت غائبة عما حولها في تيار أفكارها، فما تدري إلا وشخص يعترض سبيلها وهو يقول «أهلا وسهلا.» ورفعت رأسها فرأت شابا ذا بنطلون وقميص خاكيين، مشمرا عن ساعديه، يدل مظهره على أنه من عمال الجراج، فألقت عليه نظرة شذراء وتنحت عن موقفه، ولكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال: حلمك يا ست هانم، انظري إلى يسارك، هذه السيارة ملك العبد لله، وهي على قدمها تستطيع أن تحملنا إلى أي مكان شئت، محسوبك محمد الفل، صاحب هذا الجراج ولا فخر!
فصاحت به: ابعد وإلا ناديت العسكري.
فضحك الشاب وقال: لا داعي لذلك؛ أنا أحب النسوان، ولا أحب العساكر.
36
في الأسابيع التالية أدى الشقيقان امتحان النقل في ختام العام الدراسي، وكلل اجتهادهما بالنجاح فانتقل حسين إلى السنة الخامسة، وحسنين إلى السنة الرابعة. كانا يعلمان أنه لا بد لهما من النجاح، وأن حال الأسرة لم يعد يحتمل العثرات، فواصلا العمل بعزيمة صادقة، وجاءت النتيجة كما يحبان. وبدأت العطلة الصيفية التي تمتد حوالي الخمسة الأشهر، فاستجدت متاعب جديدة للأم تتعلق بغذاء الشابين، وكانت الأم وابنتها تقنعان بأبسط الطعام، وتعتمدان في الغالب على ما تجلبان من السوق من طعام جاهز؛ اقتصادا لنفقات اللحم والسمن والوقود، فوجدت المرأة نفسها مضطرة إلى تعديل هذا النظام القاسي مهما كلفها الأمر من عناء وتدبير. وهكذا لم يسر أحد بالنجاح إلا قليلا، وبدت الحياة وكأنها تزداد مع الأيام تجهما وتطالعهم بعبوس بعد عبوس. وفي ذات مساء جاء حسن بعد انقطاع دام ثلاثة أسابيع متواصلة، وأقبل على أسرته ضاحكا، كعادته، وكثيرا ما يداري بضحكه حرجه وارتباكه، وقال: مساء الخير يا أمي، مساء الخير يا أولاد، أوحشتموني كثيرا.
ورد إخوته التحية وهم يرمقونه بدهشة، أما أمه فلبثت تنظر فيما بين يديها معلنة على سخطها بالصمت والتجاهل. بيد أنها عدلت عما كانت تلقاه به من التعنيف والحساب، أو الحث على العمل؛ هيهات أن يجدي الكلام بعد ما كان! وألح عليها الحزن الذي يغشى نفسها كلما فكرت في أمره أو وقعت عليه عيناها. حتى السؤال عن غيابه الطويل لم يخطر لها على بال، وإنها لتعلم سلفا بما أعد - طبعا - من جواب؛ سيقول بصوت مؤثر إنه يختفي حتى يوفر عليها نفقة إطعامه وإيوائه، وإنه لا يني البحث عن عمل ... إلخ. أما إخوته فالحق أنهم سروا برؤيته بعد اختفائه الطويل؛ كانوا يحبونه كما كان يحبهم، وسألته نفيسة: حمدا لله على السلامة، أين كنت طوال هذه الأسابيع؟
وخلع الشاب سترته وطرحها على المكتب، ثم جلس على الفراش وقال باسما: أكل العيش يحب التعب! (ثم ملتفتا إلى أمه) أبشري يا ست أم حسن، أخذت تفرج!
فرفعت الأم رأسها ونظرت صوبه بريبة واهتمام معا، ثم تمتمت في شيء من الأمل: حقا؟!
فضحك سرورا بإثارته لاهتمامها بعد ما لاقى من تجاهلها وقال: سبق أن أخبرتكم بأن الأستاذ صبري ضمني إلى تخته.
فتنهدت الأم في جزع وقالت: لا أعتقد أن هذا عمل جدي. - لقد دعي الأستاذ منذ أسبوع إلى إحياء ليلة فرح ببولاق، وذهبت معه لقاء ريال غير العشاء طبعا. إني أعلم أنه مبلغ تافه، ولكن الرزق دأبه التمنع بادئ الأمر.
فقالت الأم في ضيق: أتوسل إليك للمرة الألف أن تبحث لك عن عمل جدي لخير نفسك، إن لم يكن لخيرنا نحن، ما عسى أن أقول يا حسن؟ ألا تعلم بأننا لا نكاد نشبع أبدا؟
وخفض عينيه في ارتباك، كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة التي يخفق بها قلبه، ولعلها الأثر الوحيد الذي تركته أمه في خلقه، وغمغم قائلا: صبرك، لم أفرغ كلامي بعد.
وهنا قاطعه حسنين قائلا: أتظن أن علي صبري هذا يمكن أن يكون يوما مغنيا حقا؟
فرفع حسن حاجبيه الكثيفين في إنكار، وأراد أن يزيل أثر حديث أمه فقال في مرح: سفخص على هذا البلد الذي لا يقدر! الأستاذ صبري فنان كبير. إن «يا ليل» منه شفاء ودواء. هل سمعته وهو ينتقل من البياتي إلى الحجاز، ثم يعود إلى البياتي؟ لم يفعل هذا إلا الحمولي، وسلامة حجازي مرة أو مرتين. أما محمد عبد الوهاب فإذا خرج من البياتي فقل أن يعود إليه إلا في حفلة تالية. وليس يعيبه أنه أحيا ليلة بجنيهات معدودات؛ فلا يزال في أول الطريق، والتاريخ يحدثنا بأن من كبار الفنانين من أحيا أولى لياليه لقاء بضعة أرغفة!
وضحك إخوته لهذره، أما الأم فتنهدت قائلة: سلمت أمرك لله!
فألقى عليها نظرة من عل وقال: لندع حديث الفن جانبا، المهم أن تعلمي أني سأحيي حفلة عرس غدا. - في تخت علي صبري؟ - وحدي! سأحييها بنفسي!
ونظرت الأم نحوه بإنكار، وسألته نفيسة: أأصبحت مطربا حقا؟ - يحدث أحيانا أن يختار أحد أفراد التخت من المشهود لهم لإحياء حفلة كمطرب؛ خطوة لها ما بعدها!
وسألته أمه بلهجة لا تخلو من تهكم: ومن الذي دعاك لإحياء ليلته؟! - عم جابر سلمان لإحياء زفاف ابنه سلمان.
وخفضت نفيسة عينيها وقد خبا حماسها، وران على نفسها كدر خانق.
ودهشت الأم وخاطبت حسن متسائلة وهي تومئ إلى نفيسة: بعدما حدث؟!
فضحك حسن قائلا: تم الاتفاق بيننا قبل معركة ست نفيسة في بيت العروس، ولم يجرؤ الرجل على خرقه!
وساد الصمت قليلا، والأعين تحدق فيه في غير تصديق، كان في صوته حلاوة، ولكن ليس للدرجة التي تجعل منه مطربا. وأخيرا سألته أمه في حيرة: أحقا ما تقول؟ - نعم ورحمة أبي. - أجر؟! - خمسة جنيهات، لك منها جنيه كامل.
وسكت حتى تغلغل أثر كلامه في النفوس، ثم ردد عينيه بين شقيقيه وتساءل: ما رأيكما في أن تعملا معي سنيدين في التخت، وكلاكما ذو صوت لا بأس به؟!
وانفجر الشقيقان ضاحكين، وواصلا ضحكهما، حتى قال: يا لكما من غبيين! هذه فرصة نادرة للاشتراك في البوفيه الحافل بما لذ وطاب من المآكل والمشارب.
ولم يكف الشابان عن الضحك في استهزاء، ولكن تمثل لعينيهما منظر المائدة، وقد صفت عليها الأطباق، وراح خيالهما يثب من طبق إلى طبق، في عجلة وبلا رحمة، حتى صاحت به نفيسة بحدة وغيظ: أتريد أن تجعل من شقيقيك متسولين في بيوت البقالين؟
فقهقه الشاب قائلا لأخته: إني أدرك سر تغيظك يا ست نفيسة؛ فإن اعتداءك على العروس حرمك حق الدعوة إلى هذه الليلة، ولكن ما ذنب هذين المسكينين؟! ليس الأمر لهوا ولعبا، ولكن طيورا ولحوما، وفطائر وخضرا، وفاكهة وحلوى ... ففكرا ثم فكرا.
ولم يجد لدعوته من صدى فهز منكبيه استهانة ولم يعد الكرة. كان حسن النية وأراد لأخويه خيرا، ولكن حماقتهما ضيعت عليهما هذا الخير؛ هكذا قال لنفيسة في أسف. ولم يشاركه الشقيقان أسفه، ولكن نفسيهما اهتزتا في حنان لذكر الطيور واللحوم، والفطائر والخضر، والفواكه والحلوى، ونشط خيالهما في حسرة وألم زاد من شدتهما اقتراب وقت العشاء الذي يندر أن تعترف به أمهما. لم يكن للأسرة عشاء عادة، وكانوا يتحامون أن يجهروا بالجوع؛ أن يضاعفوا من تعاسة أمهم وسخطها، فلاذ الشابان بالتخيل دون أن ينبس أحدهما بكلمة، على حين عكفت نفيسة على أفكارها، وهي أبعد ما تكون عن لذة الطعام ولذة الحياة عامة. ردها حديث حسن إلى أشجانها ويأسها ومخاوفها، وتساءلت في دهشة: أحقا يحيي حسن - شقيقها - ليلة الزفاف؟!
37
وحوالي التاسعة من صباح اليوم التالي لليلة الزفاف، كان حسن يسير في ميدان الخازندار، متجها إلى كلوت بك، حيث دعاه الأستاذ صبري إلى مقابلته، وكان متعبا عقب سهرة الأمس التي لا زالت ذكرياتها تدور برأسه، كانت ليلة! وكان جريئا ليس كمثل جرأته شيء، وقد شق طريقه في السرادق الذي أقيم على سطح بيت عم جابر سلمان بقدمين ثابتتين حتى بلغ المنصة بين أيد تصفق وحناجر تهتف للمغني الجديد، ورد تحياتهم برزانة وجلس وسط تخته المكون من عواد وقانونجي وكمانجي، عملوا معه كعازفين وسنيدة معا، ثم غنى «قد ما أحبك زعلان منك». وما لبث أن لمس بنفسه الفتور الذي استحوذ على الجميع، ولكنه واصل الغناء دون مبالاة، وأكثر من الشراب، وعند بدء الوصلة الثانية تصايح كثيرون يطلبون «في الليل لما خلى» ولم يكن يحفظها، فغنى «بستان جمالك»، وسرعان ما انقطعت الأسباب بين المدعوين والمطرب؛ هذا يذبح صوته بغناء لا غناء فيه، وأولئك يشربون ويضحكون، ثم بلغ الحرج غايته حين وقف سكران مترنحا، وقال بلسان ثقيل موجها خطابه للمطرب: والله لو لم تكن فتوة لقلت لك اسكت.
وعرفه حسن؛ كان حدادا في أول عطفة نصر الله، وتوعده شرا، ولكنه واصل غناءه «والله زمان زمان والله، والله زمان زمان والله»، ذكر هذا ضاحكا وهو يحث خطاه ثم قال لنفسه: «ما كان كان. لا داعي للأسف ما دمت قد انتزعت الخمسة جنيهات.» وليس هذا فحسب، وهل يمكن أن ينسى البوفيه؟ لشد ما أبلى فيه بلاء حسنا، وقد بلغ القمة حين ازدرد حمامة بعظامها. لم يكن أكلا، ولكن كان التهاما وخطفا، وسلبا وعراكا، وبلغت المعركة ذروتها حين فرغت صحيفة اللحم البقري فما كان منه إلا أن قبض على يد المدعو الذي يليه واستصفى ما فيها من شرائح. أما حسن الختام فكان عقب انتهاء الحفلة وقد التف حوله أفراد التخت يطالبونه بأجورهم فقال لهم ببساطة: أليس حسبكم ما التهمتم من طعام؟ - والأجرة؟!
فقال بوحشية: خذوها بالقوة إن استطعتم!
وانفصلوا عنه ساخطين غاضبين يائسين. شيء واحد أسف له أشد الأسف؛ هو أن أسرته لم تشاركه طعامه الشهي، أمه ونفيسة وحسين وحسنين. وكان بوده أن يعطي أمه فوق ما أعطى، ولكن تشرده الطويل علمه الحرص. على الأقل ما دامت هذه الحال. وها هو يقصد كلوت بك، بل درب طياب بالذات حيث ينتظره علي صبري الذي مناه بضروب من العيش توافق مزاجه وتلهب حماسه. وكان علي صبري قد أخبره بأنه ينتظره في قهوة وسط الدرب أمام بيت زينب الخنفاء، فارتقى السلم المفضي إلى الدرب، وحث خطاه بين بيوت مغلقة لم تستيقظ بعد، وجد الدرب كالمقفر حتى المقاهي الصغيرة كان عمالها ينفضون عنها رماد سهرة الأمس. وبلغ وسط الدرب ورأى الأستاذ علي صبري جالسا أمام باب القهوة، فاتجه إليه وسلم وجلس على كرسي إلى جانبه. لم تعد قهوة كما كانت يوما ما، ولكنها باتت مشروع قهوة جديدة إذا صدق ظنه؛ فبعض العمال يعكفون على تبييض الجدران وإعدادها للحال الجديدة، قال علي صبري مزهوا: هنا حيث تراني جالسا سنبدأ حياة جديدة.
فتولت حسن الدهشة لأنه لم يكن سمع عن هذا المشروع على كثرة ما سمع عن مشاريعه، وتساءل: والتخت والأفراح؟
فبصق الأستاذ بصقة أصابت جدران بيت زينب الخنفاء أمامهما - وكان لا يزال مغلقا - ثم قال: سيعمل التخت في هذه القهوة، أما الأفراح فربنا يجعلها مآتم! انتهى زمان الأفراح، ولا نسمع الآن إلا عن «حفل عائلي اقتصر على آل العروسين»، والراديو احتكرته أم كلثوم وعبد الوهاب، وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، وهيهات أن يكون لنا عيش في هذا البلد!
فقال حسن متظاهرا بالاستياء: صدقت يا أستاذ (وسكت لحظة ثم تساءل) ولكن ماذا يفعل التخت هنا؟
فمد الأستاذ ساقيه فبلغتا منتصف الطريق الضيق، وقال مشيرا إلى القهوة التي يعدها العمال: إليك قهوة بالنهار، وحانة بالليل، وسيرقص فيها نسوان الست زينب الخنفاء - وهي على فكرة شريكتي - وبين ساعة وأخرى أغني، مجال العمل واسع، والرزق مضمون، ولكن عليك بحفظ أغاني عبد الوهاب يا حلو! - لا أكاد أحفظ منها شيئا! - لا بد مما ليس منه بد. وطقاطيق أم كلثوم أيضا، هذا حكم الزمان!
فقال حسن ضاحكا: ربنا معنا.
فقال علي صبري باطمئنان: إني متفائل خيرا، هذا المكان مبارك، وهو أصل ثروة محمد العربي نفسه.
وتساءل حسن من أين للأستاذ الثروة التي يبدأ بها هذه الحياة الجديدة؟ زينب الخنفاء؟! هي فوق الأربعين على أحسن الفروض، وليس بها من جمال فيما عدا جسمها البقري، ولكنها لقية وذات ساعدين مثقلتين بالذهب، لا داعي للحسد ما دام سيحظى بنصيبه من هذه الثروة! فرجت، ولعل ليالي التسكع والجوع قد غارت إلى غير رجعة، ثم سمع الأستاذ يقول: ولكن عملك كسنيد ثانوي بالقياس إلى ما ينتظر منك! - وماذا ينتظر مني؟
ألقى سؤاله بثقة وزهو كأنه عالم حقا بما ينتظر منه، فقال الأستاذ: إنك أدرى الناس بهذه الأحياء؛ ففي كل متر مربع بلطجي أو برمجي أو سكير عربيد، فمن لهؤلاء؟ أنت! وهناك المخدرات، وتجارتها فن هائل يتطلب مهارة وقوة وجرأة فمن لها؟ أنت!
وابتسم حسن ابتسامة عريضة، ظلت مرتسمة على شفتيه طويلا، وداخله سرور وحماس وفخار، هذه هي الحياة حقا، حياة تدب تحت مهاوي النبابيت ومساقط الكراسي، وفي دهاليز الغرز، حيث السماء ذهب والأرض أشواك، والطريق مشارب شتى يفضي بعضها إلى اللذة والعزة وبعضها إلى السجن والموت؛ فها هنا وطنه ومراحه، وما هو بالغريب في هذا الدرب المتعرج المتلاطم الشرفات، حيث تختلط آهات الدلال بعواء العربدة، وأريج البخور بعرف الخمور، وسباب المتعاركين بقيء المخمورين، إلى غناء وعزف وقصف. بوسعه أن يقضي بين أحضانه أعمارا دون ملل، يأكل ويشرب ويربح، ويسكر ويحشش ويغني. وأشرق وجهه بنور الأمل، وألقى على ما حوله نظرة؛ كان السكون يتبدد تحت وقع أقدام القادمين؛ فهذه ضحكات ممطوطة، وأرداف متأرجحة، ونظرات فاجرة عارمة. وفتحت الأبواب وأحرق البخور، وصفت المقاعد، وطقطقت ضحكة ولعلعت أخرى ... صباح الخير!
38
قال حسنين بتأثر: شكرا للصيف!
فتساءلت في حياء وهي تدري ما يعني: لماذا تشكر الصيف؟ - لأنه جردك من معطفك السميك، فتبديت في فستان حلو يجلو محاسنك ومفاتنك!
فتورد وجهها، وقطبت تداري لمعة السرور الذي يبعثها الثناء، وقالت: ألم أنهك عن هذا؟! لا تفتأ تتمادى فيما يضايقني!
وأصغى إليها وعلى شفتيه ابتسامة حائرة، وعيناه تلتهمان جسمها البض بارتياح؛ فستان مؤدب محتشم، ولكنه على تحفظه يكشف عن الساعدين، وأسفل الساقين، والعنق الرقيق الشفاف، ويشي بقسمات الجسم اللدن المدملج. ثم علق بصره بالمشربية الدقيقة المكورة فوق الصدر، صورتها الخياطة حقا لثديين ناهدين يكادان لشدة نهوضهما يطيران، لولا ما يمسكهما من صدر أبيض صاف، تخيل أنه يدغدغهما بأنامله فانبعث في جسده قشعريرة الرغبة، وتخيل أنه يشد عليهما وأنهما يقاومان الشد بصلابتهما فازدرد ريقه في ظمأ. ولكنها لا تريد ولا تتسامح، وتصر على عنادها بغير هوادة، وكان يظنها تلين مع الزمن ولم يعد ثمة أمل وقال بحزن: بهية، إنك تتكلمين بقسوة شأن من لم يذق قلبه الحب.
ولاحت في عينيها نظرة اعتراض وقالت: إني أنكر الحب الذي تريد، وإنك تسيء فهمي عمدا. - ولكن الحب واحد لا يتجزأ.
فقالت بإصرار وحدة: كلا، كلا، لا أوافقك على هذا الرأي.
فتنهد في قهر وألقى بنظره إلى الأفق البعيد، كانت الشمس قد توارت مخلفة وراءها هالة حمراء مترامية، أقصاها حمرة دامية، تخف عند الوسط كأنها تقطر من ورد مصفى، ثم تشحب عند أطرافها الدانية حتى تبتلعها زرقة عميقة صافية، تنمنمها هنا وهناك سحائب رقاق كتنهدات وانية، وارتد بصره إلى وجهها وقال برجاء: إني أحبك، وإني خطيبك، وما أريد إلا أن يحظى حبنا بحقه من الحياة البريئة.
فتجلت في عينيها الحيرة، وبدت حينها وكأنها تتعذب، ثم قالت: لا أستطيع ولا أريد.
فابتسم ابتسامة لا معنى لها وقال: إنك تدفعيني إلى أحضان وحشة غريبة لا أطيقها. إني أتحرق إلى أن أطبع قبلة على شفتيك وأن أضمك إلى قلبي، هذا حقي وحق حبنا. - كلا، كلا إنك تخيفني. - ألا تحبينني؟ - لا تسأل عما تعلم. - إني أعجب! ألا تودين حقا أن تنطبع شفتاي على شفتيك؟
فنفخت في غيظ قائلة: يسرك بلا شك أن تغيظني! - وأن تستنيمي إلى دقات قلبي، وذراعاي تشدان على خاصرتك؟
فأعرضت عنه عابسة فقال في ضيق: إذا لم يكن هذا هو الحب فما هو؟
فغمغمت في توسل: كما كنا طوال العهد الماضي. - لقاء وحديث واحتراق؟! - لقاء وحديث فحسب. - تكذبين على نفسك. - سامحك الله. - أو تحبين بلا قلب! - سامحك الله.
فضرب الأرض مغيظا محنقا، وجعل يذهب ويجيء أمامها في حيرة وعبوس، فبدا في وجهها القلق وقالت: أعتقد أنك تناسيت طلباتك المزعجة وطبت نفسا بحياتنا الوديعة اللطيفة، فما الذي ينزع بك اليوم إلى إلحاحك المخيف القديم؟ كن طفلا مهذبا وأمسك عن الإلحاح والطمع، الحب الحقيقي لا يعرف هذا العبث.
فهز رأسه في قهر ويأس وعجب؛ وما أدراها بالحب الحقيقي؟! أي لغز؟! أتحبه حقا؟ لا يسعه أن يشك في هذا، ولكنه حب لا يفهمه، أو أنه لا يستطيع فهمها هي، يا لها من شابة رزينة هادئة؛ عينان زرقاوان صافيتان، ليس فيهما ذرة من شيطنة أو خفة، ولا حرارة، باردتان. ومن عجب أن يكون هذا الجسم الفتان لصاحبة هاتين العينين الهادئتين الباردتين. إن نار الحب لا تروى بالماء، ولكن بنار مثلها أو أشد منها. وهكذا يمضي اليوم كما مضى الأمس وكما يمضي الغد، بلا أمل! وكثيرا ما يبدو له أن حديث الحب يزعجها ويقلقها، وأنها لا تسترد طمأنينتها حتى يثوبا إلى الصمت، أو إلى حديث آمالهما البعيدة، وهي لا تمل الحديث عن هذه الآمال، وبه تنسى نفسها والزمان والمكان، فتشع عيناها نورا بهيجا، وتتدفق في أطرافها حيوية جديدة. وفي هذه الساعة يحبها بمجامع قلبه، بيد أنه حب لا يخلو من تكدر، أو من غيظ وحنق في بعض الأحيان، وينقلب متسائلا لماذا لا ينشرح صدرها أيضا بالحب نفسه؟ لماذا تخافه وتجفل من ذكره وإشارته؟ وإلام يبقى هذا الحجاب قائما بينه وبينها؟! وتفرس في وجهها طويلا فيما يشبه الحنق، ثم تساءل: هل أكابد هذا الحرمان إلى الأبد؟
وابتسمت - على رغمها - وقد زادت الابتسامة من حقده وقالت: ليس إلى الأبد.
وشعر برجفة في قلبه، ورنا إليها لا يحول عنها عينيه، ثم قال باقتضاب: الزواج؟!
فخفضت عينيها حتى لم يعد يرى إلا جفنين منسدلين وخدين موردين، وحينذاك شبت بنفسه رغبة في الانتقام والإيذاء، ولو باللسان، فقال: وإذا تم الزواج بذلت لي ما تتمنعين عنه بنفس راضية، أليس كذلك؟ تهبينني شفتيك وصدرك وجسدك، وتنزعين عنك ثوبك فتبدين عارية كالبلور.
ولكنها كانت قد غادرته كأنها تفر وحثت خطاها نحو باب السطح. وكانت الكلمات تقذف من فيه بحرارة وحنق وتشف.
39
أصبحت قهوة علي صبري ملهى صغيرا بما تحفل به من غناء ورقص وخمر، وقد ركبت على هامتها لافتة كبيرة سطر عليها بالخط العريض «علي صبري». وأقيمت في نهايتها من الداخل منصة للتخت، ونضدت الموائد والكراسي على الجانبين، وبحذاء مدخلها. وكان الأستاذ علي صبري قد انتهى من الوصلة الأولى، وآنس الجلوس بكئوسهم وسمرهم، حين جاء زنجي - طويل رشيق مفتول العضلات يتطاير الشرر من عينيه - فوقف على عتبة القهوة وصاح بصوت وقح مرتفع: أين صاحب القهوة؟
فجاءه الأستاذ علي صبري مداريا دهشته بابتسامة باهتة، وتساءل: أفندم؟
فقال الزنجي بتحد: سمعت أن لديك أقذر خمر توجد في هذه الناحية، ولما كانت الخمر الجيدة لم تعد تؤثر في، فقد قصدتك لأسكر.
وأزاحه عن سبيله بحركة غليظة، واتجه صوب مائدة يجلس إليها نفر من الأفندية فألقى عليهم نظرة وحشية، وقال بلهجة آمرة: أخلوا هذه المائدة!
ولم يسع الأفندية إلا أن ينهضوا صامتين وغادروا القهوة، فجلس الزنجي على كرسي وطرح ساقيه على كرسي آخر، وهو يتفرس في الوجوه بتحد وقحة، واقترب صبي القهوة من الأستاذ علي صبري، وهمس في أذنه قائلا: محروس الزنجي، فتوة رهيب يعرفه الحي كله.
فسأله الأستاذ بقلق: ترى هل يمكث طويلا! - إنه يرتاد ما يشاء من القهوات فيأكل ويشرب، دون أن يجرؤ أحد على مطالبته بثمن شيء مما يلتهمه، ولعله جاء ليعرفك بنفسه، أو لعل ...
وتردد الغلام قليلا، فحثه الأستاذ قائلا: تكلم. - لعل أحد أصحاب المقاهي في الدرب اتفق معه على تخريب قهوتنا!
واختلس علي صبري نظرة من الزنجي فرآه كالنائم، آمنا مطمئنا كأنه في بيته، وقد أخلى الزبائن الموائد القريبة منه، فانقبض قلبه خوفا وإشفاقا، ثم تراجع في سكون إلى منصة التخت حيث يجلس حسن مع بقية الأفراد، وأومأ إليه، ثم انتحى به وراء المقصف، وأسر إليه ما قال الغلام ثم سأله: ألا يحسن بنا أن نستدعي المعلمة زينب الخنفاء لتعالج هذه المصيبة بحكمتها؟
فقال حسن وهو يتفحص عن بعد الزنجي محروس: لا أوافق على أن تستغيث بامرأة. لن تجدي هذه السياسة في هذا الدرب؛ دع الأمر لي. - يقولون إنه فتوة شديد البأس.
فابتسم حسن قائلا: هذا ما يقال عني أيضا، ولكن أهل الدرب لا يعلمون، دع الأمر لي.
وخطر له خاطر فقال لنفسه ساخرا: «ليست أمي وحدها التي تكابد من حياتها المر في سبيل العيش!» ثم قال للأستاذ: ستكون معركة شديدة، لكن هيهات أن يكون لنا عيش هنا بلا معركة ظافرة! - وإذا لم تكن ظافرة! - اعتمد على الله وعلي.
لن يفر من المعركة مهما تكن النتيجة، وهل من سبيل إلى رفع مكانته عند الأستاذ وفي الحي كله إذا تفادى من هذه المعركة؟ ولعل علي صبري على حق في تخوفه؛ فالقهوة قهوته والمال ماله، ولكن مستقبله هو يتوقف على نتيجة هذه المعركة، وفي سبيل هذا فليذهب علي صبري نفسه إلى الجحيم، ولا ينبغي أن ينسى إلى هذا كله فتيات زينب الخنفاء؛ فما من سبيل إليهن إلا بنصر إن آجلا أو عاجلا، فحظه في الحياة، وربما حظ أسرته المنهارة - خطرت له هذه الخاطرة كالمعنى المتداعي - يتوقفان على خوض المعركة.
وتحرك الزنجي محروس وهو يتمطى ويتجشأ، ثم صاح بوحشية: أين الكونياك القذر الذي حدثونا عنه كثيرا؟!
وغادر حسن موقفه في ثبات وهدوء، واقترب من الزنجي بخطو وئيد حتى وقف أمامه، ثم قال بهدوء: سلام عليكم!
فرفع الزنجي عينيه الملتهبتين صوبه في تكبر، وتفحص جسمه الصلب، وعينيه البراقتين بريبة وشر، ثم عبس في حنق فاستحال وجهه هيئة غير آدمية وصاح به: وعليك وعلى أمك اللعنة، ماذا تريد؟
وحافظ حسن على هدوئه الظاهري، وقال بنبرات واضحة: سمعتك تهتف طالبا كونياك، فرأيت من واجبي أن أخبرك أن الدفع هنا مقدم.
فسحب محروس ساقيه من الكرسي أمامه، وأغرق في ضحك طويل مفتعل، وهو يضرب على ركبته من شدة الانفعال، ثم أخذ يهدئ من انفعاله حتى ذهب عنه الضحك، ورمى ببصر هازئ إلى الشاب، وتساءل ساخرا: حامي القهوة؟ هه!
فقال حسن بهدوء: وأحب أن أقول لك أيضا إن هذه المعاملة خاصة بالزبائن غير المحترمين.
ومرت ثوان، وفي أثنائها كان الزبائن القريبون يتدافعون إلى خارج القهوة، وامتلأ الطريق فيما يلي مدخل القهوة بالمارة والنسوة من كل لون وسن، على حين نشط عمال المقصف إلى إخفاء القوارير وما يخافون عليه التلف من الأكواب والآلات الموسيقية وغيرها، وجمد محروس وعلى شفتيه الغليظتين بسمة هازئة، ثم دفع قدمه بغتة بقوة فأصابت ساق حسن اليسرى فمال مترنحا إلى الوراء، كان يراقبه بيقظة وحذر، بيد أنه ركز انتباهه في يديه متوقعا أن يقذفه بشيء أو يشهر عليه خنجرا، فلم يتنبه إلى قذيفة قدمه حتى كانت منقضة عليه، فانكمش متماسكا، وتفادى بهذا من السقوط، ولكنه مال إلى الوراء مترنحا وهو يعض على نواجذه ليتغلب على الألم الذي بعث جنون الغضب في دمه، ولم يدعه الزنجي ثانية واحدة فوثب عليه كمن يثب إلى الماء، وخاف حسن أن يؤخذ فريسة سهلة فأمسك عن مقاومة الميل إلى الوراء وقفز إلى الخلف بسرعة عجيبة فاصطدم بجدار القهوة زائغا من خصمه الجبار ، ولم يسمح له الزنجي بثانية يتمالك فيها توازنه فانقض عليه موجها ضربة إلى بطنه فحال الآخر دونها بيديه، ولكنها كانت ضربة خادعة قصد بها محروس أن يكشف خصمه عن عنقه، وبسرعة البرق قبض بيدين حديديتين على رقبته، وضغط بوحشية ليكتم أنفاسه. وبدا للجميع أن المعركة في حكم المنتهية، ودارت الأرض بعلي صبري، وابيضت وجوه رجال التخت والعمال، وتبادلوا نظرات زائغة لا تخلو من دعوة إلى العمل. ولكن أحدا منهم لم يحرك ساكنا، أما الفتيات فشرعن في الصوات استقبالا للجثة التي ستقع. وتأكد حسن بعد تمكن خصمه من عنقه - وفي بدء غيبوبته - بأنه لا قبل له بفك الحصار القاتل، وأنه مائت لا محالة إذا توانى، فعض على نواجذه وشد على عضلات رقبته ليركز فيها قوته، ثم ثنى ساقه اليمنى وطعن أسفل بطن خصمه بركبته بكل ما تبقى فيه من قوة، وشعر في اللحظة التالية بتراخي قبضة الزنجي حول رقبته، فاستطاع أن يتنفس وهو يرتجف حقدا وحنقا، ثم ثناها بطعنة أخرى، حدث هذا كله في نصف الدقيقة الأولى لمحاولة كتم أنفاسه، وانفك الحصار، وتراجع محروس بوجه تنعقد في عبوسته الضغينة، وعينين تغشى نظراتهما الحمراء سحابة ذهول قاتمة، ولم يضع حسن وقتا مطمئنا إلى سيطرته على الموقف، فانقض على خصمه الذي بذل مجهودا جبارا للتغلب على ألمه ونطحه بجبهته بقوة خارقة في رأسه مرة أخرى، فكان لاصطدامهما طقطقة تقشعر لها الأبدان، دون أن يثنيه عن هدفه ما كال له الآخر من لكمات مزلزلة، وتفجر الدم من رأس محروس، وسال على وجهه كأنه لهب ينبعث من قطران، وبدا وكأنه يترنح من دوار، وتغلب حسن على آلام ساقه وعنقه وصدره، ووجه لعنق خصمه المكشوف ضربة من حافة كفه - كالسكين - فشهق الزنجي وسقط على الأرض غائبا عن الوجود! وقف حسن عند رأس خصمه وصدره يعلو وينخفض، تهزه نشوة الظفر، وتهرس عظامه آلام قاسية أخذ صراخها الباطني يتعالى بعد زوال الخطر. ولعله لو غابت الأعين لارتضى أن يرتمي إلى جانب خصمه، ولكن أقام ظهره الأبصار المتطلعة إليه ، فتجلد وتماسك، وانثال على أذنيه صراخ وغوغاء وضجيج، وشعر بحركة غريبة تسري في القهوة كلها، ثم أحس بيد توضع على كتفه ورأى الأستاذ علي صبري يبتسم إليه بوجه تعلوه صفرة الموت، وسمعه يهمس في أذنه: تعال معي أقدم لك كأسا من الكونياك.
فسار معه دون أن ينبس، وجلس على كرسيه على منصة التخت، وجاء الرجل بكأس مترعة فتجرعها، وطلب أخرى فأحضرها له، ثم قال بإشفاق: لشد ما تعبت!
فغمغم حسن بثقة: كانت معركة لا بد منها.
وجاء النادل يقول ضاحكا: أطلق الناس عليك لقب «الروسي» لأنك صرعته برأسك!
وشعر حسن برغبة في تحاشي الأنظار، فقال لعلي صبري: دعنا نمح أثر المعركة، فابدأ الوصلة الثانية.
40
استعاد حسن توازنه بفضل قوته وحيويته واعتياده العراك يوما بعد يوم، وكان الليل قد جاوز منتصفه بساعة أو أكثر، وأخذت قهوة «علي صبري» تلفظ آخر المترنحين من روادها. وأطفئت الأنوار الخارجية في الدرب فساده شبه ظلام، ومضت البيوت تغلق أبوابها مفتتحة سهراتها الداخلية التي لا تنتهي عادة قبل الفجر، على حين مر شرطيان يهزان الأرض بوقع أقدامهما الثقيلة، وكان حسن يجلس على كثب من علي صبري في نهاية القهوة يعلقان على إيراد الليلة حين قصدهما غلام يعمل نادلا ببيت زينب الخنفاء، فحياهما ثم مال على أذن حسن وهمس باسما: بعضهم يريدك.
وسمع علي صبري ما همس به الغلام فلاح الاهتمام في وجهه وتمتم: امرأة؟!
فقال حسن بعدم اكتراث: أظن هذا. - ألا تفضل مثلي الحب الطياري؟
فابتسم حسن ابتسامة ذات معنى وقال: لكنه حب لا نفع فيه، انتظر وسنرى.
وودع الأستاذ وقام، ثم تبع الغلام إلى البيت الذي يواجه القهوة، وطرق الغلام الباب ففتح عن شق في حذر، فمرق منه الغلام وتبعه حسن، ثم أغلق الباب، ووجد حسن نفسه في مدخل البيت وقد انتثرت على الكنبات بأركانه فتيات، انتحت كل برجل تشاربه وتداعبه، وعلى كرسي في الصدر جلس رجل ضرير ينفخ في الناي، على حين اتخذت المعلمة زينب الخنفاء مجلسها على أريكة عالية ملتفعة بملاءتها السوداء، وعلى وجهها برقع ذو عروس ذهبية كبيرة تخفي به أنفها المتآكل، وألقى حسن على الحاضرين نظرة متفحصة فلم ير فتاة خالية، ولكن الغلام مال إلى الستار المسدل على مدخل السلم وأزاحه ودخل، فتبعه، وارتقيا الأدراج معا في سكون حتى تساءل حسن: من هي؟ - الست سناء.
وذكرها لتوه، امرأة عرفت بسمرتها العميقة، وشعرها الجعد، وجسمها المكتنز، واشتهرت بشفتين غليظتين، وعينين دعجاوين، وكانت تجلس سحابة النهار على كرسي عند مدخل البيت، واضعة ساقها على ركبتها كاشفة عن فخذها حتى السروال الحريري الأبيض، وانتهيا إلى الدور الثاني، وسارا في دهليز طويل يفضي إلى صالة صغيرة تحدق بها أبواب ثلاثة، ومضى الغلام إلى الباب الأوسط وطرقه ثلاثا، فجاء صوت له رنين النحاس يهتف: ادخل.
ودفع الغلام الباب قليلا وتنحى جانبا، فتقدم حسن إلى الداخل، وقبل أن يرد الباب وراءه شعر بيد الغلام تربت ظهره، فالتفت صوبه، فضحك الغلام وقال وهو يبتعد: اقرأ لنا الفاتحة.
وأغلق الباب فوجد نفسه في ظلام دامس. وحدثته نفسه أن يتحسس وضع الزر الكهربائي ليضيء الحجرة، ولكن سرعان ما عدل عن خاطره، ووقف مستندا إلى الباب منتظرا أن تألف عيناه الظلام، وساد صمت شامل حينا، ثم مضت أذناه تلقطان حس أنفاس تتردد، فأصغى إليها مبتسما، وتوقع قولا أو فعلا ولكن لم يحدث شيء، واتجه على مهل إلى يساره متسمتا الأنفاس المترددة، حتى مست ركبته شيئا صلبا، جسه بيده، فأدرك أنه حافة فراش خشبي، ووقف ينظر إلى أسفل بعينين براقتين حتى شفت الظلمة الشاملة عن كتلة مظلمة ممتدة لا تبين لها معالم، وهوى بإبهامه رويدا رويدا حتى انغرست أنملته في لحم طري ثم انبعثت تحت أصبعه رجفة، وندت عن الظلمة ضحكة مكتومة ... •••
ثم أضاء النور وأخذ يرتدي ثيابه، وأخرج من جيبه نصف ريال ووضعه على الفراش والمرأة تراقبه بعينين ضاحكتين، ثم وثبت إلى أرض الحجرة وسارت بجسمها العاري إلى صوان ففتحته، وعادت بورقة من ذات الخمسين قرشا، وحطتها فوق نصف الريال دون أن تنبس بكلمة، فتساءل ضاحكا: أهو الباقي؟
فقالت بهدوء: أجرك !
وأتم ارتداء ثيابه في هدوء متظاهرا بعدم الاكتراث، ضابطا عواطفه؛ حتي لا ينم وجهه عن فرحه، ثم تناول النقود ودسها في جيبه، وسألته وهي ترمقه بنظرة عميقة: ترافق؟
فقال مستعينا بالكذب: لي رفيقة!
فتساءلت في اهتمام بدا في لمعة عينيها: في هذا الدرب؟ - في الآخر. -إفرنجية؟ -بنت عرب!
وساد السكون دقيقة، ثم سألته: ألا تزال لك فيها رغبة؟
فلم يشأ أن يجيب بلا أو نعم، قانعا بابتسامة ذات معنى؛ فسألته ضاحكة: أين تقطن؟ - شبرا. - ما أبعدها عن مكان عملك! هل ثمة ما يضطرك إلى المبيت هناك؟ - كلا ... - مسكني قريب في عطفة جندب بكلوت بك، تعرفها؟ - سوف أعرفها من الآن فصاعدا.
41
كانت الشمس تميل إلى الغروب؛ حين غادرت نفيسة بيت إحدى زبائنها بشارع الوليد، وكان يلوح في وجهها الضيق، وهي حال لا تفارقها إذا خلت إلى نفسها، ولكن زادها تعاسة أنها لا تجني من عملها إلا مبالغ زهيدة تبتلعها حاجة أسرتها الشديدة، فلا تكاد تبقي لها على شيء، وكانت إلى هذا تبدو في مظهر جديد ينم عن تغير ذي بال، فتزينت في فستان برتقالي مزخرف بأزهار البنفسج أعلن عن جسمها الطويل النحيل، وأخذت زينتها في غير تحفظ. وسارت وشارع الوليد حتى انتهت إلى شارع شبرا، وانعطفت مع الطوار وهي ترمي ببصرها إلى الجراج عن بعد، فدبت في قلبها يقظة وحيوية، وأعادها منظر الجراج - وصاحبه محمد الفل - إلى ذكريات صراع عنيف نشب في نفسها في غير ما رحمة ولا هوادة طوال الأسابيع الماضية، وجعلت تقدم رجلا وتؤخر أخرى، حتى توقفت عن السير تماما، وعقل الخوف قدميها، ومع أنها كانت قد انتهت من ترددها المعذب إلى نهاية، إلا أن الخوف ركبها وهي تخطو الخطوات الأخيرة؛ «ألا يحسن بي أن أستزيد من التفكير؟ كلا، كلا، لن أجني من التفكير إلا وجع الدماغ. سيعترض سبيلي كما يفعل كل مساء، لا أستطيع أن أنكر أنني ابتسمت لدعاباته، فماذا بعد هذا، فات أوان التراجع. وهو لا يخفي دواعيه ولا مقاصده، ولست أجهلها، إني أدرك كل شيء، أدرك لماذا يدعوني إلى سيارته، لا يحاول خداعي كما فعل غيره؛ فالأمر واضح، فهل أقدم على هذا؟ لماذا يتعلق بي؟ لست جميلة، وهيهات أن يغير هذا الزواق من الحقيقة شيئا! ولكن الدمامة نفسها سلعة لا بأس بها في سوق الخلاعة، وعشاق اللذة - أو بعضهم - لا يرعوون عن مطلب! هذه هي الحقيقة، الزواج أمره مختلف، أما اللذة فلا اختلاف عليها. هل أدع نفسي تهوي! ولماذا أمنعها؟ لن أخسر جديدا، ليس ثمة ما أخاف عليه، ولكن ألا يحسن أن أمد لنفسي حبل التفكير؟» وعاودتها ذكريات اليأس الذي أمرت غصصه ريقها، وكيف لم يعد ثمة أمل على الإطلاق، على أن الأمر لم يكن مجرد يأس فحسب؛ فهناك هذه الرغبة المشبوبة التي تشتعل في دمها، ولا حيلة لها فيها، وكلما استنامت إلى قبضة اليأس شكتها في الأعماق كشوكة مستعرة، هذه الرغبة وحدها تأبى عليها أن تعتزل الحياة وتتواري، حتى كرهتها فيما تكره من حياتها. بيد أنها لم تعترف بها أمام شعورها، وأنكرتها، وقالت لنفسها إنها ترضى «الهوان» في سبيل النقود التي تمس حاجة أسرتها إليها. ولم تكن في هذا كاذبة؛ فإنه حق لا شك فيه، ولكنها صارحت نفسها بحقيقة وتجاهلت الأخرى، وسرها - إن كان ثمة سرور - أن تبدو لعينيها شهيدة، وضحية لليأس والفقر، وبرز الفتى عند ذاك من الجراج، ووقف يحدث بعض العمال فخفق قلبها، ولم تتحول عنه عيناها، وأدركت بغريزتها أنها لن تتراجع، فسلمت - على البعد - وهو موليها ظهره، سلمت تسليما نهائيا، وانتهى في تلك اللحظة الصراع العنيف المحزن الذي نشب في قلبها منذ أسابيع، وزفرت في يأس وحرارة وغادرت موقفها، واقتربت منه في خطوات وئيدة متجاهلة إياه، حتى أحست به يعترض سبيلها قليلا بجرأته المألوفة: الصخر نفسه يلين يا ست، هاك السيارة عند منعطف الطريق تنتظرك منذ أجيال.
ثم سار إلى جانبها متشجعا بابتسامتها وهو يقول: كفاك تدللا، لو كان لي صبر أيوب لنفد.
ما ألذ الغزل ولو كذب، حال مخزية ولكنها ترد إليها اعتبارها وكرامتها كأنثى مهيضة الجناح؛ «ليته يدري من أنا ، ومن كان أبي!» ثم سمعته يقول بلهجة تنم عن وعيد: هاك السيارة فإذا لم تصعدي إليها رفعتك بذراعي أمام الرائح والغادي.
وكانا بلغا موقف السيارة في العطفة الثانية، فقبض على يدها وفتح بالأخرى باب السيارة، وازدردت ريقها واندفعت إلى الداخل في حركة عصبية، وجلست، فأغلق الباب وراءها، ودار حول السيارة ودخل من الباب الآخر وهي لا تكاد تدري به، ومالت إلى الوراء لتباعد بين وجهها وبين النافذة المشرفة على الطريق، ثم غشيتها غرابة؛ بدا لها كل شيء غريبا خياليا لا يمت للواقع بسبب؛ الطريق الذي تتساقط عليه ظلمات المساء وأشباح المارة، والسيارة الهرمة المتهلهلة، ونفسها، وأصوات الناس، ودوي عجلات الترام، واستعدت إرادتها بقوة لتعود إلى وعيها، واسترقت نحوه نظرة وهو جالس أمام عجلة القيادة بقوام فارع، ووجه معروق صلب، ووجنتين بارزتين وأنف ضخم صخري، وفم عريض كفم البولدج، فأعادها منظره إلى عالم الحقيقة، والوعي والأعصاب، والدم والخوف. واستخرج الرجل قارورة تحت مقعده وفض سدادتها ثم نظر فيما حوله في شيء من الحذر، ورفع فوهتها إلى فيه، وأفرغ في جوفه جرعات غزيرة، والتفت إليها بوجه متقلص العضلات وسألها: ألا تشربين قليلا من النبيذ؟
فقالت بعجلة واضطراب: كلا، لا أتعاطى الخمر.
فرفع حاجبيه دهشة وهو يمصمص، وأعاد القارورة إلى موضعها، وبدأت السيارة تتحرك وهو يقول: من الحكمة أن أشرب الآن حتى إذا بلغنا مقصدنا بلغته في سلطنة.
وانطلقت السيارة مقرقرة تشق سبيلها بسرعة مستهترة، وعجبت نفيسة من جرأته، وبدا لها قويا جسورا، وفي الوقت نفسه غير أهل للثقة أو الشرف، ولكن ما حاجتها إلى الرجل الشريف؟ لم تعد أهلا له، ولم يعد ضالتها، ولا تخاف شيئا في الوجود بقدر ما تخافه على نفسها. وسمعته يقول ضاحكا في زهو: ما أطول نفسك في التدلل! ولكن طالما قلت لنفسي: مصير الحلو أن يقع! وها هو قد وقع.
ورحبت بالكلام لتهرب من أفكارها واضطرابها، فارتسمت على شفتيها ابتسامة وتساءلت: ومن أدراك أني وقعت؟!
فضحك ضحكة وقال: سنرى ما يكون في صحراء ألماظة.
وتساءلت في قلق : صحراء ألماظة؟! هل نغيب طويلا؟ - حتى منتصف الليل!
فتملكها فزع شديد تراءى لها خلاله وجه أمها وشقيقيها، وقالت بلهجة المستصرخ: يا خبر أسود، يجب أن أعود إلى البيت قبل العشاء! أوقف السيارة بربك.
فقال بدهشة وفتور: حقا؟! لا تخافي، سنعود قبل العشاء، ولكن ماذا تخافين؟ - أهلي.
فلحظها بارتياب ساخر وسألها بلهجة ذات معنى: أهلك! ألا يعلمون؟!
ووخزها قوله حتى خرم قلبها كالطعنة الحادة؛ أهلها يعلمون؟ ماذا يظن بها؟! واندفعت تقول: كيف يعلم أهلي! إخوتي طلبة بالجامعة، وكان أبي موظفا.
وهز رأسه متظاهرا بالتصديق، وقال لنفسه ساخرا: «لا أم غسالة إلا أمي، ولا إخوة صعاليك إلا إخوتي، الأمر لله!» وضاعف من سرعة السيارة؛ ليبلغ هدفه في أقصر وقت، ومضى، يستشعر حميا النبيذ وطاب نفسا وسألها: ما اسمك؟ - نفيسة.
ولم يعجبه الاسم فسألها: لماذا لم تنتقي اسما أرشق منه؟
ولم تفهم قصده، وأساءت فهمه فقالت باستياء: إنه يعجبني! - عاشت الأسماء يا ست نفيسة، لا مؤاخذة.
وأخيرا مالت السيارة إلى الطريق الصحراوي تغوص في ظلمة شاملة، ولاحت المدينة عن بعد في أنوارها الموصوصة كأنها مارد جبار ذو أعين نارية لا حصر لها، وأخذ يهدئ من سرعة السيارة حتى أوقفها، وأطفأ مصابيحها، وبغتة مد ذراعه حول خصرها وجذبها نحوه بعنف لم تتوقعه، فاندلقت عليه متأوهة، ففغر فاه العريض وأطبق على فمها حتى منتصف ذقنها، وضمها إلى صدره بوحشية وأنفاسه تتردد في أنفه في نخير محشرج، فشعرت بادئ الأمر بألم وقلق، ثم مضت آلامها تغيب في ظلمة باطنية غريبة، كما غاب شبحاهما في الظلمة المحيطة الشاملة، وآمنت بأنها مدينة للظلام بالشيء الكثير؛ فقد شجعها، وفي الوقت نفسه أخفى عيوبها، وبذلت قصارى جهدها - مدفوعة بحافز فطري - لإرضائه، ولعلها وجدت بادئ الأمر حياء إلى ما تجد من قلق وخوف، ولكن سرعان ما شملتها حرارة جنونية تذيب الخوف والقلق والحياء.
ثم قال لها بإغراء: ألا يحسن بنا أن ننتظر تمرة أخرى؟
فقالت بضراعة وهي تجفف العرق المتصبب من جبينها: لا أستطيع، أرجو أن نعود في الحال.
وتناول القارورة وأروى ظمأه بجرعات متتابعة، ثم انطلق بالسيارة بوجه جامد، وظل صامتا حتى بلغا ميدان المحطة، وقال بغلظة: توجد ثمرة دانية، ألا نعود؟
فقالت برجاء وجزع: كلا، كلا .. لا أستطيع.
وقطب ساخطا فجأة، وقال بفظاظة لم تتوقعها: الله يقرفك، هذه رحلة لا تستأهل البترول الذي احترق.
ووقع قوله من نفسها موقع السوط، فانعقد لسانها، وأفعم فؤادها خيبة ومرارة وخجلا، ونظرت نحوه في ذهول، ولكنه لم يلتفت إليها، ودفع السيارة صامتا ساخطا إلى شبرا؛ عسى أن تكون رغبته في المزيد عذرا، ولكن أما كان يجمل به أن يترفق بها، أو في الأقل أن يمسح خشونته بكلمة رقيقة؟ وواصل انطلاقه صامتا، ثم عرج إلى شارع جانبي لينزلها في أمن من الأعين، وأوقف السيارة إلى جانب الطوار. وتساءلت وهي تغادر موضعها عما تفعل إذا سمى لها موعدا آخر، أتقبل رغم إهانته، أم ترفض على رغمها؟ وجابهتها حيرة لم تستعد لها، بيد أنه مد لها يده بنصف ريال وهو يقول: هذا يكفي لمرة واحدة.
ولما رأى جمودها ترك القطعة الفضية عند قدميها، وانطلق بالسيارة مخلفا وراءه ذيلا من دخان خانق، وقرقرة مزمجرة. وركبها جنون غضب أعمى، فتسمرت في موقفها وجسمها ينتفض. واتصل انتفاضها وهي تعض على نواجذها، ثم مضت تزفر في عجلة كأنما تنفس عن صدرها أن ينفجر، لم يتكلف موعدا آخر، مرة عابرة! كأنني ... رباه! مرة عابرة، ثم يرمي لي بنصف ريال! وخطر لها خاطر فباخ غضبها وخمد، وحل محله خجل وخيبة، أجل، ألا يجوز أنها لم ترق له ولم تعجبه؟! هذا محتمل، هذا مرجح، هذا مؤكد. وأمضها شعور أليم بالحزن والقهر، ثم تنبهت لموقفها من الطوار فهمت بمغادرته، ولكنها ذكرت القطعة الملقاة عند قدميها فنظرت إليها بغرابة دون أن تدري ما هي فاعلة، ثم ذكرت لتوها القطعة ذات الخمسة قروش التي اقترضها سلمان منها يوما على محطة الترام، ثم يوم قادها إلى مسكنه، والظلام الدامس وشجارها معه في الطريق، وتغزل أبيها بخفة دمها، ثم عاد انتباهها إلى القطعة الفضية تحت عينيها، فرنت إليها طويلا دون أن تتحول عنها، أي شيء ثمة يدعوها إلى تركها؟!
42
وفي ذات ليلة زار حسن الأسرة زيارة غير متوقعة بعد انقطاع غير قصير، وكانت الأسرة مجتمعة بحجرة الإخوة التي تتخذ منها مجلسا مختارا في شهور الصيف. جاء هذه المرة وبيده قفة فوضعها وراء الباب، وأقبل عليهم مسلما ضاحكا فاستقبلوه بترحاب كالعادة، أعلنه الإخوة في غير تحفظ، أما الأم فرمقت القفة بنظرة متسائلة وغمغمت ساخرة «إيش جاب الغراب لأمه؟» فقال ضاحكا وهو يتخذ مجلسه بينهم: لا تتعجلي، الصبر طيب.
بيد أنهم لم يلقوا بالا لقفته، ولم يكن من عادتهم أن ينتظروا خيرا منه، قالت له نفيسة: لا نراك إلا كالزائر! - أخوك سائح في أرض الله الواسعة، يلتقط رزقه في جهد ومشقة، ولكن لا تعجبي إذا لم تريني إلا زائرا؛ فقد وجدت لنفسي مسكنا !
وتطلعت إليه الأبصار في اهتمام وسألته أمه: هل هداك الله أخيرا ووجدت عملا؟ - تخت علي صبري ولا شيء غيره، ولكن الله فتح عليه وعلينا.
فقالت الأم بامتعاض: لا يدخل عقلي بحال أن هذا عمل بالمعنى الصحيح.
فقال حسن مستنكرا: لم لا يا أماه؟! إني في التخت أغني، بينما في المهن الأخرى أتشاجر كما تعلمين.
وسأله حسين: وهل وجدت لنفسك مسكنا حقا؟ .. أين؟
فسكت مليا ثم سأله: ولماذا تريد أن تعرف؟ - كي نزورك بدورنا! - كلا، ليس مسكني معدا للزيارة، وليس هو خاصا بي إذ يقطنه أفراد التخت جميعا، دعونا من هذا وخبروني متى أكلتم اللحم آخر مرة؟
فقال حسين ساخرا: الحق أنا نسينا، دعني أتذكر قليلا .. تتخايل لعيني شريحة لحم في ظلام الذكريات، ولكن لا أدري أين ولا متى.
وضحك حسين قائلا: نحن أسرة فلسفية على مذهب المعري.
فتساءل حسن: ومن يكون المعري هذا؟ .. أحد أجدادنا؟ - كان فيلسوفا رحيما، ومن آي رحمته أنه امتنع عن أكل اللحوم رحمة بالحيوان! - إني أدرك الآن لماذا تفتح الحكومة المدراس، إنها تفعل ذلك كي تبغض لكم اللحوم فتأكلها دون منافس.
ونهض حسن وذهب إلى حيث ترك القفة، وعاد بها، ووضعها أمام أمه ، ثم نزع عنها غطاء من الورق فبدت تحته فخذ خروف مكتنز تتصل على سطحها حمرة اللحم ببياض الدهن، وإلى جانبها علبة من الصفيح متوسطة الحجم، وصاح حسنين: لا أصدق عيني، وما هذا داخل العلبة؟ - سمن!
ودبت في الإخوة حيوية ولمعت أعينهم، وسرت عدوى الفرح إلى قلب الأم فابتسمت وتمتمت: ضمنا للغد غداء فاخرا!
وهتف أكثر من صوت: بل عشاء فاخرا، الساعة. - متى ينتهي طهيه؟ - ننتظر حتي الفجر.
ونهضت نفيسة فحملت القفة، وسبقت أمها إلى المطبخ.
وكفت الأم عن المعارضة وقامت أيضا، فغادرت الحجرة وهي تومئ إلى حسن أن يتبعها فتبعها على الأثر مبتسما ابتسامة ذات معنى، فانتبذت به ركنا في الصالة وسألته بلهفة: هل تيسرت سبل الرزق حقا؟ - بعض الشيء! لا أدري ما يأتي به الغد. - هل أطمئن إلى أنك ستمد لنا يد المعونة؟ - كلما واتاني الرزق، أرجو هذا.
وصمتت لحظة ثم سألته: أين تقطن؟
وكان يعلم أنها تفهمه فهما لا يجدي معه الكذب، فقال: عطفة جندب بكلوت بك رقم 17.
فسألته بعد تردد: امرأة؟
فضحك ضحكة قصيرة وقال: نعم. - زواج؟
فضحك مرة أخرى وتمتم: كلا.
ولم ير في الظلام ما ارتسم على وجهها من أمارات الامتعاض، ولكنها كانت قد يئست منه من زمن بعيد، فأعفت نفسها من لومه أو نصحه، بيد أنها سألته باهتمام وحرارة: أليس رزقا شريفا؟
فقال بلهجة مطمئنة وتوكيد: بلى، لا تشكي في هذا، إننا نحيي أفراحا كثيرة، ونغني في المقاهي والصالات.
