مقدمة
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها
عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
تطور الغارات على الأمم
الوجه الأخير للاستعمار
ثلاثة رجال وثلاث دول
من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة 1876 إلى سنة 1896
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة
إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا
هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
النتيجة
ملحقات الكتاب
مقدمة
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها
عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
تطور الغارات على الأمم
الوجه الأخير للاستعمار
ثلاثة رجال وثلاث دول
من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة 1876 إلى سنة 1896
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة
إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا
هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
النتيجة
ملحقات الكتاب
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي
بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تأليف
محمد لطفي جمعة
صاحب الجلالة الإثيوبية هيلاسيلاسي الأول إمبراطور الحبشة.
مقدمة
بلاد إثيوبيا هي الوطن الوحيد المستقل في القارة السوداء، وما وصفت أفريقية بالسواد نسبة إلى لون أرضها أو أهلها، ولكن لكثرة مجاهلها وخوافيها، وإلا فإنه لا شمس تشرق في الآفاق، ولا ضوء يتلألأ في الأرجاء، ولا صحو يملأ الأجواء، مثل شروق شمسها، وتلألؤ ضوئها، وصفاء سمائها، ولا خضرة أزهى وأزهر، ولا خصوبة أغنى وأثمر من التي تشاهد في غابها وحراجها، وفي حقولها ومزارعها، ولا غنى في ظاهر الأرض وباطنها كالغنى الذي أنعم الله به على أهل تلك القارة السعيدة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فعدت من أغنى بقاع الأرض معدنا، وزرعا، وضرعا .
1
وقد حبتها الطبيعة بمنابع أربعة من أكبر أنهار الأرض وأغزرها ماء وأجلبها للخير، أعظمها نهر النيل ذي الوادي الخصيب الذي نعمره ونمرح في خيراته، ونفاخر به.
وفي موضع القلب من هذه القارة تقع إثيوبيا أو الحبشة، وما الحبشة سوى هضبة جبلية شامخة الارتفاع تنحدر كالدرج نحو سهول السودان وبحر القلزم، ومن صميم فؤادها ينبع النيل الأزرق، وعلى سفوح جبالها تنمو أشجار الفواكه الجميلة، وشجيرات البن الخضراء، وجوف أرضها حاشد بالمعادن النافعة، وأهلها قوم ذوو بأس شديد يميلون للحرب، ويبذلون أرواحهم في سبيل الدفاع عن وطنهم، وقد حافظوا على حريتهم واستقلالهم منذ نشأتهم إلى يومنا هذا، ولم يناصبهم العداء في العصر الجديد سوى المصريين والطليان، فهزموا وانسحبوا.
كانت قارة أفريقية على الخارطة منذ مائة سنة بقعة سوداء تحفها حاشية بيضاء قليلة العرض مع قربها من أوروبا، ووقوع ساحلها الشمالي موازيا لساحل أوروبا الجنوبي على مسافة ألف ميل، وذلك لأن رداءة إقليمها جعلت إسبانيا وفرنسا والبرتوغال يشحن بأوجههن عنها، ويتزاحمن على الاستعمار في أطراف أميركا والهند السحيقة، وإنما قصدن إلى أفريقية للاتجار بالرقيق فيها.
أما الآن فقد أصبح معظم القارة معروفا بفضل أهل السياحة من قدماء المصريين والعرب والإفرنج الذين جاسوها طولا وعرضا؛ فأناروا ظلماتها، ولم يبق مظلما فيها سوى بقع صغيرة متفرقة لا بد أن تكشف قريبا.
ومما يزيدنا ألما وأسفا وحسرة على قارتنا أن دول أوروبا ضمت كل شبر منها إلى أملاكهن بالطرق السياسية، وبذل الأموال والهدايا لحكام البلاد وزعمائها، والخونة من أهاليها، والالتجاء إلى بعض الحيل التي أملاها دهاء رواد الاستعمار، وانطلت على أذهان البسطاء. وقد سميت وسائل الاغتصاب التي انطوت عليها مكايد هؤلاء المغيرين طرقا سلمية؛ لأنها لم تكلف المغيرين لا معارك ولا مواقع، ما عدا المغرب الأقصى والحبشة، على حين أن استعمار أمريكا والهند كلفهن ألوف الرجال، وبدرات الأموال.
