فقالت الأم في حدة: للناس أعمال أخرى غير العناية برفاهيتك! - وكيف ننام ليلتنا؟
فقالت نفيسة بصوت كسير دل على أنها لم تفق بعد من صدمة الوفاة: سننام في الشقة الجديدة.
وخرج في تلك اللحظة حسن من حجرة المرحوم، حاملا بين يديه المشجب، وهي آخر ما بقي من الأثاث في الحجرات وقال بسرعة: كفاكم نقارا وهلموا نرفع الأثاث إلى الدور التحتاني؛ فليس بيننا وبين الليل إلا ساعتان. وأراد أن يضرب لهم مثلا عمليا، فرفع كنبة من جانب وخاطب حسين قائلا: ارفع.
وفتحت نفيسة الباب على مصراعيه وسار الشقيقان بحملهما الثقيل، وجعل حسين يتساءل وهو يهبط في السلم بحذر: ترى هل يراهما أحد من أسرة فريد أفندي محمد جارهم الكريم بالدور الثالث؟! «ليس الفراق شر ما في الموت، إن الفراق حزن المطمئن! متاعبنا تتلاحق بحيث لا تدع لنا وقتا للتفكير في الحزن. لشد ما نتغير وتتدهور، ولكن ينبغي أن نصبر أو في الأقل أن نتظاهر بالصبر. أكبر جريمة في نظري أن نضاعف بجزعنا شقاء أمنا. سأخاطب حسنين بحزم أكثر!» ثم تبعتهما الأم والأخت تحملان ما تقدران على حمله من قطع الأثاث. ولم يستطع حسنين أن يقف متفرجا فانضم للعاملين. وما زالت الأسرة في نزول وصعود، والأثاث يتحول من فوق لتحت. وكانت صاحبة البيت قد أخلت الشقة وجمع أثاثها في الفناء إلى جانب الحمالين الذين وقفوا ينتظرون دورهم في العمل. وكانت الأسرة جميعا - الصامت منهم والساخط - سواء في الحزن والألم. ولم يكن وجه الأم مما تسهل قراءته، أما نفيسة فابتلت عيناها بالدموع. واشتغل حسن بهمة كأنه يتملق بجهده أمه فلا تلحف في تأنيبه على تعطله، وكان أقل الأخوة تأثرا للتغير الذي قلب الأسرة كما ينبغي لرجل ذاق التشريد وألف التسكع، وهمس حسنين في أذن حسين وهو يلهث من الجهد: ألا ترى أن خسارتنا بموت أبينا لا تعوض أبدا؟!
وانسابت من عينيه دمعتان.
11
غادر حسن البيت مبكرا، عقب خروج شقيقيه للمدرسة. لم يكن ثمة داع ضروري لهذا الخروج المبكر، ولكنه أراد أن يتفادى من الاصطدام بوالدته أن يصبحها بنقار هي في غنى عنه، بما تكابد من تغير الزمن، وتجهم الحظ. انطلق من عطفة نصر الله بلا غاية ولا أمل. «ابحث عن عمل! لا تفتأ تردد على مسمعي هذه الجملة. أين يوجد هذا العمل؟ صبي بقال؟! هذا معناه الإسعاف ثم البوليس.» ولكنه لم يكن يائسا للحد الذي توجبه حاله. كان كبير الثقة بنفسه، وكان في طبعه تفاؤل لا يدري من أين يأتيه. ولكنه لم يستطع أن يتجاهل دقة موقفه وراح يخاطب نفسه قائلا «يا أبا علي، مات الوالد رحمه الله ففقدت الركن الذي كنت تأوي إليه، حقا كنت تلتقط رزقك بالشجار والنقار، وتتحمل في سبيله السب واللعن، ولكنه كان على أي حال رزقا مضمونا. هذه البدلة التي تجعل منك أفنديا لا بأس به، من نقوده رحمة الله عليه. أجل أبى أن يبتاعها لك بادئ الأمر، ولكنك هددته بأن تمشي في الطرق باللباس والفانلة، وأن تقتحم عليه مجلسه بقصر أحمد بك يسري شبه عار، فأذعن على مضض وكلف الخياط بأن يفصلها لك. الآن لو مشيت عاريا بلا لباس ولا فانلة، فلن تجد من يسأل عن صحتك إلا الشرطي!» كانت البدلة حسنة وإن لم تخل من بقع باهتة عند ثنية الركبة. وكان يربط رقبته ببابيون، فبدا القميص في حال لا يحسد عليها. وكان شعره أعجب ما فيه؛ فقد تركه حتى غزر واسترسل، وتصاعد في جعودة جعلت منه رأسا مستقلا فوق الرأس الأصلي. أما وجهه فكان حسن كشقيقيه إلى جسم طويل مفتول العضلات عريض العظام. سار متفكرا فيما خاطب به نفسه، ثم واتته ثقته بنفسه فجأة فقال: «يا سيدي، لا تسمح للهم بأن يركبك؛ فما يجوز أن يركب إلا البهائم من عباد الله. سوف تعيش طويلا وتلقى الحياة بخيرها وشرها. لم أسمع عن إنسان مات جوعا. الأغذية تسد الطرق سدا. ولست طماعا فما تريد إلا اللقمة والسترة، وكم كأس من الكونياك، وكم نفس من الحشيش، وكم امرأة من النساء، وكل أولئك متوفرة بكثرة، أكثر من الهم على القلب. توكل على الله ولا تحمل هما.» ولم يكن خلو الجيب؛ فقد أشرف على جنازة أبيه، وخرج منها بأربعين قرشا لم يعلم بها أحد، وقد تساءل ألم يكن الأخلق به أن يعطيها لوالدته؟ «كلا لو نزلت عنها ما أفادت أمي منها نفعا مذكورا، ولكن ضياعها يضرني ضررا لا شك فيه. لا أدري متى يتاح لي الحصول على مثلها!» وأخذت قهوة الجمال تلوح لعينيه الحادتين فحث خطاه حتى انتهى إليها. هي قهوة صغيرة لم تؤت من ميزة إلا وجودها على الطريق العام. ولم يوجد بها في هذه الساعة المبكرة إلا زبونان جلسا إلى مائدة على الطوار يتشمسان ويحتسيان القهوة، على حين قبع في ركن بالداخل شبان ثلاثة يدل مظهرهم ونظرات أعينهم الحائرة على الفراغ واليأس، فلم يكن عجيبا أن يقصدهم الشاب وينضم إلى مجلسهم، وما لبث أن طلب أحدهم الورق فتهيئوا للعب الكومي. وكان كل منهم يمني نفسه بأن يربح رزق يومه - خمسة قروش فوق الكفاية - من رفقائه. بيد أن حسن كثيرا ما يكون الصائد؛ لمهارته من ناحية ولخفة يده وعينيه من ناحية أخرى. لهذا قال أحدهم قبل البدء في اللعب: لا نريد غشا.
فقال حسن: طبعا.
فقال الشاب: فلنقرأ الفاتحة.
وقرءوا الفاتحة جميعا بصوت مسموع، ولعل حسن تعلم حفظها حول هذه المائدة، ثم لعبوا مقدار ساعة فربح أحدهم دورا، وربح حسن دورين، كان صافي ربحه أربعة قروش ونصفا بعد خصم نصف قرش ثمن فنجان القهوة، واقترح بعضهم أن يمدوا وقت اللعب، ولكن دخل القهوة شاب ما إن رآه حسن حتى نهض قائما، وأقبل نحوه في احترام وسرور وهو يقول: صباح الخير يا أستاذ علي صبري.
نامعلوم صفحہ