56
وبعد مضي أسبوعين جاءته رسالة من حسنين ينبئه فيها بأنه أدى رسوم الامتحان، وأنه يذاكر ليل نهار لضمان النجاح، وكان عظيم الثقة بذكاء أخيه ومقدرته، فلم يداخله شك في النتيجة المأمولة، ونزعت به نفسه إلى الأحلام، مع أنه لم يكن من الذين يستسلمون لسحرها عادة، إلى أنه كان يؤمن بكذب هذه الأحلام بالذات، ورغم هذا كله تخيل أخاه قد فاز بشهادته، واقتنع بأنه ينبغي أن يتوظف ليحمل العبء عنه، ثم تخيل نفسه يبدأ حياة سعيدة بضمير مطمئن! إنه لا يطمح إلى أكثر من حياة مطمئنة هانئة في ظل الزوجية، وقد علمته هذه الحياة التي حملها منفردا في شقته المقفرة معنى الأسرة؛ فحن إلى حضنها الدافئ حنين المقرور تحت مطر منهمر إلى المأوى، لم يعد يطيق الاختلاف إلى المطاعم العامة لتناول غذائه، وبات وكأنه يخاف الانفراد بنفسه في حجرته ولو إلى حين قصير، وأتعبه لحد السقم ما تتطلبه حياة الأعزب من رعاية متواصلة لشقته وأثاثه وملابسه، وكل هذا يهون إلى جانب ما يعاني من جوع قلبه وأشواقه، ولم يكن يحب الفتاة بالذات بقدر ما أحب فيها المرأة والحياة الزوجية، ولكنها كانت المثال المحسوس لأحلامه، فهفا إليها قلبه وحنينه، وزاد من تعلقه بها أنه لم يكن يراها إلا في القليل النادر مما تجود به المصادفات السعيدة، وحسب حسين أنهم يتعمدون إخفاءها، ولكن تبين له أن حسان أفندي رجل محافظ حقا، وأنه قد يتسامح، ولكن بالقدر الذي لا يخدش حياء ولا يجاوز حدا، ولو أن حسنين رضي بالوظيفة لمضى من توه إلى فتاته وضمها إلى نفسه، وحيي الحياة الحقة. هذا حلمه، ولكنه مجرد حلم، ولا يدري متى يتحقق، وسيواصل حسنين تعليمه وما ينبغي له أن يحنق لهذا، أجل فليدع الأمور تجرى كما يشاء الله ولينتظر، ولكن تبين له ذات مساء أنه لن ينعم بالانتظار في هدوء وطمأنينة؛ إذ قال له حسان أفندي عقب فراغهما من احتساء الشاي مباشرة: جد أمر هام يستحق أن أشاورك فيه.
رفع إليه حسين عينيه متسائلا فقال الرجل باهتمام: الأمر أن ابن عم إحسان - وهو تاجر ومزارع بالبحيرة - يرغب في طلب يدها، وقد رأيت أن أسألك عن رأيك قبل البت في الموضوع برأيي!
وكانت مفاجأة سيئة وجم لها الشاب في قهر وحيرة كأنه لا يصدق، والحق أن بعض الشك ساوره، ولكنه وجد نفسه في مأزق لا يخرجه منه تشككه، وشعر بحنق إنسان وضعته ظروف قاسية بين لا ونعم، وهو عاجز عن الكلام، فما عسى أن يقول؟! إذا قال نعم خان أسرته، وإذا قال لا قطع ما بينه وبين حسان أفندي، وتراءى لعينيه على اضطرابه وحيرته وجه الفتاة التي تعلقت بها آماله، فشعر بقبضة اليأس تشد على عنقه، ورمق الرجل الذي يعذبه بنظرة باردة تخفي وراءها حنقا متزايدا، وكان الآخر يتفرس في وجهه صابرا، فلما طال الصمت غمغم متسائلا: ما قولك يا حسين أفندي؟
ولم يجد بدا من الكلام، فقال بلهجة تنم عن رجاء: لقد فصلت لك ظروفنا بما لا يحتاج إلى مزيد.
فقال الرجل فيما يشبه الضجر : سيفرغ أخوك من دراسته في أوائل الصيف القادم. - ولكنه فيما أرى مصمم على مواصلة تعليمه.
فقال الرجل بضيق: فكرة سخيفة لا يصح أن تذعن لها وتتحمل مسئوليتها.
وأراد أن يتفادى من الخطر الماثل فقال متهربا كما يتهرب الفأر وراء رجل كرسي لن تغني عنه شيئا: بوسعي أن أعلن الخطوبة فورا على أن أنتظر بعد ذلك.
فتساءل حسان أفندي بفتور: كم عاما؟
آه، إن الرجل يظنه لا يحسب حسابا إلا لأخيه، ولا يكاد يدري شيئا عن نفيسة ومشكلتها المستعصية، ليته كان بوسعه حقا أن يصارحه بالحقيقة كلها بغير خفاء! وأجابه قائلا في إشفاق شديد: أربعة أعوام؟!
نامعلوم صفحہ