2
وقد شرع المصريون الأقدمون في الأسفار من عهد الدولة السادسة لكشف أفريقيا، وكان أمراء جزيرة الفنتين يتعدون الحدود الجنوبية، ومهدوا الطريق بين أصوان ورأس بناس (على البحر الأحمر )، وكانت السفن المصرية تمخر البحر الأحمر حينئذ، وكانوا يسمون سكان البلاد إلى جنوبي أسوان باسم «الرماة»، والذين إلى جنوبهم باسم المتلعثمين أو الأعاجم؛ لأنهم لم يكونوا يتكلمون اللغة المصرية، وقالوا: إن وراء أرض المتلعثمين الأرض المباركة التي تفيض الخيرات، ووراءها البحر الجنوبي الذي يجري منه النيل، وتطفو عليه الجزر. وانتهت الرحلات المصرية القديمة في سبيل اكتشاف أفريقيا في أيام الدولة السادسة، ومنها سياحة أردودو، وسياحة خركوف، وحدثت كل هذه الأمور منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، حينما كان أهالي أوروبا يأوون إلى الكهوف والبحيرات، ويسترون أبدانهم بجلود الثعالب والأنعام.
وذكر بلينيوس المؤرخ الروماني سنة 70 للمسيح أن التبابعة، ملوك اليمن، عرفوا جميع ممالك أفريقية الشرقية وجزرها، وكان لهم عليها شيء من السلطة، وكانوا يتجرون مع أهلها بالأفاويه والطيوب.
ولما ظهر الإسلام رحل كثيرون من العرب في القرنين الأولين للهجرة إلى سواحل أفريقية الشرقية والشمالية؛ فملكوا تونس وطرابلس الغرب، واجتاز كثيرون منهم صحاري القيروان، وليبيا، وتوغلوا في داخلية البلاد، وبعضهم ذهبوا إلى السودان من طريق مصر وقنا، وكانت القصير مرفأ لمراكبهم يجتازون منها مضيق باب المندب في البحر الأحمر، ويرتادون السواحل الشرقية حتى وصل بعضهم في بدء تاريخ الهجرة إلى سواحل جزيرة مدغشقر جنوبا، وأسسوا في شمالها مملكة عربية لم تزل آثارها وقلاعها وبقايا شعوبها موجودة حتى الآن.
3
واستدل العلماء أن العرب من بدء الهجرة عرفوا أكثر بلاد أفريقية، ووصلوا إلى منابع النيل، وتوغلوا في بحيراتها وغاباتها ومجاهلها، وكانت حتى أواسط القرن الماضي يجهلها الإفرنج، ووطئت أقدام الفاتحين من العرب تلك البلاد السحيقة قبل أن تطأها أقدام السياح المتأخرين، وكانت لهم تجارة واسعة في أفريقية كلها، وملكوا الصومال، وجوبع، وممبسة، وزنجبار، وموزمبيق، وكومورو، وانتشرت عندهم النخاسة كما كانت منتشرة عند اليونان والرومان والأوروبيين والأمريكان.
ولما ضعفت شوكة العرب، ونبذوا العلوم والمعارف، وتركوا أسباب التجارة، واشتد ساعد البرتغال جهزوا السفن والرجال في أواخر القرن الرابع عشر، وأرسلوها إلى سواحل أفريقية الغربية والجنوبية والشرقية، وطردوا العرب منها.
وتربط المسلمين بالحبشة أمور شتى؛ أولها مصالح التجارة، قال صفوان بن أمية: «وإنما حياتنا بمكة على التجارة في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء.»
ولما قبض الله خديجة بنت خويلد تزوج الرسول من سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس، ولم يرو راو أن سودة كانت من الجمال، أو من الثروة، أو من المكان بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرا في زواج محمد منها، إنما كانت سودة زوجا لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين عذبوا وهاجروا إلى الحبشة وهاجرت معه زوجته، وعانت معه ما عانت، فتزوجها محمد ليعولها، وليرتفع بها إلى مقام أمهات المؤمنين.
ولما أرسل النبي إلى ملوك الأرض وفودا وكتبا بختمه يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم هرقل الروم، ومقوقس مصر، وكسرى الفرس، لم يغفل النجاشي، فكان رد النجاشي جميلا لطيفا، خصوصا بعد ما كان بينه وبين المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده، وأقاموا في جواره.