43
وانقضى عام آخر، وواصلت الحياة سيرها لا تلوي على شيء، ومضى كل فرد من أفراد الأسرة في سبيله بما يلقى من خير وشر! ولو أتيح للأب أن يعود إلى الحياة لأزعجته الدهشة لما طرأ من تغير على أسرته؛ شمل الأرواح والأجساد والصحة ونظرات الأعين، ولكن كان حتما سيعرفهم، سيعرف أن المرأة هي زوجه وأن الأبناء أبناؤه، أما الذي كان ينكره ولا يعرفه مهما أجهد ذاكرته فهو البيت؛ اختفى الأثاث أو كاد، فلم يبق بحجرة الاستقبال إلا كنبة وبساط باهت ناحل، كان مفروشا بحجرة نوم الأم ، ثم وضعوه بحجرة الاستقبال بعد بيع سجادتها، واقتصرت غرفة الأم على كنبتين تستعملان نهارا للجلوس وليلا للنوم، وخلت الصالة - حجرة السفرة قديما - فبيع البوفيه والمائدة والكراسي، وانتهى بهم الحال إلى تناول طعامهم على صينية مقتعدين الأرض، بل بيع فراش حسن، ولولا الضرورة القصوى لبيع الفراشان الباقيان! كانت حياة شاقة عسيرة، ولولا حزم الأم وحسن تدبيرها، لما نهض المعاش، وكسب نفيسة القليل بضرورة المسكن والمأكل. أما حسن فلم تتعد معونته لأسرته زيارات متباعدة كانت للأسرة بمثابة المواسم، يطيب لها فيها الطعام والأمل، وربما ابتاع لأمه من آن لآخر جلبابا أو منديلا أو بعض الثياب الداخلية، وفيما عدا هذه الأويقات فلم يكن يراه أو يسمع به أحد. وكان يعتذر لأمه بمشاق الكفاح وقلة الرزق، ولم يكن في اعتذاره غلو دائما، والحق أنه وجد الحياة أشق مما كان يتصور، كان يغني في تخت علي صبري، وينبري للعراك إذا دعا الداعي، ويتجر بالمخدرات في حدود ضيقة، وفي حوزته امرأة لا بأس بجمالها ونقودها، ولكن ظل كسبه دون ما كان يحلم به بكثير، فضلا عما أوجبته حياته عليه من الإنفاق السخي ليظفر بقلوب أعوانه، وليظهر بالمظهر اللائق به، وكان النزاع بين ضروريات حياته وأنانيته من ناحية، وحبه لأسرته من ناحية أخرى لا يهدأ بنفسه؛ يتغلب ذاك حينا، ويتغلب هذا في أغلب الأحيان، يمسك يده مستسلما لتيار حياته الجارف، ثم يجود بما في طوقه، ويتمنى كثيرا لو يرد أسرته إلى سابق عهدها بالحياة، ثم ينسى أسرته في خضم مغامراته، ثم يعود إلى تذكرها في ندم وألم، وهكذا إلى غير نهاية. ومهما يكن من أمره فلم تجد فيه الأسرة الرجل الذي يقيل عثرتها أو يأخذ بيدها، وإن تنسمت في زياراته نسائم الترفيه والراحة. الأم وحدها كانت عصب حياة الأسرة، وفي سبيل الأسرة انهد حيلها وهرمت في عامين، كما لم تهرم خلال نصف قرن من الزمان، فنحلت وهزلت حتى استحالت جلدا وعظاما، بيد أنها لم تسلم للمحنة، ولم تعرف الشكوى، ولم تتخل عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة. وكانت تعمل النهار كله، تطبخ وتغسل، وتكنس وتمسح، وترتق وترفو، وترعى ابنيها خاصة؛ تراقب لهوهما، وتحثهما على العمل، وتفض نزاعهما التافه، وتكبح من نزواتهما، خصوصا طفلها المتقلب حسنين. وبين هذا وذاك تعكف على التفكير في الحاضر والمستقبل، وتجتر كثيرا من الآلام التي تبعثها في نفسها ابنتها نفيسة في تجوالها الدائم بين بيت وبيت، تعمل كثيرا وتربح قليلا، وتواصل سعيها في مشقة ويأس، لشد ما تتجرع غصص الألم في سكون متجملة بصبر لا يهن، لائذة بإيمان لا يتزعزع، متشبثة بأهداب أمل لا بد أن يتحقق وإن طال انتظاره. وبفضلها عرف الشقيقان سبيلهما، فلم يحد أيهما عن جادته، وأمكنهما - على ما يكتنفهما من تقشف وحرمان - أن يواصلا اجتهادهما في مثابرة تدعو للإعجاب. وكان حسنين يعد ما يلقاه من ظروف العيش أهون مما يجد في حبه من حرمان، ولكن فتاته لم تكن دون أمه عنادا، فأرغمته على الرضا بحب ظاهر متقشف لا يستسيغه طبعه الحامي، وأوشكت الحياة الخاصة أن تلهي الشقيقين عما انتاب حياة الوطن في تلك الفترة من التطورات الهامة. والحق أن حسين لم يبد اهتماما يستحق الذكر بالسياسة العامة، ولعل حسنين كان أكثر اهتماما بالسياسة من أخيه، ولكن ليس إلى القدر الذي يجعل منه تلميذا سياسيا، واقتصر اهتمامه في الغالب على النقاش الحزبي أو الاشتراك في المظاهرات السلمية، وكانت الأم أيضا الحائل بين ابنيها وبين الاشتراك في الحياة السياسية، فلم تكن لتفقه حرفا في السياسة، واستغرقت الأسرة مشاعرها فلم تترك نصيبا للوطنية، ولما ذاعت الأخبار المحزنة عن ضحايا المظاهرات من الطلبة أصابها الفزع، وراحت تقول مخاطبة الشابين: قتلوا يا ولداه! فهل تغني عنهم السياسية أو المظاهرات؟! فجعوا أهليهم وخربوا بيوتهم وضاعوا هباء.
وقال لها حسنين منفسا عن شعور مكبوت لتخلفه عن الثائرين: إن الأوطان تحيا بموت الأبطال.
فرمته بنظرة صارمة فخفض عينيه، وقد عدل عن مواصلة حديثه الحماسي. ثم جدت أحداث فتكونت الجبهة الوطنية، وشرع في المفاوضات، وانتهت المفاوضات إلى الاتفاق، وسرى في البلد ارتياح عام، وحينذاك عاد حسنين إلى حديثه، وكان أجرأ على أمه من أخيه، فقال لها يوما: أرأيت أن الأرواح التي زهقت لم تذهب تضحياتها عبثا؟
ولم تغضب هذه المرة لشعورها بأن الخطر قد زال، وحل محله السلام، ولكنها لم تنثن عن رأيها فقالت: هيهات أن يعوض شيء عن هلاك روح شابة.
فقال حسنين ضاحكا: لقد عشت يا أماه نصف قرن في ظل الاحتلال؛ فلندع الله أن يمد لنا في عمرك نصف قرن آخر في كنف الاستقلال!
فقالت الأم ممتعضة: احتلال، استقلال، لا أدري أي فرق بينهما! خير لنا أن ندعو الله أن يكشف عنا الغمة، وأن يبدلنا من عسرنا يسرا.
فقال حسنين بحماس وإيمان: لو لم يكن الاحتلال لما تركت أسرتنا بعد موت أبي بلا معين! (ثم مخاطبا حسين) أليس كذلك؟
فقال حسين بأمل: أعتقد هذا!
ورددت الأم نظرها بينهما في شك كثير، لم تكن تحفل بهذه الأحاديث العامة التي تساق إليها أحيانا من حيث لا تدري، أمر واحد يهمها، وتنسى من أجله الدنيا وما فيها؛ هو أن تبلغ بهذين الشابين اللذين تحبهما أكثر من الحياة نفسها بر الأمان، وأن تراهما رجلين ناجحين سعيدين قد أمنا شر الحياة، وآوت الأسرة منهما إلى ركن ركين.
44
وفي نهاية العام حصل حسين على البكالوريا، وقد ذاقت الأسرة في فترة الانتظار السابقة لظهور النتيجة مرارة الإشفاق والشك. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتكهن بما يجد فيما لو أخفق حسين وحرم من المجانية، ولم تكن الأم تتصور أن ينتهي صبرها هذه النهاية، ولا أن تنكشف آمالها عن مثل هذا القنوط. وعندما تناول حسين الجريدة من البائع وأجرى بصره الزائغ في صفحاتها باحثا عن نمرته، التف به أخوه وأخته وأمه بقلوب خافقة، ينبض في أعماقها الأمل ويظلها الخوف والعذاب! فانطبعت اللحظة الرهيبة على نفوسهم إلى الأبد. ثم كان يوم سعيد، أول يوم سعيد منذ عامين كئيبين، فطابت النفوس، ولهجت الألسن بالشكر لله، وراحوا يفصحون عن سعادتهم بالحديث اللطيف حينا، وبالصمت المطمئن الباسم حينا آخر، ثم وجدوا أنفسهم يطرقون باب المستقبل، ويفكرون في الغد القريب والبعيد معا، فنسوا سعادتهم وهم لا يشعرون، وتخايلت لأعينهم مرة أخرى الصعاب التي تكتنف حياتهم، فحل التفكير وهمومه محل السعادة الصافية العابرة، وعرف حسين حقيقة جديدة في حياته، وهي أن السعادة قصيرة الأجل، وأنها لا تعمر في النفس طويلا كالحزن أو الحسرة. ولم يكن التفكير في مستقبله بالأمر الجديد عليه؛ كان بطبيعة الحال ذا آمال وأحلام، ولكن الحقائق لم تكن لتغيب عنه كذلك، وكأنه أراد أن يستدرجهم إلى إعلان آرائهم فتساءل: ماذا لديكم عن الخطوة التالية؟
وكان للأم رغبة، فهي تود أن تنتهي الحال التي يكابدونها بأي ثمن. وكانت تعلم - وقد خلا البيت مما يمكن الانتفاع بثمن بيعه - أنهم لن يستطيعوا مواصلة هذه الحياة بعد الآن. بيد أنها لم ترتح إلى إملاء رغبتها عليه، ونفرت من التحكم في مستقبله كما تتحكم في حياته، أجل لم يعد طفلا، فإذا وافق على رأيها مختارا فبها وإلا فليقض في أمر نفسه بما هو قاض، وليمدوا هم في حبال التصبر والتجلد، بل والجوع حتى يأمر الله بالفرج؛ لذلك قالت باقتضاب: فلنتدبر الأمر طويلا.
ولكن حسنين كان يفكر بسرعة مدفوعا بعواطفه كعادته، وكانت أنانيته تتوارى خلف ما يظنه الصالح العام، فقال: لم تعد الحياة تطاق، غذاؤنا سيئ ونحن في حكم الجياع، وثيابنا متداعية ممزقة أو مرفوة، وبيتنا عار، لا يصح أن نطيل أمد العذاب، لا سبيل إلا أن نبدأ حياتنا العملية.
وكان حسين يفهم أخاه خير الفهم، فأدرك لتوه ما يرمي إليه، وكان مقتنعا بما يريد أن يذهب إليه، ولكن ساءه مكره فتغيظ عليه وقال: لماذا تقول «نبدأ»؟ لماذا تستعمل صيغة الجمع بينما الأمر يتعلق بي وحدي؟
وأدرك حسنين أن أخاه نفذ كعادته إلى ما وراء كلامه فقال بإشفاق: إني أقرر مبدأ عاما يجوز عليك اليوم وعلي غدا. - تعني أنه يجب أن أجد وظيفة؟
فزاغ عن الجواب الصريح وتساءل: ما رأيك أنت؟
فالتفت حسين صوب أمه وسألها مبتسما: ما رأيك يا أماه؟
وأثرت ابتسامته في نفسها تأثيرا عميقا، وأدركت أنه يضع مصيره بين يديها، وأنه يحملها وحدها مسئولية مستقبله، ولكنها لن تقضي عليه بما لا يحب، لن تفعل ولو ذاقوا الهوان أربع سنوات أخرى. إنه الوحيد الذي يذعن لمشيئتها بلا تردد أو تذمر؛ فهل يكون جزاؤه الفداء؟! وقالت الأم بوضوح: رأيي رأيك يا حسين.
فابتسم حسين ابتسامة غامضة، وقال مدفوعا برغبة عابثة في مضايقة حسنين: أرى أن أكمل مرحلة التعليم العالي.
فقالت نفيسة بسرور: أحسنت!
وقال حسنين بعد تردد: أمامنا أربعة أعوام عجاف أخرى.
فقال حسين مبتسما: عام واحد فحسب ثم تتوظف أنت في نهايته إن شاء الله!
فضحك حسنين مغلوبا على أمره، وقال بلهجة المعتذر: لعلك تظن أنني أريدك على أن تتوظف لتتيح لي فرصة أكمل فيها تعليمي العالي في هدوء وطمأنينة، ولكن الحقيقة أنني أود أن أرحم أسرتنا مما تعانيه، وفضلا عن هذا وذاك فإذا كان على أحدنا أن يضحي بذاته - إذا اعتبرنا التوظف بالبكالوريا تضحية - فأنت الذي يجب أن تبذل هذه التضحية، لا لأني أريد لك ما لا أريد لنفسي؛ ولكن لأن أسرتنا تستطيع أن تنتفع بتضحيتك الآن، على حين يجب أن تنتظر عاما آخر حتى يمكنها الانتفاع بتضحيتي أنا.
فضحك حسين قائلا: منطق زائف! إني أعلم علم اليقين أنك لن ترضى بالتضحية لا العام القادم ولا الذي بعده.
وقالت الأم حسما للجدل: افعل ما تشاء يا حسين، ولا اعتراض لنا.
فابتسم إليها في صفاء وقال: لم أعن مما قلت حرفا واحدا، ولكني أردت أن يعرف حسنين أني أحسن فهمه، ولست ألومه أيضا على تفكيره؛ فله عذره، ينبغي أن يضحي أحدنا ويرضى بالتوظف الآن، وهذا هو واجبي أنا؛ أنا أخوه الأكبر، وأنا صاحب البكالوريا. إني أدرك الحال على حقيقتها، وأعلم أنه من القسوة الشريرة أن أفكر في تكملة تعليمي، فلأرض بحظي، ولندع الله جميعا أن يوفقنا إلى ما نريد.
وقرأ الارتياح في أعينهم جميعا، رغم ما تنطق به ألسنتهم من عبارات الأسف، فداخله شعور طيب بالسرور والارتياح على حزنه وأسفه؛ «أسرتنا كادت تنسى معاني الارتياح والطمأنينة، ها أنا أعيد إلى نفوسها بعض هذه المعاني، علام آسف! مدرس أو كاتب سيان، لو كنا نقتصد في أحلامنا، أو كنا نستلهم الواقع في خلق هذه الأحلام، لما ذقنا طعم الأسف أو الخيبة.»
45
وقالت الأم: لدينا أحمد بك يسري، صديق المرحوم والدكم، وهو يستطيع أن يوظفك في غمضة عين.
وتفكرت الأم مليا ثم واصلت حديثها قائلة: لن أستطيع الذهاب إليه بنفسي؛ لأن معطفي لم يعد لائقا للظهور أمام الناس المحترمين، فامض إليه أنت، وخذ معك أخاك تتشجع به، وما عليكما إلا أن تقولا للبواب إنكما ابنا المرحوم كامل أفندي علي.
وذهب الشقيقان عصرا إلى شارع طاهر، وقصدا بيت البك وطلبا مقابلته كما أوصتهما أمهما، فغاب البواب دقائق ثم جاء ليدعوهما إلى حجرة الاستقبال. ودخلا يسيران في ممشى الحديقة الوسط وهما ينظران إلى شتى الأزهار التي كست الأرض بألوان بهيجة بدهشة، ثم صعدا إلى السلاملك، ثم إلى بهو الاستقبال الكبير، واتخذا مجلسهما بارتباك على كثب من الباب بالموضع الذي اختارته أمهما قبل ذلك بعامين، وجري بصرهما سريعا على البساط الغزير الذي يغطي أرض الحجرة الواسعة، والمقاعد الكثيرة الأنيقة، والطنافس والوسائد، والستائر التي تنهض على الجدران كالعمالقة، والنجفة المتدلية في هالة لألاءة من سقف عال انتشرت بجوانبه المصابيح الكهربائية. وأشار حسنين إلى النجفة وقال بسذاجة: مثل نجفة سيدنا الحسين!
وكان حسين يفكر في أمور أخرى فقال: نعم، دعنا من النجفة، ما عسى أن نقول؟ .. ينبغي أن تساعدنا بلسانك!
فقال حسنين هازئا: أتظن أنك ستحادث شيطانا؟ .. تكلم بشجاعة، وسأتكلم أنا أيضا، ملعون أبوه!
وندت عنه اللعنة - لا لحنق - ولكن ليشجع أخاه، وليتشجع هو نفسه، وألقى نظرة ذاهلة على ما يحيط به من آي الثراء ثم تساءل بصوت منخفض: هل يثير موت رجل كأحمد بك حزنا في نفوس ورثته؟
فقال حسين بنصف وعي: أما كنا نحزن لوفاة والدنا لو كان غنيا؟
فقطب الشاب متفكرا ثم قال: أعتقد هذا، ولكن لعل الحزن أنواع ودرجات. آه، لماذا لم يكن أبونا غنيا؟ - هذه مسألة أخرى. - ولكنها كل شيء، خبرني كيف صار هذا البك غنيا؟ - لعله وجد نفسه غنيا.
فالتمعت عينا حسنين العسليتان، وقال: يجب أن نكون جميعا أغنياء. - وإذا لم يكن هذا؟! - إذن يجب أن نكون جميعا فقراء. - وإذا لم يكن هذا؟!
فقال بحنق: إذن نثور ونقتل ونسرق ...
فابتسم حسين قائلا: هذا ما نفعله من آلاف السنين. - يعز علي أن أتصور أن تمضي حياتنا في عناء وقذارة إلى الموت.
فقال حسين مبتسما: لا قدر الله.
وقبل أن يفتح حسنين فمه سمعا وقع أقدام آتية من الفراندا، ثم دخل البك بجسمه الطويل العريض في بدلة بيضاء حريرية، وسلم عليهما مرحبا وهو يتفرس في وجهيهما بعينين ضاحكتين، ثم سألهما وهو يجلس: أهلا بابني الحبيب المرحوم، كيف حال والدتكما؟
فشكرا له بلسان واحد، وقد نسي حسنين في طيب اللقاء حنقه، على حين عاود حسين ارتباكه. وتوجس أحمد بك خيفة من هذا اللقاء الذي لا بد أن يسفر عن بذل وعطاء، وكان يسلم سلفا بأنه لن يستطيع أن يرفض لهما رجاء إذا سألاه. والحق أنه لم يكن بخيلا، بل كان جوادا ولكن لا عن طيب خاطر؛ كان يجود في برم وضيق دون أن يستطيع أن يقول «لا»، وتغلب حسين على ارتباكه وقال بصوت رقيق مؤدب، تغني نبراته عن ألفاظ الرجاء والضراعة. - حصلت يا بك على البكالوريا، وظروف أسرتنا تضطرني إلى البحث عن وظيفة؛ لذلك رأت والدتي أن ترسلني إلى سعادتك؛ لما لنا جميعا فيك من عظيم الرجاء.
فجعل البك يعبث بشاربه الغزير المصبوغ، ثم قال: وظيفة؟! باب الحكومة ضيق في أيامنا هذه، ولكني سأبذل ما في وسعي يا بني، لا أعتقد أني سأجد لك وظيفة في الداخلية، ولكني صديق لوكيل المعارف، وكذلك وكيل الحربية، جهز طلب استخدام، وسأكتب لك توصية قوية.
وشكرا له كرم أخلاقه ثم سلما وغادرا الفيلا، وألقى حسنين على الفيلا نظرة توديع وهما يبتعدان عنها، وعاد ببصره إلى وجه أخيه فوجده راضيا حالما، فسأل نفسه في دهشة: ترى هل يفرح الآن بما عده بالأمس تضحية؟ ثم قال: أيقنت الآن فحسب، وبعد أن تنسمت عبير الحياة الحقة في هذه الفيلا، أنه من الظلم أن نعد أنفسنا بين الأحياء.
وكان حسين مشغولا بالتفكير في طلب الاستخدام والتوصية القوية، فلم يعن بالرد على أخيه، فقال حسنين حانقا: إني أعجب لما تتحلى به من رضا وهدوء! ولكنه تظاهر لا يمكن أن يخدعني.
فغمغم حسين مبتسما: وما جدوى الحنق؟ لن نغير الدنيا! - يجب أن تتغير! من حقنا ولا شك أن ننعم بالسكن النظيف، والمأكل الصحي، والمركز المرموق. ولكني أراجع حياتنا جملة فلا أجد بها خيرا أبدا.
فحدجه حسين بنظرة غريبة لم يفهم معناها وقال له: ولكنك تتمتع بالحب، وستكمل تعليمك، أليس هذا خيرا؟
ونظر إليه ثم نظر في ما أمامه؛ ترى ماذا يعني؟ وشعر بعدم ارتياح، وتضاعف ضيقه. ثم روح عن صدره متسائلا: ألم يكلفك هذا التضحية بنفسك؟ إن لنا حقوقا بديهية، ولا يجوز أن يضيع شيء منها، فأين نحن من هذا؟ .. كيف نعيش؟ .. ماذا تكابد أمنا؟ .. أين أخونا حسن؟ .. كيف انقلبت أختنا خياطة؟
وقطب حسين وقد تنغص عليه صفوه، وتناسى جوهر الموضوع ووقف عند الصفة الأخيرة حانقا، وصاح في أخيه بلهجة تنم على العتاب: خياطة!
فقال حسنين في هياج وانفعال: نعم خياطة، هل تكره هذا حقا؟ أتتمنى حقا لو كانت تزوجت كأمثالها من الفتيات؟! كذب. لو كانت تزوجت، بل لو لم تكن خياطة لاضطر كلانا إلى الانقطاع عن المدرسة والبحث عن مهنة حقيرة، هذه هي الحقيقة.
واشتد الغضب بحسين، لا لأنه لا يسلم بما قال أخوه، ولكن لأنه يسلم به في أعماقه، ولأنه ما كان يرحب بزواج الفتاة وسعادتها؛ «إننا نأكل بعضنا بعضا، ينبغي أن نسر بتهريج حسن وعبثه، ما دام يجيئنا كل شهر بفخذ خروف! وينبغي أن نسر بأختنا الخياطة ما دامت تعد لنا لقمتنا الجافة، وهذا الشاب المتذمر ينبغي أن يسر بانقطاعي عن التعليم، ما دام سيتم تعليمه هو! يأكل بعضنا البعض؛ أي وحشية! أي حياة! لعلي لا أجد إلا عزاء واحدا وهو أن قوة أكبر منا جميعا تطحننا طحنا وتلتهمنا التهاما، وأننا نصمد ونقاتل.» وتركز تفكيره في الخاطر الأخير، فيما سماه العزاء الوحيد، فسكنت نفسه، وسكت عنه الغضب، وقال وكأنه يخاطب نفسه: نحن لا يأكل بعضنا البعض! لا تقل هذا (لم تكن هذه العبارة من قول شقيقه، ولكنه لم يفطن لهذا) ... لا تقل هذا أبدا، نحن أسرة بائسة، ولنا نظائر وأشباه لا يحيط بهم حصر، وواجب كل واحد منا أن يجود بما يقدر عليه من البذل والتضحية!
ثم طلب إلى أخيه في حزم أن يمسك عن الجدل، وكانا بلغا محطة الترام.
46
وتبين لحسين أن الوظيفة - أو التضحية التي رضي ببذلها عن طيب خاطر- لم تكن منالا يسيرا؛ فقد انصرمت ثلاثة أشهر وهو يتردد في هم ويأس ما بين فيلا أحمد بك يسري ووزارتي المعارف والحربية، وأخيرا أخبره البيك أنه أمكن إلحاقه بوظيفة كاتب بمدرسة طنطا الثانوية، وحثه على تقديم نفسه للقومسيون والاستعداد للسفر لتسلم عمله في أول أكتوبر. وسر الفتى، وسرت الأسرة، ولكنه سرور لم يكن خالصا، وشابته مرارة! كانت الأم تنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر كي تنتشل الأسرة من وهدتها، وتبدلها حالا بعد حال! فجاء السفر مخيبا لهذا الرجاء، وتحيرت الأم بين فرحها وحسرتها، وأيقنت أن الوظيفة لن ترفه عن الأسرة إلا قليلا، وأن خيراتها ستتبدد ما بين طنطا والقاهرة، وإلى هذا كله فقد لاح في أفق الأسرة شبح فراق جديد لم تألفه، فتوجعت قلوبها، وعجبت الأم لهذا الحظ الذي يأبى أن يمنحها ابتسامة إلا تحت عبوسة متجهمة، والذي يمد يد النوى بينها وبين الابن الوحيد الذي لا يخلق لها المتاعب! كانت ترى في حسين صورة من نفسها الهادئة الصابرة، وكانت تجد عنده من الأنس والراحة ما لا تظفر به عند غيره. أجل لم يكن أحب الجميع إلى قلبها؛ إذ كان حسنين الطفل المشاكس الذي يحظى بهذه المنزلة، ولكنه بدا لعينيها وقتذاك كأنفس ما تملك في حياتها. ووقع الفراق من نفس حسين موقعا سيئا، وحزن له حزن رجل لم يبتعد عن بيته يوما واحدا في حياته، وضاعف أثره في نفسه تعلقه الشديد بأمه وإخوته، وما كان يأمل من الترفيه عنهم بوجوده بينهم. وكان يقول لنفسه كثيرا «سأعيد نفيسة إلى بيتها سيدة محترمة حال تسلمي أول مرتب من الحكومة.» ولكنه رأى حلمه يتبدد، وغدا يذهب إلى بعيد مخلفا أسرته المحبوبة وراءه على حال ليست أفضل كثيرا مما كانت عليه، ولعل هذا ما جعله يمضي إلى أحمد بك يسري مستشفعا بنفوذه على إبقائه في القاهرة، ولكن البيك - وكان ضاق به - أخبره بأن رغبته بعيدة عن التحقيق في الوقت الحاضر، ثم اعترضته مشكلة جديدة تتعلق بالنقود التي يجب أن تتوافر له ليقيم بها أسباب معيشته في طنطا حتى يتسلم أول مرتب له في نهاية الشهر؛ من أين له بهذه النقود؟ واتجه نحو أخته نفيسة، ولكن الفتاة كانت تنزل لأمها عن جل أرباحها المحدودة، ولا تكاد تبقي لنفسها على شيء إلا ما يلزم لكسائها، وإلى هذا فما تبقى من أثاث البيت لا يفي ثمنه - إذا بيع جميعه - بمطلبه، فلم يجد من ملاذ أمامه إلا أخاه حسن. وخاطب أمه فيما تراءى له فوافقت عليه، ولم يداخلها شك في نجدة ابنها الأكبر إذا وسعه ذلك، وأطلعته على عنوان أخيه لأول مرة، فمضى من توه إلى شارع كلوت بك، وراح يبحث عن عطفة جندف، وكان غادر البيت كبير الأمل، ثم تسلل القلق إلى نفسه رويدا رويدا حتى تساءل في النهاية ترى هل يعطيني حسن ما أريده حقا؟! وإذا لم يفعل فهل تضيع الوظيفة من أجل بضعة جنيهات لا يجدها؟! ثم اهتدى إلى عطفة جندف وهو على حال من التشاؤم مؤلمة، ووجدها عطفة ضيقة متعرجة، تقوم على جانبيها بيوت متداعية، وتسطع في هوائها الفاسد رائحة السمك المقلي، وتكتظ بالمارة وعربات اليد، وتتجاوب في جوها نداءات الباعة تتخللها شتائم ونحنحات محشرجة وبصقات غليظة، ثم تأخذ أرضها المغطاة بالأتربة ونفايات الخضر، وروث الدواب في الصعود تدريجيا حتى خيل إليه في النهاية أنها مقامة على سفح تل. ومضى الشاب إلى البيت رقم 17، وهو بيت قديم من دورين يلفت الأنظار بضيقه، فكأنه عمود ضخم، وقد جلست غير بعيد من مدخله بائعة دوم ولب وفول سوداني؛ فدخل كالمتردد وارتقى سلما حلزونيا بغير درابزين، وقد زكمت أنفه رائحة نتنة صاعدة من بئر السلم، حتى انتهى إلى الدور الثاني وطرق الباب، كانت الساعة حوالي الحادية عشرة صباحا، وكان أخوف ما يخافه ألا يجد أخاه في الشقة، وزاد من خوفه أن أحدا لم يلب الطارق، وعاود الطرق بشدة ويأس حتى كلت يداه، ثم وقف يائسا لا يدري ماذا يصنع، وقبل أن يتحول عن موقفه جاءه صوت غليظ من الداخل يهتف بحنق: من ابن الكلب الذي يطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟!
ودق قلبه بسرور، وقال يجيب الصوت الذي عرفه حق المعرفة: أنا حسين يا حسن.
وقال الصوت بدهشة: «حسين»، ثم سمع خشخشة المزلاج وهو يرفع، وفتح الباب فرأى أخاه بشعر هائج مشعث، وعينين محمرتين منتفختين، فمد له يده، وهو يهتف بدهشة: حسين! .. أهلا وسهلا ادخل، خيرا إن شاء الله، ماذا وراءك؟
فدخل حسين في شيء من الارتباك، وسرعان ما تطاير إلى أنفه عرف بخور طيب، بدا عذبا مريحا عقب رائحة السلم، ووجد نفسه في دهليز شبه مظلم تكتنفه حجرتان؛ واحدة إلى يمين الداخل والأخرى في مواجهته، وإلى اليسار المرافق، وابتسم حسين إلى أخيه وقال كالمعتذر: هل أتيت مبكرا؟ .. الساعة الحادية عشرة!
فتثاءب حسن طويلا ثم قال ضاحكا: إني أستيقظ عادة حوالي العصر، المغنون ليلهم نهار ونهارهم ليل، ولكن خبرني قبل كل شيء كيف حالكم؟ - بخير والحمد لله .. وكيف أنت؟
فقال وهو يسير به إلى الحجرة التي إلى يمينه: نحمده.
دخلا حجرة صغيرة تكاد تقسم مناصفة بين فراش وصوان، بينهما إلى الجدار الداخلي كنبة علقت فوقها على الحائط صورة كبيرة تجمع بين حسن وامرأة لحيمة عميقة السمرة، قد اعتمدت منكبه بساعديها المشتبكتين، فثبتت عينا حسين عليها في دهشة لفتت نظر أخيه، فتساءل ضاحكا: ماذا يدور برأسك؟
فسأله حسين بسذاجة: هل تزوجت يا أخي؟
فأجلسه على الكنبة، ووثب إلى الفراش وتربع عليه وهو يقول: تقريبا. - خطبت؟ - الثالثة. - الثالثة؟! - أعني الفرض الثالث!
فرفع الشاب إليه عينين داهشتين في وجوم ثم ابتسم ابتسامة آلية على الرغم منه، ولاح في وجهه ما يشبه الحياء فضحك حسن عاليا، وقال باستهانة: هي زوجة في كل شيء، إلا العقد.
فسأله حسين في خوف: ألست وحدك الآن؟
فحنى رأسه دلالة الإيجاب، ثم تثاءب بصوت مرتفع كالنهيق، ثم قال محذرا: طبعا لن تخبر أحدا! - طبعا.
فضحك حسن وقال: لا أحب إيذاء مشاعرهم، هذا كل ما هنالك، وبهذه المناسبة ألم تجرب النساء؟
فهز الشاب رأسه سلبا في حياء، فسأله مستطردا: وحسنين؟
فارتج قلبه في خوف وألم لم يدر لهما سببا، ثم قال: ولا حسنين.
فتفكر حسن مليا ثم قال: هذا أفضل بالنسبة لكما .. (ثم ضاحكا) إذا نويت الزواج يوما فاقصدني أزودك بنصائح عظيمة.
فقال حسين بهدوء: لست أفكر في الزواج كما تعلم. - أمن الممكن أن يتزوج حسنين قبلك؟
فخفق قلبه، ولكنه قال بهدوء: هذا مؤكد لأنه مرتبط بوعد قديم.
فقال حسن بتأثر: على أية حال إذا انتهى حسنين من دراسته فليس ثمة عائق. آه، على فكرة، ماذا جد من أنباء الوظيفة التي تبحث عنها؟
وسر حسين بما هيأ له من فرصة يلج بها موضوعه فقال: لقد جئتك لأخبرك بأنني تعينت كاتبا بمدرسة طنطا الثانوية، وبأنني سأتسلم عملي في أول أكتوبر.
فقال حسن بدهشة: هل تسافر إلى طنطا؟ وما الفائدة التي تجنيها أمك إذا فتحت بيتا جديدا في طنطا؟ - فائدة قليلة، ولكن ما الحيلة؟ - هذا سوء حظ قارح، وهذه هي نتيجة المدرسة!
فابتسم حسين يغالب ارتباكه، ولم أطراف شجاعته وقال: سأسافر في نهاية سبتمبر، وأنت تعلم أن الحكومة تصرف المرتبات مؤخرا!
وأدرك حسن ما يعنيه قبل أن يتم كلامه، فتفكر دون أن يبدو على وجهه شيء مما يدور في نفسه، ثم سأله: وما المرتب الذي تنتظره؟ - سبعة جنيهات. - يا خيبتها يوم أرسلتك إلى المدرسة! .. وطبعا لا تملك من نفقات السفر ومعيشة شهر أكتوبر مليما؟
فابتسم حسين في تسليم وهو يعجب لما شعر به نحو أخيه - في هذ الموقف - من الارتباك والحياء؛ كأنه يسأل رجلا غريبا، وجعل حسن ينظر إليه صامتا وعقله لا يني عن التفكير؛ «جاء حسين في ظرف غير مناسب، إني أنتظر نقودا لا أدري متى تأتي، ولكن يدي الآن فارغة، مصفاة لا يبقى فيها شيء، تبا لها! لا يمكن أن أصارحك بالحقيقة، لتقم القيامة قبل ذلك! إنه في حاجة ملحة إلى النقود، ولا بد أن يحصل عليها، مستقبل الأسرة يتوقف على هذه الجنيهات، وليست في الواقع بالكثير، ثمن أوقيات حشيش، وينفق مثلها أي فتى أرعن في أسبوع بدرب طياب؛ سناء مفلسة أيضا، لم أعد أبقي لها على شيء! ولكن لا بد أن أعينه، كيف؟ لماذا لم يحضر إلا اليوم؟ إلام تبقى أسرتنا شوكة في جنبي؟!» وظل ينظر إلى أخيه صامتا حتى امتلأ حسين قلقا وخوفا. ثم غادر حسن الفراش فجأة، وذهب إلى الصوان ففتح درجا وعكف عليه دقائق ثم عاد إلى مجلسه ومد يده إلى أخيه فإذا فيها أربع أساور ذهبية، وقال بسرعة: خذ هذه الأساور، وبعها في الحال وانتفع بثمنها.
وجمدت يد حسين فلم تتحرك، واتسعت عيناه انزعاجا وإنكارا، وهتف وهو لا يدري: ما هذا؟! .. أساور من هذه؟
فقال حسن ببساطة وقد ضايقه انزعاج الآخر: أساور سناء، امرأتي! - وبأي حق آخذها؟ - إن أخاك يعطيك إياها، لا شأن لك بصاحبتها.
واشتد انزعاجه وتساءل في امتعاض كيف يعيش أخوه؟ ثم تمتم: لست مرتاحا إلى أخذها، أما من سبيل آخر؟
وحنق حسن على هذا «التعفف» فقال بجفاء: إذا كنت حنبليا حقا فما عليك إلا أن ترفضها، وليس عندي غيرها!
فرمقه بارتياب، ولكنه قرأ في وجهه الصدق فأحس بضيق وقهر؛ «أساور امرأة! .. وأي امرأة! .. محال. شيء لا يصدق، ولا يمكن أن يدور لي بخلد، ولم أعلم - ولو في كابوس - بأنه وقع لي! كيف يمكن أن أحترم نفسي بعد ذلك؟! أرفض؟ والعمل؟! ليس لديه نقود أخرى، ينبغي أن أصدقه. ولكن محال أيضا أن أضيع الوظيفة، وما عسى أن أصنع لو أفلتت الفرصة؟ كلا، لا يمكن أن أرفض، لا يمكن أن أقبل . لا يمكن أن أرفض، لا يمكن أن أقبل! أرفض، أقبل، أرفض، أرفض، أقبل، أقبل! شيء واحد يستحق اللعنة؛ هو الحياة، الحياة والحظ .. والوالدان اللذان أتيا بنا إلى هذه الدنيا، كان يلعب بأوتار العود ولا يبالي شيئا! سحقا لي، كيف أفكر؟ هيهات أن تذهب من مخيلتي صورة جثمانه، رحمة الله عليه، ليس الذنب ذنبه. كالدجاج نلتقط رزقنا بين القاذورات! حجرة الدجاج على السطح ملتقى حسنين وبهية. شيء تشمئز منه النفس؛ فلأرفض. ولكن لا حياة إلا بالإذعان، لن يدري أحد! ولكني سأذكره ما حييت، وسأخجل منه ما حييت! إنه ينتظر الجواب؛ فإما الإذعان وإما الموت! فلآخذها كدين ثم أقضيه عند الميسرة! إنك تخادع نفسك، بل إني صادق ولأقضين ديني! ارفض أو لا تزعم بعد الآن أنك رجل شريف، إني جائع، شريف وجائع، ولن أرفض. تبا للحياة! إني أدرك الآن ماذا ساق أخي إلى هذا الوكر؛ أسرة ضائعة وحياة قاسية، يجب أن أبت في الأمر وإلا تفجر رأسي كالدجاج.» - ماذا قلت؟
ورفع عينيه في ذهول وقد أثر فيه صوته تأثيرا مخيفا، وكانت الأساور ما تزال في يده، فخفض عينيه وقال بخجل: إني أشكر لك كرمك، وأقبله على العين والرأس، وأرجو أن تعده دينا أقضيه عند الميسرة بإذن الله. - اقبله هدية إذا شئت، ولا تنس أن تخبر أمك بأنني اقترضت النقود من الأستاذ علي صبري ...
وأثار ذكر أمه ألما حادا في نفسه فوجد امتعاضا، وتضاعف هذا الامتعاض وهو يتناول الأساور ويدسها في جيبه، ثم قال: يؤسفني أنني أزعجتك، وأظن أنه ينبغي أن أذهب كي تواصل نومك.
فمد حسن له يده بالسلام، وضغط على يده باسما، ثم قال: مع سلامة الله، بلغ تحياتي للجميع، وقل لأمك بأني سأزورها قريبا.
وغادر الشقة شاعرا بغرابة وإنكار، وهبط السلم الذي لا درابزين له في حذر، ولكنه لم يتنبه للرائحة النتنة من شدة إغراقه في تيار أفكاره.
47
كانوا يجلسون بحجرة الإخوة التي ستصبح من الآن فصاعدا حجرة حسنين وحده. ورنت نفيسة إلى حسين فغمر الألم قلبها وهتفت: رباه! هذه آخر ليلة تجمعنا معا!
وأحست الأم بطعنة تصيب فؤادها الذي علمه الدهر من الصبر فنونا، ولكنها ابتسمت، أو رسمت ابتسامة على شفتيها الجافتين، وقالت بعطف: حسين رجل كامل، وسيعرف كيف يعيش وحده دون ارتباك أو اضطراب، وإني مطمئنة كل الاطمئنان إلى أنه لن ينسانا، فسيذكرنا دائما كما سنتذكره دائما. وهذه هي الحياة يا عبيطة، ومصير كل أسرة إلى التفرق السعيد - على ما به من حزن - حيث ينهض كل بدوره الجديد.
وكان حسين يعرف أمه جيدا فأدرك أنها تداري حزنها بالحكمة والحزم كعادتها دائما، فصمم على أن يعالج وحشة قلبه بالحزم كذلك، لقد بكى مرة كالأطفال، ولكنه لن يبكي مرة أخرى، وتمتم مقلدا أمه في ابتسامتها: سوف نلتقي في الإجازات، ولعلي أنقل يوما إلى القاهرة.
فقال حسنين بأمل: لا بد أن يحدث هذا يوما ما.
وكان حسنين يجد كآبة وحزنا، لم يفترق عن شقيقه مذ رأى نور الدنيا، فلم يدر كيف يلقى الحياة بدونه، وكان شقيقه وصديقه معا، أجل كثيرا ما نشب النزاع بينهما، وبلغ الشجار أحيانا، ولكن لم يكن لأحدهما غنى عن الآخر، لو كانت بهية أقل عنادا لما شكا الوحدة قط، بيد أنه بوسعه أن يتعزى عن الفراق بالرسائل، يحبرها له من آن لآن فتصل ما ينقطع بينهما من أسباب العشرة والحديث، ولعله يستطيع أن يسافر إليه في العطلة؛ ترى هل يمكنه أن يجري عليه راتبا شهريا؟ خمسون قرشا أو ثلاثون، خصوصا وهو يعلم بأن راتب الدروس الخصوصية ينقطع بانتهاء السنة المدرسية! ليت شجاعته تؤاتيه الآن فيحدثه بأمانيه! .. ولكن صبرا، وليؤجل هذا إلى فرصة أوفق.
وكانت الأم تواصل التفكير بلا توقف، لقد وفقت إلى الظهور بالمظهر الذي تحب أن تظهر به، أو الذي اعتادت أن تظهر به، ولكنها كانت تعاني ألما عميقا بلغت شدته ذروتها عند هذا المساء، كانت تكابد تأنيبا خفيا لشعورها بأنها تؤثر حسنين بأكبر حبها، والآن ماذا ترى؟ .. ترى الأخ الوديع يضحي بمستقبله، ويرمي بنفسه بين أحضان النوى في سبيل الأسرة، بل في سبيل حسنين بالذات ، وضاعف من آلامها أنها كانت ترى الواجب يحتم عليها خوض حديث أبعد ما يكون عن العواطف، حديث إن دل ظاهره على الحدب على الفتى المسافر فباطنه يرمي إلى الدفاع عن الأسرة قبل كل شيء! وجعلت تؤجله وهو يلح عليها حتى اقتنعت بأنها إذا لم تسقه الآن فقد تفلت منها الفرصة إلى الأبد، ونظرت إلى حسين بإشفاق وحنان - وكان يرتب ثيابه في حقيبة أبيه - وقالت: إنك رجل عاقل، وهذا ما يجعلني جديرة بالاطمئنان، ولست أطمع في شيء أكثر من أن تواصل سيرتك الحميدة في بلدك الجديد، وأن تحذر صحبة السوء.
فابتسم حسين قائلا: اطمئني كل الاطمئنان يا أماه.
على عبارة «صحبة السوء» استدعت إلى مخيلته صورة عطفة جندب والبيت الذي لا درابزين له، والأساور الذهبية، فشعر بفتور أغاض الإشراق الذي رسمته الابتسامة على وجهه؛ فانحنى على الحقيبة ليواري وجومه عن الأعين، أما الأم فاستطردت قائلة باهتمام: ولا تنس أسرتك، حقا ليس ثمة حاجة إلى تنبيهك لهذا، ولكنني أحب أن أذكرك بأننا سنظل في حاجة إلى رعايتك حتى يتوظف حسنين وتتزوج نفيسة! - ما توظفت إلا لهذا.
وسرت في نفس نفيسة قشعريرة رعب، ونفذت كلمة «تتزوج» إلى أعماقها وخالتها تنبش ما استتر من خبيئتها، ألا يزال هذا الأمل يداعب أمها؟ .. ألا تدري أن الموت أحب إليها منه؟ ونظرت إلى وجه حسين بغرابة، إنه لا يدري، وهيهات أن يخطر لهم هذا على بال، هيهات هيهات! وغابت الحجرة عن عينيها فخيل إليها أنها تراهم وقد أحدقوا بها في ثورة جنونية، وقد جحظت أعينهم ملتهبة بنار الغضب، ثم انقضوا عليها كالوحوش. وهزت رأسها لتطرد عنها أشباح هذه الأوهام المرعبة، فعادت إلى حاضرها، ولكن سرعان ما وجدت نفسها تتذكر على الرغم منها ساعات ضعفها؛ تلك الساعات التي تذهل فيها عما يدفعها إلى تسليم نفسها من دواعي اليأس والفقر، هنالك تنسى كل شيء لا الرغبة المحرومة الجائعة فتمثل بنفسها أفظع تمثيل، تذكرت ساعات الضعف هذه وهي بينهم صامتة فعلاها خجل أليم، وخوف لا قبل لها به، وعادت تردد بصرها بين أمها وشقيقيها بغرابة؛ ما يزال أمامها فرصة للتراجع، لا لرأب الصدع طبعا؛ فقد ولى أوانه، ولكن ... رباه! لا تدري ماذا تقول، ما الفائدة؟ أي أمل قد بقي لها في الحياة؟ لقد قضي عليها بأن تقضي على نفسها ...
واصلت الأم حديثها قائلة: انظر ماذا يلزمك من نقود كي تنهض بضرورات المعيشة، وأرسل إلينا الفائض من مرتبك، لا بد من هذا يا حسين لأنه لم يعد يبقى لدينا ما يستحق البيع. - سأبذل قصارى جهدي.
وتبدد أمل حسنين - أو كاد - من الفوز براتب شهري من أخيه بعد أن طالبت الأم بالفائض من مرتبه، أجل، لا يبعد أن تحس الأسرة بشيء من الترفيه، ولكنه لن يروي جفاف يده، خاصة في العطلة الصيفية الطويلة، ترى هل تطالبه أمه إذا وظف يوما ما بما تطالب به حسين؟ غير معقول! إذا انتهى هو من دراسته فستتخفف أمه من أثقل واجبات الأسرة، ويسعه وقتذاك أن يتزوج وأن يعنى بأمر نفسه، إن نفيسة وحسين يتصديان للزوبعة في إبانها، وقد وجد نحوهما عطفا ورثاء دون أن يمنعه هذا من الفرح بحظه.
ولم تفرغ الأم من الإفصاح عما يدور بنفسها كله، فودت لو تحذره من أن يستدرجه أحد إلى الزواج، ولم تكن تجهل أن كثيرا من الآباء والأمهات يتصيدون العزاب أمثاله في غربتهم بسهولة، ولكنها لم تدر كيف توجه إليه هذا التحذير وعن يمينه أخوه الأصغر قد خطب وتهيأ للزواج وهو ما يزال تلميذا! عدلت عن رغبتها كارهة، ولكن مطمئنة في الوقت نفسه إلى رجاحة عقله وحسن تقديره، وتحدثوا طويلا ما شاء لهم الحديث، ثم جاء فريد أفندي محمد وأسرته لتوديع حسين، واستقبلوهم كما يستقبلونهم عادة بالترحيب والسرور؛ فليس ثمة أحد إلا ويقدر مودتهم وكرمهم وحسن جيرتهم. أجل، لعله طرأ على بعض النفوس تغير باطني منذ تمت خطبة حسنين لبهية غير الرسمية؛ فالأم مثلا آمنت بأنهم رموا شباكهم حول الفتى قبل أن ينهض، وأنهم راموا باستئثارهم أشد آمالها تألقا، أما نفيسة فلم يكن بوسعها أن تحب شخصا يطمح إلى امتلاك حسنين خاصة، ولكن هذه المشاعر الصامتة لم تكن لتؤثر في رابطة الود والإخاء التي تجمع بين الأسرتين، ولم يكن من الهين أن تنسى الأم أيادي فريد أفندي ومروءته. وقد سر حسين بزيارة التوديع سرورا كبيرا، ووجد نحو الأسرة التي يحبها - الأب والأم والفتاة وتلميذه السابق - امتنانا عميقا، وجرى الحديث بين ذكريات الماضي وآمال الحاضر لطيفا صادقا؛ مباركة عليك الوظيفة، تسافر مصحوبا بالسلامة، ستترك وراءك وحشة، لقد خسر سالم أستاذا لا يعوض ... إلخ، وبهية نفسها على حيائها وتحفظها قالت برقة: «تعود بالسلامة قريبا إن شاء الله!» فشكر لها تلطفها بلسانه وقلبه «فتاة حسناء حقا، مهذبة محتشمة، وحسنين شاب رائع، وسيكون زوجا رائعا، ترى ألم يقبل هذا الثغر؟ طالما شكا تحصنها متذمرا، فيا لها من فتاة نادرة حقا، سأسافر غدا وتمسون صورا وذكريات، وستجتمعون كاجتماعكم هذا، وربما لا تذكرونني إلا قليلا، أو لا تذكرونني بتاتا، ولكن كيف أكون؟ وأين؟ وهل أملك مع وحدتي إلا أن أذكركم؟ كلما اشتد الدهر ازددت قوة وصبرا، ولأظلن هكذا إلى الأبد!»
48
غاب وجه حسنين في زحمة المودعين، وتراجع سقف محطة مصر الهرمي حتى بدا من الداخل مظلما، كل شيء يتراجع بسرعة متزايدة؛ وداعا يا مصر! وعاد حسين برأسه إلى الداخل واعتدل في جلسته، وهو يغمض عينيه ليخفي دمعة رقيقة غالبت إرادته طويلا ورمش سريعا لينفض نداها عن أهدابه. وكان إلى يساره أفندي يتصفح جريدة على حين جلس قبالته قرويان يتجاذبان الحديث، ومع أن العربة كانت نصف ممتلئة إلا أن ضجة الراكبين كادت تعلو على صلصلة عجلات القطار، وذكر في حزن مرطب بسرور أنه رأى دمعة في عيني حسنين، أجل، لقد تجلدا وهما يتحادثان على طوار المحطة، ولكن حين تحرك القطار وأخذ الفتى يلوح له بيده اغرورقت عيناه بالدموع، وفي البيت كانت نفيسة تبكي صراحة حتى التهبت عيناها! لشد ما يذكر وجهها - الذي حرمه الله نعمة الحسن - بعطف ورثاء وحنان. أما أمه - وقد ابتسم على رغمه - فقد ضمته إلى صدرها وقبلت خديه، ولعلها تفعل هذا لأول مرة ، أو في الأقل فهو لا يذكر أنها قبلته قبل هذه المرة! لشد ما تأخذ نفسها بالحزم حيالهم، هذا طبعها، ولكن هيهات أن يطمس حنانها العميق! ولم تشأ أن تبكي وهي تودعه إذ إنها تتشاءم من دموع التوديع، ولكنه قرأ في تقلص جفنيها نذيرا بالبكاء لا يلبث أن يستفيض دموعا إذا واراه الباب عن عينيها، وقال لنفسه لعلها بكت طويلا، لا تزال تبكي، وشعر لهذا بكآبة وحزن. ولم يكن رآها تبكي قبل وفاة والده فاشتد تأثره؛ «يا لها من امرأة عظيمة! شاء الله أن يبتلي أسرتنا بمصيبة قاصمة، ولكن سبق لطفه فقدر أن تكون هذه المرأة أمنا؛ ماذا يكون مصيرنا لولاها؟ كيف غذتنا وكستنا؟ كيف سيطرت على توجيهنا؟ كيف نهضت بضرورات أسرتنا في هذه الظروف القاسية؟ يا لها من معجزة تحير العقول، حتى حسن أخي ففي ظني أنه لولا المرحوم أبي لأمكن أن تجعل منه رجلا غير الرجل! آه ... لأقتصدن في الكلام عن حسن؛ لولاه ما عرفت سبيلي إلى وظيفتي، نقوده هي كل مالي حتى آخر الشهر؛ الأساور؟ يا للذكرى! انس، ينبغي أن أنسى كي أعيش، سأقضي الدين يوما وأسدل الستار على أسوأ الذكريات.» وأرسل بصره من النافذة فارا من أفكاره، فرأى الحقول تترامى حتى الأفق، والخضرة يانعة ناضرة بهيجة، تميل رءوسها مع الهواء في موجات متصلة، وهنا وهناك فلاحون وثيران تلوح كالدمى تكاد تبتلعها الأرض، وسوائم ترعى، وفوق هذا كله سماء الخريف متلفعة ببياض شاحب ينحسر في أكثر من موضع عن بحيرات من زرقة صافية. ومر القطار بجدول صاف ذابت أشعة الشمس على سطحه زئبقا يبهر الأعين، ورأى أسلاك البرق في أمواجها المتواصلة تشملها حركة منتظمة كأنها تسبح في الفضاء على وقع طقطقة القاطرة الرتيبة، ثم مد بصره كرة أخرى إلى الأرض المنبسطة، الصامتة الصابرة، الخيرة، فذكر دون وعي أمه! كهذه الأرض الخضراء صبرا وجودا، والدهر يحرثها بسنانه! لم يعد بوسعها أن تقوم بزيارة محترمة لأنها لا تجد الثياب اللائقة! وتغيمت عيناه فغابت عن ناظريه بهجة المنظر، ودعا الله أن يرزقه حتى يرفه عن أمه المتصبرة وأسرته المتجلدة؛ «يا للعجب! إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. ومع هذا يقال عنا إننا شعب راض، هذا لعمري منتهى البؤس، أجل غاية البؤس أن تكون بائسا وراضيا، هو الموت نفسه! لولا الفقر لواصلت تعليمي هل في ذلك من شك؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية، لست حاقدا، ولكني حزين؛ حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردا ولكنني أمة مظلومة، وهذا ما يولد في روح المقاومة ويعزيني بنوع من السعادة لا أدري كيف أسميه، كلا لست حاقدا ولا يائسا أيضا، وإذا كانت فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي، فلن تفلت من يد حسنين، وربما وجدت نفيسة الزوج المناسب، سوف ترد الروح إلى أسرتنا فنذكر أيامنا السود بالفخار.» ولاحت منه التفاتة إلى يساره فوجد الأفندي الذي كان يتصفح الجريدة قد طواها ونظر إليه نظرة من ضاق بالوحدة والصمت، وكأنه كان ينتظر هذه الالتفاتة العارضة فقال بلا داع ولا تمهيد وهو يلوح له بالجريدة المطوية: لولا الطلبة ما ائتلف الزعماء، من كان يتصور أن يجلس صدقي مع النحاس على مائدة واحدة؟
ورحب حسين بالحديث ليريح رأسه من أفكاره وقال: هذا حق يا سيدي. - ومن كان يصدق أن يعترف الإنجليز بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن ينزلوا عن التحفظات الأربعة؟ .. أتظن أن تلغى الامتيازات حقا؟ - أعتقد هذا.
فقال الرجل بسرور: سيحكم النحاس إلى الأبد، انتهى عهد الانقلابات، حضرتك وفدي؟ - نعم. - قرأت هذا في سماحة وجهك، الوطني هو الوفدي، وما الأحرار الدستوريون إلا إنجليز بطرابيش، بصرف النظر عما يقال عن الائتلاف وفوائده. - هذا حق لا شك فيه. - حضرتك مسافر إلى الإسكندرية؟ - إلى طنطا فقط. - شي الله يا سيدي يا بدوي، لقد عشت في طنطا أعواما.
ولاح الاهتمام في وجه حسين فسأل: إني موظف جديد، فهلا دللتني على فندق معتدل الأسعار، يصلح للإقامة؟
فجعل الرجل يدعك ذقنه بيده متفكرا ثم قال: عليك بفندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق لصاحبه ميشيل قسطندي.
يمكن أن تقيم في حجرة نظير جنيه ونصف شهريا.
ثم تحدثا طويلا عن الإقامة في الفنادق، وسكنى الشقق والمفاضلة بينهما.
