67
إذن فالمشكلة الرئيسية في التربية - كما هي المشكلة الرئيسية في السياسة والأخلاق - هي كيف ينبغي للعلاقة بين الفرد والمجتمع أن تكون، فأمامنا الناشئ الذي نريد تنشئته وتربيته من ناحية، وأمامنا من ناحية أخرى هذه الهيئات التي تتسابق إلى اغتصاب عقله وقلبه، فعلى الرغم من تعدد المدارس الفكرية في التربية، فأهم ما يهمنا منها مدرستان متعارضتان: إحداهما تجعل التربية مواءمة بين الطفل وبيئته وثقافة تلك البيئة، والأخرى تجعل التربية تنمية لنفس الطفل واستعداداته الطبيعية؛ بعبارة أخرى، يريد الفريق الأول من رجال التربية أن تكون الغاية من عملية التربية هي أن يحدث التجانس بين الطفل والمجتمع المحيط به، وبديهي أن هذا التجانس لا يكون بتغيير أوضاع المجتمع ليتفق مع طبائع الطفل، بل يكون بتهذيب طبائع الطفل وتغييرها، حتى تلتئم مع أوضاع المجتمع، بينما يريد الفريق الثاني أن تحصر عملية التربية اهتمامها في الطفل ذاته لتنمو طبيعته بغض النظر عن ملاءمة تلك الطبيعة مع ثقافة المجتمع المحيط به أو عدم ملاءمتها، أو بعبارة أخرى فإن موضع الخلاف بين المدرستين هو هذا: أنربي الطفل ليكون «مواطنا» أم نربيه ليكون «فردا»؟ أما النوع الأول فيقتضي أن أحد من فرديته بما فيه مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها، وأما النوع الثاني فمؤداه أن تنمو الفردية بما يحقق طبيعتها بغير أن يحدد مجرى نمائها ولاء لهذا أو لذلك من مختلف العوامل الاجتماعية.
لكننا حين نهم باختيار أحد الطرفين، لا نلبث أن نتبين أن الوضع على حقيقته ليس هو اختيارا لهذا الطرف أو ذاك؛ إذ الحياة لا تكون إلا جماعة، والجماعة لا تكون بغير تعاون أفرادها، وإذن فسرعان ما يتحول سؤالنا فلا يصبح: أيكون الإنسان مواطنا أم فردا؟ بل يصبح: كيف يمكن للإنسان أن يكون فردا ومواطنا في آن معا؟
للإجابة عن هذا السؤال الأخير، نقول على سبيل التقديم إن خير الإنسان إنما يكون بإشباع جوانبه الثلاثة: العقل والوجدان والإرادة، لقد عبر الإنسان عن أمله في نفسه حين صور الله بخياله؛ لأنه إذا رسم لنفسه تلك الصورة، وضع فيها الكمال الذي يصبو إليه، فكيف تخيل الإنسان صورة الله؟ تخيله «حكيما رحيما قويا» أي تخيله كائنا ذا عقل يدرك الحكمة، وذا وجدان يبعث على الرحمة، وذا إرادة لها قوة العمل والتنفيذ، وهكذا يريد الإنسان أن يكون.
أما جانب العقل وجانب الوجدان فلا يثيران إشكالا؛ لأن الفرد يستطيع أن يبلغ بهما أقصى حدودهما دون أن يطغى بهما على سائر أفراد المجتمع، فلا ضير على هؤلاء الأفراد أن تبلغ بعقلك أسمى مراتب الحكمة، ولا ضير عليهم أن يرق وجدانك، بحيث يحقق الرحمة والحب والعطف، وأما الجانب الثالث - جانب الإرادة - فهو صميم المشكلة وأساسها؛ لأنك إذ تمارس قوة الإرادة من نفسك كان حتما أن يتأثر غيرك من أعضاء المجتمع؛ لأنه كلما اتسع نطاق تنفيذك لما تمليه إرادتك ضاق تبعا لذلك مجال الحرية عند الآخرين، إن المشكلة محلولة بالنسبة لله كما تصورناه؛ لأنه وحده في الكون، فيستطيع أن ينفذ إرادته كيف شاء، فلا يحتاج لشيء أن يكون سوى أن يقول له كن فيكون ... وهكذا يتمنى الإنسان لنفسه لولا أن معه آخرون، فربما قال الإنسان لشيء كن، فيكون على غير ما يريده الآخرون، وعندئذ تتعارض الإرادات وتتضارب؛ ولذلك كان أكثر الحالات إشباعا لطبيعة الفرد هي أن يكون دكتاتورا مطاعا لو استطاع.