ويظهر أن عاطفة ود صحيح قد نمت بين النبي وبينه، حتى زعم بعضهم أنه أسلم، ولكن هذا خبر مبالغ فيه، غير أن النجاشي لم يقصر في حمل المهاجرين من المسلمين بزعامة جعفر بن أبي طالب، ومعهم رملة بنت أبي سفيان (أم حبيبة).
ولما عادت أم حبيبة من الحبشة أصبحت من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. وقد علل المؤرخون هذا الزواج بأسباب كثيرة؛ منها أن محمدا أراد الارتباط بأبي سفيان، ومنها أنه أراد كيده وهو في وثنيته قد دخلت ابنته في دار خصمه الألد صاحب الدين الجديد.
والسبب الصحيح في زواج النبي من أم حبيبة هو رغبته في مكافأتها على ثباتها في دينها، والأخذ بيدها بعد تنصر زوجها، ثم ما رآه فيها من الذكاء الخارق، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، وصدق المشورة في الأزمات، سواء أكانت في الهجرة، أو في الوطن، أو في الحرب، أو في السلم؛ فإنها هي التي دبرت كثيرا من شئون المهاجرين في الحبشة، وهي التي ردت كيد عمرو بن العاص في نحره عندما أراد الدس للمسلمين عند النجاشي،
4
وهي التي أشارت على النبي في الحديبية بحلق شعره ، وذبح هديه، والخروج إلى الجيش فاتبعوه، وبذا حلت أزمة داخلية كبرى.
وإذن يكون عقل أم حبيبة، ومتانة خلقها، وحسن تدبيرها، وثباتها على دينها (لأنها لم تتبع زوجها ابن جحش عندما ارتد) هي الخلال التي عطفت قلب رسول الله عليها، وجعلته يقدرها قدرها فضمها إلى آل بيته.
هذا بعض ما يربط الحبشة بالإسلام ومصر في العصور القديمة، وقد أسهبنا الكلام فيه في الفصل الأول من الكتاب.
إن مصر والشرق بجناحيه الأدنى والأقصى بعد قلبه الخافق، والعروبة بشعوبها ودولها كلها مهتمة بحالة الحبشة ومركزها في العالم، وأزمتها الحاضرة. وإن اهتمت أوروبا بالمشكلة الحبشية خوفا على السلم العالمي، أو مقاومة مطامع إيطاليا الاستعمارية، فإننا نهتم بالحبشة لأنها تمثل الشرق وأفريقيا في أسمى مظاهرها وأروعها وأرفعها وأشرفها وأسماها. وأي شيء أعظم من التعلق بالحرية جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، والوقوف في وجه العدو الأجنبي مهما كانت قوته وبطشه، وسلطانه وتهديده، ووعيده ووعوده، ونفوذه ونقوده؟! فإن الأحباش يرون الحرية أغلى من كل خير في الحياة، كما يرون كل شر هينا في سبيلها.
ونحن لا نبغض الطليان، ولا نظن أنهم يناصبوننا العداء، أو يحملون لنا حقدا في حنايا ضلوعهم. وقد دامت علاقة الود بيننا وبينهم أجيالا طويلة، ولكن هجومهم على الحبشة فى سنة 1896، وعلى طرابلس الغرب في سنة 1912، ومعاودتهم الكرة على الحبشة في هذا العام حول قلوبنا عنهم، والصراحة في هذا الظرف واجبة، فنحن لا نحب أن نرى دولة أجنبية تنقض على مملكة شرقية في هذا العصر؛ عصر المدنية والحرية. وقد هاج الاعتداء الإيطالي ضمير العالم كله، فلا عجب إذا هاج ضمير مصر وبينها وبين الحبشة ما ذكرنا من أواصر الجوار والمودة. ولا نخفي أننا لو استطعنا لمنعنا هذه الحرب بكل الوسائل التي في وسعنا. وإن أسفنا على شيء أسفنا على أن مصر ليست عضوا في عصبة الأمم لتتمكن من إسماع صوتها؛ لأن قناة السويس واقع في أرضها، وهي قناة عالمية محايدة، ولكن موانع السياسة، وتردد رجالنا حرمتنا من هذا الحق المقدس، فإن مصر ليست أقل من العراق، ولا من الحبشة نفسها، التي ننبري اليوم للدفاع عنها، وكان صوتنا يكون أرفع، وحجتنا أبلغ لو أن لدينا قوة مادية، أو مقعدا ومنبرا في جنيف.