49
كانت حجرته بالفندق صغيرة، ذات فراش لشخص واحد وصوان ومقعد خشبي ومشجب، وكان جوها يشي بالرطوبة الكامنة؛ إذ كان بها نافذة واحدة تفتح على عطفة جانبية ضيقة ويحول بينها وبين الفضاء جدار بيت قديم، فلم تجد الشمس سبيلا إليها. وكان يوجد بالفندق حجرات تطل على شارع الأمير فاروق، ولكنها مرتفعة الإيجار، فعدل عنها إلى هذه الحجرة البسيطة قائلا لنفسه: «من العدل أن أعيش كما يعيشون في عطفة نصر الله.» وكان أول ما فعل أن فتح النافذة وأطل منها مدفوعا بحب الاستطلاع، فوقع بصره على عطفة حقيرة، تقوم على جانبيها بيوت قديمة، فعجب للفارق الكبير بينها وبين الشارع الذي تتفرع منه، ثم رأى جدار البيت الذي يحجب عنه الفضاء فداخله ضيق وأيقن بأنه لن يظفر في وحدته بتسلية. وتحول عن النافذة إلى مرآة الصوان فطالع صورته في هيئة غريبة؛ بدا وجهه طويلا وقسماته شائهة إلى ما تناثر على صفحتها الباهتة من إفرازات الذباب، فتضاحك وقال مخاطبا صورته: «إني أجمل منك بفضل الله ورحمته.» ثم مضى يخلع ثيابه، وارتدى جلبابه، ورتب ملابسه القليلة في الصوان الذي بدا على صغره فارغا، والواقع أنه لم يكن يملك غير بدلة وجلبابين وملابس داخلية من نسختين، وجميعها قديمة عملت بها يد الرفو والترقيع، وعلي سبيل الاطمئنان دس يده في جيب الجاكتة وأخرج رزمة الجنيهات، وعدها ثم أعادها إلى مكانها وقد عاودته ذكرياته الأليمة، ثم ذهب إلى الفراش وتربع عليه. لا يدري ماذا يفعل في بقية النهار، ولما لم يجد أحدا يحادثه ولا عملا يعمله فقد استسلم بكليته إلى التأملات والأحلام. وشعر بالوحدة والدهشة، وأدرك أنه سيعاني مر العناء من فراغه، أجل إنه يحب القراءة، ولكن حتى إذا أمكنه ابتياع ما يريده من الكتب فسيظل لديه من الفراغ ما يضيق به، لم يألف الحياة في هذا الصمت الثقيل، وشعر في وحدته الصامتة بأنه شيء ضائع تافه لا يحفل به أحد ولا يأبه له أحد؛ أين صوت حسنين الحاد العصبي الذي لا يفتأ يضج بالضحك أو بالشكوى، أين صوت نفيسة الرفيع وتعليقاتها اليومية الساخرة على الجيران والحوادث، ولكنه لم يشأ الاستسلام لشعوره، وآثر أن يبحث شئون ميزانيته التي سينظم معيشته على أساسها، مرتبه سبعة جنيهات، مبلغ لا بأس به في ذاته، لولا ما يحدق به من ظروف. منه أجرة سكن 150 قرشا، و200 قرش للأكل لا يجوز له أن يتعداها بحال، فول للفطور، وطبق خضر باللحم وأرز ورغيف للغداء، وحلاوة طحينية أو جبن للعشاء، وإذا دعا الأمر أقلع عن العشاء كما اعتادوا أن يفعلوا طوال العامين المنصرمين، ومهما يكن من أمر فلن يسمح لمعدته بأن تكون مصدرا للمتاعب والارتباك، إنه أعظم من هذا، وبوسعه أن يقرر هذه الحقيقة الآن، وهو في مأمن من معارضة حسنين، وأن تحمل المضايقة في سبيل الحياة التي يرضى فيها عن نفسه لألذ من شهوة الطعام. ثم 200 قرش لأمه، وهو قدر زهيد، وكان بوده لو يضاعفه ولكن لا حيلة له؛ فلم يبق لنفقاته النثرية وكسائه إلا 150 قرشا، فيما عدا الضرائب التي تخصم عادة من المرتب. ثم تساءل فيما يشبه الحيرة؛ ألا يمكنه أن يقتصد ولو مبلغا قليلا في صندوق التوفير؟! إنه لا يطيق الحياة بلا اقتصاد من أي قدر كان، ولا يظن أن إنسانا احتضنته أم كأمه يستطيع أن يمارس الحياة بلا اقتصاد. والحق أن أمه بين النساء كألمانيا بين الدول، قادرة على الاستفادة من كل شيء، ولو كان زبالة! كانت ترقع البنطلون حتى إذا بلغ اليأس قلبته، فإذا أدركه اليأس مرة أخرى قصت أطرافه وجعلت منه سروالا داخليا، ثم تصنع من بعضه طاقية وتستعمل بقيته ممسحة، ولا يلفظه البيت إلا فتيتا. لا بد من الاقتصاد مهما كلفه الأمر، وإن قسوة الحياة التي عضتهم بلا رحمة لحرية بأن تجعل من الاقتصاد عقيدة لهم، وعندما بلغ هذا الحد من التفكير تداعت إلى نفسه مشاعر الخوف التي كانت تعذب أسرته بسبب وبلا سبب، والتي لم يكن من باعث لها إلا الفقر، أجل كانوا في خوف دائم من أن تزيد النفقات الضرورية على الإيراد المحدود؛ كأن يتعرض أحدهم للمرض، أو يجد من ناحية المدرسة طلب، أو تتعطل نفيسة عن الكسب ردحا من الزمن، أو أو أو ... مما لا يقف عند حد، أواه! لشد ما يشعر بغمز الألم في صميم قلبه وهو يجتر هذه الذكريات! ومن خلالها يتراءى لعينيه وجه أمه المعروق الجاف كمثال حي للصبر والألم، أحب الوجوه إلى قلبه على بؤسه ودمامته، ومن عجب أن نفذت إلى نفسه - وقتذاك - نسمة مطلولة بغتة لشعوره بأنه بات قادرا على التخفيف عنها مما يثقل كاهلها، أجل إنه من الغد موظف من موظفي الدولة، وبعد أعوام قصيرة أو طويلة يصبح حسنين موظفا أيضا من درجة أعلى، وسيفاخر هو مدى الحياة بأنه قنع بشهادة متوسطة لييسر لأخيه الحصول على شهادة عليا، ترى هل يذكر حسنين هذه العبر؟ إنه يبدو مشغولا بأمر نفسه عما عداها، ذكي بلا ريب، ومجتهد، بيد أنه ... آه فليمسك عن نقده في غربته؛ فما أشد حنينه إليه! وما أكبر شوقه حتى إلى عناده وملاحاته! ومزق الصمت صفير قطار قطع عليه أفكاره وخفق قلبه، وكان الفندق غير بعيد من المحطة، فلم يكن بد من أن تذكره القطر بين آن وآن بالقاهرة وأهلها، وعاودته ذكريات الوداع فنهشت قلبه حتى سح حنينا دافقا، ثم غشيت قلبه سحابة مظلمة من الوحشة والكآبة، فقال لنفسه يصبرها ويعزيها: لعلها ضريبة اليوم الأول للفراق، ثم يهون الأمر رويدا رويدا، وتحير ماذا يفعل؛ هل يقضي سحابة اليوم في هذه الحجرة أو ينطلق إلى الخارج ليجول جولة في المدينة الجديدة، ثم خطر له خاطر هبط على نفسه كما تهبط أداة النجاة على المتخبط بين الأمواج، وهو أن يكتب رسالة لأخيه، وجاء بخطاب وبدأ يكتب بلا توان، فوصف رحلته والفندق وصاحبه قسطندي، وحجرته وأشواقه، ثم حمله تحياته إلى أمه ونفيسة، ثم توقف متسائلا هل يهدي تحية إلى بهية؟ هل يذكرها بالاسم، أو يصفها بخطيبة أخيه أو يقنع بتحية عامة لأسرة فريد أفندي؟ ثم آثر الأخير بعد تردد طال أكثر مما ينبغي.
50
وغادر حجرته في الصباح الباكر، ولكنه وجد الخواجا ميشيل قسطندي جالسا إلى مكتبه البالي عند أسفل السلم، وقد سأله الرجل عما إذا كان يحتفظ بشيء ثمين في حجرته، فابتسم حسين على رغمه، وقال له: «الأشياء الثمينة في جيبي!» وانطلق إلى الطريق، ثم قصد إلى مطعم فول في نهايته كان عرف موقعه في أثناء جولته أمس بالمدينة، وتناول فطوره، ولفت نظره بصفة خاصة سلطة حمص لم يعرف لها نظيرا في القاهرة، وتمشى في المدينة حتى التاسعة ثم ذهب إلى المدرسة الثانوية؛ ليقدم نفسه إلى الباشكاتب ويتسلم عمله رسميا. وقد اهتزت نفسه لمرأى المدرسة، وعاودته ذكريات قريبة حية لاحت في عينيه كالحلم، وعرف البواب بشخصيته، فمضى به إلى حجرة الباشكاتب، وطلب إليه أن ينتظر حتى يحضر الرجل عما قليل. وجلس حسين على كرسي قريبا من المكتب، وجعل ينظر خلل الباب المفتوح إلى فناء المدرسة في جو يثقل عليه الصمت. بعد أسبوع يبدأ العام الدراسي وتمتلئ هذه المدرسة بحياة حارة. وذكر كيف كان - منذ أشهر- يقضي أسعد أوقاته بالمدرسة في مثل هذا الفناء، وكيف كان يمتلئ خشوعا حيال أي موظف من موظفيها. إنه الآن أحد هؤلاء الموظفين، بيد أنه لم يستسلم للزهو، إن التلميذ حلم، أما الموظف فحقيقة، التلميذ مشروع مستشار أو وزير أما الموظف فدرجة ثامنة لا أكثر. ولم يطل به الانتظار؛ فما عتم أن صكت أذنيه سعلة غليظة ونحنحة عميقة ثم أزيز بصقة، ورأى على الأثر رجلا يقتحم الحجرة مهرولا، قصير القامة، رقيق الجسم، كروي الوجه، أعمش العينين، تعلوه صلعة ناصعة البياض، وقد قبض على طربوشه بيد وراح يجفف صلعته بمنديل باليد الأخرى، وما إن وقعت عيناه على الشاب حتى صاح به: بسم الله الرحمن الرحيم، كيف طلعت هنا؟ هل بت ليلتك في حجرتي؟ تلميذ مستجد؟!
فوقف حسين مرتبكا وقال: أنا يا بيك الكاتب الجديد حسين كامل علي.
فقهقه الرجل ضاحكا، ولكن أدركه السعال وعاودته النحنحة، فامتلأ فمه مرة أخرى ونظر حوله في حيرة ، ثم جرى إلى الخارج، وغاب نصف دقيقة، ثم عاد أحسن حالا وهو يقول كالمعتذر: لعن الله البرد، أصاب به كل مطلع فصل من فصول السنة، فتجدني في حيرة دائمة ما بين فصول السنة وفصول المدرسة، لا مؤاخذة يا حسين أفندي، السلام عليكم أولا.
فمد حسين يده مبتسما وهو يرد تحيته بأحسن منها، ثم جلس الرجل إلى مكتبه ودعاه إلى الجلوس فجلس، وأنشأ الباشكاتب يقول: اسمي حسان حسان حسان، العادة في أسرتنا أن يتسمى الابن الأكبر باسم أبيه، ألم تسمع بأسرة حسان بالبحيرة؟ كلا؟! كلا، كلا يا سيدي، الله الغني، التلاميذ الكلاب يدعونني بحسان أس 3.
فضحك حسين ملء قلبه، ولكن الرجل حدجه بنظرة انتقاد من بصره الأعمش، وقال: علام تضحك؟ ألم تتخلص بعد من عقلية التلاميذ؟ وبهذه المناسبة أقول لك إني رجل عصبي جدا، ولكن قلبي طيب، وكثيرا ما ألعن أبا أحسن واحد، بلا قصد سيئ ومع الاحترام الكلي للشخص الملعون! فافهمني ولا تنس أني في سن والدك!
فقال حسين في ارتباك شديد: لن يحصل بيننا ما يثير الغضب إن شاء الله. - إن شاء الله، أحببت أن أعرفك بنفسي، هذا كل ما هنالك، إني ألعن نفسي كثيرا، اللعن مريح في أحايين لا حصر لها، ولولاه لمات كثيرون كمدا! ستعلم عما قريب معنى العمل في مدرسة، (ثم متنهدا) وصل الكتاب الخاص بتعيينك من الوزارة (وبحث عنه في أوراقه حتى وجده) وهو الرقيم 1175 بتاريخ 26 من سبتمبر 1936، وقد جئتنا ونحن في أشد الحاجة إليك، وستبدأ الآن في مراجعة كشوف الأسماء والمصروفات، لقد تزوج الكاتب السابق من كريمة مفتش بالوزارة، فنقله فجأة إلى القاهرة، حضرتك متزوج يا حسين أفندي؟
فقال حسين مبتسما: كنت تلميذا حتى الربيع الماضي! - وهل تظن أن التلمذة مانعة من الزواج؟ لقد تزوجت وأنا تلميذ بالثانوي، وهذه أيضا من عادات أسرتنا كتسمية الابن الأكبر باسم أبيه، وكان لنا عادات أخرى عظيمة، أبطلها صدقي باشا لا سامحه الله.
فنظر حسين متسائلا، فاستدرك الرجل في حزن قائلا: والدي حسان بك وفدي كبير، وأحد أعضاء الهيئة الوفدية، وقد طالبه صدقي باشا أثناء حكمه المشئوم بالانفصال عن الوفد، ولما أبى كما ينتظر منه حرمه معونة بنك التسليف في عز الأزمة، فبيعت الأرض وضاعت الثروة.
فقال حسين: ولكن النحاس عاد إلى الوزارة؟ - ولكن الأرض ضاعت، والأدهى من هذا كله أن صدقي انضم إلى الوطنيين، وقد خطب أول هذا العام في مستقبليه بدسوق، فبلغهم تحيات «زعيمي النحاس» يا خسارتك يا حسان حسان حسان!
فتظاهر حسين بالتأثر وغمغم: ربنا يعوضكم عن خسارتكم خيرا.
فهز الرجل رأسه، وسكت دقيقة، ثم قال: حظك سعيد إذ عينت في المدرسة بعد أن ولى عهد الإضراب، كادوا يحرقون بنا المدرسة أثناء المظاهرات الأخيرة، لعن الله المظاهرات والطلبة وصدقي باشا، أين تقيم يا حسين أفندي؟ - في فندق بريطانيا. - فندق؟! خيبك الله! معذرة، أعني سامحك الله، الفنادق مقام غير صالح للإقامة الطويلة، ويجب أن تبحث فورا عن شقة صغيرة. - ولكني لم أحمل معي أثاثا؟
فتفكر حسان أفندي وهو يقرض أظافره باهتمام طارئ، ثم قال: فرش حجرة لن يكلفك كثيرا، ويمكن أن تؤدي ثمنه مقسطا بضمانتي إذا شئت.
وعاود التفكير وهو يتفرس وجه الشاب واستطرد: توجد شقة مكونة من حجرتين على سطح البيت الذي أقيم فيه، لن تزيد أجرتها عن جنيه واحد، فما رأيك؟
ثار اهتمام حسين لأول مرة بعد سماع قيمة الإيجار فقال: سأفكر في الأمر جديا. - الأمر واضح مثل 1 + 1 = 2، والآن هلم إلى العمل؛ فإن الأوراق أكوام مذ تزوج ابن القديمة ونقل إلى القاهرة.
51
وقرر حسين أفندي أن يبقى في الفندق حتى يتسلم مرتبه أول الشهر الجديد، وأخذ يقتنع بمرور الأيام بوجوب الانتقال إلى شقة خاصة يتهيأ له فيها الشعور بالاستقرار والطمأنينة على وجه أفضل، وكان حسان أفندي دائبا على تزيين فضائل الإقامة في شقة له، حتى هل الشهر الجديد، فابتاع له فراشا وصوانا صغيرا ومقعدا بحوالي الجنيهين تم الاتفاق على أدائها على أربعة أقساط بضمان حسان أفندي، ولما كان إيجار الشقة جنيها فلم تزد نفقاته شيئا، وكانت الشقة الجديدة تشغل نصف سطح البيت الذي يقيم حسان أفندي بطبقته الوسطى، وكانت مكونة من حجرتين غير المرافق. فأغلق الشاب حجرة لعدم الحاجة إليها وفرش الأخرى بالأثاث الجديد وكان للحجرة نافذة تطل على شارع ولي الله - حيث يوجد مدخل البيت - وينسرح أمامها الفضاء بلا عائق لارتفاعها عما حولها، فشعر الفتى - بعد ضيق - براحة الفضاء وطلاقة الجو، وسر لذلك كثيرا، وكان يوم انتقاله إلى الشقة الجديدة يوما سعيدا حقا، إذ إنه وجد نفسه - لأول مرة في حياته - صاحب بيت وأثاث مرتب. ولم يكن نسي ذلك الإحساس اللطيف بالارتياح والسرور الذي انبعث في نفسه وهو يتسلم مرتبه صباح ذلك اليوم، ولا كيف دارى ابتسامة انطلقت من قلبه إلى شفتيه؛ حياء أن يطلع الصراف على فرحه، ولكن هذا السرور كله لا يعد شيئا إلى السرور الذي امتلأ به قلبه وهو يبعث بالجنيهين إلى أمه، كانت لحظة عظيمة عرف أثناءها أن صبره الطويل لم يذهب سدى، وما كاد يستقر به المقام حتى زاره حسان أفندي مهنئا وقال له: «لن تكون غريبا ما دمت بيننا» فشكر له فضله وحفظ له في نفسه من الامتنان ما هو خليق بقلبه الشكور، وغفر له ما يلقى منه في المدرسة من حدة الطبع وسوء التصرف، والارتباك في العمل، والحق أنه قد ألف هوسه، متعزيا بطيبة قلبه وخفة روحه، ولم يرض حسان أفندي أن يتركه منفردا، ودعاه إلى قضاء سهرته بشرفة شقته، فذهب معه مغتبطا، وجلسا معا وحسان أفندي يقول: يبدو لي أنك لا تحب المقاهي، فاجعل من هذه الشرفة ناديك الليلي.
وكانت الشرفة مهيأة للجلسة الطيبة ففي جانبها الأيمن كرسيان من القش، بينهما خوان وفي الجانب الآخر شلتة كبيرة تقوم وراءها وسادة، وعلى خوان في ركن من الشرفة وضعت صينية صفت بها قلتان وإبريق، وقد عام على الماء المجتمع في وسطها الليمون البنزهير، وراح حسان أفندي يتحدث بلا توقف تقريبا وكيفما اتفق، وقد بدا في جلبابه الفضفاض أصغر منه في البدلة فلم يكن شيئا يذكر، أو كان لسانا فحسب. ورحب حسين بالجلسة لما عاناه من الفراغ في الأسابيع الماضية، فلم يكن يدري ماذا يفعل بالوقت، ولم تنفع القراءة في تزجية فراغه، إلا قليلا، لا لأنه كان يضيق بها، ولكن لأن نقوده لم تسعفه بشراء ما يحب من الكتب فاكتفى مضطرا بكتاب غير الجريدة اليومية، وجرب الاختلاف إلى المقهى، ولكنه لم يهش له، وخاف أن يجره إلى بعثرة نقوده المعدودة فيما لا يجدي، وكان بطبعه حريصا؛ لهذا كله رحب بدعوة حسان أفندي وصدقت نيته على أن يجعل منها تسلية محبوبة مهما كلفه هذا. وتأدى الحديث إلى الشقة الجديدة فقال حسان أفندي: لا يهمك تنظيف شقتك؛ فقد أمرت الخادم بأن يتعهدها بالتنظيف كل صباح، وسوف أوصي غسالة تعرفها «الجماعة» بأن تذهب إليك كل يوم جمعة.
فشكر حسين صنيعه في حياء وتأثر، ولكنه تضايق بعض المضايقة لأنه كان يستطيع أن ينظف حجرته بنفسه، ولأن قيام الخادم بهذه الخدمة اليومية يوجب عليه أن ينفحه ببعض النقود بين آن وآخر، الأمر الذي لا يمكن أن يتقبله بارتياح، وضحك حسان أفندي بسرور ثم قال: أما مفاجأة المفاجآت التي أعدها لك فهي النرد .. هل تجيد لعبها؟
فقال حسين بسرور: بعض الإجادة.
فغادر الرجل الشرفة في حماس ثم عاد بالنرد ووضعها على الخوان، وهو يقول بفخار صبياني: أنا بحمد الله خير من يلعبها بالوجه البحري، وربما بالقبلي أيضا.
سر حسين حقا بهذه التسلية التي لم يكن يتوقعها وتساءل: عادة أم حبس؟
فقال حسان أفندي بثقة: اختر لنفسك ما تشاء؛ إنك على الحالين لمغلوب.
وبدآ يلعبان. وقد اتضح لحسين أن حسان أفندي يرش وجه المستمع إليه عن قرب برذاذ ريقه إذا حادثه؛ فأمل أن يلهيه اللعب عن الكلام، ولكنه كان يواصل اللعب والكلام معا، وكان اللعب نفسه يهيئ له فرصا لا تنتهي للثرثرة، فكان يعلق على أية نقلة للقطع مزهوا بلعبه ساخرا من لعب الشاب، ثم صاح به بعد أن غلبه أول عشرة: العن سوء الحظ الذي رمى بك بين يدي، وهيهات أن تذوق الفوز ما دمت حيا.
وعاودا اللعب بحماس وتحفز، وانهمك فيه حسين انهماكا شديدا ؛ فلم يفق حتى طرق سمعه صوت أقدام خفيفة تقترب من الشرفة، والتفت نحو الباب بحركة عكسية، فرأى فتاة تحمل بين يديها صينية شاي، وسرعان ما استرد بصره في حياء، وارتبك لأنه أدرك من أول نظرة أن الفتاة لا يمكن أن تكون خادمة، وأحس بشخصها إحساسا غامضا، وهو ينحني قليلا ليضع الصينية على كرسي خيزران، ثم به وهو يذهب مبتعدا، ولم يكن بصره قد ارتد عنها فارغا، أجل، علقت به صورة وجه ممتلئ يميل إلى البياض، وعينين سوداوين - أو لعلهما عسليتان؟ - ذواتي نظرة مليحة. ولبث في ارتباكه مورد الوجه على حين أمسك حسان أفندي عن ثرثرته بغتة، ثم عاد يقول بصوت منخفض: هذه ابنتي إحسان، لم أر بأسا في أن تقدم لنا الشاي ما دمت أعدك كأحد أبنائي.
وحرك حسين شفتيه كأنه يتكلم، ولكنه لم ينبس بكلمة، وقال حسان أفندي وهو يصب الشاي في القدحين: البنت في البيت نعمة كبرى، لقد تزوج أخواتها؛ واحدة في القاهرة، واثنتان في دمنهور ولم يبق غيرها!
تمتم حسين في ارتباك: ربنا يفرحك بها.
ومضيا يحتسيان الشاي في صمت، وأخذ الارتباك يذهب عن حسين مخلفا وراءه شعورا بالحرج، لم يدر له سببا واضحا، أو لعله تهرب من السبب وتجاهله. ووجد إلى هذا أنه لا يزال متأثرا بما علق في مخيلته من صورة الفتاة على غموضها، تأثرا يعرفه في نفسه حيال أية فتاة، ولا دلالة خاصة له سوى أنه انفعال مكتوب على كل شاب بصفة عامة، وكل شاب بكر بصفة خاصة، ولعل انبعاثه هذه المرة في بيت - لا في الطريق ولا في الترام - هو الذي أشاعه في جو من الحيرة والبهجة والعمق. وكان حتما أن يفكر في أمور أخرى بعيدة عنه بعد القاهرة، فتساوره مشاعر خوف وحذر، ولبث حسان أفندي يراقبه صامتا، ثم ضاق بالصمت فقال: اشرب شايك وتأهب للعشرة الآتية، وقعت في مخالبي ولا نجاة لك.
52
كانت على درجة من الحسن تسوغ تأثره، وقد صدق ظنه فيما تلا من أيام وأسابيع فرآها في الطريق بصحبة أمها ، ولمحها في البيت أكثر من مرة، ومن حسن الحظ أنها لم ترث من هيئة أبيها إلا خديه المنتفخين، ولكنهما جعلا لها طابعا خاصا، ولم يقبحا وجهها، وأدرك بسهولة أن شقة حسان أفندي باتت تجذبه إليها بقوة لا يبررها نشدان التسلية وحده. وكان يمتلئ شبابا وحيوية، فكأن قلبه كان ينتظر أول طارق، وسرعان ما ترعرعت بين جنبيه عاطفة يضطرم فيها الميل والرغبة والإعجاب، فرامها أنسا لوحشته وريا لظمئه، ولكن لم تغب عنه دقة موقفه لحظة واحدة من بادئ الأمر، فلم يكن يغفل عن متاعبه، ولم يدر له بخلد أن يتراخى في القيام بواجبه، بيد أنه لم يعالج أمره بالحزم، وكان هذا فوق طاقته، وكان عليه أن يختار بين الإغضاء من ناحية وبين الانزواء في حياة جافة موحشة لا نسمة فيها ولا أمل. واشتدت به الحيرة، وفكر مرارا في العودة إلى الفندق منتحلا عذرا من الأعذار، ولكنه لم يفعل، ثم وجد نفسه يسلم للأقدار، تاركا لها الأمر كله تقضي فيه بقضائها. وتواصلت الأيام دون أن يجد جديد، وكان نادرا ما يرى الفتاة، ولكنها لم تغب عن خاطره قط، أما حسان أفندي فلم يخرج عن مألوف ثرثرته، وتجاهل الأمر كله. وفي أثناء ذلك لم تنقطع عنه أخبار أسرته بفضل رسائل حسنين التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة، فكأنه يواصل حياته بينهم، ويشاركهم عواطفهم جميعا. وقد أخبره بأن أمه قررت أن ترصد النقود التي يرسلها لضرورات الكساء وحده، وأنه ظفر منها بجاكتة جديدة يرتديها مع البنطلون القديم، وأنها ابتاعت لنفسها روبا ترتديه فوق فساتينها الخفيفة فيكسبها دفئا تستغني به عن الملابس الصوفية، وكان من نتائج ذلك - رصد نقوده لضرورات الكساء - أنهم لم يستطيعوا الانتفاع بها في تحسين حالهم الغذائية التي ظلت على ما يعلم من التفاهة والسوء. وحدثه عن نفيسة فقال إنها تظفر من آن لآن بتقدم يسير وأن الأم لم تعد تستولي على جل كسبها كما كانت تفعل قبل ورود نقوده، فتوفر لديها مال قليل تنفقه على ثيابها، كي تظهر أمام الناس بالمظهر اللائق بهم، أما حسن فيبدو أن حياته الجديدة تستأثر به استئثارا شغله عنهم، أو لعله ظن بعد توظفه - حسين - أنهم لم يعودوا بحاجة إليه، فانقطع عنهم انقطاعا كليا. وواصل موافاته بأنباء استعداده لامتحان البكالوريا في نهاية العام قائلا إنه يستبسل في مذاكرته لأنه يعلم ما يعنيه سقوطه. وفي آخر رسالة وردت منه تودد إلى أخيه توددا كبيرا، ثم سأله في ختامها هل يطمع أن يمده بثمن بنطلون منجما على أشهر ثلاثة؛ نظرا لأن الجاكتة الجديدة قد فقدت بهاءها فوق البنطلون القديم الناحل؟ ووقف حسين عند هذا الرجاء متفكرا، لا يدري إن كان يستطيع أن يحقق له رغبته دون مساس بالقدر الذي يودعه صندوق التوفير. لكن فيم يفكر وهو يعلم بأنه لن يخيب لحسنين رجاء؟ ربما كان بوسعه أن يزجره لو لم يفرق بينهما هذا البعاد، ولكن البعاد رقق قلبه، وجعل حنينه إلى أهله قوة لا تقاوم. أجل إنه حريص لا يرحب بتاتا ببعثرة النقود، لكن حرصه يتخلى عنه بلا عناء كبير إذا كان البذل لأهله. لن يضيره التقتير على نفسه ثلاثة أشهر كثيرا في سبيل إرضاء حسنين. إنه يعرفه حق المعرفة، ويعلم بأنه يعد ما يقدم له من خير واجبا على الآخرين، فإذا لم يسعفه بالبنطلون نسي في حنقه صنيع الجاكتة. ووجد إلى هذا شعورا غريبا يدفعه إلى أن يغمر بجميله الفتى الذي يؤمن بأنه سيكون له مستقبل باهر غدا. لقد ضحى بمستقبله في سبيله، وينبغي أن تكون التضحية كاملة. وعاوده ذلك الشعور السعيد الحزين بأنه الضحية الصابرة على الأقدار التي تجهمت لهم، وأنه الدرع الذي يتلقى الضربات دون أن يتحطم، إنه عزاء يستمد منه قوة وسرورا، ويضفي على حياته معنى خلقيا باهرا.
ثم حدث ما لم يقع له في حسبان - هكذا قال لنفسه وإن لم يكن صادقا - إذ كان يوما يجالس حسان أفندي ويتنازعان الحديث كالعادة، فسأله الرجل: ألم تفكر في الزواج؟
فاضطرب الشاب، وشعر بما يشبه الذعر، ثم غمغم قائلا: كلا.
فرفع الرجل حاجبيه مستنكرا وقال: وفيم تفكر إذن؟ ولماذا تعيش؟ هل تظن للرجل من غاية، خاصة إذا اطمأن جانبه بالوظيفة، سوى الزواج؟
وتردد حسين قليلا ثم قال: علي واجبات خليقة بالتقديم عما عداها.
ثم صارحه بما يكتنف أسرته من متاعب مستعينا بالمبالغة أحيانا، حتى يقوي مركزه حياله. وأصغى الرجل إليه باهتمام حتى انتهى من قصته، ولكنه لم يبد عليه الاقتناع، ولم يكن على استعداد للاقتناع ما يحول بينه وبين أمانيه، ثم هز رأسه الأصلع باستهانة وقال: أراك تبالغ في تقدير خطورة الحال، حسبك الصبر حتى يحصل أخوك على البكالوريا، ثم تكون في حل من التحرر من مسئوليتك، وعليه هو أن يتوظف بدوره، النحاس باشا نفسه تزوج، فهل ترى نفسك أكبر مسئولية منه؟!
فضحك حسين في ارتباك وقال: ولكن أخي مصمم على استكمال تعليمه.
فعاد الرجل يقول هازئا: اسمع؛ إذا كانت لك أهداف في الحياة كإعادة دستور سنة 1923 مثلا فالأخلق بك أن تؤجل زواجك، ولكن دستور سنة 1923 قد عاد والحمد لله، فلماذا لا تتزوج؟ يجب أن تتزوج في نهاية هذا العام حال توظف أخيك، أما إذا أصر على تكملة تعليمه ووافقت والدتك على هذا فلا يحق لها أن تعارض في زواجك، أجل، لا يحق لها أن تدلل واحدا على حساب حرمان الآخر من حقه الأول في الحياة.
ووجد حسين حديث الرجل مؤثرا أكثر منه مقنعا، ولكنه لم يشأ أن يقطع بالرفض؛ أن تنفصم ما بينه وبين الرجل من أسباب المودة، فقال: أعتقد أنه من الممكن أن أحقق آمالي دون أن أقضي على آمال أخي.
وكان حديث الزواج يدور دون هدف معين في الظاهر، ولكن التفاهم الصامت عن الهدف كان تاما بينهما، وسبقت إليه إشارات فيما ينشأ بينهما من أحاديث كل مساء، وكأن حسين لم يشأ أن يقنع بهذا القدر من التفاهم فقال في حياء شديد: وأظن آنسة إحسان لم تعد أولى خطى الشباب.
فضحك الرجل عاليا وقال: إحسان صغيرة طبعا، ولكن الزواج لم يخلق للكبار.
لم يتقدم الموقف عن هذا الحد فيما تلا ذلك من أيام، حتى اقترح حسان أفندي أن يقدمه لبعض أقاربه في حفل عائلي فلم يسع حسين إلا القبول، وخجل أن يظهر أمام الأقارب بمظهره الذي لا يسر حبيبا، وركبه فجأة ما يشبه الجنون - هكذا وصفه فيما بعد - ففصل بدلة جديدة على أقساط، وابتاع حذاء وطربوشا مدفوعا إلى هذا كله بعواطفه ونزوته الطارئة حتى إذا جاء أول الشهر أدرك أنه من المستحيل أن يرسل النقود إلى أمه، وأرسل بدلا منها خطاب اعتذار كاذب يقول فيه إن مرضا ألم به، وإنه أنفق في العلاج ما ناءت به ماهيته المحدودة. وقد كتب الرسالة بيد باردة ونفس منقبضة، مقتنعا في أعماقه بأنه هوى من خطأ إلى خطأ، وأن تعاقب الأخطاء قد أفقده اتزان التفكير وسداد الرأي فلم يحسن حتى اختلاق العذر.
53
ثم كان يوم الخميس، وكان حسين مستلقيا على فراشه يقرأ جريدة الصباح التي يحتفظ بها عادة لوقت العصر، فسمع دقا على الباب فظنه خادم حسان أفندي، ومضى إلى الباب وفتحه وإذا به يرى أمه أمامه. أجل، أمه دون غيرها، ففغر فاه دهشة، ثم أخذ يدها بين يديه هاتفا: أماه! .. في طنطا؟! لا أكاد أصدق عيني!
وشد على يدها، ثم قبل خديها أو تبادلا بالأحرى قبلتين، وفي طريقهما إلى حجرته سألها بدهشة: لماذا لم يخبرني حسنين بحضورك كي أنتظرك في المحطة؟
فجلست المرأة على الكرسي الذي قدمه لها وهي تقول مبتسمة: لم أجد صعوبة تذكر في الاهتداء إلى مسكنك؛ إن الاهتداء إلى مسكن في شبرا أشق من هذا بكثير. وقد اقترح حسنين علي أن أنتظر حتى يخبرك عن حضوري برسالة خاصة، ولكني لم أجد داعيا لإزعاجك وأنت مريض، كما لم أحتمل البقاء في القاهرة وأنا أعلم أنك هنا وحيد ومريض.
مريض! أيقظته هذه الكلمة من نشوة اللقاء، فشعر بالخوف يقبض قلبه، ولكنه قاوم الخوف بقوة الخوف نفسه، فضحك وقال: يؤسفني أنني أزعجتك يا أماه، ولكني ما كنت أطمع في هذه النتيجة السارة، وهي حضورك بنفسك!
وجعلت تتفحصه بعناية، بوجه ينم عن إشفاق ورحمة ثم قالت: ماذا بك يا بني؟ .. كيف حالك؟ .. حدثني عن مرضك؟!
وداخله ارتباك بذل قصاراه كي لا تلوح أماراته في وجهه. وكان واثقا من أن مظهره لا يشي بمرض، بل لم يكن يخفى عليه أن صحته تقدمت تقدما ملموسا منذ توظفه؛ لتحسن حالته الغذائية بصفة عامة، قال ببساطة: لا شيء ذا بال، أصبت بنزلة معوية حادة، ولكنها لم تلازمني أكثر من يوم وبعض يوم ...
فقالت وعيناها لا تتحولان عنه: لشد ما انزعجنا جميعا! خصوصا وأنك طمأنتنا على صحتك في خطابك الأسبق ...
ثم استدركت بعد وقفة قصيرة: وتوهمنا في الأمر خطورة، والعياذ بالله؛ لما رأينا من اضطرارك قطع نقود هذا الشهر عنا.
وشعر بمثل شكة الإبرة في نفسه، وقال بعجلة مبتسما ابتسامة باهتة: اضطررت إلى استدعاء طبيب وشراء أدوية، فأنفقت أكثر من جنيهين، وأنت تعلمين أنه ليس لدى احتياطي للطوارئ! - لا عليك من هذا؛ إني مسرورة لأني وجدتك في صحة جيدة، ويحسن بك أن تبعث برسالة في الحال إلى أخيك لتطمئنه هو ونفيسة اللذين تركتهما في أشد حالات القلق.
ثم ألقت نظرة متفحصة على حجرته، فعلق بصرها بالبدلة الجديدة على المشجب في خوف وقلق، وتهيأ عقله لاختلاق كذبة جديدة، ولكنها قالت: حجرتك نظيفة وأثاثها جيد، هلم أرني شقتك.
فضحك حسين قائلا: ليست شقتي إلا هذه الحجرة، وتوجد حجرة أخرى مغلقة؛ لعدم الحاجة إليها. - كأنك تستأجر حجرة بإيجار شقة! ألم يكن الفندق أفضل؟ - على العكس؛ فإن إيجارها ينقص عن الفندق خمسين قرشا. - أخبرتنا بأنك لم تحتج إلى خادم أفلا يتعبك تنظيفها؟ - كلا، هذا علي هين كما تعلمين!
فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: يبدو لي أنك مرتاح ومسرور يا بني؛ ولذا فأنا سعيدة.
وخيل إليه أن الأزمة قد مرت بسلام، فقال بارتياح صادق: أنا السعيد يا أماه، وسأستأثر بك شهرا كاملا.
فما تمالكت أن ضحكت وقالت: بل هذه الليلة فحسب؛ ليس لي مكان أنام فيه، وسأكلفك أكثر مما تحتمل ما دمت تجيء بطعامك من السوق.
وقبل أن يتكلم دق الباب فقام إليه، وسمعت الأم صوتا يقول بلهجة ريفية : «سيدي حسان يسأل عما أخرك اليوم.» ثم سمعت حسين يعتذر بحضور والدته من القاهرة، وأغلق الباب وعاد الشاب إلى مجلسه من الفراش، فوجد أمه تنظر إليه بعينين متسائلتين فقال: خادم جاري حسان أفندي باشكاتب المدرسة.
وكانت تعلم من رسائله أنه الرجل الذي أقنعه بالانتقال إلى الشقة، وعاونه على ذلك بضمانته لأثاثه الجديد فقالت: يبدو لي من قول الخادم أنك تمضي عنده فراغك.
وتوهم لحظة أنها مطلعة على سره كله، فقال دون أن ينظر إليها، وهو يشعر بلسعة الخوف تجري في لعابه وتعترض زوره: كثيرا ما أفعل، إنه رجل طيب، وهو إلى هذا رئيسي، وقد وجدت في صحبته ما أغناني عن المقاهي و«مفاسدها» .. لا بد للإنسان من تسلية يزجي بها فراغه.
ثم قامت الأم إلى الحمام فغسلت وجهها، وخلعت معطفها فتناوله حسين، ونفض عنه الغبار بفرشاته، وهو يدعو الله أن تمر الزيارة بسلام، أجل، قد تولاه القلق وخاف على سره الافتضاح، واضطرب لوجودها في موطن هذا السر، فلعن الظروف السخيفة التي أجبرته على منع النقود عنها. وعادت المرأة إلى مجلسها وأخذت تسائله عن أحواله وحياته، ولكن لم يمتد حبل الحديث طويلا لأن الباب دق مرة أخرى، فذهب حسين ليفتحه فيما يشبه الحنق، وكان القادم هو الخادم نفسه، وقد قال بصوت بلغ مسمعيها: الست الكبيرة ترغب في أن تحيي الست والدتك.
ونهضت الأم مسرعة وخرجت إلى الردهة وقالت للخادم: لا يوجد مكان هنا لاستقبالها، سأزورها بنفسي.
وذهب الخادم فعاد إلى الحجرة وحسين يقول: لا داعي لهذه الزيارة، ولا يجوز أن نفترق دقيقة واحدة في المدة القصيرة التي تمكثينها هنا.
فتنهدت قائلة: مجاملات لا بد منها، ولا يخفى عليك أنه يهمني أن أجامل أسرة رئيسك.
وعاودا حديثهما ردحا من الزمن حتى خفت حدة النور، وأقبل الأصيل فنهضت الأم لترتدي معطفها قائلة: «آن لي أن أزور حرم جارك.» وراقبها الفتى بعينين كئيبتين حتى غادرت الشقة، ثم تنهد من الأعماق وتساءل: «ترى هل يساورها شك؟ .. كيف تنتهي هذه الرحلة؟!»
54
ولبث وحده مغتما قلقا، وتزايد قلقه بمرور الوقت، ثم لم يعد يشك في افتضاح سره، ثم تساءل مدافعا عن نفسه: فيم هذا الوهم كله؟! عسى أن يمر كل شيء في سلام، لا يمكن أن يلمحوا إلى شيء، هذا مؤكد، ولكن هل تغيب عنها الحقيقة إذا رأت إحسان؟ وتنبه إلى زحف الظلام، فقام وأشعل المصباح الغازي، ثم سمع الباب يدق فدق قلبه معه في عنف، ومضى إليه ففتحه، فدخلت أمه وهي تقول: لا أظنني غبت كثيرا.
وعادا إلى الحجرة، فوقف هو مستندا إلى حافة النافذة، وراحت هي تخلع معطفها وحذاءها في صمت، وجعل يقول لنفسه: «وراء هذا الوجه شيء، بل أشياء! إني أعرف هذا، أراهن على أنها لم تتجشم السفر لتطمئن على صحتي، ليست أمي بالأم الضعيفة، إنها حنونة حقا، ولكنها قوية، ما في هذا من شك، ما أفظع! هذا الصمت! متى ينقطع؟» وسألها متظاهرا بعدم الاكتراث: كيف وجدتهم؟
فارتقت فراشه وتربعت عليه ثم قالت باقتضاب: لا أدري لماذا لم يرتح قلبي إليهم!
إنه يدري لماذا، برح الخفاء، ووقع المحذور! وقال: الحق أن حسان أفندي رجل طيب. - ربما. لم أقابله بطبيعة الحال.
لن يسألها عما لم ترتح إليه منهم، فليتجاهل المسألة، ولن يطول هذا طويلا على أية حال. ووجدها تنظر إلى يديها اللتين شبكتهما على حجرها. إنها تفكر فيما ينبغي قوله، لشد ما أخطأ! ما كان ينبغي أن يستسلم لإغراء الظروف التي انتهت بمنع إرسال نقوده هذا الشهر، كيف ضل عائل الأسرة؟! ورأى أمه ترنو إليه بطرف واجم ثم تقول: أما وقد اطمأننت عليك فلا أظن أن يخجلني أن أصارحك بأن منع النقود عنا قد أخافني. اعذرني يا بني إذا اعترفت لك بأنه ساورني بعض الظن بأن يكون المرض مجرد اعتذار!
فصاح وهو لا يدري: أماه! - معذرة يا بني إن بعض الظن إثم، ولكني كنت أفكر طويلا فيما يمكن أن يلقى شاب وحيد في بلد غريب. أجل، إني أومن بعقلك، ولكن الشيطان شاطر! فخفت أن يكون أضلك، ولا تسل عن حزني وأنت تعلم بأني أعتمد بعد الله عليك. أخوك حسن لم يعد منا، ونفيسة فتاة تعيسة الحظ، وحسنين تلميذ وسيظل تلميذا طويلا، وأنت أدرى به! وإنا لنشقى ونجوع في مغالبة حظنا، وقد خسرنا نصيبك من المعاش وسنخسر عما قريب نصيب أخيك منه.
فقال حسين بانفعال: لست في حاجة إلى من يذكرني بهذا يا أماه، لقد أخطأت .. اضطررت إلى منع النقود اضطرارا لا حيلة لي فيه. إني جد حزين يا أماه.
فقالت برقة وكأنها تحدث نفسها: أنا الحزينة ..
ثم استطردت بعد لحظة صمت: أنا حزينة لأني أبدو كثيرا وكأني أحول بين أبنائي وبين سعادتهم!
فقال بقلق: لشد ما تظلمين نفسك! أنت أم رحيمة كأحسن ما تكون الأم رحمة. - يسرني أنك تفهمني يا بني.
وتنهدت وهي تنظر في عينيه ثم قالت: لا يقلقني شيء في حياتي كما يقلقني مستقبل أختك نفسية، أود لو أغمض عيني ثم أفتحهما فأجدها في بيت زوجها، ولكن كيف؟! لسنا نملك لتجهيزها مليما، وأخوف ما أخاف أن أموت قبل أن أطمئن عليها، أنتم رجال، أما هي فمن الولايا اللاتي لا نصير لهن.
فصاح حسين مستنكرا: لن تكون بلا نصير ونحن على قيد الحياة.
فتنهدت مرة أخرى قائلة: مد الله في أعماركم، ولكن الفتاة لا تضمن سعادتها في بيت أخيها المتزوج!
ولاحت في عينيه نظرة ذات معنى، إنه يفهم ما يقال، إذا كانت الفتاة لا تضمن سعادتها في بيت أخيها المتزوج، وما دام حسنين في حكم المتزوجين، فلا يجوز له أن يتزوج! منطق معقول! ورحيم أيضا! بيد أنه ينطوي على حكم بالإعدام، ما عسى أن يقول؟ لم يعد يخاف أن تنهال عليه ضربا كما كانت تفعل أحيانا، ولكنه لن يتخذ من هذا الأمان مسوغا لإغضابها، وعلى العكس سيتخذ منها دافعا بريئا للمبالغة في إكرامها وقال بهدوء: اطمئني يا أماه! أرجو ألا تجد نفيسة نفسها يوما في هذا المأزق!
فهزت رأسها هزة كأنها تقول له لندع المداراة جانبا ولنتكاشف، ثم قالت: الحق لقد ألحت علي بعض الخواطر فلم أجد فرجة إلا في أن أسافر إليك، على مشقة السفر وكثرة النفقات.
فابتسم قائلا بلا وعي تقريبا: إذن لم تحضري كي تطمئني على صحتي!
وندم في اللحظة التالية على إفلات هذا القول منه، ولكنها ابتسمت إليه حزينة وقالت: أصغ إلي يا حسين، أترغب في أن تتزوج؟
فتظاهر بالانزعاج؛ ليخفي اضطرابه وقال: إني أعجب لما يدعوك إلى هذا الظن! - ليس أحب إلي من أن أراكم أزواجا سعداء، ولكن هل ترغب في أن تعجل بالزواج حتى قبل أن تنهض أسرتك من كبوتها؟ - لم أفكر في هذا مطلقا. - ألا يضايقك تطفلي هذا؟ - مطلقا! - وإذا اقترحت عليك أن تؤجل التفكير في الزواج، ألا تجد في اقتراحي ظلما؟ - هو عين العدل والرحمة.
فخفضت عينيها قائلة في حزن: ليس شقائي الحق فيما نزل بنا، ولكن فيما أراه واجبا مما يبدو لعين المتعجل قسوة وأنانية. - لست هذا المتعجل على أية حال!
فترددت لحظة ثم قالت: إن ما أراه من حسن تقبلك لكلامي يشجعني على أن أنصحك بأن تترك هذه الشقة، وتعود إلى حجرتك بالفندق.
برح الخفاء! وأصيب بذهول، ثم غمغم متسائلا: الفندق؟!
فقالت بحزم: أنت لا تدري من أمر الناس شيئا، ولعل جيرانك أناس طيبون، ولكنهم لا يحفلون إلا بمصلحتهم، وإذا حافظت على جيرتهم كرهتنا وأنت لا تدري!
55
ولم يعودا إلى هذا الحديث مرة أخرى؛ فلم تكن الثرثرة من طبعها شأن الكثيرات من النساء. وقد قضيا صباح الجمعة في سعادة شاملة؛ حينا في البيت، ثم انطلقا في المدينة لزيارة السيد البدوي، ولكنها صممت على الذهاب إلى المحطة مع الضحى، فلم يسعه إلا الإذعان لها مرغما، وذهبا معا وقطع لها تذكرة، وفي أثناء انتظار القطار قال لها: سأبقى في البيت حتى نهاية الشهر؛ لأني دفعت الإيجار كما تعلمين.
فكان جوابها أن دعت له بالتوفيق والسداد، ثم جاء القطار فودعته وصعدت إلى عربة من عربات الدرجة الثالثة، وانحسرت بين جمع حافل من القرويات والقرويين. وغشيته كآبة ثقيلة، لأنه كان يقف منها موقف التوديع لأول مرة في حياته، فغمز القطار الذاهب قلبه غمزة قوية، ولأنه عز عليه أن يراها منزوية في العربة الحقيرة وسط البؤس والبائسين، وعاد إلى البيت كثير الهم والفكر؛ «أنا الملوم! إني أدفع ثمن حماقتي، أي شيطان يخصني بعنايته؟ هذه هي المرة الثانية، الخيبة تلاحقني دائما، لا مفر.» وجاءه خادم حسان أفندي يدعو والدته إلى الغداء، فأخبره بأنها سافرت إلى القاهرة. وجاءه مرة أخرى في المساء يدعوه إلى السهرة المعتادة فلم يسعه إلا الذهاب.
وجلسا حول خوان النرد في الحجرة بعد أن أحكم الشتاء إغلاق الشرفة، وسأله حسان أفندي: كيف عادت والدتك بهذه السرعة؟
فأجاب حسين مبتسما: لا يمكن أن يستغني عنها بيتنا أكثر من يوم. - تجيء الخميس وتذهب الجمعة؟! رحلة لا تستحق مشقة القطار! - ولكنها حققت لها ما تريد، فاطمأنت علي وتبركت بزيارة السيد ...
وأشار الرجل إلى داخل الشقة قائلا: قالوا لي إنها ست طيبة جدا. - بعض ما عندكم.
فتساءل الرجل وهو يرمش بعينيه العمشاوين. - كنا نود لو زارتنا قبل الرحيل! - كانت متعجلة، وقد حاولت أن أؤخر سفرها إلى العصر، ولكنها اعتذرت بحاجة بيتنا إليها.
فقال الرجل بأسف: وأعددنا لها غداء طيبا، فاخترت لها بنفسي ثلاث دجاجات مسمنة.
فابتسم حسين في ارتباك وتمتم: بالهنا والشفا لكم.
وضحك الرجل، ثم فتح علبة النرد، ولكنه بدلا من أن يشرع في إعداد القطع للعب سأله باهتمام: ألم تفاتحها بما «اتفقنا» عليه؟
فشعر حسين بحرج، ولكنه قال: كلا. - لمه؟ - إنها تعدني رجل بيتها، فكيف أفاتحها بهذا؟
فتناول الرجل زهر النرد في قبضته وهزه ورماه، ثم قال: أنت رجل خواف، كانت أمك خليقة بأن تفرح لهذا النبأ. - إنه خليق بالفرح إذا جاء في حينه.
فضحك الرجل ضحكة عالية ثم قال ببطء: لي فلسفتي الخاصة في الحياة؛ ألق بنفسك في عبابها ولا تخش شيئا، هل سمعت عن شخص واحد بمصر مات جوعا؟
فقال حسين مبتسما: أصل شعبنا اعتاد الجوع!
فضحك حسان أفندي واستطرد قائلا: كل الناس يعيشون، أغمض عينيك ثم افتحهما تجد الصغير كبيرا، والتلميذ موظفا، والأعزب متزوجا، ولا تجد خاسرا إلا من كان خوافا مثلك. هذه هي الحياة.
خواف ؟! وضايقته هذه الصفة، فثار عليها ثورة باطنية؛ ليس الخوف، ولكنه أدرك الموقف على حقيقته، أكان يكون شجاعا حقا لو تخلى عن المرأة وتركها تعود مهيضة الجناح خائبة الأمل؟! ليس الخوف، الرجل الأحمق يسيء فهمه، إنه مصاب في آماله ولا يجد من يرحمه ولا من يفهمه، وعندما بلغ هذه النقطة من أفكاره وجد رائحة غريبة مفاجئة، أجل، وجد سرورا في أن يكون على حق وإن أساء الناس فهمه، بل أكثر من هذا تركز السرور في أن يسيء الناس فهمه وهو على حق، سرور غامض كذلك السرور الذي يخامره وهو يستسلم لعنت القضاء، وقال مبتسما: أنت يا حسان أفندي من أسرة كبيرة، فلا يمكن أن تدرك متاعب أسرة كأسرتنا.
وندت عن الرجل ابتسامة خيلاء داراها بعبوسة مصطنعة وتمتم: عالج أمورك كما تشاء، ولكن لا تنس نفسك؛ قال تعالى:
ولا تنس نصيبك من الدنيا . وكل آت قريب، ما هي إلا أشهر معدودات ثم يحصل أخوك على البكالوريا فيتغير الموقف. ارم الزهر لنرى من يكون البادئ باللعب.
56
وبعد مضي أسبوعين جاءته رسالة من حسنين ينبئه فيها بأنه أدى رسوم الامتحان، وأنه يذاكر ليل نهار لضمان النجاح، وكان عظيم الثقة بذكاء أخيه ومقدرته، فلم يداخله شك في النتيجة المأمولة، ونزعت به نفسه إلى الأحلام، مع أنه لم يكن من الذين يستسلمون لسحرها عادة، إلى أنه كان يؤمن بكذب هذه الأحلام بالذات، ورغم هذا كله تخيل أخاه قد فاز بشهادته، واقتنع بأنه ينبغي أن يتوظف ليحمل العبء عنه، ثم تخيل نفسه يبدأ حياة سعيدة بضمير مطمئن! إنه لا يطمح إلى أكثر من حياة مطمئنة هانئة في ظل الزوجية، وقد علمته هذه الحياة التي حملها منفردا في شقته المقفرة معنى الأسرة؛ فحن إلى حضنها الدافئ حنين المقرور تحت مطر منهمر إلى المأوى، لم يعد يطيق الاختلاف إلى المطاعم العامة لتناول غذائه، وبات وكأنه يخاف الانفراد بنفسه في حجرته ولو إلى حين قصير، وأتعبه لحد السقم ما تتطلبه حياة الأعزب من رعاية متواصلة لشقته وأثاثه وملابسه، وكل هذا يهون إلى جانب ما يعاني من جوع قلبه وأشواقه، ولم يكن يحب الفتاة بالذات بقدر ما أحب فيها المرأة والحياة الزوجية، ولكنها كانت المثال المحسوس لأحلامه، فهفا إليها قلبه وحنينه، وزاد من تعلقه بها أنه لم يكن يراها إلا في القليل النادر مما تجود به المصادفات السعيدة، وحسب حسين أنهم يتعمدون إخفاءها، ولكن تبين له أن حسان أفندي رجل محافظ حقا، وأنه قد يتسامح، ولكن بالقدر الذي لا يخدش حياء ولا يجاوز حدا، ولو أن حسنين رضي بالوظيفة لمضى من توه إلى فتاته وضمها إلى نفسه، وحيي الحياة الحقة. هذا حلمه، ولكنه مجرد حلم، ولا يدري متى يتحقق، وسيواصل حسنين تعليمه وما ينبغي له أن يحنق لهذا، أجل فليدع الأمور تجرى كما يشاء الله ولينتظر، ولكن تبين له ذات مساء أنه لن ينعم بالانتظار في هدوء وطمأنينة؛ إذ قال له حسان أفندي عقب فراغهما من احتساء الشاي مباشرة: جد أمر هام يستحق أن أشاورك فيه.
رفع إليه حسين عينيه متسائلا فقال الرجل باهتمام: الأمر أن ابن عم إحسان - وهو تاجر ومزارع بالبحيرة - يرغب في طلب يدها، وقد رأيت أن أسألك عن رأيك قبل البت في الموضوع برأيي!
وكانت مفاجأة سيئة وجم لها الشاب في قهر وحيرة كأنه لا يصدق، والحق أن بعض الشك ساوره، ولكنه وجد نفسه في مأزق لا يخرجه منه تشككه، وشعر بحنق إنسان وضعته ظروف قاسية بين لا ونعم، وهو عاجز عن الكلام، فما عسى أن يقول؟! إذا قال نعم خان أسرته، وإذا قال لا قطع ما بينه وبين حسان أفندي، وتراءى لعينيه على اضطرابه وحيرته وجه الفتاة التي تعلقت بها آماله، فشعر بقبضة اليأس تشد على عنقه، ورمق الرجل الذي يعذبه بنظرة باردة تخفي وراءها حنقا متزايدا، وكان الآخر يتفرس في وجهه صابرا، فلما طال الصمت غمغم متسائلا: ما قولك يا حسين أفندي؟
ولم يجد بدا من الكلام، فقال بلهجة تنم عن رجاء: لقد فصلت لك ظروفنا بما لا يحتاج إلى مزيد.
فقال الرجل فيما يشبه الضجر : سيفرغ أخوك من دراسته في أوائل الصيف القادم. - ولكنه فيما أرى مصمم على مواصلة تعليمه.
فقال الرجل بضيق: فكرة سخيفة لا يصح أن تذعن لها وتتحمل مسئوليتها.
وأراد أن يتفادى من الخطر الماثل فقال متهربا كما يتهرب الفأر وراء رجل كرسي لن تغني عنه شيئا: بوسعي أن أعلن الخطوبة فورا على أن أنتظر بعد ذلك.
فتساءل حسان أفندي بفتور: كم عاما؟
آه، إن الرجل يظنه لا يحسب حسابا إلا لأخيه، ولا يكاد يدري شيئا عن نفيسة ومشكلتها المستعصية، ليته كان بوسعه حقا أن يصارحه بالحقيقة كلها بغير خفاء! وأجابه قائلا في إشفاق شديد: أربعة أعوام؟!
ونظر إليه ليرى وقع تصريحه من نفسه ثم بادر قائلا: لن يضيرنا الانتظار شيئا، ألا تثق في؟!
ومط الرجل بوزه وهو يهز رأسه ثم قال بهدوء مخيف: أربعة أعوام! يا ترى من يعيش! .. أتريدني على أن أقول لأمها إني رفضت ابن عمها الذي يرغب في الزواج منها الآن؛ كي تنتظر أربعة أعوام؟! يبدو لي يا حسين أفندي أنك لم تكن جادا فيما أظهرت من رغبة!
وانتفض حسين في ألم بالغ وهتف: سامحك الله يا حسان أفندي! إني رجل مخلص ولا زلت عند رغبتي الصادقة، ولا أرى سببا وجيها يحول بيني وبينها.
فقال الرجل بفتور: لست أبا ولا أما، فلا عجب ألا ترى وجاهة السبب، والآن فلندع النقاش جانبا، وأجبني باختصار ألا تستطيع الإقدام على الزواج في هذا العام؟
وساد الصمت وطال، دون أن ينبس حسين بكلمة. لم يجد شيئا يقوله، وتفكر طويلا في حيرة، ثم أطبق شفتيه في يأس وقهر. وابتسم حسان أفندي ابتسامة باهتة، وأطبق شفتيه بدوره وقد نم وجهه البيضاوي الصغير على الجمود والكدر، وطال الصمت والجمود وفاحت رائحة الخصام كالغبار في يوم خماسيني فلم تعد تحتملها الأعصاب، ومع ذلك لم يحتمل حسين أن تجيء القطيعة من ناحيته، فتساءل بصوت حزين كأنه كان يتنبأ الجواب سلفا: ألا يمكن الانتظار؟
فقال الرجل بنرفزة: كلا.
ومكث حسين قليلا في خجل وألم، ثم نهض مستأذنا في الانصراف فأذن له، وغادر الشقة لا يكاد يرى ما أمامه من شدة الحزن واليأس، غادرها وهو يعلم أنه لن يعود إليها مرة أخرى، وذهب إلى حجرته فأوقد المصباح الغازي وارتمى على الفراش، وألقى على ما حوله نظرة سخط وعداوة؛ عداوة لكل شيء، كان في تلك اللحظة عدوا لنفسه وللبشر جميعا؛ «أضعيف أنا أم قوي؟ وما صنعت بنفسي أهو إقدام أم فرار؟! كل شيء بغيض مقيت، هذه الحجرة التي أودعها وحجرة الفندق التي تنتظرني بالوحشة نفسها، وحسان أفندي، وطنطا، وحسنين، وأمي، وأنا. ربما تصور الرجل أنه يستطيع أن يضايقني في عملي بالمدرسة! .. تبا له، سيجدني أصلب مما يتصور، ولكن ما قيمة هذا كله! الموت أرحم من الأمل، لست أعجب لهذا؛ فالموت من صنع الله والأمل وليد حماقتنا، الأولى خيبة والثانية خيبة! فهل قضي علي أن أمنى بالخيبة مرة بعد أخرى؟ لماذا لا يتوظف بالبكالوريا؟! لماذا لا يحب لنفسه ما أحب لي؟!» وتناهى به الضيق فلم يعد يحتمل وحدته، فقام إلى المشجب وارتدى بدلته وغادر البيت، وجعل يخبط على وجهه من شارع إلى شارع في ليل بارد حتى أعياه المشي فمضى إلى مقهى، وأنعشه المشي والبرد من حيث لا يدري، فاتخذ مجلسه، وهو أهدأ نفسا، وراح يتسلى بمنظر الجلوس، ويستمع إلى ما يتطاير من سمرهم فلم يخل من كلمة أو لفتة تدعو إلى الابتسام، وخبت فورة الغضب الجنونية وانحسرت موجتها الصارخة عن حزن عميق لكنه هادئ وصامت، ولا يخلو في الوقت نفسه من ندم؛ أكان يؤثر حقا أن يوافق الرجل على رأيه؟ هل يسره أن يترك أسرته تحت رحمة الأقدار؟ يا له من أحمق! من حقه أن يحزن، ولكن ليس من حقه أن يغضب هذا الغضب الجنوني، وليس من الحكمة أن يستسلم للحزن، أجل، إنه يعلم أنه سيحزن طويلا ما دام الشعور لا يخضع للعقل، ولكنه يؤمن أيضا بأن لكل شيء نهاية، حتى هذا الحزن الخانق لا بد أن يدركه العزاء، وانتظر هذا العزاء كما ينتظر فريسة الكابوس صحوة النجاة، إنه آت لا ريب فيه كما علمته المحن، وهناك لن يجد ما يندم عليه، وسيجد ما يفخر به ويطمئن ضميره، إن شعوره بالواجب يفوق مشاعره الأخرى، ولشد ما أخطأ الرجل حين اتهمه بالخوف، وبحسبه أن أمه تفهمه وأنها تعده الأمل والعزاء، وافتر ثغره عن ابتسامة لهذا الأمل المنتظر وهو يعاني مرارة الحزن الراهن.
