وقالت الفتاة برقة وعطف: مهما يكن من أمر أخينا حسن ففضله لا يمكن أن ينكر.
وتدارك الشاب قائلا: لست في حاجة إلى من يذكرني بهذا، ويعلم الله أني أحبه، ولكن لا حيلة لي إذا قلت إن سلوكه في الحياة ليس مما يشرف.
وثقبت العبارة الأخيرة قلبها، فلاحت في عينيها نظرة زائغة، وتخيلت أمورا فبردت أطرافها رعبا، ثم خيل إليها أنه يعنيها بالذات، ولم تعد ترتاح للصمت فغمغمت في فتور: وأية أسرة تخلو من شيء من هذا القبيل!
فقال حسنين بامتعاض: ولكنه لا يوجد في الأوساط المحترمة.
وركبها الضيق والقلق، فرغبت في الاختفاء، وتظاهرت بالضحك، وقالت في مرح متكلف: لا يستحيل أن يوجد شقيقان أحدهما وزير والآخر لص، بالله لا تكدر صفونا، واعلم أني صنعت لك صينية كنافة، فدعني أسخنها ولنأكل في سلام!
وغادرت الحجرة إلى المطبخ بوجه مكفهر ونفس حائرة يشيع في قلبها خوف وقلق! إنه يدعوها إلى القبوع في البيت أسوة بالنساء المحترمات، وإنها ترحب بهذا، ولكن ما كان كان، ولا سبيل إلى إصلاحه. وهي تستطيع إذا شاءت أن تنتحل لسلوكها الأعذار، وأن تقول لنفسها إنها إنما ارتضت تلك الحياة للحصول على النقود التي أقامت بها أود أسرتها في أكلح ساعات حياتها، وهذا حق ولكنه ليس الحق كله؛ فهنالك أيضا الرغبة المعذبة واليأس القاتل، وكم ودت في ساعات يأس لو تموت هذه الرغبة، ولو تموت هي بموتها، ولكنها كانت تزداد رغبة وانحدارا ويأسا، ثم تمردا واستسلاما. وعانت كثيرا شقاء الذنب وكان عزاؤها الوحيد - إن كان عزاء على الإطلاق - أن الأقدار لا يمكن أن تدخر لها حياة أفضل، وكم تمزقها الحيرة الآن بين ماض تعيس ورغبة لا تسكت عنها! وحتى هذه الحياة الجديدة الموعودة لا تدري إن كانت تستطيع حقا أن تخلص لها بعد ما كان، فلن تغيض رغبتها ولن يتخلى عنها اليأس، وفيم تأخذ نفسها بصبر لا مطمع لأمل وراءه، وليس لديها ما يصح المحافظة عليه؟ هل يمكن أن تقنع من الحياة بانتظار طويل ممل للموت ؟ لا تدري إن كان بوسعها حقا أن تخلص للحياة الجديدة، وأن تتعذب عذابا طويلا متصلا بعد أن خسرت كل شيء! إنها تمقت الماضي وتخافه، ولكنها تشد إليه بقوة شيطانية فلا تستطيع منها فكاكا، ولن تفتأ تتبعه يائسة مثقلة بالذنب مرتعبة، كمن يسلم للسقوط من علو شاهق في كابوس بعد أن أيس من اليقظة. وجعلت تنظر في سهوم إلى صفحة الكنافة الموردة حتى تخيلت نفسها في الصينية تحترق وقد اسودت بشرتها، وفي تلك اللحظة بدت الحياة لها عابثة قاسية، تعبث في قسوة، وتقسو في عبث. فتساءلت: «لماذا خلقني الله؟» ومع ذلك كانت تحب الحياة، ولم يكن يأسها وعذابها وخوفها إلا آيات على هذا الحب، وكانت إلى هذا كله تنتظر مع الغد موعدا لم تضمر النكوص عنه.
وحملت الصينية بخرقة بالية، وعادت إلى الحجرة فوضعتها على المكتب وهي تقول في مرح وكأنها نسيت أفكارها ومخاوفها: أقدم لك آخر كنافة من عرق جبيني، وعليك وحدك منذ الآن أن تحلي ألسنتنا!
وأقبلوا على الكنافة بشهوة وقد تطهرت الأنفس من همومها، وقالت الأم وهي تغرز أصابعها في الصينية: ليت حسين كان معنا.
ولوح لها حسنين بأصبعه حتى ابتلع ما فيه ثم قال: آن لنا أن نسعى إلى نقله إلى القاهرة. كان أحمد بك يسري قد وعد بنقله بعد مرور عام أو نحوه، وها قد أوشك أن يمضي عامان على تعيينه في طنطا.
كان يرغب في معاشرة أخيه كعهدهما القديم، وكان يأمل أن يجد فيه عونا على متاعبه، وقد رحب إلى هذا وذاك بفرصة تتيح له زيارة أحمد بك في قصره.
نامعلوم صفحہ