وغادر حسن موقفه في ثبات وهدوء، واقترب من الزنجي بخطو وئيد حتى وقف أمامه، ثم قال بهدوء: سلام عليكم!
فرفع الزنجي عينيه الملتهبتين صوبه في تكبر، وتفحص جسمه الصلب، وعينيه البراقتين بريبة وشر، ثم عبس في حنق فاستحال وجهه هيئة غير آدمية وصاح به: وعليك وعلى أمك اللعنة، ماذا تريد؟
وحافظ حسن على هدوئه الظاهري، وقال بنبرات واضحة: سمعتك تهتف طالبا كونياك، فرأيت من واجبي أن أخبرك أن الدفع هنا مقدم.
فسحب محروس ساقيه من الكرسي أمامه، وأغرق في ضحك طويل مفتعل، وهو يضرب على ركبته من شدة الانفعال، ثم أخذ يهدئ من انفعاله حتى ذهب عنه الضحك، ورمى ببصر هازئ إلى الشاب، وتساءل ساخرا: حامي القهوة؟ هه!
فقال حسن بهدوء: وأحب أن أقول لك أيضا إن هذه المعاملة خاصة بالزبائن غير المحترمين.
ومرت ثوان، وفي أثنائها كان الزبائن القريبون يتدافعون إلى خارج القهوة، وامتلأ الطريق فيما يلي مدخل القهوة بالمارة والنسوة من كل لون وسن، على حين نشط عمال المقصف إلى إخفاء القوارير وما يخافون عليه التلف من الأكواب والآلات الموسيقية وغيرها، وجمد محروس وعلى شفتيه الغليظتين بسمة هازئة، ثم دفع قدمه بغتة بقوة فأصابت ساق حسن اليسرى فمال مترنحا إلى الوراء، كان يراقبه بيقظة وحذر، بيد أنه ركز انتباهه في يديه متوقعا أن يقذفه بشيء أو يشهر عليه خنجرا، فلم يتنبه إلى قذيفة قدمه حتى كانت منقضة عليه، فانكمش متماسكا، وتفادى بهذا من السقوط، ولكنه مال إلى الوراء مترنحا وهو يعض على نواجذه ليتغلب على الألم الذي بعث جنون الغضب في دمه، ولم يدعه الزنجي ثانية واحدة فوثب عليه كمن يثب إلى الماء، وخاف حسن أن يؤخذ فريسة سهلة فأمسك عن مقاومة الميل إلى الوراء وقفز إلى الخلف بسرعة عجيبة فاصطدم بجدار القهوة زائغا من خصمه الجبار ، ولم يسمح له الزنجي بثانية يتمالك فيها توازنه فانقض عليه موجها ضربة إلى بطنه فحال الآخر دونها بيديه، ولكنها كانت ضربة خادعة قصد بها محروس أن يكشف خصمه عن عنقه، وبسرعة البرق قبض بيدين حديديتين على رقبته، وضغط بوحشية ليكتم أنفاسه. وبدا للجميع أن المعركة في حكم المنتهية، ودارت الأرض بعلي صبري، وابيضت وجوه رجال التخت والعمال، وتبادلوا نظرات زائغة لا تخلو من دعوة إلى العمل. ولكن أحدا منهم لم يحرك ساكنا، أما الفتيات فشرعن في الصوات استقبالا للجثة التي ستقع. وتأكد حسن بعد تمكن خصمه من عنقه - وفي بدء غيبوبته - بأنه لا قبل له بفك الحصار القاتل، وأنه مائت لا محالة إذا توانى، فعض على نواجذه وشد على عضلات رقبته ليركز فيها قوته، ثم ثنى ساقه اليمنى وطعن أسفل بطن خصمه بركبته بكل ما تبقى فيه من قوة، وشعر في اللحظة التالية بتراخي قبضة الزنجي حول رقبته، فاستطاع أن يتنفس وهو يرتجف حقدا وحنقا، ثم ثناها بطعنة أخرى، حدث هذا كله في نصف الدقيقة الأولى لمحاولة كتم أنفاسه، وانفك الحصار، وتراجع محروس بوجه تنعقد في عبوسته الضغينة، وعينين تغشى نظراتهما الحمراء سحابة ذهول قاتمة، ولم يضع حسن وقتا مطمئنا إلى سيطرته على الموقف، فانقض على خصمه الذي بذل مجهودا جبارا للتغلب على ألمه ونطحه بجبهته بقوة خارقة في رأسه مرة أخرى، فكان لاصطدامهما طقطقة تقشعر لها الأبدان، دون أن يثنيه عن هدفه ما كال له الآخر من لكمات مزلزلة، وتفجر الدم من رأس محروس، وسال على وجهه كأنه لهب ينبعث من قطران، وبدا وكأنه يترنح من دوار، وتغلب حسن على آلام ساقه وعنقه وصدره، ووجه لعنق خصمه المكشوف ضربة من حافة كفه - كالسكين - فشهق الزنجي وسقط على الأرض غائبا عن الوجود! وقف حسن عند رأس خصمه وصدره يعلو وينخفض، تهزه نشوة الظفر، وتهرس عظامه آلام قاسية أخذ صراخها الباطني يتعالى بعد زوال الخطر. ولعله لو غابت الأعين لارتضى أن يرتمي إلى جانب خصمه، ولكن أقام ظهره الأبصار المتطلعة إليه ، فتجلد وتماسك، وانثال على أذنيه صراخ وغوغاء وضجيج، وشعر بحركة غريبة تسري في القهوة كلها، ثم أحس بيد توضع على كتفه ورأى الأستاذ علي صبري يبتسم إليه بوجه تعلوه صفرة الموت، وسمعه يهمس في أذنه: تعال معي أقدم لك كأسا من الكونياك.
فسار معه دون أن ينبس، وجلس على كرسيه على منصة التخت، وجاء الرجل بكأس مترعة فتجرعها، وطلب أخرى فأحضرها له، ثم قال بإشفاق: لشد ما تعبت!
فغمغم حسن بثقة: كانت معركة لا بد منها.
وجاء النادل يقول ضاحكا: أطلق الناس عليك لقب «الروسي» لأنك صرعته برأسك!
وشعر حسن برغبة في تحاشي الأنظار، فقال لعلي صبري: دعنا نمح أثر المعركة، فابدأ الوصلة الثانية.
نامعلوم صفحہ