57
وحوالي منتصف الصيف استقبلت الأسرة - بعطفة نصر الله - يوما سعيدا حين نجح حسنين في امتحان البكالوريا، وجلسوا ثلاثتهم جلسة هناء وصفاء، فمرت ساعة لا يشوبها كدر، وتملت الغبطة قلوب نهكها التعب. وجاء فريد أفندي محمد وأسرته للتهنئة، فشعر حسنين حيال خطيبته بشعور سعيد بخيلاء ساذجة، كأن البكالوريا قد أضفت عليه رجولة جديدة، خليقة باحترامها وعطفها. كان كعادته مرحا لطيفا فتحدث طويلا منتشيا بالفوز، والضحكات تنطلق من فيه تباعا، وكان منظر بهية مما يستثير سعادته وألمه معا؛ كان يسعده أن تلتقي عيناهما خفية فيقرأ في نظرتها الصافية المحبة العميقة المهذبة، ولكنه لم يكن يحظى بالصفاء تحت نظرتها إلا قليلا، ثم يندلع في قلبه لسان لهب، ثم يذكر حرمانه الطويل فيثور حنقه، ويرمق العامين المنطويين بحسرة وأسف، استرق إليها النظر خلال الحديث فانصهر بصره على وجهها البدري وجسمها البض، وتخيلها - كما كان يطيب له أن يتخيلها كثيرا - متجردة إلا من شعرها المنسدل فبلغ ريقه درجة الغليان، وجعل يتساءل صامتا ألا يمكن أن تغير من سياستها بعد حصوله على البكالوريا؟ أليس من العدل أن تهبه قبلة على سبيل التهنئة؟! وظل وعيه متنقلا بينها وبين أخيلته وبين الحاضرين، وكان السرور شاملا بيد أنه لم يخل من عذاب لا يكاد يرحمه في محضرها.
ثم خلت الأسرة إلى نفسها مرة أخرى، فداخلها إحساس جديد - غير السرور الصافي - بالمسئولية؛ لأنهم تعلموا أن الظفر بالبكالوريا سعادة يعقبها تفكير ومتاعب، وكان إتمام تعليمه العالي أمرا مفروغا منه فيما بينهم، ولكن الرأي لم يستقر على اختيار بعينه، وقد قالت نفيسة: عليك الآن أن تختار المهنة التي تريدها.
فقال حسنين الذي كان قد قتل الأمر بحثا: التعليم العالي مرحلة طويلة شاقة، ومستقبل مجهول.
فنظرت إليه المرأتان في دهشة، فاستطرد قائلا: لقد فكرت في الأمر طويلا، وانتهيت من التفكير إلى أنه يجب أن أختار مدرسة من المدرستين؛ البوليس أو الحربية!
وهتفت نفيسة بسرور: ما أجمل هذا!
ولم يحفل بسرورها؛ لأنه كان يفكر في الصعاب التي تعترض آماله فقال: دراسة عامين فحسب ثم أصير ضابطا، والنجاح مضمون تقريبا؛ لأنها دراسة باللعب أشبه، والوظيفة في النهاية لا شك فيها. هذه مميزات لا يستهان بها!
فهتفت نفيسة بالحماس نفسه: دراسة عامين ثم تصير ضابطا! ما أشبه هذا بالأحلام!
وتساءلت الأم بإشفاق: والمصروفات؟!
ونظر إليها طويلا كالحائر ثم قال: البوليس غالية جدا، ولكن الحربية معقولة، مصروفاتها سبعة وثلاثون جنيها.
فتطلعت إليه المرأتان بوجوم ودهشة، فبادرهما قائلا: ليس الأمل في المجانية معدوما أو على الأقل في نصف المصروفات، ولنا في أحمد بك يسري شفيع عظيم القدرة في هذه الحال.
ولم يذهب الوجوم من نظرة الأم، وبدت قلقة حيال هذا الأمل، فقالت: حدثني فريد أفندي محمد عن معهد التربية الابتدائي، فوجدت فيه ميزات تستحق التقدير؛ فمدة دراسته ثلاث سنوات بالمجان تضمن بعدها وظيفة مدرس.
فقال الشاب بامتعاض: إني أكره أن أعمل مدرسا، وأكره أكثر أن التحق بمعهد بالمجان. - ولكنك لا ترى مانعا في دخول الحربية بالمجان. - ثمة فرق كبير يقوم بين معهد يقوم على المجانية، ومعهد قد يعفيني من مصروفاته كلها أو نصفها، سيقول الناس عن الحال الأولى إني تعلمت بالمجان أما في الأخرى فهيهات أن يعلم بها أحد غير كاتب المدرسة.
فهزت الأم رأسها غير مقتنعة وتمتمت: المسألة أخطر من هذا! - لا يوجد ما هو أخطر من هذا، أنا أكره الفقر وسيرته، ولا أحب أن أخفض رأسي بين أناس مرفوعي الرءوس!
ولم يكن هذا فحسب دافعه الحقيقي إلى هذا الاختيار، والواقع أنه طمح إلى المدرسة الحربية مدفوعا بنفسه الظمأى إلى السيادة والقوة والمظهر الخلاب، بيد أن أمه ظلت على قلقها وعدم اقتناعها فتساءلت: وإذا لم يتيسر إعفاؤك من المصروفات؟
ففكر متجهما ثم قال: سأحتاج بادئ الأمر إلى الدفعة الأولى من المصروفات، وفي مرجوي أن أنالها من أخي حسن! لا أظنه يتخلى عني كما لم يتخل عن حسين، أما الباقي فليس بمتعذر توفيره إذا نزلت لي عن نقود حسين إلى ما يمكن أن تجود به نفيسة (ناظرا إلى أخته) ولا أظنها تبخل علي، خاصة وأن عملها يجيئها بكسب لا بأس به.
ونقل بصره بين أمه وأخته ليسبر وقع كلامه، ولكنه لم يحظ بما يشجعه، فاستطرد يقول برقة: عامان شدة يمران كما مر غيرهما، وبعدهما الراحة والهناء!
وثابر على ترديد بصره بينهما في رجاء، ثم قال بإغراء: أم ضابط وأخت ضابط! .. تصورا هذا! تصورا مغادرتنا لهذه العطفة إلى شقة محترمة بالشارع العام!
ورقت نفيسة لنظرته المتوسلة فاجتاحها موجة إيثار وكرم فقالت: لا تحمل هما من ناحيتي سأهبك أقصى ما يمكنني أن أهبه!
فتجلت في عينيه نظرة امتنان وغمغم: شكرا لك يا نفيسة، ولن تكون أمي دونك كرما، وسيمضي كل شيء على الوجه الذي نحب جميعا.
ودعت له الأم بالتوفيق، لم تكن ترجو من ورائه خيرا كثيرا، وكان أقصى ما تطمح إليه أن يؤجل زواجه - بعد توظفه - عامين حتى ترمم ما تهدم من أسرتها، ولكن لم يسعها إلا أن تنزل له عن نقود الإنقاذ التي يرسلها حسين، وأن تدعو له بالتوفيق من أعماق قلبها، وتأثرت نفسية بما غمرها من إيثار وكرم ارتقيا بها إلى منزلة عالية من الصفاء والسرور والحماس، ونعمت بهذه السعادة لحظات غالية، ولكنها لم تدم طويلا؛ اصطدم تيارها الدافق بعقبة كئود من الذكريات السود، فتوقف عن الجريان الساجع وتجمع وتطين، وفتر الحماس فخفضت عينيها في خمود، ليس الفرح الصافي من حقها، وما عسى أن يصنع السرور بنفس ملوثة مطوية على البشاعة والشقاء؟
58
قال حسنين لنفسه وهو يغادر ميدان الخازندار إلى شارع كلوت بك «سيقول حسن إننا لا نسعى إليه إلا إذا طمعنا في نقوده!» وتألم لهذا الخاطر، ولكنه خفف من وقعه قائلا إنه هو - حسن - الذي لم يشأ أن يتردد أحد منهم على بيته، وجعل يتساءل في حب استطلاع عما سيجد في هذا المسكن المحرم! ثمة شيء «غير طبيعي، ولكنه لا يستغرب من حسن!»
ثم ذكر النقود التي يريدها فهاله الأمر، ماذا لو عجز حسن عن أن يمد له يد المعونة؟ وشعر بإصبع باردة تقبض على قلبه وتوشك أن تعصف بآماله، واهتدى أخيرا إلى عطفة جندف، وأخذ يرتقي أرضها القذرة، باحثا عن البيت رقم 17 حتى انتهى إليه، ورأى غير بعيد بائع بطاطة جالسا القرفصاء على الأرض أمام عربته، فسأله مشيرا إلى البيت: هل يقيم هنا حسن أفندي كامل؟
فسأله الرجل بدوره: تعني حسن الروسي؟
فقال حسنين بدهشة: حسن كامل علي المغني؟
فقال الرجل: هذا بيت حسن الروسي الذي يعمل بقهوة علي صبري بدرب طياب.
وأغضى حسنين في حياء منزعجا انزعاجا فظيعا، ثم لم يعد يشك في أنه حيال بيت أخيه، وقد توكد ذلك بذكرى علي صبري، ولكنه لم يتصور أنه يعمل بهذا الدرب الذي فرقع اسمه في أذنه كالقنبلة، وهذا اللقب: الروسي ما معناه؟ ودخل البيت وكأنه يفر، فزكمته رائحة بئر السلم النتنة وارتقى السلم الحلزوني، وهو يشعر بأنه يهبط إلى هاوية ما لها من قرار، وطرق الباب فجاءه صوت امرأة يصيح في ابتذال: «من؟» ثم فتح الباب عن امرأة قصيرة بدينة عميقة السمرة تنطق سحنتها بجمال وقح، حدجته بنظرة نافذة وسألته: ماذا تريد؟
فقال حسنين بصوت منخفض من الاضطراب: حسن كامل. - من أنت؟ - أخوه.
فانبسطت أسارير المرأة وتنحت جانبا وهي تقول: سي حسين؟
فتمتم في ذهول: حسنين!
ودخل في تهيب وحياء؛ من تكون هذه المرأة؟ وكيف عرفت أسماءهم؟ هل تزوج حسن؟ وشعر بقشعريرة باردة؛ أيمكن أن يقال عن هذه المرأة إنها زوجة أخيه؟ وإن أمه حماتها؟! وتمنى من أعماق قلبه أن تكون مجرد رفيقة، ومضت المرأة إلى باب في نهاية الدهليز ونقرت عليه ففتح بعد قليل وظهر حسن على العتبة، وكأنه شعر بوجوده فاتجه بصره إليه ثم هتف بدهشة وسرور: حسنين.
وهرع نحوه وشد على يده بترحيب وشوق، وقبل أن يتكلم أحدهما تسلل من الحجرة نفر من الرجال متتابعين، ألقوا على حسنين نظرة عابرة، وقال بعضهم مخاطبا حسن: سنسافر عصر اليوم إلى السويس بإذن الله، وتلحق بنا غدا.
ثم غادروا الشقة، كانوا من ذوي الجلاليب، تلفت سحنتهم النظر بغرابتها، ولا يكاد يخلو وجه أحدهم من تشويه، وداخل حسنين شعور بالقلق؛ من يكون هؤلاء الرجال؟ .. أفراد التخت؟ .. ما أبعد هذا عن التصور! لقد ذكره منظرهم برجال العصابات كما يظهرون على الشاشة، وطرأت عليه فكرة مرعبة بأن شقة أخيه تناصب القانون العداء! وألقى على حسن نظرة متوجسة، فرآه يرتدي جلبابا مقلما فضفاضا، ويبدو في صحة وقوة، ولكن يلوح فوق حاجبه الأيسر وفي صفحة عنقه اليسرى ندبان كبيران كأنهما أثرا طعنتين شديدتين، رباه! إن أخاه لا يخلو من تشويه إجرامي أيضا! ولعله الآن يستطيع أن يدرك حقيقة الأسباب التي حجبته عن عالمهم، وأومأ حسن إلى الحجرة في نهاية الدهليز وقال للمرأة: رتبي الحجرة واجمعي الأشياء.
وشبك ذراعه بذراع حسنين واتجه إلى حجرة النوم، ثم أغلق الباب وراءهما، وأجلسه إلى جانبه على الكنبة وهو يقول: كيف حالكم؟ .. كيف الوالدة؟ .. ونفيسة؟ .. وما أخبار حسين؟
وحدثه عن الأسرة بعقل شارد، وروى له ما يعلم من أخبار حسين، ثم قال بلهجة تنم عن العتاب: انقطعت عنا كأنك لست منا ولسنا منك، وباتت أمنا في حزن شديد.
وهز حسن رأسه في كآبة وقال: إني غارق في حياتي حتى قمة رأسي، ولكن توظيف حسين طمأنني عليكم.
وتساءل حسنين متأثرا بما طرأ على أخيه من تغير في مظهره، ترى هل أبقى على حبه القديم لهم؟ وانساق بغريزته إلى التودد إليه قبل أن يتطرق إلى مهمته وتساءل في قلق: ما هذا يا أخي؟!
فقال حسن ضاحكا: مخلفات معارك، لم تكن حياتي لتخلو من عراك، وقد أصبح العراك من أهم واجباتي في الحياة الجديدة.
وود لو يسأله عن هذه الحياة الجديدة، ولكنه تحامى ذلك بغريزته أيضا، لقد قصد هذا البيت المحرم في سبيل الحياة، وحسن يتخذ من العراك واجبا في سبيل الحياة أيضا، فما أفظع ما تسيمنا الحياة من خسف! «من كان يحلم بهذا المصير ونحن صغار نلعب! كان حسن طفلا حاذقا شاطرا، وكان أبي يحبه أكثر من أي شيء في الوجود، ثم بدا وكأنه انقلب له عدوا، ولكن لم يكن يتصور أحد أن ينتهي به المطاف إلى هذا البيت! لا شك أن حسين أدرك الحقيقة في زيارته لهذا البيت في سبتمبر الماضي، ولكن ترى هل تعلم أمي بكل شيء؟!» لم تواته شجاعة على السؤال الصريح، ولكنه تساءل في مكر: ما العلاقة بين الغناء والعراك؟
فقهقه حسن ضاحكا ثم قال: هما شيء واحد في عرف الكثيرين.
وهنا جاءهما صوت المرأة من خارج وهي تقول: إني ذاهبة، هل تريد شيئا؟
فقال لها باقتضاب: مع السلامة.
ولم يستطع حسنين أن يقاوم حب استطلاعه فسأله بقلق: هل تزوجت يا أخي؟ - كلا.
فلاح الارتياح في وجه حسنين غير خاف فتساءل حسن: أسرك هذا؟ - نعم. - لماذا؟
فقال الشاب بسذاجة: أفضل أن تختار زوجك من وسط كوسطنا.
فقطب حسن كالمستاء وقال: إنها أفضل من سيدات كثيرات، تحبني وتخلص لي، ولا تضن علي بمال.
وأوشك أن يقول له «ومن مالها الخاص أعطيت حسين ما احتاجه من نفقات.» ولكنه أمسك رحمة بأخيه - لم يستطع التغير الذي لحق بطبعه أن يؤثر في عواطفه نحو أخيه حتى حين استيائه - ولما رأى القلق والندم يلوحان في عيني الشاب قال برقة: إن إخلاص الزوجة لزوجها لا يخلو من منفعة وراءه، أما هذه المرأة فإخلاصها غير مشوب، سوف تعلمك الحياة أمورا كثيرة تجهلها.
فهز حسنين رأسه متظاهرا بالاقتناع، وابتسم إلى أخيه ابتسامة رقيقة متوددا، ثم ذكر أمرا كاد ينساه فرحب به ظنا منه أنه خليق بأن يضفي على الجو الذي كاد يتوتر روحا من المرح فسأل أخاه ضاحكا: علمت وأنا أسأل عن بيتك أنهم يدعونك الروسي، فما معنى هذا؟
فضحك حسن ضحكة عالية أعادت الطمأنينة إلى نفس الآخر، وقال هو يشير إلى رأسه: نسبة إلى هذا! .. إني أكسب بعرق جبيني على نحو ما (وبسط يده ونطحها برأسه، ثم نظر إلى أخيه نظرة ذات معنى ضاحكا) أو بالأحرى بدم جبيني، لا بد من العرق كي تعيش، ولكنه يختلف العضو الذي يعرق بين فرد وآخر.
وشعر حسنين بغرابة نحو أخيه، وفكر مليا، ثم قال بحزن: ثمة أناس يكسبون دون أن يعرق لهم جبين!
وبدا حسن، وكأنه لم يفهم قوله على حقيقته فقال بحماس: هذه غاية الشطارة .. أن تكسب بعرق جباه الآخرين!
وسئم حسنين هذا الحديث الذي يجري بلا ضابط، فصمم على أن يطرق الموضوع الذي جاء من أجله. وصمت قليلا ثم قال بصوت منخفض: أظن يسرك أن تعلم بأني نجحت في امتحان البكالوريا؟
فهتف حسن بسرور: مبارك، أسر طبعا بسرورك وسرور أمنا!
تفرس في وجه الشاب ثم استطرد في لهجة لا تخلو من إشفاق وسخرية: وظيفة، ثم طنطا أو الزقازيق، أليس كذلك؟
فقال الشاب منتهزا هذه الفرصة التي هيأها الآخر كي يتقدم خطوة جديدة في سبيل غرضه: كلا، في نيتي أن ألتحق بالكلية الحربية! - الحربية! .. عظيم جدا! .. الحمد لله على أنك لم تختر مدرسة البوليس! - مصروفاتها كبيرة. - لا أعني هذا، ولكني لا أستلطف ضباط البوليس!
فحدجه الشاب نظرة تساؤل فقال حسن مبتسما: ضباط الجيش رجال أفراح، نراهم أمام المحمل وفي الاحتفالات الكبرى، أما ضباط البوليس فلا نراهم إلا عادين وراء خراب البيوت!
وساد الصمت وراحا يتبادلان النظرات؛ حسنين في قلق وحياء، وحسن في ابتسام له معناه، ولبثا كذلك طويلا حتى انفجر حسن ضاحكا، فضحك الآخر وهو يغض بصره حياء، وواصلا الضحك حتى تعبا، ثم سأله حسن بلهجة ذات مغزى: كم؟!
فضحك حسنين مرة أخرى وقد احمر وجهه من الحياء، ثم قال: الدفعة الأولى من المصروفات .. يؤسفني أن أقول إنها مبلغ لا يستهان به، ولكني سأدبر الدفعة الأخرى، ومصروفات العام الثاني من نقود حسين، وما وعدتني به نفسية!
وذكر حسن كيف كان يعد فيما مضى الخائب الفاشل في الأسرة جميعا؛ الآن يرونه ملاذهم في الملمات! وأحس زهوا، ولكن هذا لم يغير من شعوره الطيب المتأصل في نفسه نحو أسرته، بل لعله ضاعفه ، وساءل أخاه مبتسما: كم هذا المبلغ الذي لا يستهان به؟!
فقال حسنين في خوف: عشرون جنيها!
ولاح الانزعاج في عيني حسن، وقال وهو لا يدري: عشرون جنيها؟! إن جيشنا كله لا يساوي هذا المبلغ! .. هل تنوي الالتحاق بمدرسة اللواءات؟
وانتظر حسنين في اضطراب وقلق، ولم ينبس بكلمة حتى عاد الآخر يقول بجد واهتمام: هذا مبلغ جسيم حقا، ولا يمكنني أن أعطيك - اليوم على الأقل - أكثر من عشرة جنيهات!
وسادت فترة من صمت أليم، ثم نفخ حسن في ضيق وقال: لو جئتني قبل أسبوع! .. وعلى أية حال سأسافر غدا إلى السويس، ولعلي أعود بما يكفيك!
وتفكر مليا على حين قال حسنين بصوت منخفض: يؤسفني أني أزعجتك!
فقرصه في أنفه ضاحكا وقال: كيف تعلمت هذا الأدب، وعهدي بك طويل اللسان! لا تنزعج، سآتيك بما تريد ولو قتلت قتيلا ونشلت محفظته.
ثم أعطاه عشرة جنيهات، وحمله السلام إلى أمه وأخته، وطلب إليه أن يستمسك بالحكمة إذا تحدث عما رآه في بيته، وشد حسنين على يده شاكرا وغادر الشقة، وما إن انفرد بنفسه حتى قال بصوت ثقيل كئيب: «حياة حسن فضيحة يجب التستر عليها، ولعل ما خفي منها أدهى وأفظع.» وقطع الطريق متفكرا مغتما يلفه إحساس بالاشمئزاز والخوف، لم يكن بوسعه أن ينسى جميله ولا ما أبداه نحوه من عطف أخوي، ولكنه لم يستطع كذلك نسيان المرأة والرجال المشوهين، والندبين الخطيرين، نقش هذا كله على صفحة قلبه بمداد التقزز والرعب، رباه! لقد انقلب حسن إلى نوع آخر من الآدميين، لم يعد من الأسرة ولا من المجتمع الذي يعرفه، إنه يترنح كأنما ضربة قد هوت على رأسه فأفقدته وعيه، وكلما جد في السير امتلأ شعوره بفداحة الخطب، وذكر حاجته إليه جعلته يستوهبه نقودا لا يدري من أين أتت، فاشتد اشمئزازه وحنقه، ولعن هذه الحاجة من أعماق قلبه في يأس وقهر، وأمر من هذا كله أن حاجته لم تنته، فسيعود إليه بعد أيام ويمد إليه يده سائلا! ترى من أي سبيل تأتيه النقود في السويس! إن قلبه لا يكذبه، وفيما رأى بعينيه الكفاية لمن ينشد الدليل، ورغم هذا كله سيعود إليه ويسأله أن يتم صنيعه له! هل يستطيع أن يغضب لكرامته حقا؟ هل يستطيع أن يرد هذه الجنيهات إلى أخيه ويصيح في وجهه إني لا أرضى عن حياتك القذرة؟ وندت عنه ضحكة مبحوحة مرة .. إنه يعلم أنه يهذي هذيانا سخيفا، سيعود إليه راضيا ويأخذ النقود - إذا تفضل بها - شاكرا ممتنا، ولو علم أنه ذاهب إلى السويس ليسرقها ما وسعه إلا أن يدعو له بالتوفيق، وقال كأنه يحاور ضميره المتوجع: «مهما يكن من أمر فهو بالنسبة لنا أخ فاضل كريم!»
59
وفي عصر اليوم نفسه مضى إلى فيلا أحمد بك يسري بشارع طاهر، والواقع أنه كان يندفع بحيوية هائلة نحو الأمل الذي ركز فيه حياته جميعا؛ فإما الحرية أو الموت. وجلس في السلاملك ينتظر البك مسرحا طرفه في أطراف الحديقة أو في الشطر الأمامي منها على الأصح، وكان مشتت اللب فرآها رؤية غامضة، وتنقل بصره الشارد بين نخيلها الرشيق المنغرس وسط دوائر من الحشائش المنسقة سورت بنبات الشيح، وانتشرت في رقاعها شجيرات الورد على هيئة أهلة، وارتاح لحظة من أفكاره فاستقر ناظره على دائرة حشائش كبيرة تتوسط المكان ما بين مدخل الفيلا والسلاملك، فاستسلم إليها فارا من قلقه، وكانت تنبثق من وسطها نخلة قصيرة ذات جذع أبيض ترف عليها روح الطفولة، وتغشى سطحها شجيرات الورد بوفرة حتى تماست أغصانها وتعانقت أزهارها، فامتزجت في هالة كبيرة انثالت عليها الحمرة والخضرة والصفرة في وئام وائتلاف وسلام. وابتسم وهو لا يدري، وكان الظل قد زحف على أرض الحديقة وما وراءها من الطريق، ولاحت آثار الشمس المائلة في أعلى الدور على الجانب الآخر للطريق، ولكن الهواء هفا مائلا للسخونة مفعما بعرف الياسمين الجاثم على سور الفيلا، وورد على خاطره هذا السؤال: «هل يمكن أن أقتني يوما فيلا كهذه؟» وتخيل الحياة فيها ما بين المخدع والحديقة، وما يتبعها عادة من سيارة وأسرة محترمة. هذه هي المرة الثانية التي يزور فيها فيلا أحمد بك يسري ، وفي كلتا المرتين انفجر في صدره بركان من الطموح والسخط، والتلهف على متع الحياة النظيفة المحترمة، وكان أخوف ما يخافه أن ينحصر في حياة كحياة حسين، فيقطع عمره ما بين الدرجتين الثامنة والسادسة بلا أمل ناضر. في الحياة متع عالية وهواء نقي، وينبغي أن يأخذ نصيبه منها كاملا، وتوقف عن التفكير فجأة حين لمح دراجة تمرق من الجانب الأيسر للحديقة وعليها فتاة، وكانت الفتاة توجه الدراجة في حذر على مماشي الفسيفساء بين دوائر الزهور، فاستغرقها الحذر عن النظر فيما حولها، كانت في السادسة عشرة، ترتدي فستانا أبيض هفهافا، وتعصب رأسها بإيشارب منمنم، ذات قامة نحيلة، وصدر ناهد، وبشرة نقية، وقد أعجله النظر إلى ساقيها المدملجتين اللتين تتناوبان الارتفاع والانخفاض، فلم يكد يتبين وجهها، واختفت وراء جناح الفيلا الأيمن قبل أن يستدرك ما فاته منها، وثار في عينيه اهتمام ويقظة؛ إذا لم تكن هذه الفتاة كريمة أحمد بك فمن تكون؟ وابتدرت مخيلته تستدعي صورة بهية بجسمها اللدن الممتلئ، ووجهها البدري، شهية جميلة، ولكنها ليست من هذه الرشاقة في شيء! ثم ذكر أخته نفيسة فعجب للاختلاف البين بين مخلوقات من جنس واحد، ثم شعر في قلبه بغمز ألم وعطف، وعاد إلى نفسه فوجد فيها من فتاة الدراجة أثرا يشبه الأثر الذي تركته الحديقة والفيلا ونجفة بهو الاستقبال، طموحا وثورة وسخطا! «ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة!» ليست شهوة فحسب، ولكنها قوة وعزة، فتاة مجد تتجرد من ثيابها، وترقد بين يدي في تسليم مسبلة الجفون، وكأن كل عضو من جسدها الساخن يهتف بي قائلا: «سيدي، هذه هي الحياة، إذا ركبتها ركبت طبقة بأسرها!» ثم عاودته ذكرى بهية فتضاعف ألمه، وامتزج به ما يشبه الندم والخجل، وهنا سمع وقع أقدام آتية من ناحية السلم، فالتفت صوبها منقطعا عن تيار أفكاره، فرأى أحمد بك قادما في بدلة بيضاء من الحرير، وقد رشق في عروة الجاكتة وردة حمراء، فانتفض قائما وأقبل نحوه في أدب، وانحنى على يده مسلما في إجلال، وابتسم البك مرحبا وسأله وهما يجلسان: كيف حال الأسرة يا بني؟
فقال حسنين بتودد: يقبلون يدك الكريمة ويذكرون صنائعك.
فغمغم البك: أستغفر الله.
وأيقن البك أنه سيتلقى عما قليل رجاء بتوظيف هذا الشاب أو نقل أخيه إلى القاهرة ... إلخ. لم يكن يومه يخلو من مثل هذا، وكان يضيق بالرجاوات، ولكنه كان في قرارة نفسه يحبها كذلك، ولا يطيق أن يخلو بيته يوما من صاحب حاجة، وقال: خير يا بني؟
فقال حسنين بحرارة: جئتك يا سعادة البك مستنجدا بشفاعتك في إلحاقي بالكلية الحربية.
ودهش البك وكأنه كان يتوقع كل شيء إلا هذا الطلب الأرستقراطي، وتساءل دون أن يخفي دهشته: ولماذا اخترت هذا الباب الضيق؟!
وتألم الشاب لما لاح في وجه الرجل من دهشة، وكرهه لحظتها كراهية عمياء، بيد أنه قال بنفس اللهجة المتوددة المهذبة: يبدو لي يا سعادة البك أنه توجد فرصة ذهبية هذا العام لم يوجد مثلها في السنين الماضية؛ لما تعتزمه الحكومة من زيادة عدد الجيش، ومهما يكن من أمر فشفاعتك أهم من كل شيء!
وتساءل البك باقتضاب: والمصروفات؟!
وكرهه مرة أخرى، وسرعان ما تناسى رجاء المجانية أو صمم على أن يؤجله لفرصة أخرى وقال بثقة وطمأنينة: إني على استعداد لأداء المصروفات كاملة!
ففكر البك مليا ثم قال: إن وكيل الحربية صديق قديم، وسأحدثه بشأنك.
فكان جواب حسنين أن أقبل على يده يحاول تقبيلها، فسحبها الرجل ونهض قائما - ربما إنهاء للزيارة - فقنع حسنين بالانحناء على يده مسلما، وكرر الشكر، وغادر السلاملك، مرح الصدر بالأمل، وذكر وهو يقطع الحديقة فتاة الدراجة، وتمثلت صورتها وهو يرنو إلى أثر العجلتين في الممشى، ولكن لم يدم هذا إلا لحظة قصيرة، ثم استأثر بوعيه كله مستقبله وآماله.
60
في نفس الساعة كانت نفيسة في ميدان المحطة، كانت السماء تتخشع لهبوط المساء، على حين واصل الميدان في حياته الصاخبة يستبق على أديمه الإنسان والحيوان، والترام والسيارات، وكانت الفتاة واقفة على طوار تمثال نهضة مصر، تنتظر انقطاع تيار السيارات لتعبر الطريق إلى محطة الترام، فلاحظت أن رجلا واقفا على بعد أذرع منها ينظر إليها نظرة غريبة باتت مع الأيام تفهمها حق فهمها. وتولتها دهشة وتساءلت: حتى هذا؟! كان رجلا في الستين! يجمع في جسمه بين ترهل العمر ووقاره، مرتديا بدلة صوفية على حرارة الجو، ويقبض بيده على مذبة أنيقة عاجية المقبض، ويضع على عينيه نظارة زرقاء، وقد انحسر طربوشه المائل إلى الوراء عن جبهة عريضة لفحت الشمس أسفلها، وبدا أعلاها لامع البياض فيما فوق حز الطربوش، أما سوالفه وما لاح من قذاله فشديد البياض، وثار في أعماقها حب استطلاع وطمع؛ ولذلك لم تغادر موقفها حين انقطع تيار السيارات، وحولت نحوه عينيها فوجدته ما يزال يحدق فيها، وكأنه تشجع بنظرتها، فتقدم منها في خطوات ثقيلة وهمس هو يمر بها: اتبعيني إلى سيارتي.
ثم واصل سيره إلى سيارة واقفة لصق الطوار مثله في الهرم والوقار، يكاد يعلو سلمها عن الطوار شبرين، ويقف عند بابها سائق كالتمثال، وصعد إليها دون أن يغلق الباب وراءه وأمر سائقه فاتخذ مكانه خلف عجلة القيادة؛ ماذا يريد الشيخ؟ وابتسمت خواطرها في تشوف، ثم عادت تنصت إلى همس الطمع، وكأنه استبطأها فخلع نظارته ثم أومأ لها بيده، فما تمالكت أن ابتسمت، وألقت على ما حولها نظرة متفحصة، ثم اتجهت نحو السيارة، يحدوها الطمع وحده لأول مرة. وأوسع لها فجلست إلى جانبه، وما عتمت أن سطعت أنفها رائحة الخمر الفائحة من فيه، فاستحوذ عليها القلق، وقالت: لا أستطيع أن أتأخر.
فقال بلسان ثقيل: ولا أنا أيضا!
وأمر السائق بالسير فانطلقت السيارة، ولم يفارقها شعورها بالغرابة في أثناء الطريق، ثم غشيتها سحابة حزن وخوف لإحساسها بأنها تتدهور إلى ما لا نهاية. لم يسبق لها قبل هذا المرة أن ذهبت مع رجل قبل تعارف طويل أو قصير، ولو بعد رؤيته مرتين أو ثلاثا، إلى أنها لم تكن تخلو من رغبة. أما هذه المرة فها هي تستسلم لعابر سبيل، مدفوعة بالطمع وحده، وبلا أدنى رغبة! أي تدهور وأي نهاية؟! ترى كيف عرف أنها ضالته؟! هل انقلب وجهها - على دمامته - يشي بتدهورها ؟ وتقبض قلبها فرقا، وجبهتها حيرة قديمة جديدة معا، بين أن تتزين فتبدو في هذه الهيئة المبتذلة أو أن تتعطل فتكشف عن دمامتها النقاب؟! ووضع الرجل كفه على يدها وقال بصوت ملعثم: جميلة كالقمر!
ولم يفتر ثغرها عن ابتسامة كما كانت تفعل قديما، وتمتمت: لست من الجمال في شيء.
فقال مستنكرا: لا تخلو امرأة من جمال!
كاذب أو مخدوع فلشد ما يعمي الفسق العيون، وقالت ببساطة: إلاي!
فنقر بأصبعه على ثديها وقال: لولا جمالك ما وجدت هذه الرغبة!
ودت لو تستطيع أن تصدق قوله، ولكن هيهات! فلم تظفر بأحد يحبها أكثر من ساعات، لعله يعربد أو يخرف أو يعاني مرارة اليأس مثلها سواء بسواء، لقد كابدت من الرجال ما جعلها تحقد عليهم، ولكن دون أن تخمد لهذا رغبة جسدها الذي يسيمها الهوان فكرهته كما تكره الفقر. ما هي إلا أسيرة للجسد والفقر، ولا تدري كيف تستنقذ نفسها منهما، جرفها التيار وجرحتها الصخور، فلم تعد ترى من خير في أن تأوي إلى الشاطئ عارية مثخنة بالجراح وبلا نصير أو رحيم، ثم سمعت صوته يقول متنهدا «وصلنا» فالتفتت إلى الخارج فرأت السيارة تدور مع طريق دائري تقوم على جانب منه الأشجار الضخمة كأشباح عمالقة، وعلى الجانب الآخر يجري النيل في رقعة عظيمة من الظلمة إلا ما انغرس في جناحه البعيد من رماح الأنوار المنثالة من المصابيح، وقالت كالمتسائلة: الجزيرة؟
فضحك ضحكة فاجرة وقال بلهجة ذات مغزى: تعرفينها طبعا.
وتريث ريثما غادر السائق موضعه واختفى في الظلام، فخلع نظارته وهو يقول: أريني شطارتك؛ فكل شيء يتوقف عليها.
كان هرما مجنونا، يكاد ينز خمرا، وانهال عليها بمداعبة غليظة فعضها بوحشية وراح يقرصها حتى أوشكت أن تصرخ، ولاحت في الجو نذر هزء وسخرية، ثم تعب حتى اليأس، انفرج عن إحساس بالغرابة ومغالبة الضحك، وأخيرا ارتمى مخمورا وقال بصوت غليظ: مدي يدك إلى مقعد السائق وناوليني الزجاجة.
ورفع سدادتها وعل منها ثم أسلم ظهره إلى المسند، وراح يتنفس تنفسا ثقيلا غليظا. ولم تعد تحتمل ثقل الانتظار فقالت برجاء مشبع بالتودد لأنها تعلمت أن تخاف هذه الآونة أكثر من أي شيء آخر: آن لنا أن نعود.
فقال وكأنه يخاطب نفسه: ليتني لا أعود أبدا.
ولم تدرك ما يعني، ولكنها استجمعت شجاعتها وغمغمت: تسمح!
ودس يده في جيبه وأخرجها في تكاسل ثم ترك ريالا يسقط في حجرها فتناولته في دهشة وانزعاج وحدجته باستنكار وتساءلت وهي تتميز غيظا: ما هذا؟
فقال بجفاء مباغت وعيناه تعكسان بريق الخمر: نعمة كبرى! إذا لم ترضي به عاد إلى موضعه السابق إلى الأبد.
فقالت بحنق: أظن مقامك أعلى من هذا بكثير.
فصب في فيه جرعة كبيرة ومصمص بشفتيه مقطبا وقال: هذا حق، ولكن الريال أعلى من مقامك بكثير! أراهن على أنه لا توجد امرأة لها مثل هذا الأنف وتطمع في مثله!
وجرحت الإهانة صدرها فاضطرب وقالت وهي تغالب الغضب بالخوف: لماذا تحدثني بهذه اللهجة؟ - لأنك طماعة، ولأنك السبب فيما يقع لي، اعلمي أني لا أحمل معي إلا الفكة، وحتى هذه تحاسبني زوجي عليها عقب عودتي إلى البيت، وأهون علي أن أضربك من أن تضربني هي!
ولاذت بالصمت وهي تنتفض غضبا وغيظا، فعاد هو يقول: ضايقتني امرأة ذات مرة في مثل موقفنا هذا فصفعتها، وقذفت بها خارج السيارة نصف عارية، ماذا فعلت فيما تظنين؟ .. لا شيء! كانت تعلم بلا ريب أن الشرطي أخطر عليها مني، ومع ذلك فهي مظلومة وأنت مظلومة وأنا مظلوم، والظالم الحقيقي هو زوجي.
فزفرت زفرة غيظ وتمتمت: نعود من فضلك.
فقال وهو يتثاءب: لك هذا، افتحي النافذة ونادي السائق.
وانطلقت السيارة في طريق العودة، فتزحزحت حتى نهاية المقعد، وسهمت إلى الظلمة بعين خابية.
61
وكان يوم قبول حسنين طالبا بالكلية الحربية أسعد الأيام جميعا، وكان يحسبه مطلبا غير عسير كشأنه حيال مطالبه، ثم أخذ يتبين عسره وعناده؛ حتى اقتنع آخر الأمر بأن تدبيره للدفعة الأولى من المصروفات كان أخف متاعبه. وقد طال تردده إلى فيلا أحمد بك يسري، وكاد الرجل ييئس من قبوله، فنصحه بالعدول عن اختياره، ولكن تصميم الشاب وتقدم ترتيبه وحسن هيئته، وتفوقه في الكرة والعدو، ثم شفاعة أحمد بك قبل كل شيء. كل أولئك ساعد على إحداث المعجزة - على حد تعبيره بعد اليأس - وتم القبول وكاد يجن من الفرح، والحق أنه علق آماله كلها على هذا القبول بحيث لم يكن يدري ماذا يفعل أو كيف يولي وجهه وجهة أخرى لو أخفق مسعاه، كان طموحه إلى الحربية يتفجر من صميم روحه الملهوفة على السيادة الثائرة على تعاسة حياته وضعتها، وبدت الكلية لعينيه كمصنع سحري قادر على تحويله من إنسان مهزول مغمور إلى ضابط مرموق في ظرف عامين، وبأقل جهد، وكان سمع مرة صاحبا له يصف ضباط الجيش بقوله «الضباط مرتبات عالية ونفخة كاذبة، وعمل كاللعب لا خير فيه!» فهامت بالحربية نفسه وقوي حلمها في روحه. ولما علم بقبوله في الكلية أبى أن يعترف لوساطة أحمد بك بالدور الخطير الأول الذي لعبته في قبوله، فقال لأمه إن الفضل الأول راجع لمزاياه الجسمية، وتفوقه في الرياضة. وقال لنفسه في زهو: «أستطيع أن أعد نفسي من الضباط منذ الآن!» وراح خياله المختال يستعرض الآدميين الذين ستؤثر فيهم بذلته الرسمية تأثيرها السحري؛ الجنود والفتيات وعامة الشعب، بل وأحمد بك يسري نفسه وهو مرح نشوان. وحمل الخبر السار بنفسه إلى أسرة فريد أفندي محمد، فاستقبلته بفرحة تجل عن الوصف، وقال له فريد أفندي ضاحكا «شرفتنا يا حضرة الضابط!» وقال الشاب على مسمع من بهية لغرض في نفسه: «سأغيب عنكم أربعين يوما قبل أن يسمح لنا بالخروج مرة كل أسبوع!» وكان يطمع أن يحظى تلك الساعة بما حرم عليه عامين، ولكنه لم يتح له أن يخلو إلى الفتاة إلا دقائق، ولم تكن الدقائق لتمنعه من نيل مشتهاه لو أرادت الفتاة أن تجود له به، ولكنها لم تتزحزح عن تعففها حتى في هذه اللحظة. وغلبها الحياء كعادتها، فانكمشت وقلبها يخفق بالعطف والألم تأثرا بالوداع، وقال لها بعجلة في صوت لا يكاد يسمع: «أريد قبلة حارة من شفتيك!» ولما رأى حياءها وجمودها قال بجزع: «أتأبين علي هذا حتى في هذه اللحظة! .. لا يمكن أن أتصور أنك تحبينني!» وخرجت الفتاة عن صمتها قائلة في قلق «بل لهذا أرفض أن أذعن لك!» وتساءل في إنكار: «لا أفهم ما تعنين.» فقالت بشجاعة مؤثرة: «أرفض لأني أحبك!» وكان يسمع هذا الاعتراف الصريح البسيط لأول مرة، فبلغ به التأثر حد السكر، وهم بالاقتراب منها ولكنها أشارت إليه محذرة وهي تومئ برأسها ناحية باب الحجرة المفتوح، وما لبث أن عاد فريد أفندي وزوجه، فقضى بقية الوقت ممزقا بين نشوة السكر وقلق الشوق وحنق الغيظ، ثم ودعهم ونزل إلى شقته وهو يقول لنفسه: «هذا حب عاقل! حب يسيطر عليه الحزم والتدبير، كأنها رسمت خطة حكيمة كي تضمن زواجي بها. ولكن هل يعرف الحب الحقيقي هذا المنطق البارد؟!» وكان حديثه لنفسه في الواقع خاضعا لما استحوذ عليه من غيظ وحسرة، وعد وداعه لها أسوأ وداع مني به عاشق، ثم أمضى شطرا من الليل بين أمه وأخته، ولم تستطع نفيسة - كعادتها - مغالبة مشاعرها، فدمعت عيناها وقالت في حزن: «قضي علينا بأن نعيش وحدنا!» ولم يخل هو من كآبة خليقة بمن يفارق أهله لأول مرة، ولكن هون من وقعها أن روحه كانت تهفو كثيرا إلى الحياة المستقلة في بيت غير البيت، ووسط غير الوسط، أما الأم فحافظت على هدوئها الظاهري، ولم تشجع نفيسة على الاسترسال في حزنها، وقالت لها بحدة: «لا تبكي كالأطفال، سنراه كثيرا، وحسبنا سرورا أنه نال ما تمنى!» بيد أن قلبها كان في واد آخر، حرك الفراق الوشيك أشجانه فرجعت أوتاره الأحزان المنطوية، فذكرت وداع حسين، وتخيلت خلو البيت من أبنائها جميعا، وتداعت إلى ذهنها - على كره - ذكرى رحيل زوجها، فعجبت لحياتها التي لا تجود لها بسعادة إلا مصحوبة بوداع وفراق، فهل قدر لها أن تمضي البقية الباقية من حياتها وحيدة؟ وهل في سبيل هذه النهاية تصبرت وتجلدت وعانت ما عانت من مرارة الكفاح؟! ولكنها لم تستسلم لحزنها إلا بمقدار يسير، ونادت قوتها الكامنة، وذكرت ما صادف ابنها من آي التوفيق لتستعين به على تبديد كآبتها، مهما يكن من أمر فإنها تؤمن الآن بأن ما بذلت من صبر وكفاح لم يضع سدى، وأن سفينتها الضالة في سبيل الهداية إلى مرفأ آمن. ويحق لها أن تفرح؛ فما من ثمرة تجنى في هذه الأسرة إلا وهي غرس يديها وعصارة قلبها.
وفي الصباح الباكر ودع حسنين أمه وأخته، ومضى في سبيله إلى الكلية الجديدة.
62
ثم وجد نفسه في فناء الكلية بين جماعة المستجدين من الطلبة، وبحثت عيناه فيما بينهم لعله يجد صاحبا قديما من التوفيقية فيلوذ به من وحشته، ولكنه لم يظفر بوجه قديم، وضايقه هذا وإن أحس زهوا لكونه الطالب الوحيد من مدرسته الذي قبل في الحربية، وتمنى كثيرا أن يبدأ أحد بالكلام، وطال انتظاره، ولكن أبى كبرياؤه أن يكون هو البادئ، ثم مضى يتسلى بمشاهدة الكلية فجرى بصره مع الفناء الشاسع، وأبنيتها الفخمة المترامية، ثم ثبته طويلا على تمثالي المدفعين المقامين عند مدخلها فهاله المنظر، وبث في نفسه إعجابا وخيلاء. وكان بادئ الأمر مطمئنا إلى مزاياه الجسمانية من طول قامته ورشاقة قده ووسامته، ولكنه تخلى عن كثير من إعجابه بنفسه حين تفحص الآخرين ورأى بينهم شبابا غضا وفتوة ناضرة وجمالا رائعا، إلى ما لاحظ على بعض الأفراد من مخايل الأرستقراطية، ثم وقعت عيناه على شاب قادما من حجرة تطل على الفناء عرف فيه زميلا قديما في التوفيقية سبقه إلى الالتحاق بالكلية بعام أو يزيد، وكان يرتدي قميصا وبنطلونا قصيرا من الخاكي، وعلى ذراعه اليسرى أربعة شرائط، لم يكن من أصدقائه ولكنه تعرف به في فناء المدرسة، ومع أنه لم يكن يذكر من اسمه إلا «عرفان» ولم تكن هذه العلاقة الواهية لتغريه بالإقبال عليه في غير هذا الظرف إلا أنه رحب بالتسليم عليه ليعلن صداقته بهذا الطالب القديم أمام الطلبة المستجدين. ونفذ فكرته فمضى إليه حتى واجهه ومد إليه يده مبتسما وهو يقول في ألفة: كيف أنت يا عرفان؟
وسرعان ما ماتت الابتسامة على شفتيه للنظرة الجامدة التي رماه الآخر بها في تجهم وصلف، وقد أطال تفحصه في تكبر وما يشبه الغضب، ثم لمس يده بيده واستردها بسرعة كأنه يخاف عليها عدوى خبيثة دون أن ينبس بكلمة! وشعر حسنين بانهيار شامل وذهول قاتل، وظنه نسيه أو أساء فهمه فقال كالمستغيث: ألا تذكرني؟ .. أنا حسنين كامل علي.
فلم يؤثر الاسم في الآخر أيما تأثر، ولم يطرأ على صلابته أي لين، ولكنه خرج عن صمته وقال بخشونة وجفاء: لا صداقة هنا، أنت طالب مستجد وأنا باشجاويش.
نطق بهذه الكلمات ثم ذهب، ووجد حسنين نفسه في موقف خزي لم يقفه في حياته؛ فأثلجت أطرافه وتوترت شفتاه، وانتبذ موضعا بعيدا متحاميا النظر إلى أحد أقرانه، وإن تخيلهم وهم يتغامزون ويتضاحكون؛ ماذا دهاه الأحمق! ترى هل أهانه لضغينة اضطغنها عليه أو فقد رشاده؟ أمن الممكن أن يكون هذا هو النظام المتبع في هذه الكلية؟! ولبث مستغرقا في أفكاره لا يرى مما حوله شيئا حتى نودي على الطلبة المستجدين، ودعوا إلى أول طابور لهم بالملابس المدنية، ووقفوا صفين متوازيين بإرشاد الباشجاويش محمد عرفان وبعض الجنود، وقد تجنب النظر إلى صاحبه القديم الذي وجده معلقا فوق رأسه كالسيف وكظم عواطفه المستعرة أن يلوح منها أثر في وجهه، ثم جاء ضابط عظيم محاطا ببعض الضباط من رتب أقل، وألقى عليهم نظرة ثاقبة ثم راح يخطبهم عن الحياة العسكرية التي آثروها، وكان يخطب باللغة العامية بصوت أجش يوافق ما ارتسم على أساريره من الصلابة والعنف، وكان يفصل بين كثير من جمله بهذه العبارة «العقاب الصارم»، حتى صارت كضربات الإيقاع وملأ القلوب رهبة وحذرا، وما إن انتهى من خطبته حتى بدأ أول يوم في الحياة العسكرية الجديدة، واستقبل به حسنين حياة جديدة لم يسبق له بها عهد. وبدأ اليوم - والأيام جميعا - شاقا طويلا، يبتدئ بالدش البارد في الصباح الباكر، ويثنى بالطابور، ثم الدروس، جهد متواصل، وخشونة في المأكل والملبس والمعاملة، حتى إذا جاء وقت النوم استلقوا كالقتلى. وكانت خشونة المعاملة أفظع ما يلاقونه، كان الرؤساء يرونها فرضا واجبا، ويكفي أن يحظى طالب بشريط لأقدميته حتى يمارسها كحق من حقوقه، وهو يمارسها في غير رأفة وبسطوة تبلغ في أكثر الأحايين إهانة صريحة وتجريحا متعمدا. ولم يكن ثمة مجال للاعتراض أو الاحتجاج؛ إذ لم يكن للكلية من شعار تحرص عليه كالطاعة العمياء الخرساء البكماء، ولم يجد حسنين من عزاء في ذلك الجو الرهيب إلا أنه سيصير يوما أومباشيا ثم باشجاويشا، وهنالك يقضي ديونه دفعة واحدة! وقد ذكر عهد التوفيقية - الذي وصفه يوما بالإرهاب - بالترحم والرثاء. وبلغ منه الضيق أحيانا أن ندم على اختياره لهذه الكلية الجهنمية، وتمنى لو تواتيه الشجاعة على التخلص منها، وكان يشاركه إحساسه هذا كثيرون في الأيام الأولى على وجه الخصوص، وقد عصرتهم قساوة الحياة فسارع إليهم الهزال، ولعل حسنين كان الطالب الوحيد الذي لم يخضع لهذا القانون الطبيعي، بل لعل جسمه اكتسب ارتواء غير منتظر لأن غذاء الكلية - على خشونته - هيأ له وجبات منتظمة لم يعتدها في أعوام الشدة الأخيرة. بيد أنه تعرض لآلام نفسية غير متوقعة في أيام الجمع التي يسمح فيها عادة بالزيارات. كان فناء المدرسة الخارجي يمتلئ بالآباء والأمهات والأقارب، فيحظى الطلبة جميعا بنهار ممتع، ويعودون إلى حجراتهم مثقلين بالهدايا من حلوى وفاكهة ودسم الطعام، حتى الطلبة الريفيون لم يعدموا أقارب من القاهرة، فلم يكن ثمة طالب يقضي هذا اليوم السعيد وحيدا إلاه، لم يزره أحد ولم ينتظر أحدا، وكانت أمه قد أخبرته - قبل رحيله - بأنها لن تستطيع زيارته لأنها - كما يعلم - لم تتمكن من ابتياع معطف جديد يليق بالظهور أمام أقرانه، أما نفيسة فقد قالت له بمزاجها المألوف: «لا أظن أنه مما يشرفك أن أبدو أمام زملائك بهذا الوجه!» ولم يكن ثمة أمل في أن تزوره بهية؛ لحيائها وعدم اعتيادها الظهور في مجتمع من الأغراب، فلم يبق إلا فريد أفندي، وكان بطبعه كسولا لا يكاد يفارق بيته إلا لضرورة قصوى، ومع هذا فقد زاره مرة وحمل إليه هدية من البسكويت، واعتاد في أيام الزيارات أن يختار موقفا عند مدخل الفناء الداخلي يراقب منه الزوار بعينين كئيبتين، ويتملى بمشاهدة النساء والفتيات مأخوذا بجمالهن وأناقتهن، وآي النعيم البادية في وجوههن وثيابهن. وعجب لهذه الفوارق التي تباعد بين الآدميين، وبدت لعينيه محيرة بقدر ما هي مزعجة، وثارت بنفسه انفعالات السخط والغضب والتمرد، فلم يجد من متنفس إلا في أن يناقش ربه الحساب، متسائلا - فما يشبه التحدي - عن أسرار حكمته التي جعلت من الدنيا ما هو كائن! وسأله مرة زميل له عن سر عزلته فقال بلا تردد: أبي متوفى، وأخي مدرس بطنطا، أما الأسرة فمحافظة لم تألف الظهور بين الناس على هذا النحو!
بيد أن الأفكار السوداوية لم تجد من نفسه مرتعا خصيبا؛ إذ إن الحياة العسكرية لا تمهل الأفكار حتى يستفحل خطبها، وقد علمته أن ينسى باطنه أكثر وقته، ثم بمرور الأيام أخذ يألف شدتها وجوها الخانق فمضت تخف وطأتها وتحتمل، إلى ما ظفر به من صداقات جديدة ابتل بها صدره الموحش، فاستطاع أن يضحك ملء قلبه - رغم كل شيء - كعهده القديم، وهكذا انقضت الأربعون يوما.
63
وخيل إليه - لدى خروجه من الكلية بالملابس الرسمية - أنه حقق حلما بديعا بتصديه للعالم بالبدلة الملونة ... كان ينطلق كالعامود في استقامته، كالطاووس في خيلائه، ملقيا على صورته التي تعكسها مرايا الحوانيت والمقاهي نظرات ارتياح تشمل الشريط الأحمر، والطربوش الطويل، والحذاء اللامع، ملوحا بعصاه القصيرة ذات الرأس الفضي، قابضا على قفازه كأنه يتحدى العالم، ولما تراءت لعينيه عطفة نصر الله جاش صدره بمشاعر متنازعة من العطف والنفور، ثم مضى إليها مطمئنا إلى أن أحدا لن يراه ممن يود ألا يروه - لم يطلع أحدا من أقرانه على عنوانه - راجيا أن يراه جميع الذين يود أن يروه، وأحدقت به الأعين، ولوحت له الأيدي من رقاع الأحذية إلى الحداد، ومن بائع السجاير إلى جابر سلمان البقال. وتطلع رأسه إلى شرفة فريد أفندي، فوجدها مغلقة فسر لما تهيأ له من مفاجأة سعيدة غير مسبوقة بتنبيه، ثم قطع فناء البيت إلى الشقة، وطرق الباب وانتظر مبتسما، وجاءه صوت نفيسة وهي تزعق «من؟» وفتح الباب، فما أن رأته حتى هتفت كالمجنونة: حسنين!
وشدت على يده في انفعال وجعلت تهزها بقوة وفرح، وجاءت الأم مهرولة على صوت ابنتها، فاستسلم لذراعيها النحيلتين وهي تضمه إلى صدرها، وقبل جبينها في سرور شابه شيء من القلق على سترته التي طوقتها ذراعاها، ثم سار بينهما إلى حجرته القديمة التي بدت لعينيه غريبة، لكنها على غرابتها استثارت حنانه وذكرياته، ووقفوا ثلاثتهم والمرأتان ترنوان إليه بإعجاب وحب، ثم دعت له الأم وأفصحت عن سرورها بعبارات مقتضبة، ثم لاذت بالصمت، أما نفسية فلم يسكن لسانها لحظة «لشد ما أوحشتنا» .. «البيت من غيركم كالقبر» .. «اضطرني غيابك إلى أن أرد بنفسي على رسائل حسين بخط أقبح من وجهي» .. «لم يتمكن حسين من القيام بإجازته هذا العام لمرض زميله، وقد كدنا نجن من الحزن» .. «هل حقا كنتما تتراسلان؟ .. لقد أخبرني بهذا منذ عشرة أيام» .. «ماذا تعلمت؟ هل تستطيع الآن أن تطلق بندقية؟» وكان يجيب على أسئلتها في دعابة، ثم خلع طربوشه ووضع عصاه وقفازه على المكتب، ولبث واقفا وهو ينظر إلى سترته ليرى ما فعل العناق بها، وجلست أمه على الفراش وهي تقول: اجلس يا بني.
فتردد لحظة ثم قال: أخاف أن يتكسر البنطلون!
فتسألت المرأة بدهشة: هل تظل واقفا طالما أنت لابس البدلة؟!
وابتسم في ارتباك ثم جلس على الكرسي في حذر، ومد ساقيه وهو يفحص بنطلونه باهتمام، وقال: إن كسرة واحدة بالبنطلون خليقة بأن توقع علي عقابا صارما لا يقل عن حبس شهر بالكلية.
ونظر في وجه أمه ليرى أثر هذه الكذبة في نفسها، فقرأ في صفحته الانزعاج فاستطرد قائلا بصوت ينم عن التضجر: حياتنا شاقة، لا يمكن أن يتصورها إنسان؛ فنهارنا كله وشطر من الليل نقضيهما في الخلاء بين المدافع والقنابل والرصاص، وقد تودي هفوة بسيطة بحياة فرد!
فاتسعت عينا نفيسة في فزع، وتساءلت الأم في اضطراب: كيف يلقون بأبناء الناس إلى الهلاك؟!
وهتفت نفسية في انفعال: لماذا اخترت هذه المدرسة؟
فهز رأسه بثقة وقال: لا تخافي علي! إني ألعب بالنار بمهارة استحقت إعجاب الضباط جميعا!
فقالت الأم بصوت متهدج: ما عسى أن نصنع بإعجابهم إذا أصابك سوء لا قدر الله؟!
فقال حسنين في سرور خفي: وماذا تصنعين إذا دعينا غدا إلى الحرب؟ .. ألم تسمعا بأن هتلر يعد عدته لإشعال نار الحرب؟ وإذا نشبت الحرب هجم موسوليني على مصر فندعى جميعا للقتال!