وإن تقدما كتبه الله لنا، وثروة في العلم والمال تالدة وطارفة، وموطنا يتوسط العالم القديم برا وبحرا، أنعمها علينا لخليقان بأن يجعلا لمصر مركزا ممتازا، فما فتئت مصر تشغل بال العالم في الحرب والسلم، وتحسب لها دول الأرض حسابا غير يسير، وقال نابليون بونابرت: «مصر أعظم مملكة في العالم.» ولم يخف عليه أنها تستطيع بموقعها الجغرافي أن تتحكم في حظوظ طائفة من الأمم غير قليلة، غير أن مصر كثيرا ما ضيعت الفرصة السانحة، وأفلتت من يدها زمام السياسة التي تصلح لها، وتهاونت في كثير من حقوقها حتى كادت تمحو حسن طالعها.
ما الذي عاق مصر عن الدخول في عصبة الأمم؟ إنها السياسة، وإنه الجهل العقيم لا قضاء، ولا إفتاء، ولا قول المؤرخين الهراء.
أليس الدافع للفاشيست وهمهم أنهم قادرون على أن يفعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله؟
ويظهر أن الفاشيين يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولتهم، وممتثلا لأوامرهم، خارج عن الحضارة، وهم يصفون خصومهم بأنهم متوحشون وطائشون وغير جديرين بأن يكونوا أمة، أو يدخلوا في زمرة العصبة. وتحب أوروبا أن تذكرهم بموقعة عدوة التي ما تخلصوا من ذكراها الأليمة إلا بجهد جهيد.
سيرى القراء أن إيطاليا تعلل نفسها بالانتقام لعدوة، ويكادون وهم يطرحون نزاعهم على بساط البحث في جنيف يهاجمونها بقنابلهم وطائراتهم قبل أن تكشر الحرب عن أنيابها، وقبل أن تدق تلك الشمطاء طبولها في آذان الأمم المطمئنة الوادعة.
5
ولكن إمبراطور الحبشة، الذي وصفه الدوتشي بالثرثرة، عرف كيف يتقدم إلى جامعة الأمم، فسلم الأمر للمندوبين راضيا، وترك حقه راغبا، فأمسوا عنه راضين كما رضي، يرون رأيه حذو القذة بالقذة.
6
ولئن ذكروا ثأر عدوة، الذي انقضت عليه أربعون سنة، فقد أخطئوا المرمى، وأساءوا اختيار الحجة، فإنه في دون هذه المدة تنسى الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الأكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة، ويعدم قرن من الناس، ويخلق قرن جديد، ولم يبق من أرباب تلك الشحناء إلا الأقل.
7
فماذا تفيد إيطاليا الآن من إظهار ما في النفوس، وهيجان ما في القلوب، ما دامت الأخلاف من قومهم، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائع الأحباش وفتكاتهم لا يفكرون في الانتقام من قوم لا تزال سيوفهم ورماحهم تقطر دما في سبيل الدفاع عن أوطانهم؟!
وطالما لقي الأحباش أعداء في سبيل الدفاع عن وطنهم، فلقوهم، نفخ العلانية، خور السريرة، هرج في الرخاء، جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، إن أهملوا خاضوا، وإن حوربوا خاروا، وإن اجتمع العقلاء على رأي طعنوا، وإن أجيبوا إلى مشاقة نكصوا.
ولما اجتمعت عصبة الأمم خلال شهر سبتمبر، وانبرى مندوبو الأمم يدافعون بالبرهانات القوية لجاج إيطاليا وجدالها، لم يجدوا لديها سوى الطعن في الحبشة، والانتقاص من مكانتهم بين الأمم. وكان المندوبون يظنون أن إيطاليا بعد الجدال والخصام واللدد ستلين شدتهم بعض اللين، ولكنهم أضجروا كل عظيم وعبقري، وألمعي من المندوبين وأعضاء اللجان وهم يحاورونهم، فآمن المندوبون وصدقوا أن لا حجة لديهم ولا برهان سوى حجة الذئب ضد الحمل، ولكن يظهر أن الرعاة قد تضافروا هذه المرة ليمنعوا المفترس عن الفريسة.