لو كان الفرد من الإنسان يعيش في كون وحده كما هي الحال مع الله لما كان هنالك إشكال في التربية أو الأخلاق بالنسبة لذلك الفرد الواحد، فتربيته هي أن يبلغ بجوانبه الثلاثة من عقل ووجدان وإرادة حدودها القصوى، ولا تلزمه «أخلاق»؛ لأنه ليس إلى جانبه سواه تتطلب معاملته تحديدا لسلوكه، لكن الفرد من الناس لا يعيش وحده، وإذن فلا مناص من تحديد إرادته بالتربية وبالأخلاق، حتى لا يطغى بها على سواه؛ بعبارة أخرى يمكن للفرد من الناس أن يتشبه بالله في مداركه العقلية وفي عواطفه الوجدانية، لكنه يستحيل عليه أن يتشبه به في ممارسة قوة إرادته.
أظننا بهذا التحليل قد أسقطنا شيئا من الضوء على مشكلتنا الأساسية، وهي كيف أربي الناشئ، بحيث أوفق فيه بين الفرد والمواطن؛ لأننا وجدنا الإشكال منحصرا في مجال إرادته، فمن جهة تستوجب طبيعته منه أن يكون طاغية نافذ السلطان، ومن جهة أخرى تستوجب حياته الاجتماعية أن يحد من تلك الإرادة التي تريد أن تسود سيادة مطلقة ، وبهذا أصبح سؤالنا الرئيسي هو هذا: كيف أوفق في الفرد بين إرادته المطلقة وإرادته المقيدة؟ وعن هذا السؤال يجيب رسل بقوله أن ليس هنالك - فيما يظهر - حل حاسم، وأقل ما يجوز لنا المطالبة به هو ألا تنتقص من إرادة الفرد المطلقة إلا بالحد الأدنى الذي يقتضيه كونه مواطنا؛ فالفرد أولا والمواطن ثانيا، فلا نقيدن من إرادة الفرد الحرة إلا للضرورة التي ليس عنها محيص.
68
وتطبيق هذا المبدأ متروك للمدرس في دروسه، فهو الذي يطلق العنان لطبيعة التلميذ آنا لكي تعبر عن نفسها تعبيرا فرديا حرا، وهو الذي يلجم تلك الطبيعة آنا آخر حرصا على صوالح الآخرين، وهو الذي يزن المقدار الذي يجرعه للطفل من ثقافة قومه، بحيث لا تنطمس شخصيته الناقدة انطماسا يقضي عليها ... لكن ما أضخم العبء الذي ألقاه «رسل» على المدرس؛ فما أهون أن تضع المبدأ قائلا: ينبغي أن يكون هنالك اتزان بين جانب الفرد من التلميذ وجانب المواطن منه! وما أعسر أن ترسم الحدود الفاصلة عند التطبيق، بحيث تخرج الناشئ فردا مستقلا بشخصيته، ومواطنا مستعدا للتضحية بشخصيته في آن معا! •••
والشكائم التي تفرض على الإنسان لتضبط سلوكه ضبطا يتوسط به بين فرديته من جهة، ووطنيته من جهة أخرى، إن هي إلا القواعد التي تتفرع عن مبادئ الأخلاق؛ فالأخلاق هي في رأي «رسل» مجموعة من مبادئ عامة تعين على تحديد القواعد التي يجري السلوك على مقتضاها،
نامعلوم صفحہ