المادة في كوننا تأخذ حركتها أشكالا عدة، ملايين عديدة من الأشكال، كل شكل منها يختلف عن الآخر، فالعلم قد أثبت أن لا شيء في الكون في حالة سكون تام، ذرات قطعة الرصاص في حركة دائمة مثلها مثل ذرات خلايا الإنسان، كل ما في الأمر أن ذرات الرصاص تتحرك بطريقة أبسط وأبطأ، بينما ذرات الخلايا تتحرك أسرع، وفي مدارات أكثر تعقيدا.
والخلاف بين الرصاص والبخار والعقل هو فقط خلاف في السرعة ودرجة التعقيد، ولأن المادة في حركتها يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من السرعات ودرجات التعقيد؛ أي بتعبير آخر يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من أشكال الحركة، لهذا نجد أن كوننا يحفل بعدد لا نهاية له من أشكال المادة، وجود كل شكل منها على حدة هو في اختلافه عن الأشكال الأخرى، الاختلاف في الشكل يحتم اختلافا في المضمون أيضا، فحركة ذرات الرصاص باختلافها عن حركة ذرات الخلية الحية، تجعل من الرصاص رصاصا ومن الخلية كتلة حية، الاختلاف في الحركة هنا شكل ومضمون في الوقت نفسه، واسم وصفة. الرصاص رصاص؛ لأنه يختلف عن الحديد والإنسان، فإذا فقد اختلافه عن الحديد والإنسان فقد رصاصيته، والخلية حية؛ لأنها تختلف عن الرصاص والحديد، بل حتى عن مكونات نفس الخلية إذا ماتت، فإذا فقدت الخلية اختلافها فقدت حياتها.
الحقيقة الثانية إذن، حسب قوانين الحركة، أن كل شكل من أشكال الوجود يحاول المحافظة على الحالة التي هو عليها بطريقة سلبية، بمجرد البقاء في شكله المختلف فقط، ولكنه يحافظ على اختلافه بطريقة إيجابية، بمحاولة فرض شكل حركته الخاص على أشكال الحركة الأخرى، النار مثلا تحاول أن تحيل كل شيء إلى نار، والثلج يبرد ما حوله، والحيوانات تأكل النباتات لتحولها إلى نسيج حيواني ... وهكذا.
باستطاعتنا إذن أن نتصور الوجود على أنه مادة دائبة الحركة، تأخذ من حركتها أشكالا لا حصر لها، أشكالا متدرجة في درجة سرعتها ودرجة تعقيدها، كل شكل منها يحاول ابتلاع الأشكال الأخرى، وفرض نوع سرعته ودرجة تعقيده عليها.
الحقيقة الثالثة
بدراسة تاريخ حركة المادة نجد أن الحركة في الكون تجنح أكثر وأكثر إلى أن تتعقد، والدليل على هذا أن كتلة الشمس مكونة من جزيئات وذرات، وحتى من إلكترونات طليقة، بينما في الكرة الأرضية تجد هذه الأشكال قد تداخلت وارتبطت وتعقدت أكثر وأكثر، ونتج عنها الماء والتراب والنبات والحيوان والإنسان.
في عملية الصراع من أجل بقاء كل شكل من أشكال الحركة على حاله، لمن النصر؟ المشاهد أن أشكال الحركة المعقدة هي التي تبتلع الأشكال السفلى الأبسط وترفعها إلى درجتها من التعقيد. ولقد ظلت أشكال الحركة المعقدة تزداد تعقيدا حتى وجدت الحياة، وظلت أشكال الحركة الحية الدنيا تتعقد حتى وصلت إلى مراحل النبات الكامل والحيوان والإنسان، والعقل، العقل هنا هو أرقى أشكال الحياة وأكثرها تعقيدا، ليس هذا فقط، بل إنه شكل الحركة الذي يستطيع - دونا عن بقية أشكالها الأخرى - أن يتحرك حركة من تلقاء نفسه لا تخضع لقوانين الحركة.
وبمعنى آخر، مادة الكون ظلت في حالة حركة تلقائية وصراع بين أشكالها، حتى ظهر العقل الذي بدأ يتحرك ويتصرف في مادة الكون وأشكالها تبعا لإرادته الخاصة وقانونه الخاص، ولكنها إرادة محدودة أيضا، وخاضعة لقوانين الحركة العامة السالفة، فالإنسان يستخدم عقله لابتلاع كافة أشكال الوجود الأخرى، ولإحالتها إلى إنسان، أو تأنيسها على الأقل، هو لا يمكن أن يوقف قوانين حركة المادة أو يلغيها؛ لأنه هو نفسه مجرد شكل راق من أشكال حركة المادة، كل ما في الأمر أنه مرحلة نتجت عن تعقيد حركة المادة، وبحكم خاصيتها تجنح إلى تعقيد حركة المادة أكثر وأكثر.
ولهذا، فكما كان الجليد في العصور الغابرة يحاول أن يثلج الأرض وما عليها، فكذلك الإنسان، ذلك الذي كان في مبدأ أمره مجرد أفراد متناثرين على سطح الأرض يحيون في كهوف، ها هو الآن يملأ وجه الأرض، تكاثر جنسه حتى أصبح ثلاثة آلاف مليون، ومن الأحجار صنع بيوتا، ومن الحديد صنع آلات تتحرك، استأنس الحيوانات واستغل النبات، واستأنس كل ما على ظهر الأرض من مواد وطاقات ليحيلها إلى إنسان، أو أقرب ما يكون إلى إنسان.
والنتيجة؟
نامعلوم صفحہ