فالإشعاعات التي تنبعث من الأشياء، أي الظاهرات التي تنتشر من الأشياء في أرجاء المكان هي الهيولى المحايدة التي تتكون منها المادة والعقل معا، فإذا جمعت الظاهرات التي انبعثت من مصدر بعينه كان لك بذلك «شيء» مادي، وإذا جمعت هذه الظاهرات كما تتلاقى في نقطة معينة موضوع فيها جهاز عصبي وأعضاء حس كان لك بذلك «عقل»، فالمقومات في كلتا الحالين هي هي لم تتغير، تجمع على نحو فتكون شيئا ماديا، وتتجمع على نحو آخر فتكون عقلا.
بهذه النظرية المحايدة استطاع «رسل» أن يتغلب على مشكلات ثلاث مما كانت تصطدم به الفلسفات السابقة؛ فهو أولا قد تخلص من الثنائية التي كانت لا تجد سبيلا إلى وصل المادة بالعقل، أو العقل بالمادة، مما أدى إلى شق العالم إلى نصفين بينهما فجوة مستحيلة العبور، كهذه الفجوة التي خلقها ديكارت بين المادة من جهة، والعقل من جهة أخرى؛ إذ هما عنده مختلفان في الكيف اختلافا لا سبيل إلى التوفيق فيه، فالعقل في جوهره مفكر لا يحل في مكان، المادة في جوهرها تحل في مكان ولا تفكر.
ثم استطاع «رسل» بفلسفته - ثانيا - أن يتخلص من العنصر الغيبي الخفي، الذي كان يلجأ إليه الفلاسفة دائما في تفسير الأشياء الجوامد والأحياء على السواء؛ فهذه المنضدة مثلا لم تكن مجرد مجموعة من ظاهرات لا ترتكز على شيء، بل كان لا بد للظاهرات المفككة من مشجب داخلي تتعلق به وتستند إليه، حتى يكون للمنضدة ذاتية ودوام، وكذلك قل في الإنسان؛ فلم يكن مقبولا عند الفلاسفة كما هو ليس بمقبول عند الإدراك الفطري في الحياة اليومية أن يكون الفرد من الإنسان سلسلة من حالات، وخيطا من حوادث دون أن يكون وراء ذلك «عقل» أو «وعي» قائم بذاته يمسك هذه الحالات، ويربط هذه الحوادث في شخص له ذاتيته واستمراره، وثالثا حل «رسل» بنظرية «الهيولى المحايدة» مشكلة قديمة هي نسبية الإدراك الحسي؛ فقد كان مما أشكل على الفلاسفة أن يكون الشيء الواحد مختلفا عند مختلف الأفراد الذين يدركونه بحواسهم، بحيث لو نظر عدة أفراد إلى هذه المنضدة التي أمامي، فكل واحد من هؤلاء يرى استطالة سطحها على صورة غير التي يراها زميله، ويرى درجة لونها على نحو يختلف عما يرى زميله وهكذا، وهو اختلاف يتبدى واضحا إذا ما هم هؤلاء الأفراد برسم المنضدة كل كما يراها، فعندئذ تجد الرسوم متباينة لتباين وجهات النظر، وها هنا كان ينشأ السؤال: ما حقيقة المنضدة ما دامت تبدو على هذه الصور المختلفة عند مختلف الأفراد، بل تبدو مختلفة في اللحظات المختلفة من حياة الفرد الواحد؟ لكن الإشكال يزول إذا أخذنا بنظرية «الهيولى المحايدة»؛ لأن حقيقة المنضدة - كما أسلفنا - هي ظواهرها المنتشرة في أرجاء المكان، ففي كل نقطة مكانية لها ظاهر ممكن الإدراك، وهذه الظواهر المتعددة مختلفة باختلاف أجزاء المكان، وإذن فلو ظهرت المنضدة على صورتين مختلفتين لمشاهدين عند نقطتين مختلفتين فلا إشكال هناك؛ لأنهما لا يريان «شيئا» واحدا كما كان يظن قديما حين كان يظن أن الشيء المادي جسم متعين المكان، أما وقد انحل إلى حوادث، أي إلى ظاهرات أو معطيات حسية، فكل حادثة منها، أو كل ظاهرة، هي إحدى الحقائق الكثيرة التي من مجموعها تتكون المنضدة. (6) في التربية والأخلاق والسياسة
64
لو كنا لنلخص الأهداف التي جاهد برتراند رسل كل هذا الجهاد الطويل في سبيل تحقيقها في حياة الناس أفرادا وجماعات، كلما جعل حياة الناس موضوع بحثه وحديثه، لانحصرت هذه الأهداف في كلمة واحدة؛ هي «الحرية»، حتى لقد ظن كثير من ناقديه أن الرجل قد أسرف في دفاعه عن الحرية وهجومه على خصومها إسرافا حدا بهم أن يصفوه بالفوضى، فما أكثر ما يقال عن «رسل» إنه يوهن بمعاوله من قوائم المجتمع، وإن الحالة التي تشيع في نفسه الرضا هي أن ينمحي من المجتمع تماسكه، وأن ينطلق الأفراد أحرارا حرية مطلقة بغير القيود الضابطة والشكائم الملجمة التي بغيرها لا يكون مجتمع ولا تستقر حياة، دع عنك أن ترقى تك الحياة وتتقدم.