إن مسلك مصر لا ينطوي على العطف فقط، بل إنه مستمد من مشاركة العالم المتحضر رأيه في خطة إيطاليا؛ فالعالم لا يريد حربا؛ لأنه علم بالخبرة المحرقة أن الحرب عدو التقدم الألد، وخصم الحضارة الأعند، والعالم لا يشفق على من يزعزع أركان السلم، ويهرق الدماء في سبيل مخاوف موهومة من الجوع الذي سوف يلحق - في زعمهم - الأجيال المقبلة. ففي سبيل ضمان الرغيف لأبناء الغد يفنى أبناء هذا القرن عن آخرهم، وحينئذ يكون من قال: «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة.» قد أخطأ في شريعة الفاشيست.
ومن ذا الذي أعطى الطليان حق الاعتداء على الأحباش، والتنكيل بهم، والنيل من كرامتهم، وامتهان أمتهم؛ بحجة تحضيرهم وتمدينهم؟ وهذه أمة على أفريقيتها، وبساطة أخلاق أهلها، وبعدهم عن خبث بعض الممالك المتحضرة يرجع نسبهم إلى الحرية ثلاثة آلاف سنة إلى عهد سليمان الحكيم،
8
في حين أن استقلال الطليان وجلاء آخر جندي أجنبي من عاصمتهم يرجع إلى ستين عاما.
سوف يسجل التاريخ الإنساني أنه لم يسبق لساسة في العصر الحديث أن يروا نشوب حرب جائرة بمثل هذه السهولة، فهاكم دولة كبرى من ضامنات السلام العام في العالم، وفي الصف الأول بين دول أوروبا المتحضرة، أو التي تقول عن نفسها ذلك، ما برحت في ثنايا ضميرها منذ أعوام تهيئ المعدات العسكرية، وتعد ما استطاعت من قوة وسلاح، ورباط الخيل والطير، فلما وثقت أنها أتمت عدتها، وأكملت استعدادها، أشعلت نار حرب شعواء للغزو في سبيل الفتح والغنيمة، تذكر العالم بغارات القبائل على الممالك الكبرى ذات الحضارة.
ومما زاد هذا الشعور ألما أن الدولة المهاجمة رفيقة لها وزميلة في عصبة الأمم التي تجمع الاثنتين بعهد الشرف.
وفي الحق أن عصبة الأمم لم تقصر في أداء واجبها، فوافق مجلسها المنعقد في جنيف في 7 أكتوبر بإجماع الآراء على تقرير لجنة الثلاثة عشر، ولجنة الستة، وألقت على الدولة الأوروبية المتمدنة مسئولية الحرب الجائرة.
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
كانت الحبشة تدين بالوثنية كسائر الشعوب الأفريقية، ولكن اتصالها ببني إسرائيل ما أدى إلى انتحالها الدين الموسوي، فلما أذن الله للمسيحية أن تنتشر، ودانت لها الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت النصرانية في اليونان والشام ومصر، امتدت من مصر إلى الحبشة. وكانت الحبشة منذ أول أمرها ترمي إلى الفتح، فتغلبت على اليمن، إلى أن غلبهم الفرس في عهد كسرى، فأجلوا عنها وارتدوا إلى حدود بلادهم وراء البحر الأحمر بعد أن ملكوا اليمن خمسة وسبعين عاما.
وكانت الحبشة قبل ظهور الإسلام بخمسين ومائة عام والنجاشي على عرشها في قمة مجدها، تجري بأمرها في البر والبحر تجارة واسعة، ويمخر البحار أسطول لها قوي أخضع لها ما جاور شطوطها من البلاد. وقد خطب أهل بيزنطة ودها وولاءها، واعتبروها ممثلة للسلطة المسيحية في البحر الأحمر، وبأمرهم فتحت الحبشة بلاد اليمن على يد قائد حبشي خلعه أبرهة الأشرم ، المشهور في تاريخ الإسلام بصاحب الفيل؛ لأنه هو الذي قاد حملة الفيل إلى مكة وحاول تدمير الكعبة، فكان ما كان من خبر فشلهم وهلاك جيشهم.
