وتقدم الشاب في ذهول منهم وانحنى فوق قدمي أخيه، وبسط ذراعيه تحت ساقيه ورفعهما في رفق وساروا معا متعاونين في حمله إلى حجرة نومه، وأناموه على الفراش الوحيد في البيت ثم أسرع الرجلان بمغادرة الحجرة يتبعهما حسنين، على حين هرعت الأم ونفيسة نحو الفراش في جزع لا يوصف. وفي الصالة أشار الرجل الذي تكلم أول مرة - وكان يرتدي جلبابا وطاقية - إلى الآخر - الذي يتزيا بزي الأفندية - وقال: لا مؤاخذة، هذا سائق التاكسي.
فأدرك حسنين أنه يلمح إلى أجرة التاكسي، فسار معهما حتى السيارة وأعطى الرجل النقود، وصرفه مستبقيا الآخر، ثم سأله في اضطراب وجزع: ماذا حدث؟
فقال الرجل: سي حسن أخي وصديقي، ولعلك تعلم أنه كان هاربا من وجه البوليس؛ فانتهز بعض أعدائه هذه الفرصة وتربصوا له في بعض الأماكن التي يقطنها مستخفيا، وانقضوا عليه غدرا وسلبوه ماله ولاذوا بالفرار، وقد تحامل المسكين على نفسه حتى بلغ مسكني، ورجاني أن أذهب به إلى أهله فأخذنا التاكسي إلى عطفة نصر الله؛ حيث أخبرنا الجيران أنكم انتقلتم إلى هذا البيت، فجئنا من تونا.
وكان حسنين يصغي إلى الرجل في شبه ذهول، ومع أن إحساسات شتى تعاورت قلبه إلا أن إحساس الخوف والقلق غلبها جميعا، ولما انتهى الرجل من حكايته غمغم الشاب: شكرا لك يا سيدي على مروءتك، هلا تفضلت بالبقاء ساعة حتى تستريح.
ولكن الرجل رفع يده إلى رأسه شاكرا، وقال: إني ذاهب في الحال، ولي كلمة قبل الذهاب وهي أنه يجب الإسراع إلى علاج الجرح الخطير، ولكن حذار من استدعاء الإسعاف أو حمله إلى القصر، وإلا أدى الأمر إلى التحقيق ثم إلى البوليس!
وحياه الرجل ومضى إلى حال سبيله، فعاد الشاب إلى الحجرة كمن يشق سبيله في ظلمة حالكة والأرض تميد به. ووجد أخاه كما تركه راقدا وكأنه اطمأن إلى الجو الجديد فأسلم إلى غيبوبة تامة، وانكبت عليه المرأتان في جزع باد، ولما أحستا بالقادم تطلعتا إليه بنظرة استغاثة، ورنا إلى الراقد طويلا، ثم تساءل بصوت غريب: ألم يتكلم؟
فقالت الأم وهي تزدرد ريقها الجاف: غمغم كلمات لا تعني شيئا ثم راح في غيبوبة، أغثنا بدكتور.
ولكن الجريح حرك يده بجهد، وبدا كأنه يستطيع أن يغالب غيبوبته عند الضرورة فقال بصوت باهت ضعيف تجرد من فحولته المعهودة: لا دكتور .. الدكتور .. يبلغ .. البوليس.
وألقى نظرة متفحصة فرأى العصابة المخضبة بالدم تخفي رأسه وجبهته، وجانبا من صفحتي وجهه، فلا تبدو إلا عيناه المثقلتان بالإعياء والذبول، وذقنه النابتة الشعر، وقد فغر فما تتردد فيه أنفاس ثقيلة محشرجة، على حين تمزق رباط رقبته وجيب الجاكتة، وانتثرت خيوط الأزرار، وراحت يمناه تنقبض وتنبسط، ويئن بين آونة وأخرى. وقف حسنين حيال هذا المنظر ذاهلا فتناسى مخاوفه وتركز شعوره في إحساس عميق بالألم والإشفاق. نسي برهة كل شيء إلا أنه حيال أخيه الجريح، وأنه ينبغي إنقاذه بأي ثمن، ثم جعلت تطفو من أعماقه مشاعر خوف وقلق طالما طاردته في الأيام الأخيرة، في هيئة نذر تتهدد سمعته ومستقبله، فانقبض قلبه، وداخله ألم جارح لهذه المشاعر ذاتها من ناحية، ولتأنيب الضمير على إحساسه بها في مثل هذا الموقف من ناحية أخرى. وكأنه فزع إلى الهرب من باطنه بالكلام فقال مخاطبا الجريح برقة: دعني أحضر طبيبا، حياتك أهم من أي شيء آخر.
وقالت الأم ونفيسة برجاء معا: نعم يا حسن، دعنا نحضر الطبيب.
نامعلوم صفحہ