لكن ليقل هؤلاء الناقدون ما شاءوا؛ فالرجل نصير للحرية، جاد في نصرته لها، فالنظام الاجتماعي كثيرا ما يكون في حقيقته مؤامرة كبرى على حرية الأفراد، فلا يكاد يولد الطفل وينشأ، حتى يغمسه ذووه ومواطنوه غمسا في ثقافة المجتمع الذي جاء عضوا فيه، ولا ينفكون يلقنونه ماذا يعتقد وكيف يسلك، بغض النظر عن سلامة تلك العقائد أو صواب هذا السلوك، فليس المهم عندهم أن تكون العقيدة سليمة، أو أن يكون السلوك صوابا، بل المهم هو أن تكون هذه هي عقائد سائر أفراد المجتمع، وهكذا يسلكون، وإذن فحتم محتوم على الناشئ الجديد أن ينصب مع غيره في قالب واحد، وإلا فهو الشاذ الذي يستحق أن يوضع موضع السخرية، ويكون الطفل في أعين الناس جديرا بالإعجاب والثناء، حين يكون وادعا يؤدي ما يؤمر بأدائه، ولا يبيح لنفسه أن يناقش الكبار في صواب ما يأمرونه بفعله، وبهذا تصبح عملية التربية قائمة على أساس التجانس بين هذا الناشئ وبين بقية أفراد المجتمع، وعمل المربي - والدا كان أو معلما - هو أن يقلم في الناشئ شذوذه ويشذب ما قد يبدو في منحاه من غرابة عن المألوف، نعم، فهنالك نمط معين، وعمل التربية هو أن تصوغ الناشئين على غرار ذلك النمط القائم، والناشئون إنما يكونون بلا حول أو قوة وهم بعد في مرحلة الطفولة، وإذن فعملية التربية هي في صميمها استغلال لهذه الطفولة العاجزة، حتى عن وقاية نفسها.
لكن لصالح من يكون هذا الاستغلال؟ يجيب «رسل» بأنه استغلال لصالح الدولة من جهة، والكنيسة من جهة أخرى، أي لصالح الحكومة ورجال الدين؛ فالدولة من صالحها أن تجعل من النشء «مواطنين » صالحين، لكن ماذا تعني كلمة «مواطن» هنا إن لم تعن فردا ينشأ على احترام الأوضاع القائمة؟ لأنه إذا نشأ ناشئ على الثورة ضد تلك الأوضاع القائمة لم يكن بالبداهة مواطنا صالحا في رأي الدولة القائمة، لا بل «المواطن الصالح» هو الذي لا يعترف لنفسه بوجود بالقياس إلى قيام تلك الدولة، بحيث إذا ما أصاب الدولة خطر كان حتما على «المواطن الصالح» أن يضحي بنفسه في سبيلها،
65 ،
66
وأما الدين فهو كذلك من ناحيته يكون عاملا على أن ينشأ الفرد راضيا بما قسم له في الحياة الدنيا، أعني ألا ينشأ ثائرا داعيا إلى انقلاب، ومن ثم ترى الدين معينا للدولة على بقاء الأنظمة القائمة، وعلى أن يصاغ النشء على نموذجها وغرارها، وقد خصص «رسل» القول عن هذه النقطة في الديانة المسيحية؛ لأنها هي التي تعنيه في ميدان التربية؛ لأنها هي الديانة السائدة في بلاده التي هو معني بتربية أبنائها؛ يقول: «إنه لمن المقطوع بصحته فيمن يقبلون التعاليم المسيحية قبولا حقيقيا عميقا، أنهم ينزعون إلى التقليل من خطورة طائفة من الشرور كالفقر والمرض، على أساس أن الفقر والمرض هما من شئون هذه الحياة الدنيا، ويصادف مذهب كهذا هوى في نفوس الأغنياء، وربما كان ذلك نفسه هو السبب في أن معظم قادة الحكم متدينون عميقو التدين؛ لأنه لو كان هنالك حياة أخرى ولو كانت الجنة هي الجزاء الذي يعوض عن الشقاء في هذه الأرض، فنحن إذن على صواب إذا أقمنا العوائق في سبيل إصلاح الحياة على الأرض، ولا بد لنا من الإعجاب بهذه التضحية التي يبديها قادة الصناعة [وكاسبو المال] الذي يؤثرون صالح غيرهم على صوالحهم؛ إذ يأذنون لغيرهم أن يحتكروا لأنفسهم العذاب على هذه الأرض ، وهو عذاب قصير الأمد، لكنه موفور الربح [في الحياة الأخرى].»
نامعلوم صفحہ