وكان عبيد الله بن جحش من أكابر العرب في السؤدد والنفوذ، وفي التفكير أيضا، فكان في الجاهلية يبغض الوثنية، ويتشكك فيها، ويريد أن يعيش حر الفكر غير مقيد بعبادة الأصنام أو أية عبادة أخرى من قبيلها، وكان هو وثلاثة من صحبه هم: زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل يحقرون الوثنية وينكرونها، ويعتبرون أهلها في ضلال، حتى إن عبيد الله بن جحش انبرى لأصحابه وقال: «تعالوا، والله ما قومكم على شيء، وإنهم لفي ضلال، فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم، التمسوا لكم دينا غير هذا الذي أنتم عليه!»
وظل عبيد الله بن جحش فيما هو فيه من الثورة على الوثنية حتى ظهر الإسلام، فكان في مقدمة الذين أسلموا، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وقد صحبته في هجرته إلى الحبشة امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي أخت معاوية.
ولما كان عبيد الله بن جحش قابلا للتغيير والتبديل في معتقده منذ تزعزع إيمانه، ومنذ اجتمع هو وقومه بنخلة ليحيوا عيد «العزى»، فقد دب هذا الضعف إلى دينه الجديد بعد هجرته، فسهل على دعاة المسيحية في الحبشة أن يجذبوه إليها، فانتحل النصرانية، وطلقت امرأته، وما زال على النصرانية إلى أن مات عليها.
1
أما أم حبيبة فبقيت على دينها، وهو الإسلام، حتى عادت من هجرتها مع من عاد من المسلمين، وصارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وكانت على عقل راجح، وخلق متين.
لما ظهر الإسلام بشيء من القوة بدأت قريش تناوئه، وتعاكس ذويه، وتنزل بهم ما تقدر عليه من صنوف الاضطهاد والتعذيب والبلاء؛ حتى بلغ التعذيب التقييد بالسلاسل والحبس والجلد، حتى القتل! فضج المسلمون واستغاثوا بالله ورسوله، فأشار النبي عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة النصرانية؛ لأنها قريبة من وطنهم؛ ولأن بها ملكا - هو النجاشي - لا يظلم أحدا، وقيل إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف أرض الحبشة بأنها أرض صدق ... وقد أشار النبي على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة والبقاء بها حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه؛ فأطاعوا أمر رسول الله وخرجوا من مكة فارين بدينهم إلى الله.
وكانت الفرقة الأولى من المهاجرين مؤلفة من أحد عشر رجلا وأربع نسوة تمكنوا من الفرار من مكة، فلما بلغوا بلاد الحبشة أكرم النجاشي وفادتهم، ثم عادوا إلى مكة ظنا منهم أن قريشا كفت أذاها عن المسلمين، فرأوا بأعينهم من الأذى أشد مما عانوا في بداية أمرهم، فعادوا بهجرتهم إلى الحبشة وقد بلغوا ثمانين رجلا غير النساء والأطفال، وما زالوا بها إلى أن هاجر النبي إلى المدينة.
وقد استمر الفريق الأول في الحبشة ثلاثة أشهر كان عمر بن الخطاب قد أسلم في أثنائها، فاشتد ساعد المسلمين في مكة، وظن المهاجرون أنهم لن يلقوا بها عنتا؛ فعادوا إلى وطنهم، ولكن آمالهم حبطت عندما رأوا من ظلم أهل مكة أكثر مما رأوا من قبل، فعادوا إلى الهجرة في عدد أوفر.
عاد المسلمون المهاجرون الأوائل من الحبشة بعد ثلاثة أشهر بعد أن أسلم عمر بن الخطاب، ونصر الإسلام بمثل الحمية التي كان يحاربه بها من قبل، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين، وعادوا حين شبت الثورة في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها.
والثابت في كتب التاريخ أن أهل قريش لم يطمئنوا إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة، فبعثوا برسولين إلى النجاشي يحملان أنفس الهدايا وأغلاها ليقنعوه برد المسلمين المهاجرين إلى وطنهم، وقد علم أهل مكة أن النجاشي تفضل فبسط حمايته على المسلمين المهاجرين بعد أن سمع أقوالهم في وصف دينهم الجديد.
