فسألته بعد تردد: امرأة؟
فضحك ضحكة قصيرة وقال: نعم. - زواج؟
فضحك مرة أخرى وتمتم: كلا.
ولم ير في الظلام ما ارتسم على وجهها من أمارات الامتعاض، ولكنها كانت قد يئست منه من زمن بعيد، فأعفت نفسها من لومه أو نصحه، بيد أنها سألته باهتمام وحرارة: أليس رزقا شريفا؟
فقال بلهجة مطمئنة وتوكيد: بلى، لا تشكي في هذا، إننا نحيي أفراحا كثيرة، ونغني في المقاهي والصالات.
43
وانقضى عام آخر، وواصلت الحياة سيرها لا تلوي على شيء، ومضى كل فرد من أفراد الأسرة في سبيله بما يلقى من خير وشر! ولو أتيح للأب أن يعود إلى الحياة لأزعجته الدهشة لما طرأ من تغير على أسرته؛ شمل الأرواح والأجساد والصحة ونظرات الأعين، ولكن كان حتما سيعرفهم، سيعرف أن المرأة هي زوجه وأن الأبناء أبناؤه، أما الذي كان ينكره ولا يعرفه مهما أجهد ذاكرته فهو البيت؛ اختفى الأثاث أو كاد، فلم يبق بحجرة الاستقبال إلا كنبة وبساط باهت ناحل، كان مفروشا بحجرة نوم الأم ، ثم وضعوه بحجرة الاستقبال بعد بيع سجادتها، واقتصرت غرفة الأم على كنبتين تستعملان نهارا للجلوس وليلا للنوم، وخلت الصالة - حجرة السفرة قديما - فبيع البوفيه والمائدة والكراسي، وانتهى بهم الحال إلى تناول طعامهم على صينية مقتعدين الأرض، بل بيع فراش حسن، ولولا الضرورة القصوى لبيع الفراشان الباقيان! كانت حياة شاقة عسيرة، ولولا حزم الأم وحسن تدبيرها، لما نهض المعاش، وكسب نفيسة القليل بضرورة المسكن والمأكل. أما حسن فلم تتعد معونته لأسرته زيارات متباعدة كانت للأسرة بمثابة المواسم، يطيب لها فيها الطعام والأمل، وربما ابتاع لأمه من آن لآخر جلبابا أو منديلا أو بعض الثياب الداخلية، وفيما عدا هذه الأويقات فلم يكن يراه أو يسمع به أحد. وكان يعتذر لأمه بمشاق الكفاح وقلة الرزق، ولم يكن في اعتذاره غلو دائما، والحق أنه وجد الحياة أشق مما كان يتصور، كان يغني في تخت علي صبري، وينبري للعراك إذا دعا الداعي، ويتجر بالمخدرات في حدود ضيقة، وفي حوزته امرأة لا بأس بجمالها ونقودها، ولكن ظل كسبه دون ما كان يحلم به بكثير، فضلا عما أوجبته حياته عليه من الإنفاق السخي ليظفر بقلوب أعوانه، وليظهر بالمظهر اللائق به، وكان النزاع بين ضروريات حياته وأنانيته من ناحية، وحبه لأسرته من ناحية أخرى لا يهدأ بنفسه؛ يتغلب ذاك حينا، ويتغلب هذا في أغلب الأحيان، يمسك يده مستسلما لتيار حياته الجارف، ثم يجود بما في طوقه، ويتمنى كثيرا لو يرد أسرته إلى سابق عهدها بالحياة، ثم ينسى أسرته في خضم مغامراته، ثم يعود إلى تذكرها في ندم وألم، وهكذا إلى غير نهاية. ومهما يكن من أمره فلم تجد فيه الأسرة الرجل الذي يقيل عثرتها أو يأخذ بيدها، وإن تنسمت في زياراته نسائم الترفيه والراحة. الأم وحدها كانت عصب حياة الأسرة، وفي سبيل الأسرة انهد حيلها وهرمت في عامين، كما لم تهرم خلال نصف قرن من الزمان، فنحلت وهزلت حتى استحالت جلدا وعظاما، بيد أنها لم تسلم للمحنة، ولم تعرف الشكوى، ولم تتخل عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة. وكانت تعمل النهار كله، تطبخ وتغسل، وتكنس وتمسح، وترتق وترفو، وترعى ابنيها خاصة؛ تراقب لهوهما، وتحثهما على العمل، وتفض نزاعهما التافه، وتكبح من نزواتهما، خصوصا طفلها المتقلب حسنين. وبين هذا وذاك تعكف على التفكير في الحاضر والمستقبل، وتجتر كثيرا من الآلام التي تبعثها في نفسها ابنتها نفيسة في تجوالها الدائم بين بيت وبيت، تعمل كثيرا وتربح قليلا، وتواصل سعيها في مشقة ويأس، لشد ما تتجرع غصص الألم في سكون متجملة بصبر لا يهن، لائذة بإيمان لا يتزعزع، متشبثة بأهداب أمل لا بد أن يتحقق وإن طال انتظاره. وبفضلها عرف الشقيقان سبيلهما، فلم يحد أيهما عن جادته، وأمكنهما - على ما يكتنفهما من تقشف وحرمان - أن يواصلا اجتهادهما في مثابرة تدعو للإعجاب. وكان حسنين يعد ما يلقاه من ظروف العيش أهون مما يجد في حبه من حرمان، ولكن فتاته لم تكن دون أمه عنادا، فأرغمته على الرضا بحب ظاهر متقشف لا يستسيغه طبعه الحامي، وأوشكت الحياة الخاصة أن تلهي الشقيقين عما انتاب حياة الوطن في تلك الفترة من التطورات الهامة. والحق أن حسين لم يبد اهتماما يستحق الذكر بالسياسة العامة، ولعل حسنين كان أكثر اهتماما بالسياسة من أخيه، ولكن ليس إلى القدر الذي يجعل منه تلميذا سياسيا، واقتصر اهتمامه في الغالب على النقاش الحزبي أو الاشتراك في المظاهرات السلمية، وكانت الأم أيضا الحائل بين ابنيها وبين الاشتراك في الحياة السياسية، فلم تكن لتفقه حرفا في السياسة، واستغرقت الأسرة مشاعرها فلم تترك نصيبا للوطنية، ولما ذاعت الأخبار المحزنة عن ضحايا المظاهرات من الطلبة أصابها الفزع، وراحت تقول مخاطبة الشابين: قتلوا يا ولداه! فهل تغني عنهم السياسية أو المظاهرات؟! فجعوا أهليهم وخربوا بيوتهم وضاعوا هباء.
وقال لها حسنين منفسا عن شعور مكبوت لتخلفه عن الثائرين: إن الأوطان تحيا بموت الأبطال.
فرمته بنظرة صارمة فخفض عينيه، وقد عدل عن مواصلة حديثه الحماسي. ثم جدت أحداث فتكونت الجبهة الوطنية، وشرع في المفاوضات، وانتهت المفاوضات إلى الاتفاق، وسرى في البلد ارتياح عام، وحينذاك عاد حسنين إلى حديثه، وكان أجرأ على أمه من أخيه، فقال لها يوما: أرأيت أن الأرواح التي زهقت لم تذهب تضحياتها عبثا؟
ولم تغضب هذه المرة لشعورها بأن الخطر قد زال، وحل محله السلام، ولكنها لم تنثن عن رأيها فقالت: هيهات أن يعوض شيء عن هلاك روح شابة.
نامعلوم صفحہ