وحدجته الأم بارتياع، ثم سألته بجد واهتمام: أحقا ما تقول يا بني؟
وتراجع قليلا: هذا ما يقوله بعض الناس! - وما رأيك أنت فيما يقوله هؤلاء الناس؟
وقبل أن يجيب صاحت به نفسية: إذا صح ما يقولون فاترك المدرسة بلا تردد.
فضحك الشاب ملء فيه، وقال مشفقا من إفساد سرور اللقاء: ما أردت إلا إخافتكما .. (ثم غير لهجته متسائلا) فلندع الهذر جانبا وخبريني يا ست نفيسة ماذا تعدين لي غداء للغد؟!
فابتسمت الفتاة وأدركت أن أخاها «ضيفها» نصف نهار الخميس ونهار الجمعة، وأن إكرامه واجب عليها قبل أي إنسان آخر، فقالت: سأشتري لك دجاجتين تطبخهما نينة في ملوخية! - عال! .. والحلوى؟ - برتقال؟ - نفسي في الكنافة، فطالما رأيت هداياها تحمل إلى الطلبة أيام الجمع، فيتحلب ريقي من بعيد!
ولم تهتم الفتاة للكنافة قدر ما اهتمت للسمن اللازم لها، ولكنها لم تتراجع في نشوة الكرم التي غمرتها فقالت: وستحلي بالكنافة كما تشتهي!
فقال الشاب بعد تردد: لو كنت وقحا لسألتك أن تحشيها بالفستق والبندق! - ولكنك لست وقحا والحمد لله.
هكذا تهربت بالمزاح، وأدرك حسنين أنه لم يعد بوسعها أن تسخو أكثر مما سخت فقال ضاحكا: آه لو رأيتم الهدايا التي كانت تحمل إلى الطلبة! .. وفي مرة أهدي إلى صديق قطعة من حلوى اسمها «بودنج!» - بودنج! - نعم بودنج.
فضحكت نفيسة قائلة: لولا الملامة لقلت إنها سلاح لضرب النار!
ثم سألته أمه: لماذا لا تخلع ملابسك؟
فقال في شيء من الخجل: سأذهب إلى السينما!
ولاح التذمر في عيني الأم، فاستدرك قائلا: وسأعود مبكرا لنسهر معا، وسنمضي الغد معا كذلك!
عادوا إلى الحديث والذكريات طويلا، ولكنه لم يعد يسعه أن يملك خياله الذي ينازعه إلى الشقة العليا! وكان يجد صعوبة في قطع الحديث والإفصاح عن رغبته في زيارة جارهم فريد أفندي، وأخيرا قال بعدم اكتراث: آن لي أن أترككما للذهاب إلى السينما، ولعلي أجد بعض الوقت لزيارة فريد أفندي!
64
منته نفسه بالانفراد بفتاته على وجه من الوجوه، ولكنه لم يدر كيف؛ فقد اجتمع في حجرة الاستقبال بالوالدين، واستفاض الحديث العادي وهو ينتظر حضورها بصبر نافد. ثم جاءت تسير على استحياء وقد لفها روب وردي لم يبد منه غير أطرافها، فسلمت عليه سلاما رسميا ووالدها يتفحصها بنظرة ضاحكة تنم عن إعجاب. وجلست إلى جانب أمها، واتصل الحديث كما كان، ولكن محضرها استأثر بأعماق وعيه فوجد مشقة في تتبع الكلام التافه ومشقة أكبر في الاشتراك فيه، ثم أخذ يستشعر بالملل والضيق، وكلما استرق إليها نظرة وتخيل قوامها البض ثار دمه وحقد على الجلسة وشهودها، ورأى في عينيها هدأة وطمأنينة كأنه لا يكدر صفوها مكدر، وإنها لكذلك دائما كأنما لا يجري في عروقها دم، وليس أحب إليها من أن تجلس بين والديها تصغي لحديثه، وهي في مأمن من نزواته! .. لذلك يحنق عليها أحيانا، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل ما بثته في حناياه من طمأنينة وثقة، فكان يشعر بأنه يأوي من حبها إلى ركن ركين، وعاطفة عميقة ثابتة لا تزعزعها الحدثان، واستمر الحديث فلم تجد من نفسها شجاعة على الاشتراك فيه، قانعة بهزة من رأسها، وابتسامة من شفتيها فبلغ منه الضيق نهايته، وفكر في مخرج، فخطرت له فكرة جريئة لم يقعد عن تنفيذها مدفوعا بجسارته، فقال موجها خطابه إلى فريد أفندي: هل تأذن لي في أن أصطحب بهية معي إلى السينما؟
وتبادل الزوجان النظر على حين خفضت بهية عينيها موردة الوجه، ثم قال فريد: أظن العالم الحديث يستسيغ هذا السلوك بين خطيبين.
ولكن زوجه قالت بلهجة المعارضة: أخاف ألا يروق هذا للست والدتك.
ولم يتورع حسنين عن الكذب إنقاذا لمشروعه، فقال: لقد استأذنتها فوافقت بسرور!
فابتسمت أسارير المرأة، وقالت وهي تنظر صوب زوجها: ما دام والدها موافقا فلا مانع عندي.
وطلب إليها فريد أفندي أن تأخذ أهبتها للذهاب مع الشاب، فمضت متعثرة في خطوات الخجل، وما هي إلا دقائق حتى كانا يغادران الشقة معا، ولاحظت بهية أنه جعل يسير في حذر عندما اقتربا من شقة الأسرة، كأنه يخاف أن ينتبه إليهما أحد من الداخل، فساورها قلق وهمست في أذنه: كذبت على أمي بقولك إنك استأذنت والدتك، وستغضب نفيسة لأنك لم تدعها معنا!
فأشار إليها بالسكوت وأخذها من يدها إلى الفناء ثم إلى العطفة، وسارا معا والوالدان يطلان عليهما من الشرفة، وكانت بهية ترتدي المعطف الأحمر الذي يجلو نقاء بشرتها، فبدت كالقطة الجميلة، بيد أن القلق لم يذهب عنها وقالت له في لوم: ستعلم أسرتك برحلتنا إن عاجلا أو آجلا.
ولم يدع له سروره بالظفر مكانا لهم فقال ضاحكا: لم نرتكب إثما، ولن تحرق الدنيا! - ألم يكن الأخلق بك أن تدعو نفيسة معنا؟ - ولكني أريد أن أنفرد بك!
فقالت بقلق، وكانت تخاف نفيسة أكثر من أي مخلوق آخر: أنت لا تبالي شيئا، وا أسفاه!
ولم يكن لديه من وسيلة للانتقام من تحفظها وبرودها سوى الكلمات الصريحة، وأحيانا النابية فقال: وددت لو ارتكبت معصية معك حتى أستأهل هذا الوصف عن جدارة.
فتضرج وجهها بالاحمرار، وعبست في استياء دون أن تنبس بكلمة؛ لأنهما كانا قد اندسا بين الواقفين على طوار المحطة، وجعل ينظر إلى وجهها الساخط في سرور باطني، ثم همس مبتسما: أعني معصية خفيفة!
فأعرضت عنه حتى جاء الترام، فصعدا إلى الدرجة الأولى، ولم يكن بها إلا سيدة أجنبية، فشعر بارتياح، وجلس لصقها، ثم سألها في دعابة: كيف كان شوقك إلي في غيابي؟
فقالت في شبه غضب: لم تخطر لي على بال قط!
فهز رأسه كالحزين وقال: ما آلمني شيء كما آلمني إحساسي بتشوقك إلي.
فقالت ببرود وهي تخفي ابتسامة: أصارحك بأن الكلية الجديدة قد زادت دمك ثقلا!
وذكر وهو لا يدري ما تعرض به نفيسة من ثقل دم فتاته، فرنا إليها متأملا، فوجدها جميلة فوق ما يشتهي، ولكنها لا تخلو من هذه الصفة! وما غاب عنه أنه يحب هذه الصفة كما يحب العاشق نقائض معشوقه، وعدل فجأة عن معابثتها فقال بحرارة: لم تغيبي عن نفسي لحظة واحدة طوال ذاك الفراق، وقد تعلمت جديدا، وهو أن الحب في القرب - على طموحه المعذب - جنة، أما على البعد فهو مأساة كاملة.
وخفضت عينيها دون أن تنبس، ولكنه شم في استسلامها وما اعتراها من سهوم رائحة الوجد الصامت، وامتلأت رئتاه بارتياح عميق ... وتحدث كيفما اتفق حتى بلغ الترام ميدان المحطة، فغادراه ومضيا صوب عماد الدين. وطلب إليها أن تتأبط ذراعه، ففعلت بعد تردد، ولما كانت تساير شخصا - غير أمها - لأول مرة فقد تولاها ارتباك وحياء، وشعرت بكوعه وهو يمس - عفوا أو قصدا - ثديها فسحبت ذراعها من ذراعه، وتساءل محتجا: ماذا فعلت؟! - هذا أروح لي.
فتغيظ لإفلات الفرصة وقال: سيكون من المعجزات تحويلك إلى زوجة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي امرأة محبة تعانق وتقبل ... إلخ إلخ!
وبعد حين قصير كانا يجلسان جنبا لجنب في السينما، وعاوده شعور بالزهو والخيلاء، غير أنه استأثر هذه المرة بميزتين؛ بدلته العسكرية، وحبيبته. ومر به كثيرون من زملائه الطلبة وخطفت أعينهم من فتاته نظرات متفحصة فتزايد شعوره بالسرور، ومال نحوها وهمس: ألا ترين أن جمالك يجذب الأنظار من المقاعد والألواح؟
فافتر ثغرها عن ابتسامة حيية، فانطلق مرحه وهمس مرة أخرى: قلبي يحدثني بأنني سأنال الليلة القبلة المشتهاة.
فرمته بنظرة وعيد ثم نظرت فيما أمامها، وحاول في الظلام أن يعابثها بكوعه أو بقدمه ولكنها لم تشجعه، ثم اضطرت تحت ضغطه وإلحاحه إلى أن تترك راحتها في راحته على الذراع التي تفصل بين كرسييهما، ومضى الوقت في سعادة شاملة.
65
وفي مساء الجمعة كان يقف بميدان الملكة فريدة ينتظر الأتوبيس رقم 10؛ ليحمله إلى الكلية. وكان أمضى نهارا سعيدا في أسرته، وتناول غداء لذيذا، وبدت نفيسة في مرحها المألوف ولكنها - على ذاك - قالت له على مسمع من أمها وبلهجة ساخرة: وددت لو رأيتك وأنت ذاهب مع «الهانم» إلى السينما!
وأدرك أن سره افتضح، وأن الحرب أعلنت فضحك عاليا، ونظر صوب أمه فرآها صامتة وعلى شفتيها ما يشبه الابتسامة، وشكر في نفسه بدلته العسكرية التي أنقذته من لكماتها إلى الأبد، وعادت نفيسة تقول بنفس اللهجة: ما أجملكما من زوجين! حضرتك في طول العمود والهانم طول الشبر، ودمها الثقيل يوسع لكما الطريق!
فنهرتها أمها قائلة: لا تكوني عيابة وفيك كل العبر!
فقالت الفتاة ضاحكة: أنا على الأقل خفيفة، ولكن لك حق يا سي حسنين؛ فوجهي لم يخلق للسينما!
واعتذر لها ما وسعه الاعتذار، ولكنه شعر بندم كما يشعر الآن، وما ضره لو كان دعاها للذهاب معه؟! كان يستعيد ذكريات اليوم وهو واقف ينتظر، وما لبث أن انضم إليه كثيرون من زملائه، ثم جاء الأتوبيس فصعدوا إليه متزاحمين، ولحق بهم آخرون رأى بينهم بعض من قابلهم أمس في السينما فترجح لديه أنهم سيعلقون على فتاته؛ شأنهم في هذه الأحوال، وسر لذلك سرورا كبيرا، وانتظر على لهفة الحديث الذي سيكون دون جوابه. ولم يطل به الانتظار لأن أكثر من واحد منهم بدا متحفزا، فقال قائل منهم وهو يشير إليه: أما علمتم؟ .. رئي الصنديد أمس وفي يده فتاة!
وود أن يسمع الجميع وأن يخلصوا لحديثه وحده، وتساءل البعض: من أي نوع؟! - النوع البيتي. - جميلة؟
وتركز انتباه حسنين واشتد وعيه، أما المتحدث فقال: لها عينان زرقاوان، ولكن يغلب عليها الطابع البلدي!
وتصاعد الدم إلى وجهه، وشعر بفتور قضى في الحال على حماسه ونشوته، على حين واصل الآخرون حديثهم في ضحك وصخب: ممتلئة أكثر مما ينبغي، قصيرة أكثر مما يستحب! - ودمها ثقيل من رتبة لواء! - دقة قديمة على وجه العموم، أين وجدتها؟!
وأدرك أن السؤال الأخير موجه إليه، ولكنه لم ينبس بكلمة وجعل يضحك متظاهرا بالاستهانة، وهو يعاني شعورا جارحا بالخجل والقهر. وقال شاب بلهجة تنم على الإشفاق: احذر أن تكون خطيبتك!
واندفع قائلا بلا وعي تقريبا: كلا طبعا! - حبيبة؟!
فقال مدفوعا بمشاعر الألم والخذلان التي تصطرع في نفسه: نوع من التسلية، ليس إلا! - إذن فلا بأس بها، عذراء؟!
وأجاب باضطراب شديد: نعم. - خيب الله أملك! لماذا تنفق وقتك عبثا؟! ألم تدر بأن التقاليد تقضي بأن تكون ليلة الخميس للعشيقة، ويوم الجمعة للخطيبة أو من يقوم مقامها؟!
فتكلف الشاب ضحكة وقال: سأصحح جدول النساء في المستقبل!
وضحكوا جميعا، ثم غيروا مجرى الحديث، وانطوى على نفسه في غم وهم يعاني سكرات الهزيمة، تبرأ من فتاته وهو لا يدري! آه لو علموا أنها خطيبته وأنه استعصى عليه نيل قبلة منها بعد مثابرة عامين! طابع بلدي، ممتلئة أكثر مما ينبغي، قصيرة أكثر مما يستحب، دم ثقيل من رتبة لواء، أهذه بهية حقا؟! وهي إلى هذا كله دقة قديمة! لا يخلو هذا القول من حق؛ فهي لا تدري كيف تصحبه في الطريق، ولا كيف تحسن الحديث والدعابة، ولا يكاد يذكر من قولها إلا التأنيب والتذمر، كيف يسعه إذا تزوجها أن يظهر بها أمام الناس؟ سيقولون هذا وأكثر منه. وشعر بكرب وامتعاض، وغاب عما حوله غارقا في أفكاره، فلم ينتبه إلى وقوف الأتوبيس أمام محطة الكلية حتى نهض الطلبة قائمين.
66
وفي الأسبوع التالي صعد في الوقت المعتاد لزيارة فريد أفندي، وكان الأب وسالم الصغير في مشوار فجلس مع الأم وبهية، واستمتع بقدر من الحرية لا يتاح له بمحضر الأب. وبدت بهية في فستان بني تنبسط على أعلى صدره شبه مروحة من الحرير المزركش، ينغرز مقبضها أسفل البنيقة، وتنتشر أهدابها فوق الثديين، فلم يكن ينقصها إلى المعطف وتصبح متأهبة للذهاب معه إلى السينما إذا دعاها. ولكنه كان أبعد ما يكون عن التفكير في هذا، وكان صوت نفيسة لا يزال يطن في أذنيه وهي تقول له بعد أن أعطته نصف ريال لسهرته: هذا لفسحتك أنت وحدك!
ولكن لم تكن نفيسة كل شيء؛ كان في الواقع لا يجد الشجاعة للظهور معها مرة أخرى أمام زملائه، وبات يخجل منها وهو لا يدري. كان يحسبها أجمل فتاة، ولكنه لم يكن فتح عينيه بعد، وجاءت ملاحظات زملائه الساخرة آية على عماه! ورنا إليها فالتقت عيناهما، وهناك نسي أفكاره، وانبعثت حرارة دمه، واضطرمت به الرغبة مستهينة بكل شيء، مليحة شهية، لا يستطيع أن يماري في هذا ، ولكن كيف يتعامى عن هذه الحقيقة المرعبة، وهي أنه يتحاشى الظهور معها أمام الناس؟! وكانت الأم لا تمسك عن الحديث وهو يحاورها باقتضاب وشرود، حتى قالت له: مالك يا سي حسنين، كأنك مشغول البال!
فأفاق إلى نفسه مضطربا، وقال كالمعتذر: كان الأسبوع الماضي حافلا بالتمرينات القاسية حتى غادرنا الكلية كالأموات!
وواصل الحديث وهو أشد انتباها له، حتى استأذنت الأم لأداء الصلاة فخلا لهما الجو، وبادرته الفتاة قائلة: ما لك؟
فقال مبتسما ليذهب عنها الشك: لا شيء! - لست كعادتك!
وخطر له خاطر ماكر بعثه في نفسه خلو المكان، وعواطفه الثائرة فقال متظاهرا بالحزن: لا أنسى تحفظك معي؟ - أتعود إلى هذا؟ - طبعا! .. هذا حقي ولا أنزل عنه ما حييت.
فقالت الفتاة برجاء: حسبت أننا انتهينا من هذا! - إني في حيرة من أمرك، جميع زملائي لهم خطيبات مثلك، ولكنهن لا يحرمنهم حقوقهم من العناق والقبل.
وغمغمت موردة الوجه: لسن مثلي ولست مثلهن!
هذا حق، ولعل زملاءه لم يقتصدوا في توكيد هذا، ولكنها لا تدري ماذا تقول! وتفكر فيما ينطوي عليه قولها من سخرية لم تدر لها بخلد، وقبل أن يتكلم عجلت هي بتغيير مجرى الحديث فسألته: أذاهب أنت إلى السينما؟
وأدرك أنها تهيئ له فرصة ليدعوها للذهاب معه، وساوره إحساس بالضيق ولكن إشفاقه كان أكبر من حرجه فقال: كلا، سأوافي بعض الزملاء إلى موعد سابق!
وخفضت عينيها في خجل، ثم ساد صمت أليم، وأخيرا سألته بلهجة ذات معنى: ماذا أحدث ذهابنا معا إلى السينما في بيتك؟
ووجد فيما تعنيه بسؤالها عذرا ينفعه في تجنب ما يريد تجنبه فقال: لا شيء ذا بال، إلا أن والدتي ساءها أن أدعوك إلى مخالفة تقاليد أسرتك المحترمة!
فقالت ببرود: ليس مما يسيء إلى الأسر المحترمة أن يذهب فتياتها إلى السينما! - كما لا يسيء إليها العناق والقبل، ولكنك - مثل أمي - لا تصدقين!
فتجاهلت إشارته وتساءلت: هل منعتك من العودة إلى تلك المخالفة؟! - كلا! ولكنها تخاف أن أسيء من غير قصد إلى أسرتك الكريمة. - ألم تخبرها بموافقة والدي ؟ - أخبرتها ولكنها اعتقدت أنهما وافقا متورطين. - هل أفهم من هذا أننا لن نخرج معا بعد اليوم؟
ولم يستطع أن يجابهها بما يبطن فقال: بل نخرج حين نشاء.
وندم على قوله إثر التفوه به، أما هي فابتسمت في حياء وقالت بصوت منخفض: ظننت أننا سنذهب اليوم إلى السينما!
وعجب لهذه الدعوة تجيء من ناحيتها هي، ومع أنه رق لها إلا أنه لم يستسلم لعاطفته فقال: لولا أنني مرتبط بموعد كما قلت لك. - آه .. هذا أهم من ذهابي معك! - ليس الأمر كذلك، لكن سبق مني وعد! .. ثم .. ثم لا يجمل بنا أن نعاود ما تظنه أمي مخالفة للتقاليد بهذه السرعة!
فهزت رأسها في ابتسامة حزينة وقالت: إذن فليس الموعد الذي يمنعك!
فقال بتسليم: كلا الأمرين معا! .. لا تؤاخذي أمي على عقليتها القديمة.
فخرجت عن ضبط عواطفها لأول مرة قائلة: فكيف تسمح لنفيسة بالخروج كل يوم؟!
ولم تعجبه لهجتها، وساءها ما تضمنته فقال بلهجة لم تخل من حدة: لولا العمل لما غادرت نفيسة البيت أبدا!
وبادرته قائلة بلين وإشفاق وأسف: لم أقصد سوءا بأحد؛ أردت أن أقول إن الخروج لا يعيب إنسانا.
وساد الصمت قليلا ثم سمعا وقع أقدام الأم وهي راجعة، فتساءلت بهية في لهفة وإشفاق: حسنين أنت غاضب؟
ولم يستطع أن يجيبها بسبب ظهور الأم، فابتسم لها ابتسامة رقيقة أثابت إليها طمأنينتها ... ومكث معهما ساعة، ثم ودعهما وانصرف.
67
لم يكن ثمة موعد كما زعم، وقد ذهب إلى السينما بمفرده، ودخلها بعد بدء العرض بدقائق، فأرشد إلى كرسيه في الظلام. وجعل يشاهد الجريدة بنصف انتباه والنصف الآخر هائم في البيت الذي غادره معتذرا بأكذوبة. وذكر كيف ضغطت على يده بحنو وهي تودعه، ضغطة لذيذة أرعشت قلبه، وغفرت لها ما تقدم وما تأخر من إساءة! «أمنيتي الآن أدنى إلى التحقيق، لو مارست ضبط النفس بدل التهالك والتوسل لفزت بما أشتهي من زمن. لو عبست في وجهها مرتين لما أصرت على قول «لا». ما أحمقني! لن أقنع بقبلة. لأضمها إلى صدري حتى يطقطق عظمها تحت ذراعي، بعيدا عن أعين النقاد التي لا تعجبها إلا الملاحة والرشاقة والموضة. ولكن هل أصر على إخفائها عن الأعين حتى بعد أن أتزوج منها؟ لماذا لا أستهين بالناس وألسنتهم؟ يا له من شر لا قبل لي بالتعامي عنه! هكذا أنا.» وارتاح من أفكاره بتركيز وعيه على الشاشة، فرأى هتلر وهو يستقبل سفراء الدول بمناسبة عيد ميلاده، ثم شاهد فصلا من الصور المتحركة وأضيئت الأنوار. ودار برأسه فيما حوله متفرسا في الوجوه، فاستوقف نظره امرأة هائلة مفرطة في السمنة لحد مزر، تجلس لصق زوجها وتنازعه الحديث، ولم يسعه إلا الإعجاب بشجاعة الرجل الذي يستصحب هذه المرأة دون مبالاة بأحد. ولاحت منه التفاتة إلى يساره فرأى في الكرسي الذي يليه فتاة حسناء مرتدية جاكتة رمادية وتاييرا، وخيل إليه لحظة أنه لا يرى هذا الوجه لأول مرة. وراح ينقب في طوايا ذاكرته، وفي أثناء ذلك انتقل بصره إلى امرأة تليها، ثم إلى رجل ما إن رآه حتى دق قلبه بعنف ونهض قائما، ومد له يده بأدب وهو يقول: مساء الخير يا سعادة البك.
فالتفت الرجل صوبه - كان أحمد بك يسري - وابتسم إليه مسلما، ثم قدمه إلى زوجه وكريمته، وعقب على التعرف به قائلا: «ابن المرحوم كامل أفندي علي.» فسلم عليهما في غاية من الأدب، وعاد إلى جلسته ومس يد الفتاة يسري في جسده، وسأله البك عن حاله في الكلية فأجابه شاكرا ثم فرغ كل لحاله، ونظر إلى أمامه وهو يشعر بارتياح لأنه جاز فترة التعارف وهو ثابت متمالك لأعصابه، مع أنه كان يقدم إلى عضوين في هيئة الجنس اللطيف العالية لأول مرة في حياته. ومر عند ذاك نادل يحمل ألوانا من الشيكولاتة والمشروبات، فود لو كان يملك من النقود ما يسعفه بتقديم بعض منها إلى الأسرة، ولكن لم يكن في جيبه إلا قروش، فحنق على إفلات هذه الفرصة منه، وحقد على فقره كما لم يحقد عليه من قبل! ثم أطفئت الأنوار وعادت الحياة إلى الشاشة، ولكنه لم يندمج فيها، ووجد من وعيه وخياله إباء وجموحا، تأكد لديه الآن أنه لم يكن يرى هذا الوجه البديع لأول مرة، وذكر الساق العارية التي كشفت عنها حركة الدراجة بحديقة الفيلا؛ ترى أي أثر قد تركه في نفسها؟ وأي أثر أخلفه قول أحمد بك من أنه «ابن المرحوم كامل أفندي علي»؟ كان والده موظفا صغيرا، وفضلا عن هذا فلا شك أن المرأتين تعلمان بما بذل البك لأسرته من شفاعة؛ تارة ليوظف حسين، وتارة ليلحقه بالكلية الحربية، وهيهات أن يغيب عنهما حقيقة مستواه الاجتماعي! ولعل الفتاة لم تر فيه إلا صنيعة لمعروف والدها، ولعلها قالت لنفسها إنه لولا يد أبيها ما ارتدى - هو - بدلته ذات الشريط الأحمر! كل هذا محتمل، بل هو مؤكد، وقد التهب جبينه خجلا وسخطا «لقد رأيت ساقك على الدراجة، عاجية جذابة، ولكنها ليست بمعجزة. لا توجد معجزات في هذه الدنيا؛ ألست تنامين كأي فتاة، وتغيبين عن الوجود كأي امرأة، وتحبلين كما تحبل الخادمة التي طردناها لفقرنا، وتعوين حين المخاض كأية كلبة!» وحك أنفه بسبابته فجأة فتنسم شذا لطيفا مما علق براحته عند السلام، فيه إثارة للأعصاب ونفاذ إلى القلب كأنه السحر، فأسكره عرفه وبث في نفسه رضا وسلاما، مسحا عن صدره أدران الحنق والألم. ولحظ طيفها اللطيف فحدس أنها شابكة ذراعيها على صدرها، وتمنى لو تريح ساعدها على يد المقعد فتمس ساعده عفوا، ثم تخيل صورة وجهها الذي ألقى عليه نظرة خاطفة وهو يسلم عليها، بطوله الممتلئ، وعينيها السوداوين اللتين تنمان عن حيوية وخفة، وهاله شعرها الأسود العميق السواد، وبشرتها النقية التي تزين وجنتها اليسرى شامة، ثم راح يستحضر صورة بهية، ويعرض الصورتين جنبا إلى جنب حيال مخيلته حتى اقتنع بأن هذه الفتاة ليست أجمل من فتاته، ولكنه شعر في الوقت نفسه بأن بهية جمال جامد، وهذه جمال متحرك، كأنما يبث في النفس حرارة ويشيع في الخيال حياة. وليس هذا فحسب؛ فإنها تمثلت لعينيه الطموحتين كرمز حي للدنيا الراقية التي يتطلع إليها بشغف جنوني. لم تكن فتاة بقدر ما كانت طبقة وحياة. وبرغم نشوته الراهنة لم يخدع عن حقيقة شعوره، ولم يتوهم أنها تغلغلت في قلبه حيث استكنت بهية؛ فهذه على سلبيتها المطلقة تقبض على جذور غرائزه وأعصابه، ولكن الأخرى تخاطب مباشرة طموحه الذي لا يقف عند حد، ولعله عرف على ضوء عينيها جانبا من نفسه كان غامضا، وهو أنه يؤثر في أعماقه الطموح على السعادة والسلامة! ثم هبطت عليه نوبة فتور مفاجئ فقال لنفسه: «إني أحلم أحلاما سخيفة! ولكن ألا يحق لي أن أروح عن صدري بالأحلام؟ أليست الأحلام نفسها حلما؟ بلى، إنها حلم، ولا يكدر صفوها إلا شعورنا الوهمي بأنها حقيقة!» وانقضى زمن لا يدريه قبل أن يتمكن من تركيز انتباهه في الشاشة، ولكنه كان قد استنفد حيوية كبيرة فبدا المنظر متعبا مملا، وتصبر عليه في جهد حتى انتهى وأضيئت الأنوار. والتقت الأعين فحنى رأسه تحية ثم انخرط في تيار الخارجين. انفلت من الزحام فتمشى في الطرق ساعة ثم استقل الترام إلى شبرا، وأقبل على حيه فبدت له عطفة نصر الله أشد كآبة من عهدها، وزكمت أنفه رائحتها التي يختلط بها التراب بالدخان بمواد شحمية كثيرة، فقطعها برما خابي العينين.
68
وتواصلت الأيام حتى أوشك العام الدراسي على الختام. وفي ثلثه الأخير علم أن وزارة الحربية قررت تخريج دفعة الشاب، مكتفية بعام دراسي واحد؛ على أن يتم الخريجون تدريبهم في الفرق التي يلحقون بها؛ وذلك لتواجه زيادة عدد الجيش بعد إقرار المعاهدة. وضوعف العمل للطلبة، ولكنهم أقبلوا عليه مستبشرين متحمسين، والواقع أنها كانت حقيقة أقرب ما تكون إلى الخيال؛ فلم يكن ثمة واحد منهم يصدق أنه سيكون ضابطا بعد عام دراسي واحد، وكان آخر هؤلاء جميعا حسنين نفسه. ثم انتهى العام وتخرج الشاب! واستخف الطرب الأم وكانت أشبه بملاح تائه تمزق شراعه، ونفد طعامه، إذ تكشف الضباب لعينيه فجأة عن مرفأ آمن، ولهج لسانها بحمد الله وجعلت تقول في حرارة وإيمان عميق: «أنت وحدك يا ربي الذي أخذت بيدي، ومن كان يرى حالنا بالأمس، ونحن نتخبط في ظلمات اليأس، ويرانا اليوم وكل شيء من حولنا يدعو للأمل يقر من صميم قلبه بعدلك ورحمتك.» وغبطت نفسها على سعادتها لأول مرة في حياتها، وأخذت محنتها الطويلة تتراءى لعينيها الذابلتين في هالة من الفخار والسرور، وكأنها لم تكن سوى عبوسة مصطنعة على جبين الأقدار الرحيمة، فابتلت عيناها بدموع الفرح والشكر. وكانت تقتصد من نقود حسين ونفيسة ما تعده لسداد مصروفات السنة التالية، فأخذه حسنين ليهيئ به ملابس الضابط الكاملة، وشغل بذلك طول المهلة التي تمنح للخريجين قبل توزيعهم على الفرق المختلفة، ولما كان ترتيبه بين الأوائل فقد ألحق بسلاح الفرسان بالقاهرة، وتهيأ للأسرة من حسن التوفيق ما لم تكن تحلم به، وارتدى حسنين بدلة الضابط فتحقق حلمه القديم، وجعلت أمه تنظر إليه بعينين أذهلهما الفرح، حتى شذت عن المألوف من صمتها ورزانتها؛ فهذا هو الابن المحبوب، زهرة حياتها وأملها المنشود. وقد قال لها مرة: إذا حان موعد الاحتفال بالمحمل فسيتاح لك ولنفيسة فرصة باهرة لتشاهداني على صهوة جوادي على رأس فرقة الفرسان!
فلم تتمالك أن قالت له: هذا إذا ابتعت لي معطفا يليق بالظهور في الطريق الغاص بالمتفرجين!
فضحك الشاب قائلا: صبرك حتى أقبض مرتبي!
كانت أياما سعيدة صفت لهم فيها الدنيا وطابت، بيد أن الشاب كان يفكر في أمور كثيرة، وكان يروم أن يقيم سعادته المتاحة على أسس ثابتة لا يتطرق إليها الفساد، فانتهز فرصة انفراده بأمه مرة - كانت نفيسة في الخارج - وقال لها بصوت ينم عن الاهتمام الشديد: أماه، يجب أن تنقطع نفيسة عن عملها المزري في الحال؛ لأنه لا يجوز لأخت الضابط أن تكون خياطة.
فابتسمت الأم وقالت في بساطة: سترحب بهذا بمجامع قلبها يا بني.
كان ينتظر هذا القول بلا ريب، بيد أنه لم يمح من نفسه ما يعتلج بها من مثار الفكر، فاستطرد متنهدا في كآبة: ليتنا نستطيع أن نمحو الماضي من صفحة الوجود! .. أخاف أن يعيرنا قوم بما كان. وأنت أعلم بنفوس الناس، وأكره ما أكره أن يترامى شيء من هذا إلى أحد من زملائي فأفقد كرامتي بين أقراني .
فسرى إليها بعض همه، ولكنها ربتت على كتفه مبتسمة وقالت باستهانة: كنا فقراء، وأكثر الناس فقراء، ولا عيب في هذا.
فهز رأسه معترضا وقال في أسى: كلام يقال، ولكنه لن يغني عنا شيئا وأنت أخبر بالنفوس! - لا أحب لك يا بني أن تنغص عليك صفوك بأمثال هذه التخيلات!
فاستدرك قائلا وكأنه لم يسمع قولها: هذه العطفة الحقيرة تعرفنا على حقيقتنا؛ فلهذا لا أطيق البقاء فيها.
وأشفقت الأم من تكدير سعادتها الشاملة فقالت بتوسل: ستسوى هذه الأمور مع الزمن، فلا تتعجل بحمل همها!
وحدجها بنظرة غريبة وغبطها في نفسه على قوة أعصابها، ولكنه سرعان ما تغيظ لعدم اكتراثها بالأخطار التي تتهول في رأسه وقال بحدة: قد تسوى هذه الأمور مع الزمن حقا، ولكن بعد أن يكون قد قضت علي!
فلاحت في عيني المرأة نظرة ارتياع وقالت له في عتاب: أراك كعادتك نافد الصبر متعجلا للمتاعب، ونصيحتي لك ألا تخلط أفراحك الحقيقة بأتراح وهمية لا أهمية لها.
فقال باستنكار: بلى، لا أهمية لها؟!
ماضي نفيسة وما يعرفه هذا الحي عنا لا أهمية له؟ - إذا لم تأخذ نفسك بالإيمان بهذا فلن تنعم بالسعادة أبدا.
فتنهد حسنين قائلا: أود أن أسدل على الماضي ستارا كثيفا. - تجمل بالصبر، وسيكون لك هذا.
فالتهب الشاب غيظا وقال كمن ضاق صدره: لا أخاف شيئا كخوفي الصبر الذي تدعينني إليه. انظري إلى هذه العطفة الحقيرة وهذا البيت العاري؛ هل أستطيع أن أخفيهما إلى الأبد عن أعين زملائي؟!
وشعرت المرأة بتعاسة، وأدركت أن حياتها لن تخلو من هم وكدر، وقالت له بمرارة: خطوة خطوة! كنا لا نجد الطعام فانظر أين نحن الآن!
فهز رأسه في حزن وقال: ما أردت إغضابك يا أماه، ولكني أفكر في هذه الأيام كثيرا في المتاعب التي تتهددنا، وقد ذكرت لك بعضها، ولعل ما بقي أدهى وأمر، فانظري مثلا إلى أخي حسن وسيرته في الحياة! كيف نستقبل الحياة في هدوء وحولنا هذه المتاعب؟!
وتفرست في وجهه بدهشة وكأنها تعجب لقدرته على اصطياد الهموم، وتمتمت فيما يشبه اليأس : دع الخلق للخالق. كنا هكذا دائما فلم نهلك ولم يقض علينا.
فقال الشاب بإنكار: لم أكن ضابطا، أما الآن فقد أصبحت سمعتي مهددة!
وتجهم وجه الأم ولاذت بالصمت في كرب شديد، فتنهد حسنين قائلا: ينبغي أن يتغير كل شيء، حتى قبر والدنا المكشوف بين قبور الصدقة. تصوري ماذا يظن بنا زملائي لو علموا بمكانه!
ودارت الأم مشاعرها بابتسامة وقالت برجاء: إني أحب لنا ما تحب، ولكني أوصيك بالصبر، وأحذرك عواقب ثورة لن تجدي الآن إلا الحزن! تريد أن تمحو الماضي، وتغير البيت وتنشئ مقبرة وتبدل أخاك من حال إلى حال، ولكن هيهات أن يتم لك ما تريد قبل زمن طويل، فكيف يكون العمل؟ طالما تمنيت أن تسعدنا وأن تسعد معنا، فإذا لم تروض نفسك على التسليم بالواقع وتأخذها بالصبر شقيت وشقينا!
وضاق بالكلام ضيقه بمتاعبه فأمسك عنه. ولم يقع قولها من نفسه الثائرة موقع الاقتناع أو القبول، فخيل إليه أنها لا تشاركه آماله وعواطفه، وأنه وحيد في معركة الحياة أو الموت! إن نفسه تهفو لحياة أفضل وأنظف، ولن يحيد عن هدفه، وليدافعن عن سعادته وآماله بكل ما أوتي من قوة ورغبة في الحياة، ودق الباب عند ذاك، وكان المساء يمد رواقه، فحدس أنها نفيسة عائدة من عملها، فهرع إلى الباب في تصميم جديد.
69
ودخلت الفتاة مبتسمة، وكانت لا ترى تلك الأيام إلا مبتسمة مستبشرة. واستبانت في وجه أمها سهوما فاقتربت منها وقالت مداعبة: تخلي يا أماه عن هذا الجد الذي لا داعي له؛ فقد انتهت متاعبنا.
وردد حسنين قولها في نفسه محزونا، هل حقا انتهت متاعبهم؟ إن ميزانية الجيش كلها لا تكفي لإنهاء متاعبهم! ثم رفع بصره إليها، وقال بلهجة ذات معنى: آن لك أن تستريحي.
فتساءلت ضاحكة: أتعني أن أترك مهنتي؟ - نعم. - أتركها غير آسفة، وسألزم بيتي كالهوانم، ألست شقيقة ضابط؟!
ولم يتمالك أن قال ساخرا: وشقيقة سي حسن أيضا!
فرددت عينيها بينه وبين أمها في دهشة وتساءلت عما جعله يقحم أخاه بهذه اللهجة المرة، أما هو فسألها متهكما : ألا يسرك هذا؟!
وقالت الفتاة برقة وعطف: مهما يكن من أمر أخينا حسن ففضله لا يمكن أن ينكر.
وتدارك الشاب قائلا: لست في حاجة إلى من يذكرني بهذا، ويعلم الله أني أحبه، ولكن لا حيلة لي إذا قلت إن سلوكه في الحياة ليس مما يشرف.
وثقبت العبارة الأخيرة قلبها، فلاحت في عينيها نظرة زائغة، وتخيلت أمورا فبردت أطرافها رعبا، ثم خيل إليها أنه يعنيها بالذات، ولم تعد ترتاح للصمت فغمغمت في فتور: وأية أسرة تخلو من شيء من هذا القبيل!
فقال حسنين بامتعاض: ولكنه لا يوجد في الأوساط المحترمة.
وركبها الضيق والقلق، فرغبت في الاختفاء، وتظاهرت بالضحك، وقالت في مرح متكلف: لا يستحيل أن يوجد شقيقان أحدهما وزير والآخر لص، بالله لا تكدر صفونا، واعلم أني صنعت لك صينية كنافة، فدعني أسخنها ولنأكل في سلام!
وغادرت الحجرة إلى المطبخ بوجه مكفهر ونفس حائرة يشيع في قلبها خوف وقلق! إنه يدعوها إلى القبوع في البيت أسوة بالنساء المحترمات، وإنها ترحب بهذا، ولكن ما كان كان، ولا سبيل إلى إصلاحه. وهي تستطيع إذا شاءت أن تنتحل لسلوكها الأعذار، وأن تقول لنفسها إنها إنما ارتضت تلك الحياة للحصول على النقود التي أقامت بها أود أسرتها في أكلح ساعات حياتها، وهذا حق ولكنه ليس الحق كله؛ فهنالك أيضا الرغبة المعذبة واليأس القاتل، وكم ودت في ساعات يأس لو تموت هذه الرغبة، ولو تموت هي بموتها، ولكنها كانت تزداد رغبة وانحدارا ويأسا، ثم تمردا واستسلاما. وعانت كثيرا شقاء الذنب وكان عزاؤها الوحيد - إن كان عزاء على الإطلاق - أن الأقدار لا يمكن أن تدخر لها حياة أفضل، وكم تمزقها الحيرة الآن بين ماض تعيس ورغبة لا تسكت عنها! وحتى هذه الحياة الجديدة الموعودة لا تدري إن كانت تستطيع حقا أن تخلص لها بعد ما كان، فلن تغيض رغبتها ولن يتخلى عنها اليأس، وفيم تأخذ نفسها بصبر لا مطمع لأمل وراءه، وليس لديها ما يصح المحافظة عليه؟ هل يمكن أن تقنع من الحياة بانتظار طويل ممل للموت ؟ لا تدري إن كان بوسعها حقا أن تخلص للحياة الجديدة، وأن تتعذب عذابا طويلا متصلا بعد أن خسرت كل شيء! إنها تمقت الماضي وتخافه، ولكنها تشد إليه بقوة شيطانية فلا تستطيع منها فكاكا، ولن تفتأ تتبعه يائسة مثقلة بالذنب مرتعبة، كمن يسلم للسقوط من علو شاهق في كابوس بعد أن أيس من اليقظة. وجعلت تنظر في سهوم إلى صفحة الكنافة الموردة حتى تخيلت نفسها في الصينية تحترق وقد اسودت بشرتها، وفي تلك اللحظة بدت الحياة لها عابثة قاسية، تعبث في قسوة، وتقسو في عبث. فتساءلت: «لماذا خلقني الله؟» ومع ذلك كانت تحب الحياة، ولم يكن يأسها وعذابها وخوفها إلا آيات على هذا الحب، وكانت إلى هذا كله تنتظر مع الغد موعدا لم تضمر النكوص عنه.
وحملت الصينية بخرقة بالية، وعادت إلى الحجرة فوضعتها على المكتب وهي تقول في مرح وكأنها نسيت أفكارها ومخاوفها: أقدم لك آخر كنافة من عرق جبيني، وعليك وحدك منذ الآن أن تحلي ألسنتنا!
وأقبلوا على الكنافة بشهوة وقد تطهرت الأنفس من همومها، وقالت الأم وهي تغرز أصابعها في الصينية: ليت حسين كان معنا.
ولوح لها حسنين بأصبعه حتى ابتلع ما فيه ثم قال: آن لنا أن نسعى إلى نقله إلى القاهرة. كان أحمد بك يسري قد وعد بنقله بعد مرور عام أو نحوه، وها قد أوشك أن يمضي عامان على تعيينه في طنطا.
كان يرغب في معاشرة أخيه كعهدهما القديم، وكان يأمل أن يجد فيه عونا على متاعبه، وقد رحب إلى هذا وذاك بفرصة تتيح له زيارة أحمد بك في قصره.
70
ذهب مع أصيل الغد إلى فيلا أحمد بك يسري، وفي نيته أن يقدم له فروض الشكر لمناسبة تخرجه ثم يستشفعه لنقل أخيه إلى مدرسة من مدارس القاهرة، وقد وقف البواب احتراما للضابط ثم قاده إلى السلاملك، ومضى إلى الداخل لإنباء البك بحضوره، وجلس حسنين إلى الكرسي الذي جلس عليه أكثر من مرة في أوقات متباعدة وظروف مختلفة، وراح يسرح طرفه في الحديقة. وجرى بصره في الممشى الطويل المتعرج الذي رأى الدراجة تقطعه في مهل وحذر منذ أكثر من عام، وتساءل ترى ألا تزال تلهو بهذه الرياضة؟ وابتسم للذكرى حينا ثم تساءل مرة أخرى أحقا جاء للشكر والشفاعة وحدهما؟! وعاوده الابتسام. بيد أنه كان في حيرة من أهدافه، قلقا حيال البواعث التي تحركه، مشفقا من الإساءة إلى خطيبته، ثم ذكر زيارته الأخيرة - التي أعقبت تخرجه - لبيت فريد أفندي وكيف مرت في أحاديث مملولة وشعور أليم بالحرمان، حتى إنه لم يظفر بجلسة منفردة واحدة بفتاته، ذكر هذا فوجد من التذمر ما هون عليه إحساس التأنيب الذي دب في أعماقه لسروره بذكريات فيلا أحمد بك، ونفض عن رأسه أفكاره، واستسلم لمشاعر الطموح التي تتوهج في قلبه في محيط هذه الفيلا الرائعة، فانثالت على مخيلته الأحلام، ماض جديد وبيت جديد وقبر جديد وأهل جدد، ومال موفور وحياة وضاءة لامعة، ومع أنه صار ضابطا، ولعل كثيرين يرمقونه بعين الحسد لذلك، إلا أنه أدرى الناس بقلبه الذي يحترق لهفة على الحياة السامية النظيفة، هذا القلب الذي أورده الجزع موارد القلق والسخط والشقاء، ولبث على استسلامه للأحلام حتى عاد البواب من الداخل وتنحى عن الباب في أدب وهمس «سعادة البك قادم.» ونهض حسنين، ثم ظهر البك في بدلته البيضاء والوردة الحمراء تزين عروته، ولما رأى الشاب ألقى على بدلته العسكرية نظرة شاملة ثم قال ضاحكا: أهلا بالضابط.
وانحنى الشاب على يده مسلما وهم بالكلام ولكنه رأى حرم البك تتبعه قادمة من الداخل، وفي أثرها الفتاة، وأدرك أنه جاء في وقت غير مناسب لغرضه؛ لأن الأسرة متأهبة للخروج، وقد توكد هذا لديه حين لمح السيارة تدور في الممشى الواسع وتقف عند أسفل السلاملك منتظرة الذاهبين، فما كان منه إلا أن سلم على المرأتين وتأخر خطوتين قائلا: جئت لأقدم لسعادتك فروض الشكر لمناسبة تخرجي، وأرى أن أستأذن في الانصراف الآن حتى لا أؤخركم.
ولكن البك قال: بل نجلس لنشرب ليمونا معا؛ ما يزال أمامنا فسحة من الوقت.
وجلسوا، فجلس وهو يبذل قصاراه ليضبط أعصابه ؛ فلم يكن أبغض إليه من أن يتولاه الاضطراب أو الارتباك حيال البك وأنداده من علية القوم، وذهب البواب لإحضار الليمون، أما البك فسأله برقة: أين كان تعيينك؟
فقال حسنين بزهو مكتوم: سلاح الفرسان بالقاهرة. - كنت من المتقدمين؟ - الثامن.
وهنأه الرجل، ثم ساد الصمت، وكان في عزمه - لو قابل البك منفردا - أن يعدد أياديه على أسرته وما بذل من شفاعة محمودة له ولأخيه؛ على أن يتدرج من الثناء إلى عرض مسألة أخيه حسين، ولكنه عدل عن هذا مصمما على الاحتفاظ بكبريائه أمام المرأتين، وأمام الفتاة خاصة، ولم ير ضيرا في تأجيل مسألة شقيقه إلى غد أو بعد غد على أن يحدث البك عنها في مكتبه بالوزارة. وجاء خادم نوبي بأقداح الليمون، دار بها عليهم. وانتهز حسنين فرصة رفعه للقدح إلى فمه فاسترق إلى الفتاة نظرة من فوق حافة القدح فرآها وهي تحسو شرابها في رفق ولطافة، فلم يند عن زورها هذه الحركات العصبية التي يبعثها الازدراد العنيف، وتمززت السائل في رقة فانسكب في هوادة وحياء، وقد اكتسى وجهها بهدوء بديع واسترخاء حالم، كأنها تستنيم للمسات النعاس، وأعاد القدح إلى الصينية ثملا بنشوة افتتان تبعثها الأناقة والرشاقة وأمارات الأرستقراطية، وتخيلها فجأة بين ذراعيه مستكينة مستنيمة، فصر على أسنانه؛ «ما هذا الجنون الذي ينبعث في دمي؟! ليس شهوة فحسب، بل ليس شهوة على الإطلاق، بهية أشهى منها، وإن كان يخجلني الظهور معها أمام الناس، ليس ركوب هذه الفتاة بعمل جنسي ولكنه غزو كامل وفتح مظفر، هذه!» وانتبه من أفكاره على صوت أحمد بك وهو يسأل: كيف حال الأسرة؟
فخطر له خاطر ظن أنه يرفع من كبريائه، وكانت الأكاذيب تنبعث في نفسه أحيانا بوحي البديهة؛ فقال بلا تردد: الحمد لله، انقضت متاعبنا بعد أن كسبنا القضية!
فتساءل البك: أي قضية؟
فقال بثبات وثقة: قضية قديمة بين أمي وأخوالي على أوقاف، وقد حكم لأمي بنصيبها كاملا!
فقال الرجل: مبارك .. مبارك.
وشعر حسنين بارتياح وزهو، ثم ونهض هو يقول: لقد أخرتكم، وأنا آسف يا سعادة البك .
ونهضوا جميعا وهبطوا إلى موقف السيارة، وتمنى لو يدعوه الرجل إلى الركوب معهم، ولكنه مد له يده مودعا، فسلم عليه وحنى رأسه تحية لأسرته، ومضى إلى الباب مسرعا، كانت الزيارة تبدو مخفقة لأنه لم يمس الموضوع الذي جاء من أجله، ولكنه كان يرى توفيقه بهذا اللقاء غير المنتظر وهذه الكذبة التي جادت بها البديهة السعيدة أخطر من غرضه الأول الذي لن يؤثر فيه تأجيل يوم أو يومين.
71
وقلب وجهه في السماء، ولما يبرح شارع طاهر، فطالع في صفحتها نظرة الغروب الشاحبة، فتساءل ترى هل يجد أخاه حسن في بيته إذا جازف بزيارته؟ كان مصمما على مجابهته برأيه وإن كان ضعيف الأمل في إصلاح ما فسد من أمره، ولكن تركيز أفكاره في مستقبله ومستقبل أسرته جعله يستهين بكل شيء حتى مناضلة حسن نفسه. ومضى يشق طريقه بعزيمة لا تنثني، ولكنه كان يحمل قلبا أثقله الهم والشك. واستقل الترام حتى ميدان الخازندار، ثم اتجه إلى شارع كلوت بك وقد تحول انتباهه إلى بدلته العسكرية التي فرضت عليه الظروف - كانت أمه قد استغلت ملابسه القديمة في أغراض جديدة كعادتها - أن يخترق بها طرقا مريبة! لم يكن الاختيار بيده، وكان يرى في حسن مشكلة الأسرة المعقدة الأولى. لقد تخلت نفيسة عن مهنتها، وسوف يهجر قريبا عطفة نصر الله بل وشبرا جميعا، وربما أسدل ستار النسيان على الماضي البغيض كله، فلم يبق إلا حسن، وهيهات أن يطمئن له جانب ما دام شقيقه مقارفا حياته الآثمة. وطالعته عطفة جندف فعرج إليها متجنبا الأنظار التي تطلعت إليه في دهشة، وقطعها مسرعا إلى بيت أخيه، ومرق إليه كالهارب، مستقبلا الرائحة النتنة. وارتقى السلم الحلزوني ممتعضا، ذاكرا في ضيق وخجل زيارته الأولى لهذا البيت منذ عام، حتى وقف أمام باب الشقة في شبه ظلام وطرق الباب. وفتح الباب عن وجه رجل غريب - وجه شائه من الوجوه التي لم تبرح ذاكرته منذ زيارته الأولى - وما إن وقع بصره عليه حتى دفع الباب فأغلقه في وجهه بسرعة غريبة، وقد ندت عن فيه صرخة قائلة: «بوليس!» فدهش الشاب، ثم حدس ما هنالك فانزعج وأحس بخزي وألم لم يحس بمثلهما من قبل. ولبث متسمرا في مكانه لا يدري ماذا يفعل. وفكر في العدول عن الزيارة، ولكنه لم يبرح مكانه، ووجد من نفسه تصميما عنيدا على إنجاز مهمته مهما كلفه الأمر. ليست المسألة لهوا وعبثا؛ هي حياة أو موت، ولن يستطيع السير في حياته قدما ووراءه هذا البيت. وطرق الباب مرة أخرى، وانتظر وهو يعلم بعبث الانتظار، ثم أعاد الطرق بشدة. ترى هل يمكن أن يكونوا قد هربوا من الشقة من إحدى النوافذ؟ وأراد أن ينادي أخاه بصوت مرتفع فيتعرف عليه بصوته، ولكنه خاف أن يعرفه كما يريد، ثم يعلن شخصيته لصاحبه المذعور ليطمئنه فتذاع الصلة التي يتمنى ألا تعرف أبدا، ومع هذا فمن أدراه أن حسن لم يخبر أحدا بحقيقة شقيقيه ولو على سبيل الفخار؟! وصر على أسنانه في خزي ويأس، ولكن اليأس أمده بقوة عناد جديدة، فطرق الباب بقبضة يده بعنف وصاح: «يا حسن، يا حسن، أنا حسنين!» ولم يطل انتظاره بعد النداء، ففتح الباب وبدا حسن خلفه يطالعه بعينين ذاهلتين. وبدا كمن يفيق من صدمة، وثبت عليه بصره لحظات دون أن يتحرك، ثم دبت في عينيه يقظة وشاع في نظرتهما الابتسام وهتف: حسنين! .. ضابط! .. لا أصدق عيني!
وشد على يده، وربت بالأخرى على ذراعه، وجذبه إلى الداخل وهو يضحك ضحكة عصبية عالية. ثم سار به إلى حجرة النوم وهو يقول: ضابط! .. يا لها من مفاجأة! .. مبارك مبارك .. هذا يوم سعيد.
وجلس حسنين على الكنبة، وأغلق حسن الباب ثم جاء فجلس إلى جانبه. وكان الشاب يبذل جهدا جبارا ليتغلب على اضطرابه ويتمالك أعصابه، ونظر إلى أخيه مبتسما وقال: إني أحق الناس بالتهنئة، ولكنك أنت أحقهم بالشكر.
فضحك حسن بسرور، ولعل شعوره بالسرور كان مضاعفا بعد ما كان من انزعاجه وقال: علام أستحق الشكر؟ ما أديت إليك إلا بعض حقك عندي. دعنا من هذا وخبرني عن حال الأسرة، وكيف أمنا ونفيسة؟ وما أخبار حسين؟
وراح يحدثه عما يريد بباطن فاتر وظاهر متكلف الاهتمام، وكاد الحديث يسوقه وهو لا يدري إلى سؤاله عما قطعه عنهم، ولكنه أمسك عن السؤال في اللحظة الأخيرة، ذاكرا أن انقطاعه هذا خير غير مقصود وأن وصاله شر ما يبتلون به وهو على هذا الحال، ولما فرغ من حديثه قال حسن: الحق أني أحن إليهم كثيرا، ولكن حياتي لم تعد تسمح لي بإشباع هذا الحنين. نحن في بلد واحد، ولكني في الواقع كأني في بلد بعيد منقطع عن العالم، وربما خفف عني الألم أحيانا أنهم لم يعودوا بحاجة إلي وأني أديت بعض الواجب علي، وفضلا عن هذا فلست تجدني في يسر متصل؛ فقد يمتلئ جيبي بالنقود أياما ثم يفرغ أسابيع، وفي حالة امتلائه تجدني مضطرا للإنفاق بغير وعي. لا عليك من هذا، لقد أصبحت ضابطا! فمبارك عليك حظك، ولا يصح أن أخلط بفرحي شيئا آخر .. مبارك يا حضرة الضابط!
وجعل حسنين يصغي إليه وهو يتفرس في وجهه، فهاله ما يرى من تغير وتشويه وغرابة، كأنه يستهلك في العام الواحد من حياته المحفوفة بالمهالك أعواما طوالا! لقد انتهى حسن، وشعر بانقباض وتشاؤم، وبثقل المهمة التي جاء من أجلها. ومع هذا فلم يخطر له لحظة واحدة أن يعدل عما يراه واجبه، وعزم على أن يتسلل إلى هدفه برفق، فابتسم وقال: أخاف أن أكون قد أزعجتك بزيارتي! - ابصق هذه العبارة من فيك! .. ما هذا القول يا حضرة الضابط؟!
فأشار حسنين ناحية الخارج وقال متصنعا الدهشة: لقد فتح الباب لي رجل غريب ثم صرخ مرتعبا «بوليس» وأغلق الباب في وجهي!
فقهقه حسن عاليا وقال: حصل سوء تفاهم نادر، ولكني عرفت صوتك فانتهى الأمر بخير.
فوجد حسنين صعوبة قبل أن يقول متسائلا: وما الذي أخافه؟
فألقى عليه نظرة كأنما تسائله أيجهل حقا أم يتجاهل! ثم قال بعدم اكتراث: يوجد أناس كما تعلم يخافون البوليس!
فتساءل الشاب بإشفاق: أليس من الخطر أن تفتح أبواب بيتك لمثل هؤلاء؟!
فصمت حسن قليلا ثم قال: بلى، ولكن الإنسان ليس حرا في اختيار أصحابه!
فقال بدهشة: كيف هذا يا أخي؟! .. الإنسان حر بلا شك في اختيار أصحابه.
فقال حسن بلهجة من يرغب في تغيير مجرى الحديث: فلندع هذا جانبا، ولنختر حديثا ألطف! - لا أستطيع أن أدعه حتى أطمئن عليك.
فقال حسن ضاحكا: لا خوف علي، اطمئن! - إني أعجب لما يدعوك إلى مصادقة هؤلاء الأشرار .. أنت فنان محترم وتستطيع أن تختار من بين زملائك أحسن الأصدقاء.
وخفض حسن عينيه ليخفي نظرة التجهم التي لاحت فيهما. غضب الرجل، ولو ثار غضبه حيال شخص آخر غير حسنين لانفجر، ولكنه كظمه وعالجه بالحسنى، أغضبه شعوره بأن أخاه يعلم من أمره أكثر مما يتظاهر به، وأنه يعامله معاملة الأطفال، ولو أنه صارحه بذات نفسه، بل لو أنه وصفه بالشر كما وصف أصحابه لما غضب كما يغضب الآن. وعزم على أن يكشف القناع عن الحديث الكاذب، فقال باقتضاب وبصوت - رغم كظمه غضبه - غير الذي تكلم به من قبل: إني واحد من هؤلاء الأشرار!
وفغر حسنين فاه دهشة فقال الآخر بجفاء: حسنين، إياك والتظاهر بالدهشة؛ لست غبيا ولست غبيا، فيحسن بك أن تحدثني بالصراحة التي تعودت أن تحدثني بها دائما. ما وجه الغرابة في أن أكون شريرا؟ ألم أكن طوال عمري هكذا؟!