أما رسولا مكة إلى النجاشي فكانا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دل القرشيون بهذا الانتخاب على صدق فراستهم، وحسن اختيارهم، ولا سيما في اختيار عمرو؛ فقد سبقت له أسفار إلى الحبشة؛ لأنه كان في الجاهلية يتجر ببضائع اليمن والحبشة إلى الشام، وأهمها الأدم والعطر.
وقد عادت ممارسة التجارة على عمرو بأعظم الفوائد المادية والمعنوية، فاكتسب كثيرا من أسفاره المتصلة واختلاطه بأقوام على جانب عظيم من المدنية والارتقاء إذ ذاك؛ فتولدت فيه المواهب النادرة، ونمت وازدهرت، فتجلت مظاهرها في جميع أدواره وكل فعاله؛ مما كان له أعظم الأثر في مواقفه السياسية والحربية. وهذه الأسفار أكسبت عمرا شيئا من الدهاء غير قليل،
2
من ذلك ما ورد في الأغاني،
3
وهو خاص بما وقع بين عمرو وعمارة بن الوليد المخزومي من التناحر والمكايدة على النفوذ والنساء، وما زال عمرو يرصد لعمارة حتى أوقع به في دسيسة قضت على سعادته.
هذا هو عمرو بن العاص أحد الرسولين اللذين بلغا الحبشة ليستردا المهاجرين، فدفعا
4
إلى النجاشي ورجال كنيسته ما كانا يحملان من الهدايا، وتقدم عمرو في بلاط النجاشي عند التشريفة الأولى بالخطبة التالية على لسان قومه، قال:
أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
5
ولم يقصر عمرو بن العاص في استمالة قلوب بطارقة الحبشة إليه بالهدايا والتحف ليكونوا في صفه عند النجاشي، ويسهلوا عليه استرداد المهاجرين دون أن يسمع النجاشي دفاع المهاجرين.
وبذل البطارقة قصارى جهدهم في إيغار صدر النجاشي على المسلمين المهاجرين، فأبى عدل النجاشي، الذي ذكر عنه النبي «أنه لا يظلم عنده أحد»، أن يجيب طلب الرسولين حتى يسمع ما يقوله المهاجرون، فلما مثلوا بين يديه سألهم عن الدين الذي فارقوا فيه قومهم، ولم يدخلوا به في دينه ولا في دين أحد من الملل، فانبرى له جعفر بن أبي طالب - ابن عم النبي - فقال:
أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بالصدق والأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام؛ فصدقناه وآمنا به على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
6
فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه علي؟»
قال جعفر: «نعم!»
وتلا من سورة مريم إلى قوله تعالى:
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقا لما في الإنجيل أخذوه وقالوا: «هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح!» وقال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.» ثم التفت إلى عمرو ورفيقه وقال لهما: «انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما!»
ولكن عمرو بن العاص لم تخمد جذوة مكره، ولم تنطفئ شعلة دهائه، فعاد من الغد إلى النجاشي بفتنة جديدة، ولكنها فشلت، وقال النجاشي للمسلمين: «ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط.» وقد أخذ عودا وخط به على الأرض، وأحسن وفادتهم، وأكرم ضيافتهم، وعاملهم بالعدل والدعة.
وقد برهن الأحباش وعلى رأسهم النجاشي والبطارقة أنهم شعب كريم عريق في الشفقة والإنسانية والعطف على كل مظلوم أو مضطهد، سواء كان على دينهم أو على دين يخالفه، فغمروا المسلمين المهاجرين بحسن الجوار، وجميل المعاملة؛ مما جعل المسلمين يطمئنون إلى جوارهم، ويسكنون إلى حمايتهم من أهل مكة الذين تتبعوهم بالأذى حتى في المنفى.
ودل النجاشي والأحباش على أنهم أهل مروءة ونجدة، وقد صدق نظر رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ بعث بأصحابه إلى الحبشة منتظرا معاملتهم بالعدل والحسنى.
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
آخر جهود مصر في توسيع أملاكها في أفريقيا
تنازلت الحكومة العثمانية في سنة 1866 لمصر عن سواكن ومصوع، مقابل زيادة في الجزية التي كانت تقبضها تركيا من مصر مساناة، فأخذت الحكومة المصرية تسعى في توثيق المواصلات بين مصوع وكسلا، فأنشأت بينهما خطا حديديا يمر في سنهيت التي اعتبرتها مصر داخلة في منطقة كسلا.
