بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
6
وبعد هذا نستطيع أن نقرر عن علم ومعرفة شخصية أن هذه النظرة السيئة للفلسفة والفلاسفة بقي من آثارها حتى هذه الأيام التي نعيش فيها، أن نفرا من رجال الدين بالأزهر لا يزال يرى أن بعض الفلاسفة المسلمين صاروا إلى الإلحاد بسبب ما ذهبوا إليه في الله تعالى وصلته بالعالم، كما نقرر أنه كان من نتائج ذلك ركود الدراسات الفلسفية في العالم الإسلامي، هذه الدراسات التي لم تأخذ في الانتعاش والازدهار من جديد إلا في هذه السنين الأخيرة.
ذلك ما كان من الناحية العملية الواقعية، أما من ناحية الحق في نفسه، فإننا نستطيع أن نقول بأن ابن رشد نجح في التوفيق بين الدين والفلسفة، وهذا في كثير من المسائل التي تناولها، ولكنه لم ينجح بصفة خاصة في مسألة البعث والجزاء في الدار الأخرى؛ وذلك؛ لأنه لم يستطيع بل ليس من المستطاع لأحد ، تأويل كل الآيات القرآنية بله الأحاديث أيضا، التي تدل صراحة على أنه في الحياة الأخرى ستكون لذائذ وآلام جسمية بجانب الأخرى الروحية.
وإذن فإن المؤمن الذي يعتقد أنه لا بد من التصديق بصريح القرآن الذي لا يحتمل التأويل يرى أنه لا يستطيع بحال أن يوفق في هذه الناحية بين القرآن ومذهب الفلاسفة؛ ولهذا نجد أن الإمام الشيخ محمد عبده، مع شدة رغبته في التوفيق بين الدين والفلسفة وعدم تكفير الفلاسفة بشيء مما ذهبوا إليه، يرى أن اعتقاد البعث الجسدي واجب شرعا، ويكفر منكره، وإن كان من الممكن تأويل ما سيكون من آلام ولذائذ جسمانية على نحو أعلى مما يتصور العوام من غير أن نخشى الوقوع في الكفر.
7
ولكن لنا أن نقول: ما هو هذا النحو؟ إنه لا يمكن حسب كتاب الله وحديث رسوله الصحيح إلا أن يكون البعث والجزاء روحيين وجسميين معا.
ومهما يكن من إصابة ابن رشد الحق أو خطئه في بعض ما ذهب إليه، فإن الإسلام لا يبيح ما كان من بعض رجاله من عداء للفلسفة واضطهاد لرجالها في بعض الأزمان التي خلت، الإسلام الذي يأمرنا كتابه بألا نجادل «أهل الكتاب» إلا بالتي هي أحسن، والذي حث على استعمال العقل لفهم الكون وسائر ما خلق الله، لا يرضى بكل ما صنع رجاله برجال التفكير الحر ورميهم بالكفر والإلحاد؛ لأنهم أخطئوا في بعض ما ذهبوا إليه.
لقد كان من نتائج هذا العداء، أن وجدت هوة بين الفلاسفة ورجال الدين ظلت دهرا طويلا فاصلا بينهم، وأن رمي رجال الدين الفلاسفة بالإلحاد إن لم نقل بالكفر، وجازاهم هؤلاء شرا بشر فرموهم بالجهل وعدم فهم الدين! وكان من هذا وذاك أن حرم الدين من جهود كثير من أبنائه المفكرين، فانكمش التفكير الحر الصحيح وخاصة بعد وفاة ابن رشد سنة 590ه، فقد فقدت به الفلسفة الإسلامية أكبر ممثل ونصير لها من المسلمين، وتضافرت عوامل مختلفة لسيادة روح التقليد.
بقيت كلمة واحدة، لقد رأينا تشابها إلى حد كثير أو قليل بين بعض آراء مفكري الإسلام ومفكري الغرب، ومن مثل ذلك الغزالي من ناحية ومالبرانش وهيوم وديكارت وكانط من ناحية أخرى، في مشكلة السببية، وبين ابن رشد نفسه من ناحية، وسبينوزا من ناحية أخرى، في ضرورة فصل الفلسفة عن الدين بالنظر إلى العامة، وبصفة عامة بين جمهرة مفكري الإسلام من ناحية، وجمهرة مفكري اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى، في ضرورة تأويل بعض ما جاء في الكتب المقدسة تأويلا مجازيا.
ونحن لا نزعم بسبب هذا التشابه الذي اكتفينا بالإشارة إلى بعض المثل له، أنه كان هناك انتقال لبعض الآراء من مفكر إلى آخر عن معرفة وعلم، ولكن نريد بالإشارة إلى ذلك أن نذكر أنه من الخير عدم إقامة الحدود الفاصلة بصفة قاطعة بين العقل في الشرق والغرب، فإن العقل لا يعرف فواصل الجنس والزمن، وكذلك نذكر أنه من الخير فيما نعتقد أن يعاد النظر في الفلسفة الإسلامية على هذا الأساس، لنستطيع بالقدر الممكن لمؤرخ الفلسفة تقدير ما أسهم به الفكر الإسلامي في إقامة صرح التفكير الفلسفي العالمي كله، وبالله التوفيق.
نامعلوم صفحہ