وخفض الشاب عينيه في وجوم وخجل، وتشتت منطقه فانعقد لسانه، وارتاح الآخر لارتباكه، فعاوده مرحه وأراد أن ينهي هذا الحديث المؤلم فقال: لا عليك من هذا، ولعن الله الرجل الرعديد؛ فلولا فزعه الصبياني ما جرى الحديث بيننا هذا المجرى السخيف، ولنعد الآن إلى الأهم، (ثم ضاحكا) لا شك أنك جئتني لحديث آخر!
فجمع الشاب ما تشتت من أفكاره وقال متنهدا: الحقيقة أنني ما جئت إلا لهذا الأمر!
فلاح الاستنكار في وجه حسن وقال متهكما: حسبتك جئت تطلب نقودا!
وشعر الشاب بغضب أخيه، ولكن لم ينثن عن عزمته، فقال بلهجة رقيقة متوددا إليه: بفضلك السابق لم أعد في حاجة إلى نقود، ولكن مهمتي الآن أجل من النقود، إني أريد أن أطمئن عليك ...
فحدجه بنظرة ثاقبة وقال بسخرية: لا زلت أطالبك بالمزيد من الصراحة! .. إنك يا حضرة الضابط تريد أن تطمئن على نفسك لا علي أنا!
فقال حسنين وهو يشعر بقهر وغيظ: هما شيء واحد. - حقا؟! لا أرى رأيك، أو دعني أسألك لماذا لم توجه إلي هذه النصيحة من قبل؟ .. منذ عام مثلا؟
لا يسعه - بعد أن قال له وهو لا يدري أنه إنما جاء لهذا الأمر - أن يدعي أنه كان يجهله، وركبه الضيق، ولكنه تهرب من سؤال أخيه قائلا: ألا ترى وجه الخير لك فيما أريد؟
فتجاهل حسن سؤال وقال بنفس اللهجة الساخرة: كنت قبل عام في حاجة جنونية إلى النقود، فلم تهتم بالنصح والإرشاد، أما الآن وقد أصحبت ضابطا فلا يهمك إلا الدفاع عن هذه النجمة اللامعة!
ومع أن وجه حسنين لم يتغير إلا أن قلبه ماج بالغيظ والحنق، وكأنما أهاجه أن يقرأ الآخر أعماقه بهذه السهولة الساخرة، ولكنه قال بلهجة لينة: أخي ...
وأشار إليه الآخر أن يسكت فسكت، ثم قال باستهانة: سأكون معك صريحا إلى أبعد حد، وإذا كنت تسائل نفسك حقا عن عملي فإني أقول لك إني فتوة قهوة بدرب طياب، (ثم مشيرا إلى الصورة فوق رأسه) وعشيق هذه المرأة، وبائع مخدرات.
وهتف حسنين في انزعاج: لا أصدق هذا!
فقال الرجل مبتسما في هدوء: بل تصدقه كل التصديق، ولعلك خمنته فيما مضى، وها قد صح تخمينك، فماذا ترى؟!
فرنا الشاب إليه صامتا في إشفاق وألم، حتى ضاق بصمته فقال محزونا: ليس أحب إلي من أن تبدأ حياة جديدة شريفة!
فضحك حسن عاليا ثم قال بسخرية: بفضل حياتي غير الشريفة أمكنني أن أدفع عن أسرتنا غائلة الجوع، وأن أزود أخاك حسين بما كان في حاجة إليه؛ كي يباشر عمله الحكومي، وأن أهيئ لك قسط المصروفات الذي جعلك ضابطا والحمد لله.
ووخزه كلامه بمثل شك الإبر، فتراءت له الحياة ضيقة خانقة، ولكن رغبته الحارة في الدفاع عن نفسه أبت عليه أن يسلم بالهزيمة فقال: كان هذا بفضل نبلك، ولا فضل لهذه الحياة الخطيرة في ذاتها ! - لا تغالط نفسك؛ إنهم يدعونني بالروسي لا بالنبيل، ثم ما هي الحياة غير الشريفة؟ ليس ثمة إلا حياة فحسب، وكلنا يسعى للرزق. - توجد حياة آمنة، وحياة يفزعها مجرد توهم البوليس. - هذا من عسف البوليس، ولا ذنب لنا، بالله خبرني ماذا تريد علي أن أعمل؟
فقال حسنين بحماس وقد لاحت له بارقة أمل: اهجر هذه الحياة، واختر لنفسك عملا شريفا، كسابق عهدك.
وانفجر الرجل ضاحكا وتساءل في دهشة: صبي ميكانيكي؟! هذا كمن يطلب إليك أن تستقيل من الجيش لتبدأ من جديد بالتوفيقية!
وغلا حنق الشاب في أعماقه مرة أخرى، ولكنه تساءل في هدوء وابتسام: ألا تدري ما النهاية المحتومة لحياتك؟
فقال متهكما في بساطة: أن أسجن أو أقتل! .. وإذا قدر علي أن أقتل أولا نجوت في طبيعة الحال من السجن!
فتظاهر بالضحك وما يزداد إلا حنقا، واشتد حنقه خاصة لاستهانته، ومع أنه يئس منه أو كاد، إلا أنه استطرد قائلا: أرى أن خطورة حياتك لا تغيب عن فطنتك؛ فلست في حاجة إلى أن أبصرك بعواقبها الوخيمة، وإني أستحلفك بالله أن ترعى نفسك بالحكمة.
فألقى عليه نظرة طويلة باسمة كأنه يقول له «لا تحاول خداعي بتوددك!» وقال: لا تخف علي، أستغفر الله، أعني لا تخف على نفسك أو سمعتك، لا تحمل نفسك هموما فارغة، هبني كشيء لم يكن، لا تكترث لما يقول الناس عنكم بسببي؛ فإنك تستطيع أن تحيا الحياة التي تروق لك على رغم كلام الناس.
وتنهد حسنين في ضيق وقنوط، وحنق عليه في تلك اللحظة حنقا أسود تمنى معه لو كان شيئا لم يكن حقا، ولكنه كائن، ومسلط على رأسه كالسيف القاتل، فما عسى أن يفعل؟ وتنهد مرة أخرى وتساءل: أليس ثمة أمل في أن تعود إلى الحياة الشريفة؟ .. أهذه كلمتك النهائية؟!
وغضب حسن، وكأنه أشفق على أخيه من غضبه فانتفض قائما، وقطع الحجرة الصغيرة ذهابا وإيابا مرتين، مفرغا بخار غضبه في حركاته العنيفة، ثم استند إلى حافة السرير، وشبك ذراعيه على صدره، وقال بلهجة من نفد صبره: حياة شريفة ، حياة شريفة! لا تعد هذه العبارة على مسمعي؛ فقد أسقمتني، ميكانيكي بقروش معدودات في اليوم، أهذه هي الحياة الشريفة؟! .. السجن أحب إلي منها! ولو أنني استمسكت بها طوال حياتي لما حليت كتفك بهذه النجمة، أتحسب أن حياتي وحدها غير الشريفة؟ .. يا لك من ضابط واهم! .. حياتك أنت أيضا غير شريفة؛ فهذه من تلك، ولقد جعلت منك ضابطا بنقود محرمة مصدرها تجارة المخدرات وأموال هذه المرأة (وأشار إلى الصورة)؛ فأنت مدين ببدلتك لهذه المومس والمخدرات، ومن العدل إذا كنت ترغب حقا في أن أقلع عن حياتي الملوثة أن تهجر أنت أيضا حياتك الملوثة، فاخلع هذه البدلة ولنبدأ حياة شريفة معا!
واصفر وجه حسنين وغض بصره في ذهول ويأس وقد امتلأ صدره غيظا وحقدا، وانفرجت شفتاه أكثر من مرة كأنه يهم بالكلام، ولكنه كان يطبقهما في تسليم اليائس. ولم يرحمه حسن على ما بدا من قهره ووجومه فقال: أرأيت أنك تؤثر النجمة على الحياة الشريفة؟! ولست ألومك؛ فأنا مثلك أوثر رزقي على الحياة الشريفة .. (ثم ضاحكا) نحن شقيقان ويجري في عروقنا دم واحد!
ونهض حسنين عابسا وهو يقول: لا تسخر مني جزاء ما أوليتك من نصيحة!
ثم اتجه نحو باب الحجرة وهو يقول: أستودعك الله.
ولما وضع يده على أكرة الباب سأله الآخر برقة مفاجئة: ألا تريد أن تسلم علي؟
فتحول إليه ومد له يده، فشد عليها الآخر وأبقاها في يده وهو يقول ضاحكا: يؤسفني أنني أغضبتك، انس ما كان ولنبق كما كنا ولو على البعد، ستجدني دائما «الروسي» الذي عهدته، ولا تنس أن تهدي سلامي إلى أمنا ونفيسة. مع ألف سلامة.
72
وأطلع أمه على صورة واضحة من سيرة حسن؛ فقد كان صدره أضيق من أن يتسع لها وحده، واستمع لما جاد به لسانها من ضروب العزاء والنصح بقلب مغلق، كان في الحقيقة متهجما متشائما حاقدا، ولما كان لديه بضعة أيام من الفراغ قبل أن يبدأ عمله بالفرقة؛ فقد خطر له أن يسافر إلى طنطا للقاء حسين، وعاوده شعوره القديم بالحاجة إلى مشاورة أخيه فيما يلم به من أحداث. بيد أنه لم يقدم على تنفيذ فكرته وبدا كالمتردد، وفيما بين هذا وذلك لم يجد من سلوى إلا في شقة فريد أفندي. ولكنه كان يذهب إليها ناشدا عزاء لا ملبيا شوقا، ولم تغب عنه حقيقة مشاعره، فحمل كآبته العامة مسئولية تغيره، ثم أخذ يستبين أن تغيره أعمق من أن يكون أثرا عارضا وقتيا، وتساءل في حيرة ألم يعد يحبها؟! عرض له هذا التساؤل أول ما عرض في ضحى اليوم الذي جاء بعد زيارته لحسن بيومين، وكان يجالس بهية على انفراد بحجرة الاستقبال على حين شغلت الأم بالمطبخ، فجعل ينظر إلى الفتاة متسائلا ألم يعد يحبها؟! هي فتاته، بجسمها وروحها، ولم تزل مثار رغبة جامحة، ولكن كأنه يرغب في أن يولي عنها فيما يرغب أن يولي عنه من ماضيه جميعا. وتحير بين رغبته فيها وما يتساءل عنه من انتهاء حبه لها! أيمكن أن يرغب فيها ولا يحبها في آن؟ إنه يجذب إليها بقوة عنيفة، ولكن يرغب به عنها ما يرغب به عن عطفة نصر الله وعطفة جندب. لم تعد الأمل الذي يرنو إليه، وما هي إلا لوثة في دمه يبغي منها شفاء، وأدام النظر إليها حتى خال وجهها الهادئ المهذب عقابا مجسما، فوجد وخزا في قلبه، وطرد أفكاره دون أن يبت فيها برأي وسمعها تقول له: لا تحملق في هكذا.
ما ألذ أن يضمها إلى صدره ويمطرها قبلا! إنه لا يدري ما هو فاعل بها غدا، ولكنه يأسى على طول حرمانه.
وقال مبتسما: إني أفكر في تقبيلك قبلة حارة نبدأ بها حياة جديدة. - لا يحلو لك إلا هذا الكلام! - هل ثمة ما هو أحلى؟
فترددت قليلا ثم خفضت عينيها قائلة: يوجد ما هو أهم!
وحدس ما تعنيه بلا تردد، وساوره قلق. ولكنه تجاهل ظنه متسائلا: أهم من القبلة؟! - أحب أن تحدثني جادا ولو مرة. - ولكني أود أن أقبلك جادا!
فتفكرت فيما يشبه الحيرة، كأنما تغالب خطرة ثم بدا كأنها تغلبت على حيرتها فقالت : ألا تدري ماذا قالت أمي؟
صدق حدسه! لا بد مما ليس منه بد! وتساءل متبالها: ماذا قالت؟
فقالت بصوت منخفض وفي عناء من حياء: قالت لي لقد طال انتظارك، وها قد صار ضابطا!
وأحس في أعماقه بحنق حام كأنه سمع تجديفا، ومع أنه كان يعلم بأنه ليس له حق في حنقه إلا أنه كره الأم في تلك اللحظة، ثم تساءل: هل تتعجل الزواج؟
فتضرج وجهها بالاحمرار وغمغمت: كلا، ولكنها ترى أنه آن أن تعلن الخطبة. - ألم يتم هذا؟!
فتحسست بنصر يمناها في حياء وغمغمت: ثمة أمور لم تزل ناقصة ...
وفهم ما تشير إليه في استياء لم يدر سببه، لم يكن ثمة شيء مستغرب فيما يطلبون ومع ذلك حنق عليهم جميعا، وركبه شعور المطارد إذا تهدده خطر، وتفرس في وجهها وهو يذكر ما قال زملاؤه عنها في الأتوبيس وقال لنفسه: «فتاة طيبة، ولكنها ليست أهلا لأن تكون زوج ضابط مثلي، ولو تم هذا الزواج لكان الأول من نوعه!» ثم قال لها في هدوء باسم: هذه أمور لا وزن لها. - ولكنها هامة جدا في نظر الناس؛ فطالما تساءل أقاربنا عن الخاتم!
وعجب لحماسها، وتمنى لو كانت تعلن عن بعض هذا الحماس في الحب. «ولكنها تريد أن تتزوجني لا أن تحبني، هذا سر برودها وتحفظها، وإذا لم يكن حب، بل وحب قهار جنوني، فما الذي يغريني بالزواج منها؟!» وقال: لا داعي للعجلة، ستتحقق آمالنا في الوقت المناسب. - ومتى يكون هذا الوقت المناسب؟
فقرب ما بين حاجبيه كأنه يفكر، وقال: أظن إذا رقيت إلى رتبة الملازم أول أصبح في وسعي أن أفتح بيتا مع معاونة أهلي الذين لا يستغنون عني كما تعلمين.
وبدا في وجهها الوجوم، وجعلت تقرض ظفرها حانية الرأس خابية العينين. ومع أنه ارتاح لتصريحه الذي مد له في حريته إلا أنه رق لمنظرها، وجرى بصره على جسمها فدق قلبه وتناسى أفكاره ومخاوفه وحنقه فنهض إليها، وجلس إلى جانبها على الكنبة، ولكنها تباعدت إلى نهاية المقعد، وحالت دونه بساعديها قبل أن تذهب روح المقاومة الطارئة مسحة الحزن من عينيها، وقبض على ساعديها وهوى على كفيها يقبلهما، حتى قامت مبتعدة عنه وهي تهتف: دعني .. دعني .. لم تعد كما كنت!
وقام في أعقابها مدفوعا بفورة إحساسه وجنون أعصابه وطوقها بذراعيه وأطرافه ترتعش، ودافعته بقوة فهوى بفيه إلى شفتيها فأمالت رأسها إلى الوراء فمست شفتاه طرف ذقنها، ثم تملصت من ذراعيه ووقفا وجها لوجه وهما يلهثان، وصاحت به بصوت متهدج: لا تهجم علي غصبا!
وانقلبت شهوته غضبا، فحدثته نفسه بهجر الحجرة، وسار خطوتين صوب الباب، ثم تحول إليها بغتة وقد انقلب غضبه شهوة جنونية فانقض عليها مصمما على إرواء عواطفه، وطوقها بذراعيه رغم مدافعة يديها، وضمها إلى صدره بعنف ووحشية، ثم طبع شفتيه على شفتيها، وكلما مالت بوجهها عنه أتبعها وجهه لازقا فاه بفيها، ملاقيا دفعات مقاومتها بقوة وحشية، حتى سكنت بين ذراعيه في شبه إغماء. ولم يبال خورها فراح يضمها إلى صدره حتى استشعر طراوة جسمها اللدن على بطنه وفخذيه، فتسرب إلى إحساسه في ارتياح عميق كأنه كشف جديد عن لذة الحياة، وندت عنها مقاومة طارئة ضعيفة كصحوة الموت، ولكنه قضى عليها بوحشيته، وجن انفعالا وتطلعا واستزادة، وانصهر قلبه وسرى ذوبه في أعصابه باعثا لذة خيالية، ثم انهارا في تسليم متوقع مفاجئ معا، وأفاق كمن يفيق من حلم فوجدها بين ذراعيه وشفتيه على خدها، ولما شعرت بذراعيه تتراخيان عنها دفعته في صدره متراجعة وقالت وهي تتنهد في صوت ضعيف: لن أصفح عنك.
ولم يترك قولها في نفسه أثرا، لا حسنا ولا سيئا، فلم يأبه لها وكأن إحساسه تجاهل وجودها. شعر بظفر وارتياح، ثم غلبه عليهما فتور فتراجع إلى مقعده الأول وجلس عليه في دهشة. ولبثت هي بموقفها كالمترددة ثم عادت إلى مجلسها في استياء وراحت تعاتبه وتعنفه دون أن يلقي إليها بالا، ورنا إليها بغرابة وساءل نفسه: أهذه هي؟ أهذا أنا؟ أين هي وأين أنا؟ ثم ران عليه فتور ثقيل أكثر مما يحتمل.
وجعل يصغي إليها دون أن يحمل نفسه مشقة الاعتذار، وانتهز فرصة حضور أمها فجالسها دقائق ثم قام مستأذنا في الانصراف. ولما غادر الشقة شعر برغبة في الهرب، وحينذاك عاودته فكرة السفر إلى طنطا فابتسم لها في ترحاب وحماس.
73
عندما انتهى إلى فندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق بطنطا، كانت الساعة حوالي الخامسة مساء، وقاده غلام إلى حجرة أخيه فنقر على الباب، ووقف مبتسما انتظارا للمفاجأة السارة وفتح الباب وظهر حسين في جلبابه، وسرعان ما اتسعت عيناه دهشة فأقبل على القادم وهو يهتف: حسنين! لا أصدق عيني!
وتعانقا عناقا حارا، ثم دخلا الحجرة الصغيرة وحسين يلقي عليه نظرة متفحصة في حب وإعجاب، ثم قال بصوت متهدج من التأثر والسرور: يا لها من مفاجأة سعيدة! أهكذا يهجم العسكريون بلا إنذار؟ مبارك! لقد أرسلت برقية تهنئة. - وصلتني ورأيت أن أجيئك بنفسي شاكرا! - وكيف حال نينة ونفيسة؟ - على خير حال، وجدت لدي بضعة أيام إجازة قبل بدء العمل فضلت أن أمضيها معك. - أحسنت صنعا، وحسن؟ أما من جديد عنه؟
وغاض البشر من وجه حسنين، ولكنه أبى أن يخلط باللقاء كدرا فقال: دعنا منه الآن على الأقل.
وحدس حسين ما أحزنه، ولكنه لم يكن أقل رغبة منه في تأجيل النكد إلى وقت آخر، فدعاه إلى الجلوس على الكرسي الوحيد ووثب هو إلى الفراش، وتبادلا نظرات مشوقة متفحصة فلمس كل منهما ما طرأ على الآخر من أمارات الصحة والعافية، وإن كان وزن حسين قد زاد أكثر مما يتصور أخوه، كذلك وجده قد ربى شاربه بطول شفتيه وعرضها؛ مما أكسبه مظهر رجولة وقورا، وجعله يبدو أكبر من سنه، وقد داعبه قائلا: لقد خلقت لتكون أبا بارا.
فابتسم حسين على ما أثار قوله في نفسه من ذكريات محزنة، ولكنه لم يعلق عليها بكلمة وقال مشيرا إلى نجمة الضابط: إني فخور بك.
وقال حسنين بتأثر: إني مدين بها لنبل تضحيتك.
وهبط قوله على قلبه بردا وسلاما، وتمتم: لا تبالغ! أنت رجل جدير بكل خير.
وقال حسين لنفسه «هذا شقيق لا يشين، ولولا ماضي نفيسة وحاضر حسن وماضيه ما وجد إنسان على الأرض أسعد مني!» ثم قال لأخيه بسرور: أبشر، لقد رجوت أحمد بك يسري أن يسعى لنقلك إلى القاهرة، فوعدني خيرا. - عفارم! وبهذه المناسبة أخبرك أنني سأعود معك إلى القاهرة قائما بإجازتي السنوية.
ثم غادر الفراش وهو يقول: اغسل وجهك ونفض بدلتك من وعثاء السفر، وهلم ننطلق إلى المدينة؛ فلا خير في البقاء في هذه الحجرة الضيقة.
وارتدى بدلته ثم خرجا معا يتمشيان في طرقات المدينة، ثم مضى به إلى قهوة السمر، وجلسا معا يواصلان حديثهما، وتكلم حسين عن حياته في طنطا كثيرا، وشكا إلى أخيه وحدته وكيف عودته على غشيان المقهى كل مساء فيمضي ساعتين على الأقل مع نفر من الموظفين يلعبون النرد حينا ويسمرون حينا آخر، ثم يعود إلى الفندق؛ فيطالع ساعة أو أكثر قبل النوم، وحدثه عن آخر كتاب ابتاعه وهو «الاشتراكية» لمكدونالد المترجم عن الإنجليزية، وكيف أن النظام الاشتراكي لا يتعارض مع الدين ولا الأسرة ولا الأخلاق، كان في وحدته وضيقه يسعد بأحلام الإصلاح، ويتخيل مجتمعا خيرا من المجتمع الذي يعيش بين أحضانه، وحالا خيرا من الحال المقدورة له، وأسعده الأمل في إمكان تحقيق خياله دون الاعتداء على العقائد التي أشرب حبها، والإيمان بها منذ طفولته.
ثم تساءل في نفسه ترى هل أفضت أمه للشاب بالسر الذي دفعها إلى زيارته منذ عام ونصف؟ ولما لم يشر حسنين إلى الموضوع بكلمة اطمأن إلى أنها كتمت الأمر كله، وهو ما ترجح لديه من بادئ الأمر، وذكره هذا الخاطر بآلامه الماضية، ولكنه ذكرها بقلب خال هادئ لولا حنينه العام إلى الرفيق والحب ما تشكى قط، ثم وجد نفسه وهو لا يدري يسأل حسنين عن خطيبته! وأجاب الشاب إجابة عامة قائلا: «بخير والحمد لله.» وساءل نفسه هل يصارح أخاه بما طرأ على نفسه من تغير وتطور؟ ولكنه جفل عن هذا، وأجله إلى المستقبل إذا جد جديد من الأمر، وكان يعلم سلفا بأن حسين لا يمكن أن يوافق على نواياه أو يرضى عن منازعه. وتواصل الحديث بينهما طيبا لطيفا حتى عزم حسنين على خوض الموضوع الخطير الذي يشغله فقال متنهدا: تصور كم كانت الحياة جميلة لولا ماضينا وأخونا حسن.
وأحس حسين بما وراء هذا التنهد من حزن وسخط فقال ببساطة: أعتقد أن آلامنا قد انتهت، أما ماضينا فليس فيه ما يخجل، وأما حسن فلن يضر وا أسفاه إلا نفسه.
فهز رأسه دلالة على عدم الموافقة وقال في حزن: أما علمت أن حسن قد انقلب مع الزمن بلطجيا وتاجر مخدرات!
ومع أن حسين كان يتخيل شقيقه الأكبر على أسوأ حال، إلا أنه لم يكن يظن أنه تردى إلى هذا القرار، فهتف في ارتياع: لا تقل هذا!
فكان جواب حسنين على ارتياعه أن قص عليه ما شاهده في زيارته الأخيرة لحسن وما سمع، وأصغى إليه أخوه في صمت ووجوم، ولما طال صمته سأله حسنين: ما رأيك؟
فبسط له راحتيه كأنه يقول له: «ما حيلتنا؟» ثم غمغم: وا أسفاه، كان حسن ضحية للمرحوم والدنا، وكان والدنا ضحية لضيق ذات اليد!
فقال حسنين بجزع: ألا تستطيع إقناعه بالإقلاع عن أسلوب حياته؟
فقال الآخر متنهدا: لن يقلع عنها مهما قلنا أو فعلنا، شيء واحد يستطيع أن يعدل به حياته، وهو أن نهيئ له رأس مال مناسبا كي يبدأ حياة جديدة، فهل يسعنا هذا؟!
وتبادلا نظرة يائسة لأن السؤال لم يكن في حاجة إلى جواب، ثم قال حسنين بحدة: أنتركه في غيه كي يقضي على آمالنا! - لقد قضى على نفسه. - وعلينا! كيف تواجه العالم ولك مثل هذا الأخ؟! سوف تظهر أسماؤنا يوما في الجرائد بين أعمدة الحوادث والجنايات!
فتنهد حسين محزونا متفكرا في كلام أخيه الذي رجع أصداء أفكار طالما أكربته في وحدته، ولكنه قال معارضا أخاه ونفسه معا: لا ذنب لنا، ولا يصح أن ندع الخوف يتهول في قلوبنا، قد يصيبنا رشاش من ألسنة الناس، الآن أو فيما بعد، ولكننا لن يمكننا مواجهة الحياة إذا لم ندرع بقدر من عدم المبالاة.
بدا له حسين كأنه لا يعي ما يقول، أو كأنه لا يبالي السمعة الطبية التي هي أس كل أمل في الحياة، بيد أنه مهما يكن من أمره فهو ليس ذا أصدقاء كأصدقائه يشفق من أن يطلعوا على أسرار أسرته، كذلك لا تنازعه نفسه إلى المجد والطموح؛ فليس في آماله ما يخاف عليه ألسنة الناس. أجل، أخطأ تقديره ولن يجد من أخيه مشاركة وجدانية، وحنق عليه في تلك اللحظة كثيرا، واحتقر استسلامه وهدوءه. واندفع قائلا وكأنه لا يروم إلا الترويح عن حنقه: هل نعد أنفسنا شرفاء؟
فقال حسين بدهشة: ولم لا؟! - ولكنا استعنا على تقويم حياتنا بنقود ملوثة!
تطاير الشرر بغتة من عيني حسين، وحملق في وجه أخيه وهو صامت، وكأن آلامه الدفينة قد طفت على سطح قلبه، داعية معها من الأعماق أسوأ الذكريات، ثم قال بحدة: كنا في موقف دفاع عن النفس، والدفاع عن النفس يحل القتل.
وشعر حسنين بارتياح خفي لغضب أخيه، وجعل يتساءل في حيرة عما دفعه إلى مجابهته بهذا التصريح الأليم، ثم استطال الصمت حتى سئما الموضوع فخاضا في غيره، غير أنه مضى زمن غير قصير قبل أن يطيب لهما الحديث.
74
وبعد بضعة أيام عاد الشقيقان إلى القاهرة، فكان يوم في حياة الأسرة لا ينسى. وقبلت الأم حسين طويلا ثم عانقته نفيسة عناقا حارا، وأمضى الشاب ساعة طويلة من الظهر وهو يحدث عن طنطا وحياته بها، والمرأتان منصتتان، وجعلت نفسية تتفرس في شاربه وبدانته الآخذة في النمو فهالها تغيره وقالت باستنكار: فيم تبدو كالرجال وأنت طفل!
فقال حسين مبتسما: لم أعد طفلا.
وقال حسنين ضاحكا: نحن رجال وأنت أختنا «الكبرى»!
فقالت الفتاة بحدة: كنت أكبر كما فيما مضى، أما من الآن فصاعدا فأنتما تكبرانني، هل تفهمان؟!
ثم التفتت صوب أمها وساءلتها في اعتراض: هل يعجبك هذا الشارب الذي يكبر نفسه ويكبرنا معه بلا داع؟!
وكان الوقت ظهرا فراح حسين يخلع ملابسه، وقد بدا البيت لعينيه غريبا، بيد أن حبه العميق لأسرته ولبيته استيقظ ودر حنانا فملكه ارتياح شامل، ارتياح من اهتدى إلى مأواه بعد أن تخبط ضالا طويلا، وأجال طرفه في حجرة المذاكرة ؛ هذا المكتب القديم، وهذين الكرسيين، وهذه النافذة التي تقوم صفحة الجريدة منها مكان اللوح الزجاجي المحطم، كل أولئك ذكريات عزيزة، أما سريره فلم يعد له أثر، بيع في الوقت المناسب كالمتبع، ولحق بسرير حسن، وكأنه لم يعد من أهل البيت! ومع أنه كان يحدس هذا بالبداهة إلا أنه شعر بحزن وكآبة. وهنا شعر بنفيسة وهي تغادر الحجرة قائلة: أمهلاني ساعتين أعد لكما غداء طيبا!
وابتسم ارتياحا. إنه لم يذق طعاما طيبا منذ عهد بعيد، ربما منذ وفاة والده. أجل، كان طعامه طيبا وهو موظف أفضل من طعامه وهو تلميذ كما يشهد بذلك ارتواء جسمه، ولكنه لم يطلق لشهوته العنان قط. على أنه كان مشغولا بما هو أخطر من لذة الطعام، وهو تذوق عودته السعيدة إلى منبته الأول وجوه الأصلي، كان حنانه كالغنوة الحلوة يتردد في حواسه جميعا، حتى هواء عطفة نصر الله الفاسد وجد له ميل ألفة ورقة ومودة، فكأنه الصحة والعافية. وجعل يحادث أمه وعيناه تترددان في أنحاء الحجرة الصغيرة، حتى استقرتا على جاكتة حسنين المعلقة بالمشجب، فنظر إلى النجمة طويلا. سيرقى حسنين عاما بعد عام حتى يصير ضابطا عظيما على حين يبقى هو كاتبا في الدرجة السابعة - أو السادسة على أحسن فرض - طوال مدة خدمته، على أنه لم يجد أي أثر لشعور الحسد أو الحنق، كان أبعد ما يكون عن هذا، بل كان سروره بأخيه لا يدانى، ولكنه وجد نفسه يتأمل في صمت حزين الفوارق الطاغية التي تميز بين الموظفين، وامتد خياله وهو لا يدري إلى الفوارق التي تفصل بين الناس عامة؛ ترى ألا يمكنه إذا نقل إلى القاهرة أن يلتحق بمعهد ليلي عسى يتغير من حال إلى حال؟ وابتسم قلبه لهذا الخاطر السعيد وأودعه صدره كأمل احتياطي يلجأ إليه في حينه، فينجيه من مصير كمصير حسان أفندي حسان! وحتى حسان أفندي نفسه لم يكن ليرقى إلى الدرجة السادسة لولا الوزير الوفدي! وذكر عند ذاك أمورا سمع بها في طنطا، فساءل أخاه: هل حقا ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟
فضحك حسنين قائلا: غير مسموح للضباط بالاشتغال بالسياسة.
فضحك الشاب ثم قال: كيف تسقط بعد أن نفض الإنجليز أيديهم من سياستنا؟
وتساءلت الأم: أنعود مرة أخرى إلى المظاهرات؟ - من يدري؟
فعادت تتساءل بقلق: لا شأن للجيش مع المظاهرات؟
فقال حسين بمكر: إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش!
وضحك حسين، وأدركت الأم ما تعنيه ضحكته، فرمت حسنين بنظرة شزراء، وهزت منكبيها استهانة. وعادت نفيسة لتقول لهم إن الغداء يتهيأ على أحسن حال، ثم سألتهم عن السلطة المفضلة لديهم، وغادرت الحجرة مشمرة عن ساعديها والعرق يتصبب من جبينها، وساد الصمت فعاد حسين إلى أفكاره، وفكر هذه المرة في الإجازة وكيف يمضيها، كان الموظفون في طنطا يدعونه باليهودي لأنه لا يقامر ولا يسكر ولا ينفق أكثر من قرش واحد في القهوة، ولكنهم جهلوا حقيقة حاله. أجل، إنه ميال بطبعه إلى الاقتصاد، ولكن هل تركت مسئولياته له شيئا يقتصد؟! ولم تدعه أمه لأفكاره طويلا فعادت تنازعه الحديث، وخيل إليه أنها ترنو إليه بحنو نادرا ما تعلنه، ترى هل ذكرت كيف قست عليه يوما؟! لقد قست عليه حقا، ولكن قسوة الدهر عليهم جميعا كانت أعظم؛ ترى ماذا هي فاعلة مع حسنين؟ .. ولكن لماذا لا يبدو الفتى متحمسا لزواجه! لماذا لم يحدثه عنه؟! وحوالي الساعة الثانية جاءت نفيسة حاملة صينية الغذاء، فوضعتها على المكتب وهي تقول: نأكل اليوم على المكتب لأن الموظفين لا يصح أن يأكلوا على الأرض.
جمعتهم المائدة لأول مرة منذ عامين، ثم عادوا إلى جلستهم على الفراش الصغير، وواصلوا الحديث في أنس وسرور، وحوالي منتصف الرابعة دق الباب الخارجي فغادرت نفيسة الحجرة لتفتح للقادم، ووثب لرأس حسين خاطر عجيب؛ أتكون أسرة فريد أفندي قد جاءت لتهنئ العائد؟! .. وفي هذه الساعة؟ وعادت نفيسة جريا ووقفت على عتبة الحجرة وهي تنظر إليهم بعينين متسعتين تلوح فيهما الدهشة والانزعاج، ثم هتفت قائلة: ضابط وعساكر.
75
ووقف الشقيقان في دهشة وحسنين يتناول جاكتته ويرتديها بسرعة متسائلا: ماذا يريدون؟
وكانت نفيسة تردد بصرها بينهم وبين القادمين فقالت فجأة بذعر: رباه .. لقد دخلوا الصالة.
واندفع الشابان خارج الحجرة فوجدا ضابطا وشرطيين، ورجلا آخر يبدو من مظهره أنه مخبر، فتقدم حسنين من الضابط متسائلا: ماذا تريد حضرتك؟
قال له الضابط: لا مؤاخذة، لدي أمر بتفتيش هذه الشقة!
وأطلعه على أمر كتابي فنظر فيه حسنين بعينين لا تريان شيئا، على حين سأل حسين: لعلك أخطأت الشقة، ماذا يدعو لتفتيش بيتنا؟
فقال الضابط: نحن نبحث عن حسن كامل علي الشهير بالروسي!
وجم الشابان وهما ينظران إلى الضابط في انزعاج وقنوط، وكانت المرأتان تقفان على عتبة الحجرة فركبهما الذعر وتسمرتا في مكانهما. وعاد الضابط يقول: لقد قبض على بعض شركائه، ولكنه اختفى قبل القبض عليه، ودلنا بعضهم على مسكنه الأول وتحققنا من هذا بواسطة شيخ الحارة.
فقال حسنين بصوت متهدج: ولكنه لا يقيم هنا، لقد غادر بيتنا منذ أعوام ولا ندري عنه شيئا.
فهز الضابط رأسه وقال: على أي حال سأقوم بتفتيش الشقة تنفيذا للأمر.
وبدأ التفتيش فتراجع أحد الجنديين إلى الباب واقتحم الضابط والآخران الحجرات، وقد جمد الشقيقان في موقفهما كأنهما استحالا حجرين، وقال حسنين لنفسه: «سأذكر هذه الساعة ما حييت!» وتبع خياله الضابط وهو ينتقل من حجرة إلى حجرة، وكأنه يرى معه الحجرات الخالية العارية ويقلب أثاثها البالي الحقير ظهرا لبطن، لم يكن تفتيشا عن حسن فحسب؛ لأن حسن لا يمكن أن يختبئ في درج المكتب أو تحت حشية الفراش؛ فالفضيحة أفظع مما يتصور، وحتى في تلك اللحظة الرهيبة لم يستطع أحد أن ينتزع من نفسه الخجل الجارح الذي عفى عزة نفسه والضابط يهتك بعينيه المتفحصتين حقارة البيت وفقره، وبلغ مسمعه - على ذهوله - صوت بكاء مكتوم فارتفع بصره إلى نفيسة وصاح بها بحدة جنونية: اكتمي أنفاسك!
وانتهى التفتيش فأمر الضابط رجاله بمغادرة الشقة ثم اقترب من حسنين وقال برقة: أكرر الأسف. وإنه ليسرني أني لم أعثر على شيء كان حريا بأن يسبب لكم المتاعب!
ورفع يده إلى جبينه بالتحية وغادر الشقة مخلفا وراءه سكونا محزنا، وتبادل الشابان نظرة ذاهلة دون أن ينبسا بكلمة، وأقبلت المرأتان نحوهما بوجهين ميتين، وانتبه حسنين من ذهوله بغتة متأوها، فوثب إلى الباب وأبرز رأسه راميا بطرفه إلى فناء البيت فرأى رجال البوليس في نهاية الفناء يشقون طريقهم وسط لمة من الرجال والصبية، بينهم البقال والحداد وبائع السجائر، فتراجع وهو يضرب صدره بقبضته صائحا: الجميع يتفرج على فضيحتنا، افتضحنا وانتهينا.
وعاودت نفيسة البكاء ونظرت الأم إلى حسين كأنها تستغيث به، ولكن الشاب لم يدر ماذا يقول، وبدا كأنه يقاوم طعنة قاسية، وجعل حسنين يذرع الصالة وهو يواصل ضرب صدره بعنف ويقول: بودي لو أقتل! .. لن يروح عن صدري أقل من القتل.
وضاقت الأم بعنفه بنفسه فغمغمت قائلة: هدئ من روعك يا بني، ماذا يجدي ضربك نفسك هكذا؟
فصاح في غضب: دعيني أقتل نفسي ما دمت لا أجد من أقتله!
وخرج حسين عن صمته فقال بصوت غريب: يجب أن نتدبر أمرنا في هدوء.
فرماه بنظرة من عينين محمومتين وقال: أي أمر نتدبره؟ .. لقد افتضحنا وانتهينا! - هذه مصيبة لا حيلة لنا فيها، ولكننا لم ننته، فلنتدبر أمرنا.
لم يكن صدره ليحتمل المناقشة فمضى إلى حجرته، وارتمى على فراشه، وكان الخزي يخنقه والغضب يحرقه فمقت أخاه المذنب مقتا قتالا ود معه لو يخفيه عنه الموت إلى الأبد، واستسلم لخواطر دموية جنونية راح يجترها في ذهول وهذيان، ولحق به حسين فجلس على الكرسي صامتا متحاميا إثارته، وكان هو نفسه في حالة تستحق الرثاء. لم يبلغ منه الحزن يوما ما بلغه في تلك الساعة، فلم يغب عنه ما أصاب سمعتهم من طعنة قاتلة، وما يتهددهم من قلاقل في الحاضر والمستقبل، وما نزل بأخيه الأكبر من قضاء لا قائمة له بعده، ماذا جنت أسرته حتى تستحق هذا كله؟! وأخذت تتجمع في ذاكرته ذكريات من آلام الماضي ويربطها بآلام الحاضر فبدت له كدمل خطير يتكشف فجأة عن مضاعفات سامة في الوقت الذي يظن به الاندمال والشفاء. وكعادته قرن آلام أسرته بآلام الناس فوجد نفسه يتأمل حزنا شاملا، وكان يلقي على تأمله هذا كآبة لا شك فيها، ولكنها كثيرا ما توحي بشيء من الصبر والعزاء، ثم نزعت به نفسه إلى تلمس بصيص نور في ظلامه المحيط، وجعل يسترق النظر إلى وجه أخيه المكفهر متحينا فرصة لمحادثته.
ولبثت الأم وابنتها بموقفهما ونفيسة لا تمسك عن النحيب. لم يعد بوسع المرأة المحنكة أن تحسن التفكير والتدبير، غلبت على أمرها، وقهرها الحزن والأسى، وكان قلبها يعاني الآلام التي تتوزع قلوب أبنائها جميعا يضاف إليها ألم خاص دفين يخيفها بقدر ما يعذبها، وتشفق إشفاقا شديدا من ذيوعه وافتضاحه، هو ألمها لحسن نفسه، أين ذهب؟ ماذا يفعلون به لو قبضوا عليه؟ أي مصير يرصده؟ لا ينبغي أن تذكر له إلا عطفه وحنانه، وأنه جاد لهم بخير ما في نفسه، وأنه كان ملاذهم في الملمات، يا له من طريد لا نصير له ولا حبيب، حتى أهله ينكرونه ويمقتونه. عين حسود أصابتهم، نفسوا عليها الموظف والضابط ونسوا الآلام التي تركتها حطاما، وتنهدت في عصبية لأنها لم تعد تحتمل نحيب نفيسة وانتهرتها قائلة: كفاك بكاء ارحميني؛ فإني لا أجد من يرحمني!
ولكن نفيسة لم تكن تملك من نفسها شيئا، حتى آلام الموقف الحقيقية غابت عنها في حالتها العصبية، غلبها خوف غريب ترتعد منه الفرائص. ولم تكن تبكي حزنا أو أسفا أو غضبا، ولكن بكاء هستيريا تغالب به خوفا لا يغلب، خيل إليها معه أنها هي المطاردة، وتوقع قلبها شرا فظيعا، أفظع مما وقع، فتلفتت فيما حولها في ذعر كأنما تخشى أن ينقض عليها فجأة، وسمعت أمها تقول بصوت ضعيف «هلمي بنا إليهما!» فرحبت بالدعوة لتفر من مشاعرها، وسارت وراء أمها إلى الحجرة في خطوات ثقيلة، ثم خفق قلبها وهي تجوز العتبة كأنما تجفل من لقاء أخويها.
76
ثم التفت حسنين إلى حسين وسأله بوحشية: أين تظنه هرب؟
وكانت مرت فترة من الوقت ثاب فيها حسين إلى بعض نفسه، فلم يرتح للهجة الشاب القاسية وقال: من لي بأن أعلم! (ثم بلهجة لا تخلو من تأنيب) تذكر أنه أخونا! - بعد هذا كله! - نعم ، بعد هذا كله.
نطقها بصوت عميق ليعزي قلبا يعلم أنه - على صمته - في أمس حاجة إلى العزاء، ولكن ثارت ثائرة الآخر وصاح به: لقد قضى علينا.
فقال حسين بصوت متعب: لا تبالغ ولا تصح، ينبغي أن تفكر في هدوء. - إن الحي كله يتحدث الآن عن فضيحتنا.
فقال حسين في هدوء: في وسعنا أن نهجر الحي كله.
فتطلع إليه حسنين بعينين حائرتين انشقت ظلمتهما عن بصيص أمل، هذا دعاء تهفو له نفسه ملبية وكأنها هي التي تتكلم، وغمغم متسائلا: ماذا قلت؟ - لم لا؟ القاهرة واسعة لا تحد، وسيطوي النسيان قصتنا في أقل من أسبوع!
فتنهد حسنين في شبه ارتياح، ولكنه قال في حذر: لن نمحو الماضي. - فلنفكر في المستقبل. - ولكن الماضي سيطارد المستقبل إلى الأبد.
فقال حسين بملل: فلنفكر جديا في الانتقال إلى مكان آخر، ويجب أن يتم هذا قبل انتهاء إجازتي.
وقالت الأم برجاء: أجدر بنا أن نفكر في هذا حقا.
وردد حسنين نظره بينهما حائرا، قد يقبض على أخيه وقد لا يقبض عليه، ولكنه سيظل على الحالين يطاردهم ويتهددهم، لن يطمئن لهم جانب وهو على قيد الحياة، ثم تساءل في فتور: أين نذهب؟
فقالت الأم في أمل: إلى شارع شبرا بعيدا عن هنا.
فندت عنه حركة تنم عن الجزع والسخط وقال: أبعد من هذا، أبعد من هذا .. إلى مصر الجديدة!
فقال حسين في شيء من الارتياح: كما تشاء.
فلاح في وجهه تردد طارئ، ثم قال متنهدا: ولكننا في حاجة ماسة إلى أثاث جديد!
فقالت الأم بضيق: لا تزد الأمور تعقيدا، ماذا يهم الأثاث إذا لم تقع عليه الأعين؟! - لا أستطيع أن أخفي بيتنا عن أصدقائي إلى الأبد!
فقال حسين: هذه مسألة أخرى، وبوسعك أن تبتاع كنبة وكرسيين كبيرين وبساطا أسيوطيا فتجعل منها حجرة استقبال مؤقتة، وإذا شئت خرجنا معا اليوم أو غدا للبحث عن شقة؟
بذلك خف التوتر قليلا وإن غشيت جو المكان كآبة استسلموا لها جميعا في صمت حتى دق الباب، وجاء فريد أفندي وأسرته، كانت زيارة منتظرة ، ولكنها جاءت في أسوأ حال، وذكر حسين في عجب كيف حلم بها منذ ساعات، وكيف يتلقاها الآن بفؤاد كسير ونفس فاترة، أما حسنين فقد ثار غضبه بلا سبب ظاهر، ولو لم يره فريد أفندي ونفيسة تتقدمه إلى حجرة الاستقبال، لمضى هاربا إلى الخارج. واجتمعوا في حجرة الاستقبال، ولقي حسين من الأسرة تحية حارة، ثم استفاض الحديث عن الماضي والحاضر. وكانوا يتوقعون أن يثير الزوار مسألة التفتيش والبوليس، ولكن آل فريد أفندي تجاهلوا الأمر كلية، كأنهم ما علموا به، ولم يلطف هذا التجاهل من حنق حسنين، أو بالحرى زاد من ثورته الباطنة وشعر بجرح عميق في كرامته. والتقت عيناه بعيني بهية أكثر من مرة فوجدها ترمقه بحزن وحيرة، لم تخف عنه بواعثهما منذ سفره المفاجئ إلى طنطا، ليكن، لقد ضاق صدره بهذا كله. الآن، وفي وقدة حنقه وضيقه، يستطيع أن يواجه خواطره الباطنة بصراحة وشجاعة، ولن تكون هذه المرأة حماته، ولا هذا الرجل حماه ... ولا هذه الفتاة زوجه! كل أولئك هم عطفة نصر الله بلا زيادة، عطفة نصر الله بذكرياتها السود وحاضرها الأغبر. إنهم يعلمون بما جاء بالبوليس كما يعلم الجيران جميعا، ولكنهم يتكرمون عليهم بتجاهل الأمر، ولعلهم يضيفون هذه المكرمة الجديدة إلى مكرماتهم السابقة. سحقا لهم، لشد ما يضيق صدره بالمكرمات قديمها وحديثها! وإنه ليتطلع إلى قوم جدد لا تحول بينه وبينهم المكرمات ولا يربط الماضي البغيض أسبابه بأسبابهم. «انظري بحزن وحيرة كيف شئت، لست لك، لست لك! ينبغي أن يتغير كل شيء، ماذا فتنني في هذا الجسم؟! ألأنه لحم طري؟ الأسواق ملأى بهذه اللحوم، جو بغيض! لو طال المقام بي هنا أكثر من ذلك سأبغض أسرتي نفسها.» وطالت الزيارة فجعل يتحملها في صبر حتى انصرفت الأسرة قبيل المغرب بقليل، وقد دست الفتاة في يده ورقة مطوية وهي تسلم عليه، ولما أن خلا إلى نفسه وبسطها وجد بها هذه العبارة: «قابلني فوق السطح.» كانت أول رسالة توجهها إليه، وتفحص الخط بعناية وغرابة، فوجده بخط الأطفال أشبه، وذكر لتوه تعليمها الابتدائي ! بيد أنها كانت على إيجازها عميقة الدلالة، حتى لكأنها صرخة استغاثة، ولا شك أنها كتبتها خلسة في شقتها قبل الزيارة؛ مما يدل على أن قلبها توجس خيفة من أن يواصل فراره منها الذي بدأه بالرحيل إلى طنطا. وأحس بغمز الألم في قلبه وشمله عدم ارتياح فسخط كما يسخط على كل شيء حوله، ولكن فيم يسخط؟ أليس من الخير أن تلم بما طرأ على نفسه؟ وهل كان يظن أن الارتياب لن يتسرب إلى نفسها بعد سفره المفاجئ؟ ليكن، لن يرضخ لضغط الظروف حتى يدمر نفسه بنفسه، ولن يغامر بسعادته ومستقبله من أجل عاطفة طفلية قديمة ووعد صبياني. وخاف أن يخلو إلى نفسه أكثر مما خلا فمضى إلى حجرته وقال مخاطبا أخاه: هلم بنا لنخرج.
ونهض حسين موافقا على دعوته، وغادرا الحجرة معا، ووجد ما يشبه الندم، وتمنى لو كان حسين قد تكاسل عن تلبية دعوته بهذه السرعة ليعاود التفكير! ولم تكن الفرصة قد ضاعت تماما؛ فلم يزل بوسعه أن يراجع نفسه، ولكنه لم ينبس بكلمة، وواصل سيره إلى جانب أخيه. لعلها تنتظر الآن أمام حجرة الدجاج! وخفق قلبه خفقة شديدة. تنتظر بلا أمل؟ وما أقبح هذا! وفي نفس المكان الذي لمس حرارته وسمع بثه وشكواه؟ ما أعجب هذا! وحاول أن يطرد هذه الصورة عن مخيلته بتصميم عنيف، ثم سمع أخاه وهو يخاطبه قائلا: لن نضيع وقتنا، ولن ينقضي هذا الشهر حتى نكون قد انتقلنا إلى البيت الجديد.
77
وانقضت الأيام في البحث عن مسكن جديد حتى اهتدوا إلى بيت بشارع الزقازيق بمصر الجديدة، ذي موقع ساحر وإيجار مستطاع على حد قول حسنين، وفي اليوم المحدد للانتقال اجتمعت كلمتهم على حمل الأثاث مساء على غير المألوف لإخفائه عن أعين المستطلعين، ونفذ ذلك، ولبث حسنين في الشقة مع الأثاث المكوم، على حين عاد حسين إلى عطفة نصر الله ليصحب أمه وأخته إلى المقام الجديد. وودعوا حيهم ليلا غير آسفين، بل مستبشرين خيرا، ولما بلغوا الحي الجديد تولتهم دهشة ممزوجة بإكبار؛ لما شاهدوا من اتساعه وصمته ، ومناظر العمارات والفيلات المقامة على جانبيه، وهوائه الجاف النقي فلم تتمالك نفيسة نفسها من أن تقول باسمة على رغم أن الموقف لم يخل من ذكريات حزينة: «لقد صرنا من الطبقة العالية حقا.»
وكانت الشقة الجديدة في بيت مكون من دورين تحيط به حديقة بسيطة، فارتقوا إليها سلما ذا سبع درجات، وهنالك وجدوا حسنين في انتظارهم وقد أشعل المصباح الغازي، ونشطت المرأتان إلى فرش الحجرات الثلاث الصغيرة وعاونهما الشابان، فلم يستغرق تجهيز الشقة الجديدة بالأثاث البسيط أكثر من ساعة تخللتها فترة راحة. وبدت الكراسي والكنبتان والفراش غريبة نافرة وسط الحجرات الأنيقة، ولم يفت حسنين التعليق على هذا بتذمر كالعادة، ولكنه وجد بعض العزاء في حجرة الاستقبال التي كانت تفتح على الخارج، فلا يضطر القادم إلى عبور الصالة الداخلية إليها. وتحدثوا غير قليل عن الوسط الجديد والعمارات والشوارع، وما يتخيلونه عن الجيران، وتحدث حسنين عن ضرورات الحياة الجديدة كما يراها حتى قال: أمران لا يمكن تأجيلهما، وهما النور الكهربائي، وخادم صغير؛ فبغير هذين لا يصح أن نبقى هنا يوما واحدا.
ولم يعترض على قوله أحد؛ إذ كان مفهوما أنه هو الذي سيدخل النور الكهربائي، ويستحضر الخادم، ثم فكر في الوسط الجديد من زاوية جديدة، فتساءل في نفسه ترى هل تصلح أمه وأخته لمخالطة هؤلاء القوم؟ وخيل إليه أنه يسمع تعليقات السيدات والهوانم عقب زيارة لبيته، فتصاعد دمه إلى رأسه، وقال مخاطبا أمه في لهجة تنم عن التحذير: لا ينبغي أن نعرف أحدا في حينا الجديد ولا يعرفنا أحد؛ فلا نزور ولا نزار.
فقالت أمه بعدم اكتراث: لا رغبة لي في معرفة أحد.
وقالت نفيسة: لا صديق لنا هنا نأسف على قطعه!
فقال لها الشاب بقلق: يا حبذا لو أهملت صديقاتك الأخريات أيضا!
فاضطربت نفس الفتاة، ومع أن الانقطاع عن العالم «الخارجي» كان من أمانيها إلا أنه كان أمنية تعجز عن تحقيقها دائما، ولا تفتأ تساق إليه بقوة بغيضة آسرة، فتساءلت في إشفاق: وهل أبقى حياتي سجينة؟!
وتدخل حسين للدفاع عن أخته فقال : لا تغال يا أخي في طلباتك.
فقال الشاب في حدة: لا أريد أن يزورنا أحد من حينا القديم. - لن يتجشم أحد زيارتنا، فيما عدا فريد أفندي وأسرته.
وصمت حسنين طاويا سخطه، وذكر زيارة التوديع التي قامت بها أسرة فريد أفندي أمس، وكيف عرفوا العنوان الجديد، وكيف تمنى وقتذاك لو يغمض عينيه ثم يفتحهما فلا يجد أثرا للماضي كله، خيره وشره! .. ترى هل أفضت الفتاة لوالديها بما تجد من فتوره؟ .. ترى هل يفلت من هذه العلاقة بيسر أم تنشب به متاعب لا يحلم بها؟! ليصمدن مهما كان الأمر، الحرية والمجد فوق المتاعب جميعا، أجل لو تغلب على الماضي، فسيتمتع بأشرف ما في الحياة من طمأنينة وسلام.
ثم انتحى حسنين بالشاب ليوازن معه ميزانيتهما لما جد عليها من تكاليف النقل وشراء ما سموه «حجرة الاستقبال» إلى ما ينتظر من نفقات جديدة للنور والخادم، وقامت نفيسة للفرجة من نوافذ الشقة واستطلاع الدنيا الجديدة، وخلت الأم إلى نفسها فاستجمعت ما مر بها من حوادث في الأيام الأخيرة حتى انتهى بها المطاف إلى هذا الحي الجديد، فلم يستقر وعيها إلا على شيء واحد؛ هو حسن! ترى أين يهيم الفتي؟ ماذا صنع الله به؟ لم تكن تخلو إلى أفكارها حتى يطالعها من ثناياها فيستثير دفين الحسرة والألم.
هكذا باتوا أولى لياليهم بمصر الجديدة.
78 - جئنا نهنئ بالبيت الجديد! جعله الله مقاما سعيدا.
قالتها أم بهية ثم جلست هي والفتاة على الكنبة الجديدة، كان الوقت عصرا، وكانت الأسرة مجتمعة ما عدا نفيسة التي غادرت البيت قبل وصول الأم وابنتها بنصف ساعة.
وأثنت أم بهية ثناء جميلا على المسكن الجديد وحيه الباهر، وشكت الوحشة التي شعروا بها بعد فراقهم، واعتذرت عن تغيب فريد أفندي بانهماكه في العمل بالوزارة بعد الظهر؛ لمناسبة موسم الإجازات. ثم جرى الحديث المألوف واشترك حسنين كالمعتاد، ولكنه كابد قلقا لم تخف عنه بواعثه، وشعورا مؤلما بالحرج، وجعلت بهية تخالسه نظرات حزينة، فصيحة بغير بيان، فازدادت حاله توترا ثم أعربت أم بهية فجأة عن رغبتها في الانفراد بالأم؛ الأمر الذي زاده قلقا وتوترا. وما لبثتا أن غادرتا حجرة الاستقبال معا. ووجد حسين نفسه غريبا بين خطيبين فغادر الحجرة منتحلا بعض الأعذار، وخلا الجو، وهو ما لم يكن يتوقعه حسنين بحال، وكان يعرف بداهة ما دعا أم بهية إلى الانفراد بأمه، فأدرك أن الساعة الفاصلة في حياته قد دنت؛ فإما النجاة وإما الهلاك، وتبادلا نظرة طويلة؛ هي في إنكار وتساؤل، وهو بابتسامة باهتة لا معنى لها، ولم تلبث أن سألته مستنكرة: لماذا لا تزورنا؟
فقال واجما: أسباب لا تخفى عليك تمنعني من الظهور في حينا القديم!
ولكنها لم يبد عليها الاقتناع وعادت تسأله: لم لم تقابلني فوق السطح بعد أن تركت الورقة في يدك؟ - كنت وأخي مرتبطين بموعد هام.
فتساءلت بلهجة وشت بحزنها: وسفرك المفاجئ إلى طنطا دون أن تخبرني؟
فقال وهو يتحاشى عينيها: اضطررت إلى السفر فجأة ...
فهتفت في انفعال: لم تعد تبالي حتى باختلاق الأعذار المعقولة!
إن الموقف دقيق حقا، بل أليم، ولكن التخاذل معناه الموت بالنسبة إليه، ولن يتهاون في حق حريته ومستقبله. وتنهد متظاهرا بالحزن وغمغم قائلا: إن ظروفي أعقد من أن تقدريها. - أفصح عما تريد قوله. لا أفهم شيئا إلا أنك تغيرت؛ لم تعد كما كنت، لست غبية ولا حمقاء، أنت لا تريد أن تراني. - سامحك الله.
ولعل ضيق الوقت حل عقدة لسانها فقالت في تألم ظاهر: لا تلق إلي بهذه العبارات المبهمة؛ أريد أن أفهم كل شيء؛ ماذا بك؟ لماذا تغيرت هكذا؟ صارحني بما في ضميرك كله.
وحال تشبثه بالنجاة والفرار دون إحساسه بما في كلماتها من يأس وعذاب فقال: لم أتغير، ولكن ظروفي تغيرت.
فقالت باستغراب: تغيرت ظروفك حقا، ولكن إلى أحسن! - هذا في الظاهر فقط، أما الحقيقة فهي أنني بت أدرك مسئولياتي الشاقة.
فقالت بلهجة لا تخلو من غيظ: ألم تكن تدرك مسئولياتك من قبل؟ .. إن مسئولياتك جميعا لا تحول بينك وبين ما تريد، إذا كنت تريده حقا! - أريد، ولا أستطيع.
فرنت إليه شاحبة الوجه وغمغمت: بل تستطيع ولا تريد.
ولم يجد ما يقوله، وتضاعف إحساسه بعذاب الموقف، ومع ذلك ازداد تصلبا وتشبثا فتمتم: أنت مخطئة.
