بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
اصناف
وقد فات هؤلاء المتطيرين والمنذرين أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن التقهقر المنتظم خير من الانتصار الطاحن، وقديما قالوا بأن الصلح المجحف بحقوق الرجل خير من ربح الدعوى؛ لأن الربح معناه استمرار النزاع، واستقواء أحد الخصمين على الآخر، بعكس الصلح الجائر؛ فإنه نهاية يحسن السكوت عليها، ويطيب الوقوف لديها، ويلقى عندها السلاح من الناحيتين. ولعمري إن عودة الجند بغير قتلى ولا جرحى خير من عودتهم على حال لا يعلمها إلا الله؛ لأنه هو وحده الذي يعلم عواقب الأمور، ولا يمكن أن يخطئ العالم كله ويصيب موسوليني!
نعم إن مجد الوطن شيء عظيم، وفرح الأيم والأرمل واليتيم بانتصار الأمة على خصمها يفوق حزنهم على من فقدوا من أبناء وأزواج وآباء، ولكن هذا يصح في حال واحدة، وهي حال دفاع الأمة عن كيانها، ورد الهجوم عن حياضها. وعندما يكون الوطن في خطر حينئذ يكون الدفاع مشروعا؛ لأنه دفاع عن النفس والعرض والوطن، ولكن هذه المشكلة التي يعالجها العالم منذ بضعة شهور لم تظهر فيها الحبشة بمظهر الأمة المعتدية، ولا المتهجمة، ولا الطامعة، ولا الطامحة، بل ظهرت بمظهر الآمنة المطمئنة المستكينة المستغيثة؛ ولذا كسبت عطف العالم، وألانت قلوب الدول، وأشهدت الدنيا على قضيتها، فصارت دول الاستعمار نفسها تنكر التعدي، وتحتج عليه، وتأبى على الزعيم الإيطالي أن يغمض عينه عن عراقة الحرية في تلك البلاد النائية التي عاشت ألوف السنين رافعة علم الاستقلال الوطني، والكرامة القومية في قلب القارة السوداء.
من ثيودورس إلى هيلاسيلاسي
كان ثيودورس الثاني يدعى قاسه، وهي كلمة حبشية معناها «عوض»، كما كان هيلاسيلاسي يدعى «تفري»، وكان ثيودورس رجلا عظيما، وينتظر من الحياة أن يكون له دور جليل يمثله في مسرح بلاده، فلما لم يجد ما يعينه على ذلك في حقائق التاريخ الحبشي، التمسه في سجل الأساطير، وكان مثله الأعلى أن يسود وطنه لا ليجني ثمار الفخار الشخصي، ولا ليدخر الأموال ويختزنها، بل ليخدم الوطن، ويعلي شأنه، وهو يعتزم أن يجود بنفسه في سبيل الوطن، فهو يطلب العلا لنفسه ليبذله في خدمة وطنه. وهذا أقصى ما تبلغه الكرامة في شخص الملوك، يصلون إلى أقصى درجات السمو القومي ليكونوا أشرف خدام الوطن، لا على أنهم أجراء، بل على أنهم مواطنون عظماء.
فلما آن الأوان، وكشرت أوروبا عن أنيابها لثيودورس، لم يتقهقر، ولم يرض بإذلال نفسه، بل خاض غمار المعارك، ولما أن أيقن أنه مقهور لا محالة نال من نفسه بيده، قبل أن يقع أسيرا في أيدي خصومه «بيدي لا بيد عمرو». وكان خصومه يقدرون شجاعته وإقدامه، ويكنون له الاحترام، ولا يرضون إذلاله، ولكن سبق السيف العذل، وراح حلم ثيودورس أدراج الرياح، ولم يتمكن بحكم القضاء والقدر من خدمة وطنه، ولكنه أوجد المثل الأعلى لمن يأتي بعده، وترك صورة جميلة من حياة الملوك وما يجب عليهم نحو أوطانهم. لقد كان «رائدا» لمستقبل بلاده، وقائدا لطلائع الأجيال المقبلة، وراسما لخطة لا بد من تنفيذها لفخر الوطن.
كان يرمي إلى توحيد كلمة الوطن ولم شمل الإمارات الصغيرة، والقبائل المختلفة، والمعتقدات المتباينة، واللغات المتعددة تحت راية واحدة، وكان يقصد إلى مقاومة العدو الأجنبي الذي يهجم على أرض الوطن مهما كانت قوة جيوشه، وعدد عساكره، وكان يرمي إلى ترقية روح الشعب وتهذيبه وتثقيفه؛ ليتمكن من مسايرة الأمم المتحضرة في أفريقيا وغيرها.
وكانت مصر في نظره هي النموذج الذي يحتذى، والمثال الواجب أن يتبع، فلما أن حاربت الأقدار صاحب هذا المنهاج الجليل السامي، مؤذنة بأن حياة الأفراد مهما عظموا قد تذهب أحيانا في سبيل حياة الأمم، ولم يتمكن ثيودورس من تنفيذه، بقي المنهاج لمن يجيء بعده، ويحمل بيده تلك الشعلة التي أرغمت الأقدار ثيودورس على التخلي عنها، وهو يجود بأنفاسه، فحملها يوحنا، ثم أسلمها إلى منليك الثاني، وقد كان هو المليك الذي كتبت على يديه نجاة الوطن بأسره من أسره!
كان يوحنا - وهو قاهر الجيش المصري - ماكرا؛ لأنه كان رئيس عصابة قبل أن يكون راهبا أو أميرا وقائدا؛ ولهذا لم يتمكن من التفاهم مع مصر لتدوم له نعمة حسن الجوار
3
لأن حكومة مصر لم تكن تنوي إذلال الحبشة في سنة 1875، ولكنها كانت ترمي إلى إعلاء شأن راية مصر في وادي النيل، وصيانة منابع النهر العظيم، والظهور أمام العالم المتمدين بمظهر العظمة القومية، في وقت هجمت فيه أوروبا على أفريقيا لتقتسمها كما يقتسم الجياع مأدبة يكون الداعي إليها مجهولا، فاقتطعت كل دولة ما شاءت، وجارت تلك الدول على نصيب مصر وأملاكها في قلب أفريقيا وشرقيها.
نامعلوم صفحہ