فقالت بصوت بارد: لا .. لا .. لا داعي لهذا. - الله يسامحك، أنسيت؟ أنسيت حقا؟! لا يجوز أن نموت في فترة الانتظار، لا أحب الانتظار ...
أليس الانتظار خيرا مما فعلت بنفسها؟ بلى، كلا، بلى، كلا، بلى بلى، كلا كلا، بلى بلى بلى، كلا كلا كلا. وتنهدت في حيرة، وعاودها شعور اليأس الذي ألفته، ولكنها قالت: لا أحب الانتظار مثلك، ولكني لا أحب هذا أيضا.
فقال بمكر: كاذبة، تحبينه وتحبينه، هل نسيت ...؟ محال. - لا أذكر شيئا. - لن أنسى ما حييت! أنت غاية في الحرارة والحياة، كأن حرارتك لا تزال تلفحني. - هس، أنت مجنون ولا شك! - مهما يكن من أمر فسنجد حتما طرقات خالية مظلمة. - حذار، بصرك ضعيف كأبيك، وقد تحسب الطريق خاليا والشرطي أمامك! - البركة في عينيك أنت.
ثم قال متنهدا بعد لحظة صمت: متى يتاح لنا الزواج؟!
فآلمها تساؤله وأغاظها، وأخجلها في الوقت نفسه، ولازمها فتور ووجوم بقية الطريق.
31
انتصف الليل ولم يكد يبقى في قهوة الجمال إلا نفر قليل، وكان حسن يجلس إلى مائدة خالية بعد أن فارقها أصحابه تاركين في جيبه ما استطاع أن يظفر به من قروشهم. كان يجلس كالمتفكر ملقيا على المقهى نظرة جامدة من عينيه المتعبتين؛ هذا صاحب القهوة وقد أخذ يراجع حساب اليوم مكوما الماركات في طبق صاج كبير، على حين وقف النادل مستندا إلى إحدى ضلف الباب، واضعا إحدى يديه في جيب المريلة يعبث بالقروش؛ فيتصاعد وسواسها في إغراء شهي «رحمك الله يا أبي، ألا تعلم بأني تعبت كثيرا بعد موتك؟ كان نزاعنا لا يهدأ، وكنت أشعر أحيانا بأني أمقتك، ولكن أين أيامك؟ فيما عدا أيام العيد لم أتناول لقمة في بيتنا، وماذا يأكلون؟ الفول غذائي الوحيد، فول، فول! الحمير تجد شيئا من التنويع.» لماذا لا يبحث جادا عن عمل؟ جرب حظه مرتين فانتهى في كل مرة بمعركة كادت تودي به إلى السجن؛ كلا ليست هذه الأعمال التافهة بمبتغاه، ولا يزال يؤثر عليها حياة التسكع والمقامرة الحقيرة، الواقع أنه يتعيش من السرقة ، إنه ورفاقه يعلمون ذلك حق العلم؛ إنهم يتصيدون الزبائن الأغراب ويوهمونهم بأنهم يلاعبونهم على حين أنهم يسرقونهم! حياة شاقة محفوفة بالمخاطر في سبيل قروش، كيف يستنيم إلى هذه الحياة! لم يكن لا سعيدا ولا راضيا، وكأنه كان ينتظر معجزة تنشله من وهدته إلى حلم من الأحلام! كانت حياته ضارية كالمخدر المهلك، اعتاد أن يعيش بلا عمل حقيقي، حائزا - رغم هذا - مركزا مرموقا مرجعه الرهبة والخوف، فلم يحتمل أن يبدأ من جديد صانعا بسيطا أو عاملا مطيعا، ولم يكن يغيب عنه مدى حاجة أمه إلى جده، ولا تزال تطن في أذنيه شكاتها المكروبة، تطارده كلما أفاق إلى نفسه. إنه يحب أمه ويحب أسرته، ولكنه ينتظر، وينتظر، دون أن يحرك ساكنا. لا أزال في البداية، عمل حيواني طويل بقروش. حماقة خير منها. - مساء الخير يا سي حسن.
ورفع رأسه منفتلا من سحابات أفكاره، فرأى الأستاذ علي صبري يجلس قبالته في هدوء وكبرياء؛ فاهتز صدره فرحا وهتف به: مساء الخير يا أستاذ.
ونادى الأستاذ النادل، وطلب نارجيلة ثم التفت إلى حسن وقال دون تريث: قررت أن نعمل معا! أعني أن أضمك إلى تختي.
واتسعت عينا حسن ولاح فيهما بريق خاطف؛ إن التخت هو العمل الوحيد الذي يحبه، لا لميل فني مركب في طبعه، ولكن لأنه يسير ولذيذ، وينسم جوه عادة بأريج الخمر والمخدرات والنساء. ومع أن أمله في علي صبري كان دائما محدودا، إلا أنه كان يراه شيئا خيرا من لا شيء، ولعله عتبة لما بعده، أجل من يدري؟ قال: حقا يا أستاذ؟ - بدون شك. - هل نعمل في صالة أو قهوة؟
نامعلوم صفحہ