وكانت تتفحصه في جزع ويأس وكأنها تريد أن تنفذ إلى أعماقه، وابتلعت ريقها بمشقة ثم قالت: كلا، لست مخطئة، لو كنت تريد حقا لما قلت لا أستطيع. إن هي إلا معاذير (ثم متنهدة على رغمها) لم تعد تحبني، وتريد أن تتخلص مني، هل ثمة سبب آخر؟!
ومع أن هذا ما كان يؤمن به في أعماقه إلا أن سماعه هاله وأكربه، فرفع حاجبيه منكرا، وقال: لشد ما تظلمينني!
ولم تسكن لهجته خاطرها، أو بالحرى مكنت لقبضة اليأس من عنقها. وزاد إحساسها بضيق الوقت من جزعها، فتناست حياءها المطبوع وهتفت: أنت الظالم؛ لقد خطبتني ثلاثة أعوام ثم بدا لك أن تتخلص مني ...
وتحامى عينيها فنظر إلى الأرض، كان متحرجا متألما، ولكن تصميمه على عدم التراجع كان أعظم فقال: إن ظروفي أقسى من أن تدركيها على حقيقتها؛ أمامي صبر طويل.
ورقت لهجتها فجأة وقد تورد وجهها وقالت برجاء: إذا لم يكن ثمة سبب آخر فبوسعي أن أشاركك الصبر!
فتوجس خيفة من تغير لهجتها، وقال: إنه صبر طويل.
فقالت باللهجة نفسها: لا بأس، إلا أنني أرجو أن تعلن خطبتنا بالطرق المعهودة.
وذهل حيال انقلاب الحديث إلى هذا المجرى بعد أن أوشك أن ينقطع، وركبه الخوف والضيق والجزع، فهتف وهو لا يدري: كلا!
وجعلت تحملق في وجهه في ذهول، ثم خفضت عينيها في يأس، واحمر وجهها خجلا، وحركت شفتيها مرة ومرة؛ كأنها تريد الكلام ولا تستطيعه، ثم غمغمت: أرأيت أنني كنت على حق لما قلت لك إنك تريد أن تتخلص مني؟
وبلغ منه الارتباك مبلغا لم يعهده من قبل، ولاذ بالصمت مليا، ثم قال كالمعتذر: إني جد حزين، ربما أقمت لي العذر يوما.
فقالت في إعياء وقهر: حسبك، لا أريد سماع كلمة أخرى.
وساد صمت ثقيل الوطأة كالمرض ملأ الحجرة بأنفاس اليأس الخانقة، ولكن وجد الشاب على حرجه وألمه لونا من الراحة، فمهما يطل هذا العذاب فلا بد أن ينتهي، وهنالك يجد نفسه حرا طليقا. وتساءل وهو يسترق إليها نظرة ترى ماذا يدور في رأسها؟ ألا زالت تريده؟ أم كرهته؟ أم تتمنى الانتقام منه؟ لشد ما أحبها عهدا طويلا! ولكن هكذا انتهى كل شيء. وتساءل تري فيم تتحادث الأمان؟ وعلام انتهى الحديث الذي طال؟ ثم قال لنفسه: «إن مصيري يتقرر بيدي لا بيد أخرى.» ثم ترامي إليه صوت المرأتين، وهما تتكلمان قادمتين فخفق قلبه، واستحوذ عليه قلق مفاجئ، وعادتا إلى مجلسهما بوجهين يلوح فيهما الرضا - مما ضاعف قلقه - ثم دق الباب وكانت القادمة نفيسة، ورجع حسين إلى الحجرة، فوجد حسنين في المحيطين به ما انتزعه من أفكاره، ورد إليه شيئا من هدوئه. ومع أن بهية بدت على حال من الوجوم لا تخفى، إلا أن الحديث لم يشذ عن المألوف حتى انتهت الزيارة.
79
ونظر حسنين صوب أمه في قلق متسائلا، فأدركت أنه يسأل عما دار بينها وبين أم بهية، ونظرت إليه نظرة لا تخلو من فتور وقالت: حدثتني ست أم بهية عن وجوب إعلان الخطبة بصفة رسمية، ووافقتها في النهاية على رأيها.
وقطب الشاب في حنق، وضرب يدا بالأخرى وهتف بها: تسرعت يا أماه!
وشعر بما أحدثه قوله من دهشة فعاد يقول: لا لوم عليك بطبيعة الحال، ولكنني فسخت الخطبة!
وحدقت به الأعين التي تأبى تصديق ما سمعت وتساءلت الأم: ماذا تقول؟
فقال ضاغطا على مخارج الألفاظ: لقد فسخت الخطبة اليوم، الآن، وغادرتنا بهية وهي تعلم أن كل شيء بيننا قد انتهى.
وصاح حسين منزعجا: ماذا تقول يا أخي؟ كيف حدث هذا؟!
وقالت الأم: إنك تحيرني بتصريحك هذا، ولست أفهم شيئا! هل وقع بينكما خلاف بغتة؟ .. متى؟ وكيف؟
وكانت نفيسة آخذة في خلع حذائها فأمسكت وقالت: تكلم يا حسنين، هذا خبر لم يتوقعه أحد!
فقال الشاب بوجوم: الواقع أنني عقدت العزم على فسخ الخطبة من زمن غير قصير، ولكنني لم أشأ أن أخبر أحدا، واليوم حين انفردت بها في هذه الحجرة لم أجد معدى عن إعلان نيتي، فانتهى كل شيء. أرجو ألا يسألني أحد عما قلت أو عما قالت؛ فهذا لا يعني أحدا سواي.
فقال حسين باهتمام وأسف: كان موقفا قاسيا على الفتاة بلا شك، وأرجو أن يكون لديك من الأسباب ما يبرر الإقدام على هذه الخطوة الفظيعة.
وقالت الأم المنزعجة: يا للفضيحة! لقد تم الاتفاق بيني وبين الأم في نفس الوقت الذي كنت تهدم فيه ما نبني، فما عسى أن تظن بي المرأة؟ ألا يمكن أن تشك في أنني كنت أخادعها وأنا أعلم بنواياك؟ .. ماذا فعلت يا بني؟ .. ما سبب هذا كله؟ .. وماذا يعيب الشابة؟!
وضاقت نفيسة بالمتكلمين فصاحت بحدة: دعونا نسمع صاحب الشأن.
وقال حسنين مخاطبا أمه: بهية شابة لا غبار عليها، ولكن تبين لي بوضوح أنها ليست الزوجة التي أطمح إليها.
فقالت الأم: لقد خطبتها ثلاث سنوات، فكيف يليق أن تهجرها بلا سبب مقنع؟
وهز حسين رأسه مؤمنا على قول أمه ثم قال: هذا حق! إن فسخ خطبة أمر فظيع، ولا يجوز أن يقع بلا سبب مقنع!
وتساءلت نفيسة باهتمام: كيف تبين لك أنها ليست الزوجة التي تطمح إليها؟ دعوه يتكلم!
فقال حسنين بضيق: لا ريب أن بهية لا تصلح زوجة لي، حقا لقد خطبتها بنفسي، ولكني لم أكن أدري هذه الحقيقة وقتذاك ...
فقالت الأم بقلق: بهية فتاة جميلة ومؤدبة، ولأبيها فضل علينا لا ينسى.
وقال حسين بلهجة تنم عن استياء: إني أعجب لحكمك هذا؛ ما هي الزوجة الصالحة في نظرك؟
فصمت حسنين قليلا ثم قال: أريد زوجة من وسط أرقى، مثقفة، وعلى شيء من الثراء.
فتساءل حسين بنفس اللهجة: أهذه هي الأسباب التي جعلتك تنكث بعهدك؟!
فقال حسنين متنهدا: نحن فقراء، وبهية في حكم الفقراء كذلك، وأخاف إذا مت قبل نهاية المرحلة - كوالدنا - أن أترك أبنائي لقساوة الحاجة كما تركنا.
وهتفت نفيسة قائلة بحماس: صدقت!
فغضب حسين لحماس أخته وسأله: هل قدرت خطورة الخطوة التي أقدمت عليها؟
فقال حسنين بحزن: لشد ما حز في نفسي الأسف! ولكنني لم أوافق على ضياع حياتي! - وتوافق على ضياع حياتها؟! - لن تضيع حياتها، لا زالت في عنفوان الشباب، والمستقبل أمامها باهر.
فتساءل حسين في حنق: هل تسمح لي بأن أصف لك سلوكك؟
فنظر إليه في وجوم ولم ينبس بكلمة، فهز حسين رأسه في انزعاج وتساءل: إني أعجب كيف تسخط على سلوك حسن وله من الأعذار ما ليس لك!
وامتقع وجه الشاب وقال بحدة: لا شك أن سلوكي لم يخل من قسوة، ولكنه سينتهي بخير بالنسبة لي ولها، وهو على أية حال أفضل من زواج غير موفق.
وأعرض الشاب عنه يائسا، وضربت الأم كفا بكف وهي تتمتم: يا لها من إساءة شديدة لأطيب الناس طرا! رباه كيف أخفي وجهي!
ومع أنها كانت صادقة فيما تقول إلا أن أعماقها لم تخل من ارتياح خفي، وقد كانت تشفق من أن يبادر حسنين إلى الزواج فتعود الأسرة إلى الترنح والقلق، وكانت ترمق نفيسة دائما بعين الخوف متسائلة في حزن عن المستقبل القريب والبعيد. ولكن إذا كان هذا حقا لا شك فيه فحق كذلك ما تجد حيال أسرة فريد أفندي من أسباب الخجل والألم. أما نفيسة فلم تكن تحسن إخفاء عواطفها فقالت: لا خوف على بهية، ستتزوج اليوم أو غدا.
فقال حسين بامتعاض: هذا كلام يصدق على كل فتاة، ولكنه لا يصلح دفاعا عن خطئنا.
فقالت نفيسة متهكمة: لا يصدق على كل فتاة! .. والدليل على ذلك أنه لا يصدق على أخت حضرتك!
وخفف تهكمها من التوتر العام، وانتهز حسنين الفرصة فقال بلهجة دب فيها الحماس: أليس الأفضل أن أختار زوجة من نوع خاص، ككريمة أحمد بك يسري مثلا.
وقالت نفيسة بمرح: وما هذا على الله بكثير، من يدري؛ لعلنا نراك يوما في فيلا محترمة، وتتدفق علينا خيراتك يوما بعد يوم.
ولم يلق حسين إليها بالا، وقالت الأم وكأنها تحدث نفسها: سيعلم فريد أفندي بالخبر هذا المساء؛ ما عسى أن يقول عنا؟! ليتني أجد الشجاعة لأزورهم وأعتذر إليهم!
ففكر حسين طويلا ثم تمتم بهدوء وحزم: لا تنقصني أنا هذه الشجاعة.
ووقع قوله من نفوسهم موقع الاهتمام، وسألته نفيسة: أتذهب حقا؟ .. وما عسى أن تقول لهم؟
فقال الشاب مقطبا: أقول ما يفتح الله به علي! رباه، لا شك أن في دمنا شيئا نجسا.
ومضى يرتدي ملابسه، ثم غادر الشقة.
80
لم يقصد غايته رأسا، ولكنه مضى إلى مشرب شاي بمصر الجديدة، فجلس ساعة يقلب الأمر على وجوهه ويعد له عدته، سرح خياله بين ذكريات الماضي وحوادث الحاضر، وساءل عقله طويلا وساءل قلبه، ثم قر فكره على رأي. وكان في تفكيره جريئا حازما قاطعا على غير عادته، فلم تعترضه الصعوبات، ولم تثبطه المخاوف، حتى عجب للسرعة التي بت بها في الأمر وتساءل في دهشة: «ترى أهي من وحي الساعة، أم أثر لما تجمع في نفسي خلال ثلاث سنوات؟» واستحوذ عليه شيء من الاضطراب، وعاد يسأل نفسه، ويستعرض الظروف المختلفة، ولكن لم تكن قوة لتثنيه عما عقد العزم عليه. وقام من مجلسه تعتلج في صدره انفعالات شتى من بسطة السرور وقبضة القلق، وأريحية المغامرة، ثم اتخذ سبيله إلى عطفة نصر الله؛ فبلغها في أول الليل. ومضى يقترب من البيت القديم، وهو يشعر بثقل المهمة وحرج الموقف، ولكنه أقدم بخطى ثابتة وعزيمة لا تنثني، ثم طرق الباب بقلب خافق ففتحت له الخادم، وحدجته بدهشة أثارت أعصابه، ثم قادته إلى حجرة الاستقبال. وما عتم أن جاء فريد أفندي بجسمه المترهل فرآه لأول مرة مكفهر الوجه، يتوهج الغضب في نظرة عينيه. وما كاد الرجل يفرغ من مجاملات السلام ويستقر على مجلسه حتى قال بانفعال وتأثر شديدين: عشرة العمر كله، وجيرة العمر كله، وصداقة العمر كله، تمزقونها جميعا في دقيقة واحدة!
فنظر حسين إلى الخوان أمامه في ارتباك وتمتم بصوت منخفض: إن ما بيننا من ود قديم لا يمكن أن يتغير، وإن ننس لا ننسى فضلك ونبل أخلاقك ما حيينا.
فلم يعره الرجل التفاتا وضرب كفا على كف وهو يقول: لم أدر حين خبروني كيف أصدق أذني! إن طبيعة قلبي تأبى أن تصدق هذا الغدر الشائن. - إني عاذرك يا سيدي، وصدقني إننا لم نكن أدنى لتصديقه منك، حتى إنني تركت أمي في حال يرثى لها.
وتابع الرجل حديثه دون اهتمام بما قال: كنت ألاحظ أنه يتثاقل عن زيارتنا، وقيل لي في تفسير ذلك أعذار صبيانية زادتني تشاؤما، حتى علمت هذا المساء بأنه جاهر بنكث عهده، ما شاء الله! هل حسب بنات الناس ألعوبة يلهو بها على هواه؛ يخطب حين تحلو له الخطبة، ويفسخ حين يطيب له الفسخ؟! لقد عاملته كابني ولم يدر لي بخلد أنه يطوي صدره على قلب بهذا الخبث والغدر.
وزاد شعور حسين بالحرج وطأة فقال ينتحل الأعذار كيفما اتفق: أخي فتى طائش وقد أضاعت حادثة حسن صوابه.
فتساءل الرجل في إنكار: وما ذنبنا نحن؟ .. هذا عذر غير مفهوم! - أقصد أن المصيبة أثارت أعصابه، وأفسدت حكمه، فضاق صدره بالدنيا جميعا.
فلوح الرجل بيده في عنف وقال ساخطا: كلام غير مقنع، إني رجل مجرب، وأعلم أن الرجل لا يغدر بخطيبته لمثل هذا السبب، قل غير هذا الكلام إن شئت أن أصدقك، قل إنه صار ضابطا وبات يطمع في نوع آخر من النساء!
فقال حسين بلهجة حزينة: وددت بحياتي لو أصلح الأمر. - فسد الأمر ولا صلاح له، إنه عبث لا يليق بالشرفاء، ولو كنت غير الرجل لقاضيته وأدبته، ولكني أحمد الله على ما كشف لي من حقيقة نفسه بعد أن خدعت به طويلا، ما هو إلا شاب نذل جبان، ولا تؤاخذني على قول الحق.
ووقعت هذه الأقوال من نفس الشاب موقعا أليما، فخفض بصره مليا ثم قال بصوت ضعيف: إني جد آسف، بل كلنا آسفون، ولا مطمع لنا الآن إلا الإبقاء على الود القديم.
وساد الصمت برهة ثم تمتم الرجل بفتور: ما عهدنا منكم شرا.
وشعر حسين بقلق وتوتر، وذكر ما انتهى إليه رأيه قبل حضوره بقلب خافق مضطرب، وتساءل فيما بينه وبين نفسه ترى هل من المناسب الآن الإقدام على الإفصاح؟! .. ومع أنه لم يجد من الجواب مشجعا إلا أنه أبى التراجع أو التأجيل، ونظر إلى الرجل بعينين حذرتين وتساءل: هل أستطيع أن أقابل الآنسة بهية؟
فقال الرجل بجزع وهو يلطم الهواء بظاهر كفه: ما الداعي لهذا؟ .. فلندعها وحدها، هذا خير ما يفعل!
وغلب التأثر الشاب، ترى ماذا تفعل المسكينة؟ وماذا أحدثت الصدمة بنفسها الرقيقة؟ وماذا هو فاعل؛ أيقدم أم ينكص؟ ألا يقع كلامه من هذا الجو المكهرب موقعا مضحكا! ولكنه شعر شعورا خفيا بأنه إذا تراجع هذه اللحظة فلن يقدم أبدا، وتنهد تنهدة عميقة أزاح بها التردد عن صدره وقال بسكينة ظاهرة يداري بها اضطرابه: سيدي، لا أدري كيف أعرب عما في نفسي، ولست أزعم أني اخترت وقتا مناسبا! ولكنني لا أستطيع أن أقاوم ما يدفعني إلى قول كلمة أخيرة، وهي أنني أرجو أن تبارك يوما رغبتي الصادقة في طلب يد الآنسة بهية!
واتسعت عينا الرجل دهشة وبدا أنه كان يتوقع كل شيء إلا هذا، ولعله أراد أن يتكلم ولكن أرتج عليه، أما حسين فكان قد عبر قمة أزمته فقال مستردا بعض هدوئه: لا تحسبن أن ما يدفعني إلى هذا الرجاء هو ما أشعر به حيال تصرف أخي من خجل، أو ما عسى أن تتصوره عطفا على حال الآنسة، كلا! وأقسم على هذا، إنها رغبة قائمة بذاتها، منبعثة أولا وآخرا من تقديري لكريمتكم ولكم.
وواصل فريد أفندي دهشته الصامتة، على حين استمد حسين من انطلاق لسانه وصمت الرجل شجاعة وحرارة فاستطرد قائلا: شيء واحد يحرجني في هذا المسعى كله، وهو ما أشعر به من أنني غير كفء لها.
فخرج الرجل عن صمته لأول مرة متمتما: لا تقلل من شانك يا حسين أفندي؛ أنت عندي بمنزلة الابن.
فقال حسين وقد تورد وجهه: شكرا.
وتفكر الرجل قليلا كالحائر ثم قال: لا يسعني إلا شكرك على رغبتك هذه، ويسرني - علم الله - أن تتحقق، ولكنك تدرك طبعا أن وقت التحدث بشأنها لم يأن بعد؟!
فقال حسين بحماس: هذا طبيعي جدا يا سيدي، وبوسعي أن أمد ... أعني أن أنتظر حتى يجيء الوقت المناسب.
وانتهى الحديث عند هذا الحد.
81
وعاد إلى مصر الجديدة غارقا في أفكاره ؛ فلم يكد يرى شيئا من الطريق، ولكنه استعرض صفحة مطوية طويلة من حياته كما فعل في مشرب الشاي قبل أن يتجه إلى بيت فريد أفندي، وكان على حيرته يشعر بسرور وأمل لم يشعر بمثلهما طيلة حياته! لقد أحب الفتاة فيما مضى ولكن حبه مات قبل أن يترعرع ويزدهر، ولم يبق منها في قلبه الحكيم الوافي إلا المثال الذي يحلم به للزوجة الصالحة، وإنه يذكر أنه تألم كثيرا وصبر كثيرا، فتعلم أنه بشيء من الحكمة يمكن أن يعثر في دنيا الألم على مسرات عالية، وخرج من التجربة ساكن القلب بسام الثغر، وكان يقول لنفسه متعزيا إن مواجهة سوء الحظ بالصبر والتسامح سرور ينبغي أن يعد من حسن الحظ. وهكذا تعزى ونسي من زمن طويل. ولما أن فتح له باب الأمل المغلق على حين غفلة نسي أنه كاد ينسى، وأزهر الحب في قلبه كأن ثائرته لم تهدأ لحظة واحدة من الزمان. وانطلق في سرور لا تشوبه شائبة حتى بلغ البيت. ووجد الجميع في انتظاره، فما إن وقعت أعينهم عليه حتى صاحوا به: ماذا لقيت؟!
ورأى أن يمهد للخبر العجيب الذي يحمله بأن يهول من خطر الأمور، فقال وهو يهز رأسه أسفا: وجدتهم على حال من التأثر انزويت لها خجلا وخزيا، ولأول مرة في حياتي رأيت فريد أفندي الرجل الوديع ثائرا غاضبا كاسرا ...
وسألته الأم بحسرة: خبرني عما حصل كله، ألم تقابلك بهية؟ - كلا، قابلني الرجل وحده، وقبل أن أفتح فمي بكلمة انهال علينا تأنيبا وتقريعا.
وأعاد عليهم كلام الرجل - فيما عدا الكلمات القارصة - مضيفا عليها من عنده ألوانا من التأثر والحزن؛ ليستثير ألمهم، ويستدر عطفهم حتى ملأهم الوجوم والخجل، إلا نفيسة فقد قالت: ما كان ينبغي أن تلقاه الليلة. وعلى أية حال فالخطأ الأول ينصب على من يقبل تلميذا صغيرا كخطيب لابنته، فضلا عن أن يكون هو الساعي بحيله إلى عقد الخطبة. ولا أجد حسنين مستحقا للوم؛ فقد كان تلميذا كما قلت لا يعرف ما يضره مما ينفعه، فلما أن بلغ طور الرجولة تبين أن الفتاة لا تصلح زوجة له، فماذا عليه إذا تركها؟!
وصمم حسين على أن يشق طريقه إلى هدفه؛ فقال بهدوء مخاطبا أخته: تكلمي عن الفتاة برفق من فضلك؛ فقد تصبح خطيبة أخيك الآخر!
وحملقت فيه الأعين بدهشة. وندت عن نفيسة آهة سريعة، وتساءل حسنين: ماذا تقول؟
فقال حسين وهو يتغلب على ارتباكه بقوة إرادته: يجوز أن تصبح خطيبة لي. - لك أنت! - لي أنا.
وهتفت نفيسة: كلام لا يدخل المخ! - ولكنه الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان.
وسألته الأم وهي تتفرس في وجهه: هل خطبتها حقا؟
فقال الشاب خافضا عينيه: نعم، قلت له إنه يسرني إذا وافق على أن أطلب إليه يد الفتاة.
فسأله حسنين بقلق: أفعلت هذا رغبة في إصلاح الأمور؟
فتردد حسين قليلا ثم قال: لا يخلو الأمر من هذه الرغبة، بيد أنني أكن للفتاة تقديرا كبيرا، وأعتقد أنه إذا لم يكن بد من الزواج فالأفضل أن يكون من فتاة مثلها.
فتساءلت نفيسة في لهجة ساخرة: ومن قال إنه لا بد من الزواج؟!
وتداخلت الأم متسائلة: وماذا قال لك فريد أفندي؟
فأجابت نفيسة بالنيابة عنه قائلة: قال على العين والرأس طبعا.
وأجاب حسين دون أن يعبأ بها: شكر لي طلبي، ولكنه اعتذر بأنه لا يستطيع أن يخاطب الفتاة الآن بهذا الشأن، وطلب إلي أن أمهله إلى حين.
وعاد حسنين يسأل باهتمام: أكنت تضمر هذه النية حين غادرتنا؟
فأجاب حسين بفطنة: كلا.
فقال الآخر بإشفاق: أخاف أن تستبين بعد حين أنك غير راغب في الزواج حقا!
فقالت نفيسة متنهدة: ربنا يسمع منك.
فصاحت بها أمها غاضبة: نفيسة!
أما حسين فقال مجيبا أخاه: إني أحب بطبعي الحياة المستقرة.
فقال حسنين بارتياح: ليس أحب إلي من سعادتك وسعادتها.
وصمت قليلا ثم استدرك قائلا بصوت منخفض: ولي أنا أيضا آمالي، كأن أتزوج من كريمة أحمد بك يسري. أتظنه يا أخي أملا أخرق؟!
فقال حسين مبتسما: لم لا؟ إنك كفء لها.
وهتفت نفيسة ضاحكة في شيء من الاضطراب: لنا الله، أردنا أن نسترد واحدا ، والغالب أننا سنخسر الاثنين، وهذه إصابة عين حامية.
وتمتمت الأم بهدوء: على بركة الله، إني مطمئنة إلى أن أبنائي لن ينسوني.
فقالت لها نفيسة: ما أجهلك بالزواج وأسراره! سليني أنا عنه.
ضحك حسنين قائلا: أمنا أعرف بنا منك.
وساد الصمت فراح حسنين يتساءل في نفسه، وهو يسترق النظر إلى أخيه: ترى أكانت خطبته بنت ساعتها حقا؟!
82 «ربما كان الانتظار حكمة، ولكن ماذا يجدي الانتظار إذا طار الطائر؟!» هكذا تساءل حسنين فيما يشبه الغضب، وبعد انقضاء قرابة شهر لم ين فيه عن التفكير والتدبر ساعة واحدة. قالوا له - خاصة حسين - إنه ينبغي أن ينتظر حتى يكون ثروة صغيرة، ثم يتقدم لطلب يد الفتاة، وليكن رأيهم صوابا، ولكن من يضمن له أن تنتظره الفتاة حتى تتكون هذه الثروة؟ ومما شجعه على نبذ هذا الرأي «الحكيم» أن أحمد بك يسري على علو مقامه قريب إليه بحكم العلاقات القديمة، فطمع في أن يوسع له صدره، أما إذا أفلتت من يده الفرصة السعيدة؛ فليس لديه إلا أن ينتظر أعواما طوالا قبل أن تفتح له الأبواب أسرة كهذه، ألا يمكن أن يطلب يد الفتاة ثم يستمهل البك حتى يستكمل استعداده؟ .. يمكن بلا ريب، وإذا لم يمكن فإن احتمال الرفض لا يجب أن يقعده عن المسعى، إنه أجرأ من أن يقعده شيء عن غاية، ثم إنه لا يطيق هذه الفضيلة التي يدعونها بالصبر. الآن، ودون خوف أو تردد، وليكن ما يكون. كان الشاب يدير هذه الأفكار في رأسه وهو يقترب من فيلا أحمد بك يسري بشارع طاهر، صمم وشرع في التنفيذ بلا مبالاة. هذه هي الحياة التي يتلهف عليها بكل قوة نفسه. وليس ثمة ما يزعجه؛ فقد اختفى حسن وصارت نفيسة آنسة محترمة، والماضي في طور الاحتضار، وما يريد إلا الحياة النظيفة السعيدة لنفسه وذويه. وكان قد أخذ زينته وتبدى في منظر حسن، يجمع إلى رشاقة الشباب فحولة الرجولة، وما إن انتهى إلى الفيلا حتى أدخل إلى السلاملك، فجلس ينتظر بقلب خافق ونفسه قلقة؛ «أليس عجيبا أن أتقدم لطلب يد فتاة هذه فيلتها، وأنا لا أملك إلا ما تبقى من مرتبي! وهناك قضية الوقف الوهمية التي حدثت البك عنها، ولكن هيهات أن تغني عني شيئا، لماذا لم يكن لأمي وقف؟ ولكن هذه مسألة أخرى، فلو كنا من أصحاب الوقف لكان الماضي غير الماضي، والحاضر غير الحاضر، ليكن ما يكون، لن أتراجع، ومهما يكن من أمر فلن يقطع رأسي، إذا ربحت ربحت الدنيا جميعا، وإذا خسرت لم أخسر شيئا يذكر! إني آسف يا بني، سلام عليكم يا سعادة البيك، هذا أفظع ما يتوقع! إني كفء لها بغير جدال، ما عسى أن تريد مما ليس لدي؟ المال؟ عندها المال بالقنطار. ما أحمقكم يا أهل هذا البيت إذا رفضتم يدي! في هذا الموضع رأيتها أول مرة على دراجتها، ساق تستأهل ثقلها ذهبا، وفخذ سبحان الخالق! مسكينة نفيسة. ترى أين حسن الآن؟ ليته يفر إلى بلد غريب فيختفي إلى الأبد. لا تكاد ذكراه المزعجة تفارقني، فمتى أرتاح من الماضي كله. لن أتراجع. في هذا الموضع كادت تهوي بها الدراجة، أقدام البيك؟» وأنصت في اهتمام ثم نهض قائما في احترام حين رأى البك قادما نحوه، وسلم في إجلال والآخر يقول: أهلا بحضرة الضابط، كيف حالك؟
وأجاب الشاب وهو يبذل أقصى جهده للسيطرة على انتباهه وإرادته: شكرا لك يا سعادة البك.
وتساءل البك ضاحكا بلهجة ذات معنى: ألا يزال أخوك في طنطا!
ورحب حسنين بأي حديث يطيل له مهلة الاستعداد فقال باهتمام ظاهري: بلى يا سيدي!
وكانا قد اطمأنا إلى مجلسيهما فقال البك: ليس في الإمكان نقله هذه العطلة، ولكني أخذت وعدا صادقا بنقله في العطلة القادمة.
وكأن حسنين يعلم بهذا، ولكنه قال بامتنان: هذه مأثرة جديدة تضاف إلى مآثرك السابقة.
وساد صمت، وشعر الشاب بأنه يقتحم لحظة رهيبة من حياته، وأنه لم يعد وراءه ثمة مجال لتردد أو تراجع، فألقى بعزمه قائلا بصوت لم يخل من اضطراب في نبراته: الواقع أني قصدتك يا بك في شأن يخصني أنا.
فرفع إليه الرجل عينيه متسائلا: خير إن شاء الله؟
فاعتدل الشاب في جلسته كأنه يستمد من اعتداله قوة وقال: إني أستشفع بسعادتك لغاية بعيدة أراها فوق مطمحي.
فتساءل البك مبتسما وهو يدلل بأصابعه شاربه الغليظ المصبوغ: أتريد أن ترقى لواء؟
فضحك الشاب ضحكة عصبية سرعان ما غاضت من أساريره، وقال بصوت منخفض: أعز من هذا؛ إني طامح إلى شرف مصاهرتك.
وحل اهتمام مفاجئ محل النظرة الباسمة، وخيل إليه أن الرجل استحوذت عليه دهشة رغم ما يتظاهر به من الرزانة وضبط النفس، ولكن أية دهشة يا ترى؟ دهشة المفاجأة أم الانزعاج؟ ودق قلبه بقوة وشعر شعورا عميقا بخطورة اللحظة التي يكابدها، أما الرجل فقال بعد صمت وتفكير: لا يسعني إلا أن أشكر لك حسن ظنك.
وتأثر للقول الرقيق تأثرا لم يخل من ألم غامض وقال بتوكيد: أرجو ألا أكون قد جاوزت حدي.
فقال البك مبتسما: حاشا الله، إني أكرر الشكر، بيد أنني أؤجل الجواب حتى أشاور أصحاب الشأن.
فارتاح حسنين لهذه المهلة التي رحب بها ترحيب المحارب المحرج بهدنة آمنة وقال: هذا طبيعي يا سعادة البك، ولكني أرجو حقا ألا أكون قد جاوزت حدي.
فابتسم البك قائلا: لا تعد على مسمعي هذا القول.
ونهض الشاب مستأذنا في الانصراف ثم غادر الفيلا. واستعاد في الطريق كل كلمة قيلت وما صاحبها من حركات وإشارات ولمحات، وحاول أن يستشف ما وراءها من معان ومقاصد، ومع أنه كان يؤول كل شيء بخيال جريء طموح متفائل، إلا أنه وجد انقباضا وقلقا، وفي النهاية قال لنفسه يهز كتفيه استهانة: «إذا ربحت ربحت الدنيا جميعا وإذا خسرت لم أخسر شيئا يذكر.»
83
لم يفكر حسين في معاودة زيارة فريد أفندي حتى أوفت إجازته على نهايتها، كأنما أراد أن يمد للرجل في مهلة تفكيره حتى يستخلص منها رأيا قاطعا. ولم يكن يكف في أثناء ذلك عن مشاورة والدته، ولم تبد المرأة اعتراضا، ولكنها نصحته أن يؤجل زواجه عاما حتى يستكمل استعداده، ومن عجب أنها لم تفلح في إسداء مثل هذه النصيحة للشاب الآخر المتعجل ، ولكن حسين نفسه لم يكن ليوافق أخاه على تعجله الذي وصفه «بالتهور»، ولم يخف عليه أنه إذا وفق حسنين إلى هذه الزيجة الخيالية، وتم زواجه هو بعد عام، فستجد أمه وأخته نفسيهما وحيدتين بلا عائل، ولهذا طمأن والدته إلى أنه مصمم على أن يضم زوجه إلى البيت في كنف معيشة واحدة، واطمأن قلبه وفكره، فمضى إلى بيت فريد أفندي، واستقبله الرجل بترحاب أنعش آماله، ومع أنه لم يكن للزيارة إلا معنى واحد لا يخفى على أحد، إلا أنه خاطب الرجل قائلا في شيء من الارتباك: جئت أستودعكم الله قبل عودتي إلى طنطا غدا.
فابتسم فريد أفندي ابتسامته الرقيقة وقال: مع سلامة الله، وإن شاء الله نسمع قريبا عن نقلك إلى القاهرة.
فقال حسين برجاء: أرجو أن يتم هذا في العطلة القادمة.
وساءل نفسه ترى هل يفتح «الموضوع» أو ينتظر حتى يتكلم الرجل؟ .. لقد شاور أمه في الأمر كأنه أصبح حقيقة مفروغا منها، ومع هذا فمن يعلم بما دار في نفوس أهل هذا البيت؟! وساوره قلق، أخذ يتزايد كلما طال انتظاره للكلمة التي يود سماعها، حتى جاءت الست أم بهية فنهض لاستقبالها في أدب وشد على يدها في حرارة، وتفاءل بمقدمها خيرا، وقد قالت له وهما يجلسان: إني سعيدة برؤيتك يا بني، كيف حال والدتك؟
فقال حسين بحرارة: بخير يا سيدتي، وهي تقرئك السلام.
ثم نظر فريد أفندي إلى زوجه وقال لها: حسين أفندي جاء يودعنا لأنه مسافر غدا، وأظن من المناسب أن نخبره بما قر الرأي عليه، (ثم محولا رأسه إلى الشاب) بخصوص ما حدثتني عنه يا حسين أفندي يسرني أن أقول لك «إننا» موافقون.
وتتبع فؤاده كلام الرجل في خفقان متواصل، استحال ألما خالصا عند بعض المقاطع، ثم انتهى بوثبة فرح فقال بصوت متهدج: شكرا لك يا سيدي، ألف شكر، إني سعيد حقا.
فابتسم الرجل وقال مخاطبا زوجه: وسينقل إلى القاهرة في العطلة القادمة.
فضحكت المرأة قائلة: خبر سار، نحن نود بطبيعة الحال «أن تكونوا» على مقربة منا .
فتورد وجه الشاب وقال بصوت وشى بسروره: سيتحقق هذا بإذن الله.
ثم قال فريد أفندي: ولكن يحسن بنا أن ننتظر فترة معقولة قبل إعلان الخطبة.
ثم ضحك ضحكة لم تخل من الارتباك واستطرد قائلا: حتى ينقضي وقت مناسب بين الخطبتين.
فخفض حسين عينيه وهو يتمتم: إني رهن إشارتكم.
وقام فريد أفندي وغادر الحجرة، وغاب دقائق، ثم عاد تتبعه بهية. ومع أن حسين حدس الأمر إلا أنه وقع من نفسه موقع المفاجأة البكر، فنهض باذلا مكنون قوته لتمالك نفسه، ثم مد لها يده في صمت، فتلاقت يداهما، وشعر بيدها على يده ناعمة الملمس رقيقة الموقع، باردة الملمس، فاهتز صدره ودر رقة وشكرا، وشعر بأنه ينبغي أن يقول كلمة، وألح عليه هذا الشعور، ولكنه وجد رأسه فراغا، ولم يسعفه الموقف بالتفكير فجلس دون أن ينبس بكلمة، وسرعان ما تناسى مشاعر الأسف المنبعثة من خرسه في موجة السرور والرضا التي غمرت حواسه جميعا، فنزلت عليه سكينة لطيفة أشبه بالشفاء الذي يعقب نوبة ألم. ما أجملها! كيف يعمى بعض الناس عن هذه المزايا المكتملة؟! إنها الوداعة والفضيلة اللتان ترويان الحنان الظامئ إلى حياة البيت السعيد، لا تثير استفزازا من أي نوع كان، ولكنها تبث سلاما وطمأنينة. لماذا جاء أبوها؟ ليس لهذا إلا معنى سعيد واحد، قال إننا موافقون، ثم جاء ببقية «إننا» شاهدا ملموسا، بوده لو يسعه أن يستخبر أفكارها؛ هل أفاقت من الصدمة؟ هل برئ الفؤاد؟ أبدأت حقا تستشعر ميلا إليه؟ ولم يتركه الوالدان لتأملاته فعاودا حديثهما الذي بدا الآن تافها متطفلا، ألا يمكن أن تحدث معجزة فيغادرا الحجرة؟ وقد التقت عيناه بعينيها مرة فتاه في صفاء وزرقة لحظة بهيجة، عنده ما يقوله، ولديها ما يقال بلا ريب، ومهما يكن من أمر فالأيام آتية، وسيفصح عما في ضميره؛ عن كل كبيرة وصغيرة. وفي أويقات ما بين الحديث كان يتجمع في إحساس رقيق سعيد أقنعه بأن في الدنيا سرورا خليقا بأن يكفر عن جميع أكدارها، سرور يقطر صفاء، ليدم طويلا، لتدم هذه الجلسة، هذه الحال ، هذا المنظر، هذا الإحساس، ليدم عمرا، ليشمل الحياة جميعا.
وتواصل الحديث، ولكنها لم تشترك فيه، اللهم إلا بإيماءة أو غمغمة، حتى وجب الذهاب فنهض مستأذنا، وسلم عليها، وغادر الشقة وهو يشعر لأول مرة بأنه مقبل من حياته على وقت حصاد.
84
وسافر حسين، وانقضت أيام من فترة الانتظار التي دعاها حسنين بمدة «تحت الاختبار». والتي عاناها في تجلد اضطراري، والأمل واليأس يتجاذبانه، وقد أسف على سفر أخيه لأنه كان يفضل بلا شك أن يتلقى رد أحمد بك يسري وهو غير بعيد عن مشورته، كان في الحقيقة يأنس إلى مشاورته، وإن غلب عليه الاستبداد برأيه والاندفاع وراءه؛ على أن إقدام حسين على الشروع في الزواج كان قد ترك في صدره راحة؛ لأنه كان في أعماقه متعبا لسبقه إلى استكمال حياته بالزواج، والآخر منزو تحت الأعباء كأنه محروم من الانتفاع بحياته، ولا يعني هذا أنه لم يكن مشغولا بمستقبل أسرته؛ فالحق أنه كان يرجو من وراء زيجته النفيسة خيرا كبيرا لنفسه ولأسرته على السواء. هكذا سوى متاعبه الداخلية بهذا المنطق ليفرغ لملاقاة حظه بقلب مطمئن، وإنه لعلى تلك الحال إذ دعاه أحد الأصدقاء من زملائه إلى موافاته إلى كازينو لونابارك بمصر الجديدة، وكان هذا الصديق - ويدعى علي البرديسي - أقرب زملائه مودة إلى قلبه، نشأت صداقتهما وتوثقت بالكلية، ثم حافظت على حرارتها رغم تعيينه هو بسلاح الفرسان، والتحاق الآخر بالطيران، ومضى إلى موعده فوجده في انتظاره، وجلسا معا في حديقة الكازينو، ثم طلب الصديق قدحين من الجعة، وأدرك حسنين من اللحظة الأولى أن صاحبه قد دعاه لأمر؛ لأنه على غير عادته - وبالرغم من مرحه الظاهر - بدا جادا متفكرا، وما لبث أن سأله: أتذكر الملازم أحمد رأفت؟
فقال حسنين بعدم اكتراث: طبعا، إنه من دفعتنا، وأظنه ضابطا بالطوبجية، أليس كذلك؟
فأومأ الصديق دلالة على الموافقة، وقال بضيق ومرارة: سمعته بالأمس يتحدث عنك في جمع من الإخوان بما أغضبني وساءني.
فحملق حسنين في وجهه بدهشة، كان يتوقع أي شيء إلا هذا، وتساءل في استنكار: ماذا قال ؟
فقال علي البرديسي بوجوم: كنا، أنا وبعض الأصدقاء، نلعب الورق في بيته بالمعادي. - وبعد؟ - لا أذكر المناسبة التي أثارت الحديث، كنا سكارى، ولكني سمعته يخوض في أمور تمسك، خبرني أولا هل سعيت حقا إلى طلب يد كريمة رجل يدعى أحمد بك يسري؟!
وفجر الاسم زلزالا في صدر الشاب، فدق قلبه دقة عنيفة، وذكر لتوه أن أحمد رأفت هذا على صلة وثيقة ببعض أقارب أحمد بك يسري، وبذل جهدا صادقا ليتمالك أعصابه، ثم قال باقتضاب وهو يكابد شعورا غليظا بالتشاؤم والخوف: ربما. - أتعلم أن أحمد رأفت صديق لهذه الأسرة؟ - هذا جائز، ولكن خبرني ماذا قال؟
فصمت البرديسي كالمتردد حينا ثم تمتم بصوت منخفض، والحرج باد في أساريره: فهمت من حديثه أن الأسرة لم توافق، يؤسفني أن أبلغك هذا.
وشعر بالخبر يضغطه كحمل ثقيل، فتضاءل تحته وأحس بانهيار في كرامته ورجولته. ثم فار غضبه حتى أوشك أن يستسلم لنيرانه، ولكنه ثار على الاستسلام في اللحظة الأخيرة، وأبى إلا أن يتظاهر بعدم الاكتراث، بل ندت عنه ضحكة وتساءل: أهذا ما أساءك يا صديقي؟
فقال الصديق بوجوم وقلق: هذا أمر عادي، يحدث كل يوم، ولكنه ذكر في غير لياقة الأسباب التي تبرر عدم موافقة الأسرة، ومع أنها أسباب تافهة لا يمكن أن تحط من قدر إنسان إلا أنه ساءني جدا أن يرددها في جمع حافل من السكارى.
كان يشعر دائما بأن مطرقة ثقيلة من ماضيه معلقة فوق رأسه تهدده في كل حين، وها هي قد أهوت على يافوخه، ونثرته هشيما، ليس الأمر بحاجة إلى إيضاح أو سؤال، ولكن أمن الممكن حقا أن يتجاهل كل شيء؟! ورفع بصره إلى وجه صديقه الواجم وسأله بلهجة آلية: خبرني عما قال؟
فعبس الشاب في ضيق وتبرم ثم استطرد: إنه حقيق بالإهمال، ولكن من الإنصاف أن تعلم بما يقال عنك ولست في حاجة لأن أقول لك إني غضبت لك غضبة صادقة ألجمت ألسنة الهاذين.
إذن اتخذوا منه مادة لهذيانهم! وأي مادة! كان ينبغي أن يفكر في هذا كله يوم أقدم على تلك الخطبة المشئومة! وابتسم إلى صديقه ابتسامة باهتة وقال: لا يخالجني شك في شهادتك، إني أقدر إخلاصك حق قدره، ولكن أرجو أن تعيد على مسمعي كل كلمة قيلت، كلمة كلمة.
وبدا الشاب متأففا، واكتفى بأن يقول في امتعاض شديد: قال كلاما كثيرا عن أخ لك؛ حتى قلت له محتدا إني أعرف قاطع طريق في بلدتنا أخوه وزير في القاهرة!
فامتقع وجه حسنين، وتأذى لدفاع صاحبه كأنه يسمع التهمة نفسها، بيد أنه ضحك في يأس وقال: العادة أن عين الرضا لا ترى إلا الوزير، أما عين الغضب ... ما علينا، وماذا أيضا؟
فقال الشاب في تهرب: وكلام سخيف من هذا القبيل.
ولكن حسنين هتف به في ضيق غلبه على أمره فجأة: أرجوك، أرجوك، لا تخف عني شيئا.
فقال الشاب عابسا من التحرج: أكره الخوض في الحرمات. - أختي؟! - قال إنها كانت تعمل لترتزق؟ - وقلت له غاضبا إن العمل الشريف لا يعيب أحدا، وإن الفقر ليس جريمة.
فهز حسنين رأسه في حرارة وردد قول صاحبه في سخرية أليمة: إن الفقر ليس جريمة! .. بديع! .. وماذا قال أيضا؟ - لا شيء.
حسبه! أخ قاطع طريق وأخت خ ... عاملة، هه؟ ويريد بعد هذا أن يتزوج من كريمة بك قد الدنيا!
قال البرديسي: أعتقد أن حسن الاختيار قد أخطأك في التقدم إلى هذه الأسرة العيابة.
فابتسم حسنين ابتسامة مريضة وتمتم: صدقت ...
ثم راح يقول لنفسه «إني غائص في الطين حتى قمة رأسي، ليس لهذه الحال من علاج إلا أن أدق عنق هذا الأحمد رأفت. ولكن هل يغير هذا من الواقع شيئا؟ كلا، إنه دفاع غير مجد بيد أنه لا يجوز أن تغيب عني حقيقة هامة؛ وهي أن اللكمة القوية لا تستطيع أن تنتزع الاحترام انتزاعا وتفرضه فرضا، إني قادر على هذا والحمد لله؛ فلا تنقصني الشجاعة أو القوة، كان حسن أحقرنا شأنا، ولكنه كان على ذلك أعظمنا احتراما، هذا درس ينتفع به.» ثم سمع صديقه يقول في عزاء: لا تكترث أكثر مما ينبغي.
فقال وهو يهز منكبيه متظاهرا بالاستهانة: نصيحة معقولة، ليس في أسرتنا ما يشين؛ كنا أغنياء في يوم ما، ثم دهمتنا أيام شداد فلاقيناها بشجاعة، حتى تغلبنا عليها، ليس في هذا ما يشين. - بل فيه من دواعي الفخار ما فيه.
فضرب الأرض فجأة بقدمه، وقال مستعر العينين من الغضب: ولكني أعرف كيف أؤدب من تحدثه نفسه بإهانتي. - هذا حق لا شك فيه.
وساد صمت مرهق بالتعب والألم، فلم يجد البرديسي خيرا من أن يطلب قدحين أخريين من الجعة، ثم تمتم مبتسما: ستجد إذا شئت من هي خير منها.
فقال حسنين باستهانة: أوه، البنات في البلد أكثر من الهواء وأرخص من التراب!
وعل من الجعة في ظمأ، وشغل الصديق بقدحه أيضا، فعاد الصمت؛ «آه لو كان في وسع الإنسان أن يخلق حياته من جديد، فيولد في أسرة جديدة، وينشئ ماضيا جديدا! ولكن ما بالي أعذب نفسي بالأماني الكاذبة! هذا أنا، وهذه حياتي، ولن أسمح بأن أتحطم. لم تنته المعركة بعد!»
85
ولما غادر الكازينو مودعا من صديقه كانت الصدمة والجعة تكادان تذهبان بعقله. وكان يبغي أن ينفس عن صدره قبل كل شيء ومهما كلفه الأمر، بيد أنه استسخف فكرة مواجهة الضابط أحمد رأفت وأغراه شعوره المنطوي على التحدي والغضب بما هو أجل وأخطر «إن غضبي على هذا الشاب المغرور غير عادل؛ لقد سمع قولا بذيئا فردده، ليس لي عليه حق ولا أستطيع الزعم بأننا كنا أصدقاء. إذا سنحت فرصة للتحرش به في المستقبل فلن أدعها تفلت بسلام، ولكن لندع تأديبه حتى سنوح هذه الفرصة، هدفي الحقيقي هو البك نفسه ذو الشارب المصبوغ، سأقول له إن أقل ما يستحقه رجل تقدم لطلب كريمتك هو أن تحافظ على كرامته، خصوصا إذا كان ابن صديق قديم، إذا تنصل من التهمة قذفته بالدليل القاطع وقلت له إن الفقر ليس بعيب، بخلاف التشنيع على الناس؛ فهو عيب حقير. إذا غضب، ولا بد أن يغضب كما يحتم مركزه الكبير، فلن أقتصد في إظهار غضبي حتى أفرغ بخار صدري المكتوم.» وبهذا العشور المتفجر وما ينبثق حوله من إشعاعات الجعة ألقى بنفسه في أول ترام صادفه، فحمله إلى ميدان المحطة، ثم استقل الترام إلى شارع طاهر، وعندما تراءت له فيلا أحمد بك يسري تثاقلت قدماه كأنه يمهل نفسه لمعاودة التفكير، وترددت في أعماقه هواتف تهيب به إلى التراجع، ولكنها ذابت في تيار الحمى المستعر في رأسه، فدفع إلى الفيلا دفعا حتى وجد نفسه حيال البواب الذي وقف له احتراما، وشق طريقه إلى الداخل دون استئذان وهو يشعر بغرابة سلوكه وسخافته، ولكن دون أن ينثني. كانت الشمس قد مالت نحو الأفق فلاحت شجيرات الورد والشيح الناعسة في ظل المغيب، وارتسمت على أرض الممشى الوسيط آثار عجلات في السيارة في هيئة خطين عريضين منحنيين، فاتجه نحو السلاملك، تشي نظرة الحيرة والتردد التي تنتاب تصميمه من حين إلى حين بأنه لم يقتنع كل الاقتناع بوجاهة البواعث التي تدفعه إلى هذا التحدي. ومع هذا ارتقى السلم بسرعة غير متوقعة، وما كاد يبلغ الفرندا حتى وقف متسمرا تحت صدمة دهشة مفاجئة لم تدر له بخاطر في هذيانه الطويل المتصل. رأى الفتاة - نفسها - جالسة على كرسي كبير، وقد رفعت رأسها عن كتاب أو نحوه وتطلعت إلى القادم بعينين متسائلتين، وثبتت عيناه عليها في جمود ذاهل، وقد صدع صدره من الأعماق إحساس بالخزي أذابه ذوبانا. ثم أدرك أنه حيال موقف لو استسلم فيه لضعفه لباء بخزي جديد فاق ما تعرض له من ألوان الإهانة؛ فاستمد قوة جديدة من خوفه، مصمما على الخروج من ورطته بكرامة واستهانة. وأفاده التصميم فتمالك نفسه، وحنى رأسه باحترام وقال مبتسما في لطف: مساء الخير يا آنسة، معذرة عن إزعاجي غير المقصود لك، هل أستطيع أن أقابل البك؟
فقالت برقة - وكان يسمع صوتها لأول مرة - دون أن يعتورها أدنى ارتباك: والدي معتكف اليوم لوعكة خفيفة.
وحنى رأسه مرة أخرى، ولعله وجد ارتياحا إلى هذا الخلاص الذي جاء من حيث لا ينتظر، وقال وهو يهم بالذهاب: أستودعك الله.
ودار على عقبيه وسار خطوة، وخطوة أخرى، ثم توقف في صميم مباغت، اختفى منطق السلام وحل محله غضب واستهتار وتلبسته الحال الغريبة التي دفعته من مصر الجديدة إلى شبرا.
ودار حول نفسه مرة أخرى وواجه الفتاة في جرأة غير مبال بنظرتها المترفعة المتسائلة، ثم قال بصوت أعلى مما يستدعي الموقف: معذرة، يعز علي أن أودع هذا البيت الوداع الأخير دون أن أعرب عن أفكاري.
فظلت على تساؤلها الصامت دون أن تنبس بكلمة، فاستطرد متسائلا: أظن بلغك أنني طلبت يدك؟
فقالت وهي تغض بصرها: لم تجر العادة بأن يحدثني أحد من زوار أبي.
فقال فيما يشبه الدهشة: ظننتها عادة غير مستنكرة في الأوساط الراقية! - ليس في جميع الأحوال.
فتمادى في الاستهانة قائلا: اسمحي لي أن أتكلم رغم هذا، إنني قصدت البك لمحادثته في الأمر نفسه؛ لأنه نما إلي أن طلبي عد وقاحة لا تغتفر.
فقالت دون أن ترفع بصرها: يحسن بك أن تؤجل حديثك لحين لقاء البك.
فقال وعيناه لا تتحولان عن وجهها: ولكن ما يسعدني به الحظ من لقائك - وأنت صاحبة الشأن الأول - يحتم علي أن أتكلم، يهمني أن أعرف رأيك، هل يعد طلبي وقاحة حقا؟
فقالت بما ينم عن الضجر: أرجو أن تؤجل حديثك لحينه.
ومع أن ضجرها كان شيئا منتظرا إلا أنه آلمه وأحنقه فقال: إن الذي يسعى إلى يد فتاة يتقدم عادة بخير ما فيه، ولكن يحدث أحيانا لسوء الحظ ألا يروا إلا شر ما فيه، كبعض مساوئ تتعلق بأسرته مثلا.
فنهضت قائمة عابسة وهي تقول: لا مفر من الذهاب.
واتجهت نحو مدخل البهو فلاحقها بصوت مرتفع قائلا: كنت أود أن أسمع رأيك، ولكن حسبي هذا، إني آسف، وأرجو أن ترفعي تحياتي إلى البك.
ودار على عقبيه مسرعا وهبط السلم ثم سار نحو الباب، ومرت بخاطره مناظر متباعدة في سرعة وتدفق؛ كموقفه مع بهية في بيتهم الجديد، وحديث البرديسي في الكازينو، وهذا الحديث القريب «لست عاشقا خائبا والحمد لله، كنت على وشك أن أكونه ولكن الله سلم، بيد أنني رجل خائب، وهذا أفظع! أحب أن أفكر طويلا في هذه الأمور المعقدة. إني أشعر بمرض من نوع جديد؛ أين الداء؟ أين الخطأ؟ أين العلاج؟»
ولما خلص إلى الطريق كان مقتنعا بأنه ارتكب سخافة لا معنى لها.
86
قالت الأم مبتسمة وإن نمت نظرة عينيها عن أسى: من عجب أنك ترمي بنفسك في أمور خطيرة دون أن تأخذ العدة لها. هبهم وافقوا على الزواج فماذا كنت تفعل؟ ألم تفكر في هذا؟ ألم نحذرك جميعا من عواقبه؟
كان قد مضى على حديث صاحبه البرديسي حوالي عشرة أيام، ومع هذا لم تغب هذه المسألة عن أذهانهم، وكانوا كلما جمعتهم جلسة في الشرفة المطلة على الطريق في أوقات العصاري ولاح في وجهه الشرود أو التفكير، انبرت الأم للحديث؛ ترجو أن تبلغ به موضع التعزي من قلبه، وانضمت إليها نفيسة مازجة الجد بالمزاح.
وقال حسنين في ضجر: لا يبدو لي الغد خيرا من اليوم.
فقالت نفيسة: كلام فارغ.
وصدقت الأم على كلامها قائلة: وستبدي لك الأيام أنه كلام فارغ، وستتزوج من خير منها.
وتساءل في نفسه لماذا يبدو المتشائم الوحيد في هذه الأسرة؟ أهي أسرة بلهاء أم هو الأبله؟ أليس الدور الذي يلعبه الشيطان في هذه الدنيا أخطر من أدوار الملائكة مجتمعين؟ بلى، فلماذا لا يرونه كذلك! ولقد أرسل إلى حسين كتابا بآخر أنباء زواجه، فماذا كان جوابه؟ لم يكد يزيد شيئا عما تقول أمه أو أخته! أماتوا وهم أحياء؟ ألم تعد تستهويهم الحياة الرفيعة الشريفة؟!
وقطع عليه أفكاره جرس الباب الخارجي الذي رن رنينا متواصلا، ثم صوت الخادم وهي تصيح بحالة مزعجة بعد أن فتحت الباب «سيدي .. ستي!» فهرع إلى الصالة مستطلعا تتبعه أمه وأخته فرأى عند باب الشقة المفتوح رجلين غريبين يسندان ثالثا بينهما، جريحا فيما يبدو من عصابة قذرة تطوق رأسه وتنز دما، وقد مال عنقه إلى كتف أحد الرجلين، واقترب حسنين من القادمين مبهوتا منزعجا لا يدرك شيئا ولا يفهم شيئا، حتى صار على قيد خطوات منهم وعيناه لا تتحولان عما انحسرت عنه العصابة من وجه الجريح؛ بشرة شاحبة تشوبها زرقة تثير من الأعماق ذكرى الموت، وتعلوها فوضى مخيفة من شعر نابت وآثار التهاب، ولكن العينين المغمضتين رمشتا في إعياء، فلاحت خلال أهدابهما نظرة واهنة غير غريبة سرعان ما انتقلت حركتها الضعيفة إلى ذاكرته وانفجرت بها كالقنبلة، وقبل أن يتحرك لسانه جاء صوت أمه من الخلف مؤكدا ما انفجر في رأسه هاتفا في نبرات يمزقها الخوف والإشفاق: حسن .. هذا حسن ..
فصاح حسنين مرددا قول أمه في ذهول: حسن!
وهنا قال الرجل الذي يسند عنقه بكتفه، ويشترك مع الآخر في حمله: يجب أن ننيمه في الحال.
وتقدم الشاب في ذهول منهم وانحنى فوق قدمي أخيه، وبسط ذراعيه تحت ساقيه ورفعهما في رفق وساروا معا متعاونين في حمله إلى حجرة نومه، وأناموه على الفراش الوحيد في البيت ثم أسرع الرجلان بمغادرة الحجرة يتبعهما حسنين، على حين هرعت الأم ونفيسة نحو الفراش في جزع لا يوصف. وفي الصالة أشار الرجل الذي تكلم أول مرة - وكان يرتدي جلبابا وطاقية - إلى الآخر - الذي يتزيا بزي الأفندية - وقال: لا مؤاخذة، هذا سائق التاكسي.
فأدرك حسنين أنه يلمح إلى أجرة التاكسي، فسار معهما حتى السيارة وأعطى الرجل النقود، وصرفه مستبقيا الآخر، ثم سأله في اضطراب وجزع: ماذا حدث؟
فقال الرجل: سي حسن أخي وصديقي، ولعلك تعلم أنه كان هاربا من وجه البوليس؛ فانتهز بعض أعدائه هذه الفرصة وتربصوا له في بعض الأماكن التي يقطنها مستخفيا، وانقضوا عليه غدرا وسلبوه ماله ولاذوا بالفرار، وقد تحامل المسكين على نفسه حتى بلغ مسكني، ورجاني أن أذهب به إلى أهله فأخذنا التاكسي إلى عطفة نصر الله؛ حيث أخبرنا الجيران أنكم انتقلتم إلى هذا البيت، فجئنا من تونا.
وكان حسنين يصغي إلى الرجل في شبه ذهول، ومع أن إحساسات شتى تعاورت قلبه إلا أن إحساس الخوف والقلق غلبها جميعا، ولما انتهى الرجل من حكايته غمغم الشاب: شكرا لك يا سيدي على مروءتك، هلا تفضلت بالبقاء ساعة حتى تستريح.
ولكن الرجل رفع يده إلى رأسه شاكرا، وقال: إني ذاهب في الحال، ولي كلمة قبل الذهاب وهي أنه يجب الإسراع إلى علاج الجرح الخطير، ولكن حذار من استدعاء الإسعاف أو حمله إلى القصر، وإلا أدى الأمر إلى التحقيق ثم إلى البوليس!
وحياه الرجل ومضى إلى حال سبيله، فعاد الشاب إلى الحجرة كمن يشق سبيله في ظلمة حالكة والأرض تميد به. ووجد أخاه كما تركه راقدا وكأنه اطمأن إلى الجو الجديد فأسلم إلى غيبوبة تامة، وانكبت عليه المرأتان في جزع باد، ولما أحستا بالقادم تطلعتا إليه بنظرة استغاثة، ورنا إلى الراقد طويلا، ثم تساءل بصوت غريب: ألم يتكلم؟
فقالت الأم وهي تزدرد ريقها الجاف: غمغم كلمات لا تعني شيئا ثم راح في غيبوبة، أغثنا بدكتور.
ولكن الجريح حرك يده بجهد، وبدا كأنه يستطيع أن يغالب غيبوبته عند الضرورة فقال بصوت باهت ضعيف تجرد من فحولته المعهودة: لا دكتور .. الدكتور .. يبلغ .. البوليس.
وألقى نظرة متفحصة فرأى العصابة المخضبة بالدم تخفي رأسه وجبهته، وجانبا من صفحتي وجهه، فلا تبدو إلا عيناه المثقلتان بالإعياء والذبول، وذقنه النابتة الشعر، وقد فغر فما تتردد فيه أنفاس ثقيلة محشرجة، على حين تمزق رباط رقبته وجيب الجاكتة، وانتثرت خيوط الأزرار، وراحت يمناه تنقبض وتنبسط، ويئن بين آونة وأخرى. وقف حسنين حيال هذا المنظر ذاهلا فتناسى مخاوفه وتركز شعوره في إحساس عميق بالألم والإشفاق. نسي برهة كل شيء إلا أنه حيال أخيه الجريح، وأنه ينبغي إنقاذه بأي ثمن، ثم جعلت تطفو من أعماقه مشاعر خوف وقلق طالما طاردته في الأيام الأخيرة، في هيئة نذر تتهدد سمعته ومستقبله، فانقبض قلبه، وداخله ألم جارح لهذه المشاعر ذاتها من ناحية، ولتأنيب الضمير على إحساسه بها في مثل هذا الموقف من ناحية أخرى. وكأنه فزع إلى الهرب من باطنه بالكلام فقال مخاطبا الجريح برقة: دعني أحضر طبيبا، حياتك أهم من أي شيء آخر.
وقالت الأم ونفيسة برجاء معا: نعم يا حسن، دعنا نحضر الطبيب.
ولكنه رفع جفنيه الثقيلتين، وقال بنبراته المضغوطة المتعبة: كلا، لا تخافوا، هذه ضربة تافهة.
ثم حاول أن يأخذ نفسا عميقا واستراح لحظة، ثم استدرك قائلا مغمض العينين: غدروا بي، الويل لهم! إن كان لي عمر فالويل لهم! ولكن لا تستدعوا طبيبا، الطبيب يبلغ البوليس.
فقال حسنين وكان لا يزال فريسة للنزاع الناشب من باطنه: لا بد من إحضار طبيب، وليس عسيرا أن نقنعه بتكتم الخبر.
وتوسلت إليه الأم قائلة: ارحمني يا حسن واقبل هذا.
فنفخ الرجل مغمغما في ضجر: ارحموني أنتم ودعوني في سلام .. أف!
وجعلت الأم تردد بصرها بينه وبين حسنين، ولكن الشاب من العناء في بلوى، برح الخفاء وتبين حقيقة مشاعره، فليس تألمه لأخيه بشيء يذكر إلى جانب الخوف الذي يلقي عليه ظلا ثقيلا من شبحه الجاثم؛ «قضي علينا، قلبي لا يكذبني على الأقل في الشر، قضي علينا في مصر الجديدة كما قضي علينا في شبرا، وسيطاردنا البوليس جميعا كالمجرمين! أكاد أرى بعيني رأسي المحموم الضابط وهو يفتش الحجرات، ويلقي القبض على المجرم الهارب، هل سدت منافذ الحياة؟! أتقول إنه أخي؟ أجل، إنه أخي، ولكنها حياتي التي تتحطم تحت قدميه في طريقه الوعرة. أف، لشد ما ضاق صدري!» ثم سمع أمه وهي تهتف به في يأس: أغثني يا حسنين! ألا ترى أنه يموت بين أيدينا! «كلا، لن يموت، أما أنا فإني أموت موتا بطيئا قاسيا، إن كرامتي تحتضر. وهبه مات حيث هو الآن فسيأتي طبيب للكشف عليه ثم يلحق به البوليس والنيابة، ولن يكون لهم سبيل على الجثة، ولكن ستفوح النتانة من البيت في هيئة فضيحة رائعة!» ثم حانت منه التفاتة إلى أمه وكانت تردد بين الراقد وبينه نظرة حائرة زائغة فزعة، ومع أنها كانت مطبقة الفم إلا أنه سمع لنظرتها تلك صرخة مدوية تمزق نياط القلب. وعجب لنفسه؛ فقد حقد عليها بادئ الأمر ثم خيل إليه أن ذكريات غامضة سريعة تطرق قلبه في لمح البصر فتخاذل وضعف، وعاد يركز بصره في العصابة الملوثة بالدم، واسترد قوة تفكيره، فخطر له خاطر باهر تمتم على أثره بلا وعي «كيف نسيت هذا؟» ثم قال مخاطبا أمه في عجلة: سأحضر طبيبا صديقا من مستشفى الجيش ، انتظري قليلا فلن أغيب طويلا.
وهرع إلى بدلته فلبسها متعجلا، وغادر البيت لا يلوي على شيء.
87
وقف حسنين مستندا إلى حافة النافذة، يراقب الطبيب وهو مكب على عمله الدقيق، وقد غادرت الأم والأخت الحجرة، ولبثتا وراء الباب المغلق لا يكاد يسمع تردد أنفاسهما، كان عابسا شديد التأثر، وتولاه الفزع، ثم أخذ يهدأ رويدا، ويغيب في أعماق نفسه، وكان قد أخبر الطبيب لدى مقابلته أن أخاه أصيب بجرح في رأسه عقب معركة مع أحد أفراد الأسرة ورجاه أن يسعفه مبديا له رغبته الحارة في تكتم الخبر حتى لا تخدش كرامة الأسرة بفضيحة عامة! ومضى الطبيب معه في تحفظ، ولما أجرى الكشف الابتدائي على رأس الجريح قال: كسر عميق، إلى ما استنزف من دم غزير، لا أدري ما وجه الحكمة في عدم إبلاغ البوليس؟!
فقال حسنين بتوسل: فلنتحاش هذا بأي ثمن!
فقال الطبيب وهو يتهيأ للعمل: الظاهر أنك لا تدري خطورة الأمر! وعلى أي فلنؤجل هذا إلى حينه!
وتركه طوال العملية الجراحية غير مستقر ولا مطمئن، بل قضى حديثه الأخير على نوازع عطف كانت تتحرك في أعماقه. كان في ذهابه إلى المستشفى وعودته بالطبيب مجال حسن، هيأ له جوا طيبا تنمو فيه إحساسات العطف وتزكو، فنزعت به الذكريات إلى الأيام الخوالي التي كان حسن فيها المرفه الوحيد عن بأسائهم، واليد المبسوطة التي تجود فتحقق لهم الآمال. ولكن سرعان ما استثار القلق الخوف فتحجر قلبه، ونضب معين العطف، ولم يعد يرى في الرجل الجريح إلا نذير الشر الذي يتهدد سمعته ومستقبله! ها هو يرقد في غيبوبة شاملة لا يشعر بالأسلحة الدقيقة التي تعبث بلحمه وعظمه، وهكذا كانت حياته دائما جرحا عميقا يبتلي سواه بآلامه. أما هو فلم يفق من غيبوبته قط! أو لم يشأ أن يفيق منها، ألم يضرع إليه بالدموع أن يغير حياته؟ بلى، وكان جزاؤه السخرية الأليمة، فلو أنه مات في أرض بعيدة!
ثم ثبت عينيه على الوجه الذي أخذ يختفي تحت الأربطة فسرت في جسده رعدة، وامتلأ يأسا وانقباضا ، وأخيرا سمع الطبيب يخاطبه قائلا: انتهيت من الممكن عمله الآن، هلم معي إلى الخارج.
وانتظر حتى غسل الرجل يديه وارتدى جاكتته، ثم سار بين يديه إلى حجرة الاستقبال، ولم يجلس الرجل وبدا متفكرا، ثم قال بهدوء غير منتظر: لا أظن الحال خطيرة جدا ولكنه سيحتاج إلى علاج! طويل، يا له من اعتداء وحشي، لماذا لا تبلغ البوليس؟
فقال حسنين بجزع وإن رده قول الطبيب إلى بعض رشاده: أني أتفادى من الفضيحة، ومهما يكن من أمر فنحن أسرة واحدة!
فهز الطبيب رأسه فيما يشبه التذمر ثم قال بشيء من الحزم: سأعود لرؤيته صباحا؛ فإذا وجدته على ما يرام فبها، وإلا فسأجدني مضطرا للتبليغ.
وساوره القلق، فقال برجاء وكأنه يخاطب نفسه: أرجو ألا يحدث هذا.
ثم خاطب الطبيب قائلا: أني أشكر لك ما تجشمت من جهد وتعب.
واتجه الرجل إلى الخارج فوصله إلى الباب الخارجي، وهو يشد على يده بامتنان، ولم يشأ الطبيب أن يذهب قبل أن يكرر على مسمعه قائلا في توكيد: سأعود صباحا.
ووقف يتابعه بناظريه وهو يستقبل سيارته حتى انطلقت به مزمجرة في طريقها، فتنهد كأنه يزيح ثقلا لا يتزحزح ثم عاد إلى الحجرة، ينقل خطواته في كآبة، وما كاد يلج الباب حتى هرعت إليه أمه وسألته في لهفة وجزع: ماذا قال الطبيب؟
وكره لهفتها وجزعها من أعماق صدره، ولكنه لم يجد بدا من أن يقول في هدوء: إنه مطمئن إلى الحالة وسيعود صباحا، كيف حاله الآن؟
فقالت نفيسة: لم يفق بعد.
وارتمى على الكرسي الوحيد بالحجرة، وأغمض عينيه .. «أنا الجريح حقا، إنه ينام نوما عميقا في غيبوبة سعيدة، فمن لي بمثل هذه الغيبوبة؟ لا أظن الحال خطيرة جدا؛ هكذا يقول الطبيب الغافل. كلا، إنها خطيرة جدا، وإبلاله أخطر من موته. إذا ساءت الحال أبلغ الخبر إلى البوليس، وإذا تحسنت جثم على صدري حتى يبلغ أعداؤه البوليس عنه؛ فالفضيحة آتية لا ريب فيها .. أين المهرب من هذه الآلام جميعا؟! إني أمقت هذا الجريح وأمقت نفسي وأمقت الحياة جميعا! أما من حياة غير هذه الحياة، ومخلوقات غير هذه المخلوقات؟» والظاهر أن أفكاره انعكست على صفحة وجهه فتقبضت أساريره في امتعاض وألم، ولاحت من أمه التفاتة إليه فاشتد بها التأثر وقالت له برقة: هون عليك، أخوك بخير، والله حافظه وحافظنا.
وفتح عينيه في دهشة، ورمقها بنظرة غريبة دون أن ينبس بكلمة.
88
وجاء الطبيب في صباح اليوم الثاني، ثم غادر البيت معلنا اطمئنانه، وبذلك نجا حسنين من الخطر القريب الداهم ليفرغ لقلق متصل وعذاب بطيء، وأوهام لا تفارقه ليلا ولا نهارا، وانقضت أيام والأسرة في هدوء نسبي، ومضى الرجل الجريح يفيق ويسترد حيويته شيئا فشيئا، وبعودته إلى الحياة ساورته أفكار قديمة لم تلبث عدواها أن سرت إلى النفوس المحيطة به، وقد ابتسم في بادئ الأمر ابتسامة حزينة يشوبها تسليم لم تألفه طبيعته، وقال كالمعتذر: أتعبتكم كثيرا، والظاهر أن الله لم يخلقني إلا للتعب، فليسامحني الله!
والتمعت فيما حوله بسمات المجاملة والتودد، فلم ينخدع بها، أو لم ينخدع بها جميعا، فمالت عيناه نحو حسنين وقال: لا شك في أنك غاضب، ولعلك تود أن تذكرني بمواعظك السالفة!
فغمغم الشاب قائلا: لا أود إلا سلامتك.
فابتسم الرجل ابتسامة غامضة، ثم ما عتم أن تجهم وجهه، وتكالبت عليه الأفكار، فقال في لهجة مضطربة غير التي تكلم بها في أول الأمر: سلبوني نقودي، الويل لهم! كنت عازما على الهرب، ولا بد من الهرب.
وتحسس رأسه بيده وأغمض عينيه، ثم تمتم وكأنه يحدث نفسه: ماذا فعل الله بسناء؟ .. هل يكفون عنها؟ .. لن تستسلم لعدو من أعدائي، ولكنها لن تستطيع الهرب معي، فات الوقت وفقدنا نقودنا.
وأنصت حسنين صامتا، جافلا من ملاقاة هذا الهذيان بغير الصمت، واختلس من أمه وشقيقته نظرة فوجدهما تتبادلان نظرة حائرة، ثم عاد حسن يقول في نبراته المضطربة: يجب أن أختفي، إن الصديق الذي حملني إلى هنا رجل مخلص، ولكنه أجهل من أن يحفظ سرا، وليس أحب إليه من أن يروي قصة مروءته لرفيقته، فتنقلها هذه لجارتها، حتى تبلغ أحدا ممن يتربصون بي، فلا ندري إلا والبوليس يقتحم علينا البيت.
وتنهد حسنين في يأس، وحانت منه التفاتة صوب أمه فالتقت عيناهما لحظة قصيرة قبل أن تغض بصرها، وامتلأ حنقا فخاطبها في سره؛ لماذا أتيت بنا إلى الدنيا؟ .. لماذا اقترفت هذا الجرم الشنيع؟ .. ثم سمع أخاه يهتف بعنف: يجب أن أختفي، سأغادر المنزل حالما أقدر على المشي، وربما غادرت القطر كله.
واستروح حسنين بسمة باردة كالأمل لأول مرة منذ جاء الرجل محمولا كالقضاء والقدر؛ «هل يمكن أن يحدث هذا قبل أن تقع الواقعة؟! .. هل يختفي حقا فلا تقع عليه عين ولا يعرف له أثر؟! فليتقدم حيث هو، يجب أن أحيا حياة مطمئنة!»
ثم مر يوم ويوم ويوم حتى غدا جو البيت على كآبته معهودا مألوفا، فلامس حسن الشفاء أو كاد، وأخذ يفكر جديا في مغادرة البيت، ثم في الهرب من الوطن كله، ويرسم لذلك الخطط في صمت وتفكير متواصل، ولم تعد نفيسة تلزم نفسها القبوع في البيت، فعادت إلى زياراتها التي لم تكن تنقطع يوما، وكذلك عاود حسنين حياته العادية ما بين عمله وبيته والنادي، ولكن رأسه لم يتوقف عن التفكير في أخيه، والخطر الذي يتهدد سمعتهم بسبب إقامته بينهم، وقد دار الحديث بينه وبين أمه حول هذه النقطة الحساسة، فقال لها بعد إشفاق وتردد: إذا كان البوليس لم يهتد إلى محل إقامته حتى الآن فبمعجزة من الله، لا يمكن أن تستمر طويلا.
ونظرت إليه المرآة نظرة غريبة احتار في تفسيرها بادئ الأمر؛ أهي عتاب صامت، أم تسليم بالقضاء من العجز عن ملاقاته، أم استنكار يداريه الخوف من الإفصاح، كل أولئك بدا راجحا حينا، لولا أن برح الخفاء فهتكته دمعة ترقرقت في محجريها في بطء كالحياء، وفي تردد هو العذاب، هنالك ملأه الانزعاج؛ لأنه لم يكد يذكر أن رأى أمه باكية على كثرة المحن والملمات، وتراجع فيما يشبه الفرار، وصور من حزمها وعزمها تنثال على مخيلته في دهشة وألم، فكأنه يشهد احتضار أسد هصور. على أنه حين خلا إلى نفسه تناسى آلام الآخرين وانفرد بآلامه هو ومخاوفه ، فاشتد به الاستياء والحنق، ولعن نفسه وأمه معا.
وفي عصر اليوم التالي مباشرة أرادت هذه المخاوف أن تخطو خطوة جديدة؛ كان يجلس وأمه وأخوه على الفراش يتجاذبون الحديث، وكانت نفيسة في الخارج. ورن جرس الباب فجأة فذهبت الخادم لتفتح، ثم عادت في ارتباك ظاهر وقالت للشاب: سيدي، عسكري بوليس يرغب في مقابلتك.
89
تناثرت نفوسهم كالشظايا! فوثب حسنين قائما وهو يحدق في وجه الخادم، ورمى حسن بقدمه من على الفراش إلى أرض الحجرة، وهو ينظر إلى النافذة في عبوس متمتما «الهرب!» على حين رددت الأم عينين زائغتين، وكان حلقها من الجفاف بحيث لم يسمح لكلمة بالخروج. وجمد حسنين في مكانه دقيقة، ثم استسخف جموده فهز منكبيه في يأس وغادر الحجرة إلى الباب الخارجي حيث يوجد الشرطي واقفا، وتبادلا تحية آلية ثم سأله الشاب في استسلام: أفندم؟!
فقال الرجل بصوت أجش: هل حضرتك الضابط حسنين كامل علي؟ - نعم. - حضرة ضابط نقطة السكاكيني يرغب في مقابلتك في الحال.
ونظر حسنين فيما وراء الرجل حتى الطريق، فلم ير غيره ممن كان يتوقع رؤيتهم، وداخله شيء من الطمأنينة، ولكنه تساءل في حيرة: ماذا يريد حضرته؟ - أمرني أن أبلغك رغبته دون أن يزيد.
وتردد الشاب قليلا ثم استطرد ريثما يرتدى ملابسه، وعاد إلى الحجرة، ووجد أخاه وراء بابها يتصنت فما إن رآه حتى سأله في لهفة: «هل جاءوا؟» وكررت الأم السؤال في صوت مريض، فأعاد على مسمعيها ما دار بينه وبين الشرطي وهو يرتدي ملابسه، وما كاد ينتهي حتى قال حسن: لعل الضابط من معارفك فأراد أن ينبهك قبل أن يكبس البيت. هذا واضح. أصغ إلي؛ إذا سألك عني قل إنك لم ترني منذ أعوام، لا تتردد ولا تخش عاقبة الكذب، فلن يقفوا لي على أثر، سأختفي عقب ذهابك مباشرة فقلها ولا تخف، وربنا معكم.
فتسأل حسنين وهو يخفي عنه عينيه حتى لا يقرأ ما فيهما ما تنفس في أعماقه من أمل جديد: وهل لديك من القوة ما يعينك على الهرب؟
فقال حسن وهو يجذب بدلته من على المشجب: إني على خير عافية، مع سلامة الله.
وغادر حسنين الشقة ومضى في صحبة الشرطي، وكان أول ما بدا له يسأله عن اسم الضابط لعله يكون حقا من معارفه، ولكن الشرطي ذكر له اسما غريبا لم يسمع به من قبل؛ فعاودته الحيرة، وبدا له الأمر شديد التعقيد، بيد أن عزم حسن على الاختفاء بث في نفسه طمأنينة لا حد لها، وبلغا نقطة البوليس قبل المغرب بقليل، وقاده الشرطي إلى حجرة الضابط ثم أدى التحية قائلا: حضرة الملازم حسنين كامل علي.
كان الضابط جالسا على مكتبه، وعلى بعد ذراع من الكتب وقف رجلان وامرأة من أهل البلد، تلوح في وجوههم آثار معركة حديثة العهد، ولكن الرجل نهض لاستقبال حسنين ومد له يده وهو يقول: «أهلا وسهلا.» ثم أمر الشرطي بإخلاء الحجرة وإغلاق الباب، وطلب من الشاب أن يجلس على كرسي أمام المكتب، فجلس وهو يقول لنفسه: «ترى ما معنى هذا كله؟ .. ترحاب ومجاملة، ثم ماذا؟!»
وخرج الضابط من مجلسه، ووقف في مواجهته مستندا بيمناه إلى حافة المكتب، وجعل يتفحصه بنظرة غريبة تلوح فيها حيرة من لا يدري كيف يبدأ حديثه، أو من يجد في ذلك قدرا من الصعوبة لا يخفى. وشعر بفترة السكوت على قصرها غليظة لا تحتمل، واشتد به إحساس كريه استحوذ عليه منذ اللحظة التي وطئت قدماه فيها أرض نقطة البوليس؛ إحساس بالرهبة والقلق والضيق «ضابط مهذب يتحرج من إلقاء التهمة في وجهي، هذا غريب في ذاته، تكلم وأرحني؛ فطالما تراءى لخيالي كابوس هذه اللحظة! إني أعلم سلفا ما تريد قوله. تكلم ..»
ونفد صبره فقال: دعاني الشرطي لمقابلة حضرتك.
فقال الضابط: إني آسف لإزعاجك، كنت أود أن ألقاك في ظرف خير من هذا، ولكنك أدرى بما يتطلبه الواجب أحيانا.
وزفر حسنين آخر نسمة من أمل ضعيف في السلامة وقال في وجوم: أني أشكر لك كرم أخلاقك، وها أنا مصغ إليك.
فقال الضابط باهتمام ورقة معا: أرجو أن تتلقى ما أقوله بشجاعة، وأن تسلك سلوكا جديرا بضابط يقدس القانون.
فقال الشاب وهو يعاني ما يشبه الهزال والخور: هذا طبيعي جدا.
فعض الضابط على أسنانه كما بدا من تقبض صدغيه ثم قال باقتضاب: الأمر يتعلق بأختك ...
ورفع حسنين حاجبيه في استنكار ثم قال: تعني أخي؟ - الست أختك، ولكن معذرة أحب أن أسألك أولا: هل لك أخت تدعى نفيسة؟
فقال حسنين في ذهول: نعم، هل وقع لها حادث؟
فغض الرجل طرفه وهو يقول: يؤسفني أن أخبرك بأنها ضبطت في بيت بالسكاكيني ...
وفزع حسنين واقفا، متصلب الجسم، مصفر الوجه محملقا في وجه محدثه، وهو يلهث قائلا: ماذا تقول؟
فربت الرجل على كتفه متأثرا وقال: ادع كل قوة في نفسك كي تضبط أعصابك، الموقف يستلزم الحكمة لا الغضب، أرجو أن تساعدني على القيام بواجبي، ولا تجعلني أندم على ما اتخذت من إجراءات راعيت فيها المحافظة على كرامتك قبل كل شيء.
أنصت إليه وهو لا يزال يحملق في وجهه، تمتلئ عيناه بوجهه تارة فلا يرى سواه، ويغيب عنهما أخرى فيسمع الصوت ولا يرى شيئا، وثالثة لا يرى إلا شفتين تنطبقان وتنفرجان، فينثال من بينهما كلام هو الفزع واليأس والغرابة، وبين هذا وذاك ترمش عيناه في حركة عصبية فتلتقطان منظرا غريبا هنا وهناك؛ بندقية مثبتة في جدار، أو صفا من البنادق، أو محبرة، وربما امتلأ أنفه برائحة دخان محبوس أو رائحة جلود غريبة، ثم ينحل وعيه ويتراجع فجأة إلى ذكرى بعيدة لا صلة لها بالحاضر، فيلوح لذاكرته منظر عطفة نصر الله وهو صبي يلاعب حسين البلي؛ «ضبطت في بيت! أي بيت؟! إن أحدنا فاقد العقل ولا شك، ولكن من هو؟ ينبغي أن أتحقق من أني عاقل أولا ...» وتنهد في وهن، ثم سأله في استسلام: ماذا تقول يا سيدي؟ - يوجد في هذا الحي بيت تستأجره ست رومية، وتؤجر حجراته بالساعة للعشاق، كبسنا البيت عصر اليوم فوجدنا الست ... وجدناها مع شاب، واعتقلناها طبعا، وشرعت في اتخاذ الإجراءات القاسية التي تعرفها فاضطرت تحت تأثير الخوف أن تعترف لي بأنها شقيقة ضابط؛ على أمل أن أطلق سراحها . - أختي أنا؟ .. أأنت متأكد؟ ... دعني أراها. - اضبط نفسك أرجوك، لو كنت متأكدا من أنها أختك لأطلقت سراحها. ولكن خفت أن يكون اعترافها خدعة، قد عرضت المسألة على المأمور فوافق على وقف الإجراءات على شرط التأكد من صدق قولها.
ومن عجب أنه لم يعد يداخله أدنى شك في حقيقة الواقعة؛ فسرعان ما آمن بها قلبه المتشائم، ووجد في فظاعتها ترجيعا لأصداء خوف قديم طالما ناوش قلبه وعذبه، أجل، لم تخلق هذه الواقعة إلا لحظه ولأسرته! إنه يعلم هذا علما لا يتطرق إليه الشك؛ أهذه هي نهاية المطاف؟! ثم غلبه ذهول شعر معه بأنه أثر من آثار ماض منطو انقطعت صلته بالحاضر، فضلا عن المستقبل، كان هذا هو، ولكن لا يكون ولن يكون. ثم انبعثت منه لهفة على النهاية فقال بصوت ميت: أين هي؟ .. دعني أراها من فضلك.
فأشار الضابط إلى باب مغلق وقال: تركناها في هذه الحجرة؛ لأنها أغمي عليها حين علمت بأني أرسلت في طلبك بدل أن أطلق سراحها، اسلك سلوك رجل يحترم القانون، واذكر أني مسئول عن الأرواح. إنك رجل محترم ومهذب، فعالج الأمر بالحكمة، لا يصح أن يعلم أحد ممن في النقطة شيئا، ولكن هذا يتوقف على سلوكك أنت، تذكر هذا جيدا.
فكرر قوله في نفس الصوت الميت: دعني أراها من فضلك.
ومضى الضابط إلى الباب المغلق متثاقلا، وفتحه، واقترب حسنين منه كمن يمشي في حلم، وألقى بنظرة من فوق كتفه كمن ينظر ليتعرف على جثة في المشرحة، فرأى لصق الجدار المواجه للباب أريكة ارتمت عليها فتاة قد ألقت برأسها إلى الحائط، عيناها نصف مفتوحتين، ولكنهما مظلمتان لا تريان شيئا، ميتة أو مغمى عليها، أو لعلها في ذهول الإفاقة الأول، وقد التصقت بجبهتها شعرات مبتلة وعلت بشرتها صفرة الموت. لكنها نفيسة دون غيرها! «قلبي لا يكذبني في المصائب أبدا، لو كانت ميتة لادعيت أني لا أعرفها بلا تردد.» ولم تبد حراكا كأنها لم تحس للقادمين وجودا، أو أنها لم تستطع أن تبدي حراكا، ونظر الضابط صوبه متسائلا، ولكن عينيه لم تتحولا عنها، جمد بصره وتحجر، وغشيه ذهول وجد فيه مهربا مؤقتا مما كان ومما سيكون، وخيم عليهم سكون الموت، وانقضت فترة طويلة أو قصيرة، ثم شق الصمت صوت باطني يصرخ في أذنه: «انتهى ...»، وتخايلت لعينيه صورة أمه كما رآها منذ ساعة، واقفة بينه وبين حسن في حيرة يائسة والرجل يتوثب للفرار. ود تلك اللحظة لو يقتحم تجارب الكفر والقسوة والموت؛ «ماذا ينتظر هذا الضابط أن أفعل؟ .. ماذا ينبغي أن أفعل؟ رباه كيف أغادر هذا المكان؟!».. ثم سمع الرجل يقول: لقد قدمت ما عندي من واجب نحوك، فهات ما عندك من حكمة.
فسأله بدوره وهو يتحامى من عينيه: أين الآخر؟!
وأدرك الضابط ما يعنيه، فقال بلهجة لا تخلو من حزم: طبقت عليه الإجراءات وأطلق سراحه.
فغمغم قائلا: لنترك هذا المكان شاكرين.
90
في الخارج لفحه هواء بارد، وكان الظلام قد خيم فابتعد عن نقطة البوليس في خطوات ثقيلة تتبعه هي على بعد ذراع منكسة الوجه، سارا مع قضبان الترام، ولم يكن يدري أين ينتهي به المسير؛ لأنه لم يسبق له المجيء لهذا الحي، ومع أن الليل كان في أوله إلا أن الطريق بدا مقفرا، وتساءل في نفسه ترى أين ينتهي الطريق؟ .. ثم بدا تساؤله آية في الغرابة، فلم يكن المهم أن يعرف أين ينتهي الطريق، ولكن الجدير بالمعرفة حقا أن يعلن ما هو صانع «بها». كان يحسب أنه سيبدأ بالتنفيذ توا بعد خروجه من النقطة، وكانت هي تتوقع هذا، ولكن أقدامهما تقدمت بهما دون أن يفعل شيئا، وكان يشعر بوجودها وراءه في ضيق لا يحتمل، ويسمع وقع قدميها كأنه رصاص في ظهره، ويمحو أول فأول أية رغبة في أن ينظر إلى الخلف، ومع أنه بدا في صمته - ذلك الصمت الهائل الذي وقف حائلا بينهما - وكأنه يفكر تفكيرا متواصلا إلا أنه في الحقيقة كان فارغ الرأس! كان فارغ الرأس بحال مزعجة، لم يردها إرادة، ولكنها فرضت عليه قسرا، وبثت في نفسه إحساسا بالقلق، إحساس من يتلهف على السيطرة على إرادته سيطرة غاشمة ، فلا يجد إلى ذلك سبيلا. واصطدمت قدمه بحجر صغير اعترض سبيله، فانطلقت في صدره شرارة حنق، وكأنها جذبت إليها أفكاره الهاربة في الظلام، وسرعان ما وجد نفسه يتساءل في صمت؛ أيخنقها؟ .. أيحطم رأسها بحذائه؟ .. لا بد لصدره من متنفس! وظل الصمت الجهنمي سائدا، وبينما كان يجمع عزمه لزحزحة هذا الصمت تطوعت هي - وهو ما عجب له - لزحزحته، فسمعها تغمغم في نبرات مرتعشة متهدجة قائلة: لقد أجرمت! إني أعلم هذا .. ولن أسألك غفرانا لست جديرة به.
هل حقا واتتها قواها على الكلام! يا للشيطان! وأحدث صوتها - على ضعفه - زوبعة من الهياج في صدره، زوبعة عمياء طاغية صبت الغضب في أطرافه صبا، فتوقف عن السير والتفت نحوها في سرعة غريبة، وارتفع ذراعه في الهواء وهوى على وجهها كالقذيفة، فتراجعت مترنحة دون أن تنبس ثم سقطت على ظهرها واصطدم مؤخر رأسها بالأرض. لم تنبس بكلمة ولا ند عنها أي صوت، ولكنها جلست على الأرض بسرعة ثم لمت نفسها، ووقفت وأخذت في التراجع حتى ارتكنت إلى جدار بيت، واقترب منها فتراءى لعينيها تصميمه رغم الظلمة التي تظل وجهه، فلوحت له بيدها كأنها تسأله أن يقف، ثم اندفعت قائلة في عجلة وتوسل: قف، لا تفعل، لست أخاف على نفسي، ولكني أخاف عليك، لا أريد أن يمسك سوء بسببي.
وزادته رقة كلامها هياجا على هياج فصاح بها بصوت كالخوار: لا تريدين أن يمسني السوء بسببك؟! .. يا عاهرة لقد صببت السوء علي صبا.
فأعادت بتوسل حار: ولكني لا أطيق أن يسيئوا إليك ولو كان السبب هلاكي. - هذا مكر حقير لن ينفعك في إنقاذ حياتك الحقيرة، هيهات! لن ينالني سوء بقتلك.
فهتفت في حرارة: لا ينبغي أن يمسك عقاب وإن هان، ثم بماذا تجيب إذا سئلت عما دفعك إلى قتلي؟! دعني أقم أنا بهذه المهمة فلا يكدرك مكدر، ولا يدري أحد.
فتسأل فيما يشبه الذهول: تقتلين نفسك؟!
فقالت وهي تلهث: نعم.
شعر فجأة - وقبل أن يتمالك نفسه - بأن حملا ثقيلا تزحزح عن عاتقه وهوى بعيدا. كان مدفوعا بغضب مستعر، وإحساس معذب بالواجب، ولكن العواقب - كذيوع الفضيحة والعقاب - ما فتئت تتخايل لعينيه، فالآن بعد هذا الحكم الذي قضت به على نفسها يسعه أن يسترد أنفاسه وأن يستبين بصيصا من النور في هذه الظلمة الخانقة، وغمغم متسائلا وهو لا يزال مستغرقا في أفكاره: كيف؟
فقالت وهي تزدرد ريقها: بأي وسيلة كانت.
فتفكر قليلا متجهم الوجه ثم قال وهو يرمقها بقسوة: النيل.
فقالت بهدوء: ليكن.
فنفخ حنقا وضيقا، ثم تراجع في تثاقل وهو يغمغم: «هلمي» فغادرت الجدار وتقدمت في خطو ثقيل، ثم دار حول نفسه وواصل السير فتبعته كما كانا! أحس هذه المرة شيئا من الطمأنينة، ولكن غضبه فقد عنصرا كان يعتز به وهو لا يدري، فقد شعورا بالكرامة كان يلازمه وهو مصمم على قتلها بنفسه، فاستحال من شخص يندفع وراء الكرامة، إلى آخر ينشد السلامة. وغص حينا بقهر خانق، ولكنه لم يكن من القوة بحيث يعدل به عما تراءى له من سبيل في النجاة، ولم يكن من الضعف بحيث يتركه في سلام، ونفس عن صدره قائلا في خشونة: كيف فعلت هذا؟! .. أنت؟! .. من كان يتصور هذا!
فتنهدت قائلة في استسلام اليأس: أمر ربنا.
فصاح مزمجرا: بل أمر الشيطان.
فقالت بنفس الصوت المتنهد: نعم.
فتردد لحظة ثم تساءل: من هو؟
فسرت في جسدها رعدة وقالت بذل: لا تعذب نفسك ولا تعذبني، سينتهي كل شيء في لحظات. - أكان يعرفني؟
فقالت بعجلة وتوكيد: كلا.
فتردد مرة أخرى وقد تضاعف عذابه ثم تساءل: أول مرة؟!
فعاودتها الرعدة، بيد أنها قالت بتوكيد أيضا: نعم.
فضرب الأرض بقدمه وصاح بها: كيف استسلمت للغواية؟
فغمغمت في عذاب صامت: أمر الشيطان. - أنت الشيطان .. لقد قضيت علينا.
فهتفت في رجاء: كلا .. كلا .. سينتهي كل شيء الآن، ولن يدري أحد. - أتعنين ما تقولين؟ - طبعا. - وإذا ساورك الخوف! - كلا، إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت. - وعادا إلى الصمت وكلاهما يشعر بجهد ونصب، ومضى يمد البصر مع قضبان الترام في حيرة، ثم سألها بلهجة ساخرة: إلى أين نحن ذاهبان ؛ فلعلك أدرى بهذا الحي مني؟
ولم تجب، ولكن تقبضت أساريرها من الألم، ثم لاح لهما ميدان الظاهر فتراءت لعينيهما آثار الحياة والعمران، وترامت لأذنيهما أصوات الأحياء، وجعل ينظر في قلق حتى ثبتت عيناه على صف من التاكسيات فمضى إلى مقدمها، وفتح لها الباب فدخلت ثم دخل وراءها. وفكر قليلا والسائق ينتظر أوامره، ثم قال له بصوت منخفض: جسر الزمالك من فضلك.
91
انطلقت السيارة بسرعة إلى شارع فاروق في طريقها إلى العتبة ثم إلى إمبابة.
كانا يجلسان كغريبين، أما هو فقد ألقى ببصره إلى الطريق خلال النافذة، موليا إياها نصف ظهره، وأما هي فقد خفضت رأسها وغابت في ذهول عميق. لم يكن في رأسها شيء، أو شيء ذو بال، كأنه السكون الذي يعقب عاصفة هوجاء، أو جمود الموت بعد نزع أليم. وقد بلغ بها الهياج ذروة الجنون قبل أن تسقط مغمى عليها، وبعودتها إلى الوعي تكالبت عليها الأفكار المفزعة، واستعرضت عيناها شريط حياتها في رعب جهنمي حتى أثقلت الهموم رأسها فانحنى على صدرها كما ينحني رأس من سدت في وجهه منافذ الحياة تحت جدار منهار، وبعد ما كان من الانهيار الكامل وظهور حسنين، وما كان بينهما في الطريق، شعرت بأن كل شيء قد انتهى، وأخلى الهول مكانه من رأسها، تاركا وراءه فراغا صامتا، فلم يعد به شيء، أو شيء ذو بال إلا أن تكون ذكرى بعيدة من ذكريات الصبا، أو منظر مما ينعكس على عينيها من أرض السيارة. بيد أنها كانت تكابد تجربة جديدة لا عهد لها بها من قبل؛ إذ هانت عليها الحياة حقا، بالفعل لا بالقول، هانت الهوان الذي يجعل من الموت نجاة، أجل! طالما تذمرت فيما مضى من حياتها وسخطت، حتى تمنت الموت أحيانا، ولكنها لم تسع إليه مع ذلك لأنه كان ثمة أمل في الحياة يدب متواريا في أعماقها. الآن تقطعت بها عن الدنيا الأسباب، واقتلعت الجذور التي تشدها للبقاء، ووجدت مع هذا اليأس العميق راحة زحزحت عن كاهلها الأعباء، فلم تعد تفكر في شيء ذي بال ، ورمقت الموت الذي تنهب الأرض إليه باستسلام كأنه التخدير. وقد دارت السيارة حول منعطف وهي منطلقة في سرعتها، فارتجت الفتاة في مجلسها وتنبهت إلى ما حولها فيما يشبه الفزع، ومع أنها ظلت منكسة الرأس إلا أنها أحست بوجوده إلى جانبها، وتراءى شبحه الجاثم عن يمينها للحظها في غموض فتقبض قلبها ألما وخزيا؛ «ترى فيم يفكر؟ ألا يجد غير البغض والغضب؟ متى يمسي كل شيء وقد انقضى؟ هذه هي النهاية الوحيدة، ترى هل تحدس أمي الحقيقة؟ لا داعي للتفكير، إني ميتة!»
ولبث حسنين مضطربا متوتر الأعصاب يتجاذبه الغضب واليأس والرهبة! «كيف تنتهي هذه المحنة؟ وكيف أخرج منها؟ .. أيمكن حقا أن يسدل عليها الستار دون أن تفوح منها رائحة حرية بأن تجعل من هذا العناء كله عبثا لا طائل تحته؟ إني أختنق. إن الماضي لا ينمحي، ولكنه يسابق مستقبلي، لماذا لا نعيش بلا مبالاة؟ قضي الأمر، ولا داعي للتفكير في هذا، لا داعي للتفكير مطلقا، ما أشد عذابي! كيف أتغلب على هذه التعاسة كلها؟! مهلا، إني أسوقها إلى الموت، وهي تعلم أنها تساق إلى الموت، ترى هل تواتيها القدرة؟ لا شك أنها تفكر الآن تفكيرا متواصلا، ولكن فيم تفكر؟ لا ينبغي أن أفكر فيها. الموت خير نهاية لها، لا يمكن أن تلتقي عينانا؛ فهو فوق ما أحتمل وفوق ما تحتمل هي، الأمر يتعلق بأختك، آه! قاتل الله هذا الضابط؛ يؤسفني أن أخبرك أنها ضبطت في بيت بالسكاكيني! من يتصور هذا! وليس الموت بنهاية، ولكنه بداية لتعاسة أخرى تنتظرني في البيت. حتى متى أواصل هذا التفكير؟ أية مدخنة هذه؟ لعله مصنع، نحن نقترب من جسر أبي العلاء، هذه المدخنة تنفث دخانا أسود كثيفا، لو تحترق أفكاري وتذوب في أنفاسي لزفرت أقذر منه. لا أريد أن يمسك سوء بسببي، صدقت، يجب أن تهلكي وحدك! متى يطوى الطريق؟!»
وعبرت السيارة جسر أبي العلاء فاندفعت إلى داخلها موجات غامرة من هواء بارد رطب مشبع بأريج النيل، فاستقبله الشاب بترحاب من يصلى نارا حامية، على حين سرت في أطرافها رعدة بثت في حناياها خوفا غامضا، ودام لحظات ثم ارتدت بعده لحالها الأولى من الاستسلام والجمود واليأس. وضاعفت السيارة من سرعتها حتى شارفت جسر إمبابة فخفت قوة اندفاعها رويدا، ثم التفت السائق نحو حسنين متسائلا، فقال له هذا بصوت منخفض: «قف.» ودفع له حسابه وغادر السيارة، فغادرتها أيضا من الباب الآخر، وما لبث التاكسي أن عاد من حيث أتى، فوجدا نفسيهما وحيدين على كثب من مدخل الجسر. وكانت المصابيح المقامة على جانبي الجسر تشع نورا قويا أحال ظلمته نورا، بينما أطبق الظلام على ضفاف النيل بطول امتداده شمالا وجنوبا - رغم المصابيح المتباعدة الخافتة - فبدت الأشجار المتراصة على جانبيه كأشباح عمالقة، وكان المكان مقفرا إلا من مار مسرع هنا أو هناك، وقد تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كف هبوبها تعالى هسيس النبات كالهمس. لازما موقفهما في جمود كالذهول، ثم استرق إليها نظرة فرآها مقوسة الظهر قليلا منكسة الرأس، غير أن منظرها لم يلق من صدره إلا قلبا متحجرا ونفسا خنق الهم فيه كل رحمة. وثار حنقه على جموده فجأة فقال بغلظة: أأنت مستعدة؟
فغمغمت بصوت غريب لا عهد له به: نعم.
ونفذ الجواب على بساطته إلى أعماقه فلم يعد يطيق موقفه، وتزحزح عنه في خطو ثقيل، وقبل أن يبتعد عنها ذراعين سمعها تقول بتوسل: لا تذكر إساءتي!
فند عنه صوت غليظ وهو يوسع خطاه كالهارب قائلا: فليرحمنا الله جميعا.
تركها وحدها حيال الجسر، وهدف إلى الطوار الممتد إلى يمين الجسر على شاطئ النيل، ثم جد في المسير، حدثته نفسه بالهرب ولكن قوة غشوما جعلت تجذبه إلى الوراء، وخارت مقاومته عند شجرة صفصاف ضخمة الجذع على بعد ثلاثين مترا من مبدأ الطوار فتوارى وراءها في إعياء وأرسل الطرف نحو الجسر، ولاح له الجسر كتلة صماء متوهجة بأنوار المصابيح تمسك من طرفيها بالشاطئين في عناد وتصميم كأنه وحش يغرز أنيابه في فريسته، وعند رأس الجسر، وعلى الجانب المواجه له، رآها تتحرك في خطو ثقيل خافضة الرأس، يعلوها جمود غريب كأنها تمشي في سبات، رآها في وضوح تام تحت الأضواء المشرقة فثبتت عيناه على جانب وجهها المنعكس وهي تقطع الأرض قدما قدما، حتى بلغت المنتصف فتوقفت عن السير، ورفعت رأسها، وأجالته فيما حولها، ثم استدارت نحو السور وألقت ببصرها إلى الماء المصطخب الجاري، وجعل يكتم أنفاسه، ويزدرد في تشنج ريقه الجاف وهو يترقب، ولكن ظهر في تلك اللحظة عند الطرف الآخر من الجسر رجلان ومضيا يقطعان الجسر في سرعة وهما يتحدثان، ثم لاح الترام القادم من إمبابة وهو ينعطف نحو الجسر ممزقا الصمت بعجيجه، فاسترد الشاب أنفاسه، ولكن إلى حين قليل، وسرعان ما ركبه القلق والضيق، وكان قلبه يخفق بعنف حتى خيل إليه من شدة وقع النبض في أذنيه أن العالم الخارجي يسمع دقات قلبه. ثم مرت به لحظات فتوهم أنه يشهد منظرا غريبا عنه لا شأن له به، ولكنها كانت لحظات ثم انقضت وغلبته الرهبة على ما في نفسه جميعا، فلم يعد يستشعر حقدا ولا غضبا، ثم اعتركت الأفكار في رأسه في ثوران فشعر في حيرته بأنه يروم حل مسألة معقدة غامضة، ولكن لا قدرة له على حلها، أو ليس لديه فسحة من الوقت للتفكير فيها؛ فهو منها في حيرة أي حيرة! وفي أثناء ذلك كان الرجلان قد عبرا الجسر، وسبقهما الترام إلى الطريق، وما زالت الفتاة تحملق في الماء، ونظر هنا وهناك فلم ير أثرا لإنسان، وتجمعت نفسه في لحظة ترقب مليئة بالفزع والرعب. رآها تعطف رأسها يمينا وشمالا. وبغتة، وفي حركة سريعة يائسة تسورت السور، وزلزل قلبه وهو يتابع حركتها وجحظت عيناه، لا يمكن .. ليس هذا .. أما هي فألقت بنفسها، أو تركت نفسها تهوي، وقد انطلقت من حنجرتها صرخة طويلة كالعواء تمثل لعيني المبتلى بسماعها وجه الموت، فجاوبها بصرخة فزع ولكنها ضاعت في صرختها. شعر وهي ترمي بنفسها أن بوسعه أن يجد للمسألة المعقدة التي تحيره حلا، ولم يكن الحل فيما فعلت بنفسها، كان يمكن أن تكون نهاية أخرى، وكأنما حاول أن يستدرك الخطأ بصرخته، ولكنها ضاعت، ثم صك مسمعيه اصطدامها بالماء فندت عنه صرخة أخرى.
92
وثب إلى منحدر الشاطئ، وعيناه تحملقان في المكان الذي ابتلعها تحت الجسر، ثم جمد في موقفه لا يدري ماذا يفعل، أو لا يدرك ماذا يريد، وظل على جموده يكاد محجراه أن يلفظا عينيه من شدة الحملقة. وتوقع مرات أن تطفو على ظهر الماء ثم أدرك أن النيل المندفع إلى ما تحت الجسر لا بد أن يكون قد جرفها معه؛ فلعلها تتخبط في جوف الجسر أو تغوص فيما يليه من النهر، ومر بخاطره أن ينزع سترته ويقذف بنفسه وراءه لعله ينتشلها، ولكنه لم يحرك ساكنا، ووجد لهذه الخاطرة ما يشبه السخرية المريرة، فازداد جمودا وشعر بأنه لم يعد لعقله سيطرة عليه. وما يدري إلا وصوت من وراء يسأله باهتمام محسوس: أسمعت صرخة؟
فالتفت إلى الوراء فرأى شرطيا تنم حركاته على الاهتمام فقال له في ذهول: نعم، لعله غريق.
وجعل الجندي يحدق في الظلام فوق النهر ثم حث خطاه نحو الجسر. وأعاده الجندي إلى شيء من وعيه فتراجع إلى موقفه الأول، ولم يعد في طاقته أن يضبط نفسه فاندفع عدوا صوب الجسر، ثم عبره إلى سوره المطل على الناحية الأخرى من النهر، وألقى ببصره إلى التيار المتدفق. وما لبث أن رأى آثارا للحادثة لا تخطئها العين، رأى قاربا يشق الماء بسرعة قادما من الشاطئ الأيسر نحو وسط النهر، ويسمع أصوات استغاثة وصراخا آتية من الشاطئ البعيد. وكان سطح النهر فيما يلي الجسر مضاء بما ينعكس عليه من أنوار المصابيح فتصفحته عيناه هنا وهناك، ولكنه لم يعثر على ضالته. ثم تبعت عيناه القارب الذي أخذ يقترب من الوسط شاقا سبيله في الرقعة المضاءة، ثم اندفع مع التيار حتى خرج عنها إلى الظلام. ووجد نفسه يتساءل «ترى هل يفوز القارب في سباق الموت هذا؟» ولم يستبن حقيقة مشاعره، أو لعله هرب من باطنه بتركيز حواسه في القارب فتابعه حتى رآه يتوقف عن التجديف، ثم رأى شخصا يقفز منه إلى الماء، على حين تعالت أصوات الباقين بالقارب . هذه هي اللحظة الفاصلة، وتتابع خفقان القلب حتى جف حلقه، وحاول عبثا أن يرى شيئا خلال الظلمة التي لفت القارب أو أن يميز كلمة معبرة في هدير الأصوات المختلفة، ثم كل منه البصر فلم يعد يرى شيئا وكأنه عمي، وأخذ يتنبه - دون التفات - إلى تجمهر خلق كثيرين حوله، ثم سمع أحدهم يقول: القارب يعود إلى الشاطئ؛ فلعله انتشل الغريق.
وتمشت في أوصاله رجفة وتساءل: «ترى أنجت أم هلكت؟ أذهب أم أفر؟!» ولكنه تحول عن موقفه وسار في اتجاه الشاطئ الذي يقصده القارب مدفوعا برغبة لا تقاوم في تعذيب نفسه إلى أقصى حد، ولم يعد السير ليسعف جزعه فأطلق ساقيه للريح وعيناه تسبقانه إلى بقعة من الشاطئ تجمهر عندها كثيرون، وبلغها والقارب يرسو إلى الشاطئ، فدنا من المتجمهرين بساقين متخاذلتين واندس بينهم وأطرافه ترتجف على رغمه، ثم ألقى بعينين متحجرتين إلى القارب الذي اكتنفه ستار خفيف من الظلمة. وكان يقف غير بعيد منه ضابط النقطة المواجهة للشاطئ ونفر من الشرطة. ثم بدت أشباح الرجال وهي تنتقل من القارب إلى الشاطئ حاملة بينها الغريق فصاح بعض المتجمهرين: هل نجا من الغرق؟
وأرهف السمع ليتلقى الجواب، ولكن لم ينبس أحدهم بكلمة، ومضوا يرتقون منحدر الشاطئ في شيء من الجهد والأعين محدقة بهم حتى ميزت حقيقة الحمل، فصاح بعضهم في ارتياع: إنها امرأة يا ولداه!
وتساءل آخر: كيف غرقت؟
فصاح غلام: رمت بنفسها من فوق الجسر فرأتها زوج النوتي واستصرخت زوجها لإنقاذها.
وجعل حسنين يتبعهم ناظريه في طائف من الغرابة والذهول، فلم يدر كيف يصدق أن هذه هي أخته وأن أحدا لا يعلم بهذه الحقيقة، وأنه لا يفعل شيئا إلا أن يقف بينهم كالغريب المستطلع، وبلغ الرجال طوار الطريق، وسرعان ما نشطوا إلى عملية الإسعاف ليفرغوا ما في جوفها من ماء. وقد أمر الضابط العساكر بتشتيت المتجمهرين، ولكن أحدا منهم لم يتعرض لحسنين، فلبث بمكانه جامدا لا يطرف، لا تتحول عيناه عن الجسم المقوس الذي تعبث به أيدي الرجال الغليظة، وانتبه الضابط إليه فاقترب منه وحياه بإيماءة من رأسه وسأله: أشهدت الحادث؟!
فخرج الشاب عن ذهوله في انزعاج ولكنه أجاب بعجلة: كلا.
وأنام الرجل الفتاة على الأرض وجثا أحدهم إلى جانبها ثم جس نبضها، وألصق أذنه بصدرها فوق القلب، ثم رفع رأسه قائلا: صعد السر الإلهي إلى بارئه، لا حول ولا قوة إلا بالله.
وعاود الشاب إحساسه بالغرابة، وغلبه الإحساس على ما عداه، فلم يشعر لا بحزن ولا بارتياح، ولم يتحرك فكره لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، كأنه لم يطق هذا الفراغ المخيف فركز انتباهه في الجثة الراقدة غير بعيد من قدميه، جرى بصره عليها، وقد تبعثر شعرها والتصقت خصلات منه بخدها وجبينها، وران على الوجه جمود صامت لا يبشر بيقظة، وعلته زرقة مروعة، وخيل إليه أنه يرى أخاديد دقيقة حول الفاغر والعينين، كأنها تقلصات العذاب الذي كان آخر عهدها بالدنيا، أما الفستان المشبع بالماء فقد لزق بالجسد وتلوثت أهدابه بتراب الأرض فتطينت، وبدت قدم ما تزال ممسكة بفردة حذائها والأخرى في جوربها. ورجع بصره إلى وجهها فجاش صدره وامتلأ فراغه باضطراب وثوران؛ «لماذا أضطرب هكذا؟ ألم أقتنع حقا بأن هذه هي خير نهاية! ألم أسقها إلى الموت بنفسي؟ ينبغي أن تطمئن نفسي، بيد أنني أتساءل عما داخلها من شعور وهي تهوي إلى الماء، وكيف تلقى جسمها النحيل صدمة الماء الغليظ، وماذا دار بذهنها وهي تتخبط بين أمواجه، وأي جهد وجدت والطمي يكتم أنفاسها، وأي عذاب ذاقت ورغبة الحياة تثب بها إلى سطحه فيشدها باطنه إلى الأعماق؟! إن محاولة الغريق اليائسة للنجاة أشبه بأحلام الشقي بالسعادة؛ كلتاهما أمنية ضائعة. أتراها تراني الآن من عالمها الآخر؟ أراضية هي أم غاضبة أم ساخرة؟! ماذا ترى في موقفها هذا؟ لماذا وقع هذا كله؟» وذكر بغتة أمه فحجبت صورتها الجثة عن عينيه، وهز رأسه كأنما ليطردها عن مخيلته، وصمم بقوة على أن يتحامى التفكير فيها، وعاد بانتباهه المحموم إلى الجثة، وعلى رغمه وجد نفسه يتذكر أيادي الفتاة عليه؛ ما كانت تكن له من حب وما جادت به من كرم، فما كان يخطر لها ببال أن تكون نهايتها على يديه، وشعر بإعياء وقنوط، وتساءل في جزع: «لماذا هذا كله؟!» وأغمض عينيه لأنه لم يعد يطيق النظر إليها. كان رأسه محموما، وغيض الهم كل رغبة في الحياة في قلبه، وانقلب وجه الدنيا في عينيه كهذا الوجه الأزرق الناطق بالعدم، وقال لنفسه وهو يتنهد من الأعماق: «رباه! لقد قضي علي.» وسمع عند ذاك صوت الضابط وهو يأمر الشهود بالذهاب معه إلى النقطة، ثم رأى الجثة تحمل ورأى القوم يمضون بها إلى الجهة الأخرى من الطريق فأتبعهم طرفه حتى حال الظلام بينه وبينهم. وفي أقل من دقيقتين وجد نفسه وحيدا يكتنفه حفيف الأشجار التي تكاد تطبق أغصانها الغليظة الملتوية على البقعة كلها، وتراجع في تراخ وترنح حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة وراح فيما يشبه السبات وكأنه يتردى في هاوية معتمة، ليس بها بارقة أمل؛ «قضي علي، كنا جميعا فريسة للشقاء فما كان ينبغي لأحدنا أن يعين الشقاء على أخيه، ماذا فعلت؟ إنه اليأس الذي فعل، ولكني قضيت عليها بالعقاب الصارم، أي حق اتخذت لنفسي! أحق أني الثائر لشرف أسرتنا؟! إني شر الأسرة جميعا. حقيقة يعرفها الجميع، وإذا كانت الدنيا قبيحة فنفسي أقبح ما فيها. ما وجدت في نفسي يوما إلا تمنيات الدمار لمن حولي، فكيف أبحث لنفسي أن أكون قاضيا، وأنا رأس المجرمين! لقد قضي علي.» وألقى نظرة على ما حوله في حيرة وخوف؛ «أين أذهب؟ أيمكن أن أمرق من هذه المحنة كما مرقت من غيرها من قبل؟ .. لشد ما تهزأ بي الأماني! لا تبال، حسن .. ولكن هل يسعك هذا؟ احمل نفسك بشرها وانشد النسيان ثم السعادة، ها ها. إني أعبث بنفسي بلا رحمة! طالما أحببت أن أمحو الماضي، ولكن الماضي التهم الحاضر، ولم يكن الماضي المخيف إلا نفسي، لماذا لا أواصل الحياة بهذه الأعباء؟ لا أستطيع، كان ينبغي أن أحب الحياة إلى النهاية، ومهما يكن من أمر، ولكن في طبيعتنا خطأ جوهري لا أدريه، لقد قضي علي!»
واستوى واقفا ؛ إما لأنه ضاق بمسنده، وإما لأنه وجد حافزا جديدا، وابتعد عن الشجرة وهو يلقي نظرة الوداع على نقطة البوليس، ما في شعوره إلا السأم والنزوع إلى الهرب؛ «لا أريد أن يمسك سوء بسببي. أمر ربنا. أمر الشيطان. النيل. ليكن. وإذا ساورك خوف. كلا، إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت. أأنت مستعدة؟ لماذا تغيب الملازم حسنين، ألم يرسل خطاب اعتذار؟ رأيت صاحب هذا الوجه عقب انتشال الجثة وسألته هل شاهدت الحادثة وكان مذهولا.» وبلغ الموضع نفسه من الجسر، فارتفق السور وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب. وأخلى رأسه من الفكرة. «إذا أردت هلم. لن أصرخ. فلأكن شجاعا ولو مرة واحدة. ليرحمنا الله!»
نامعلوم صفحہ