ولمدينة كسلا هذه أهمية كبرى من الناحية الحربية؛ لأنها واقعة على أحد روافد نهر عطبرة، وقريبة جدا من الحدود بين الحبشة والسودان، ويكاد يربطها بمصوع خط مستقيم مارا بأسمرا (عاصمة إريتريا)، ولا تبعد كسلا عن حدود إريتريا أكثر من عشرين كيلومترا، فلها في كل وقت أهمية عسكرية كبرى في أي حرب تنشب بين الحبشة وبين أية دولة أخرى «ولو أنها كانت في يد إحدى القوتين المتحاربتين لأكسبتها مزايا لا يستهان بها، بل إن كسلا تستطيع أن تتحكم عسكريا على إريتريا».
1
ولم تكن تلك الأهمية لتخفى على نجاشي ذلك الزمان (1866)، وهو تيودورس، فادعى امتلاك سنهيت للحبشة.
ولكن تيودورس ما لبث أن جر على نفسه حربا مع الإنجليز، وإليك بيان أسباب تلك الحرب بالإيجاز؛ فإن سياسة بريطانيا في شرق أفريقيا في أواسط القرن التاسع عشر كانت في الاتصال بحكام الحبشة، حتى توطدت روابط المودة بين الإنجليز وتيودورس ملك الحبشة، وفي نهاية الأمر جردت عليه حملة انتهت بانتحاره خوفا من الوقوع في الأسر، وسقوط ماجدلا، عاصمة ملكه، في يد سير روبرت ناييبير، الذي صار لورد ناييبير أوف مجدالا بعد انتصاره على الأحباش.
وأصل هذا البلاء أنه في سنة 1805 هبط أرض الحبشة إنجليزي عظيم هو الفيكونت جورج فالنتيا، وكاتم سره هنري صولت، فطافا بالبلاد وتعرفا بالملك إمبوالاصيوني، وقدما إليه الهدايا والتحف؛ لأن الهدايا تصون الصداقات، ثم رحلا. وبعد أربع سنين عاد صولت بهدايا نفيسة وخطاب توصية للملك، وهو مزود بأوامر تقضي عليه أن يضع تقريرا وافيا عن أحوال البلاد، وأن يتصل بالقبائل المتاخمة للسواحل ليدعوها للمتاجرة مع بريطانيا.
فنحن نعد الفيكونت وكاتم أسراره طلائع الغزو الأوروبي في الحبشة، وإن كنا نعلم أن إنجلترا لم تكن ترغب في شيء أكثر من اجتلاب الأحباش إلى أسواقها، وهي تتبع في ذلك الطرق الودية والدبلوماسية.
وعاد صولت إلى إنجلترا ووضع كتابا في سنة 1813 عن رحلته إلى الحبشة، وبذلك انتهت مأمورية الرائدين الأولين، وهي سياسة ودية. وفي سنة 1830، زار الحبشة الأسقف جوبات وزار «جندار» بصحبة مستر كوفن الذي رافق صولت في رحلته السابقة، وفي سنة 1840 اتصلت حكومة الهند بالرأس شملا سلاسي، حاكم شوا، وعقدت بينهما معاهدة صداقة وولاء (1884)، وطاف بالحبشة رائدان حربيان؛ هما: هاريس وجونستون، وعقبهما وكيلان من ديوان المخابرات؛ هما: بلودن وبل، التقيا بالسويس وتذرعا بالحيلة والذكاء حتى تمكنا من الطواف بالحبشة، ثم عادا إلى إنجلترا؛ فعين أحدهما - مستر بلودن - قنصلا لدولته في مصوع، وعمله الظاهر الدعوة لترويج المصنوعات الإنجليزية.
وقد قابله لورد بالمرستون قبل سفره إلى الحبشة في سنة 1848 وزوده بهدايا للرأس علي، وأوصاه بتوثيق العلاقات بين إنجلترا والحبشة، فلما وصل بلودن في سنة 1849 إلى الحبشة وقع مع الرأس علي معاهدة، فتناول الرأس القلم مبتسما وقال: «معاهدة لا فائدة منها؛ لأنه ليس في الحبشة ما يغري أحدا من تجار الإنجليز.»
2
وكان الرأس علي أقوى حكام الحبشة، وأحقهم بلقب ملك أو نجاشي، وقد تنازل لبريطانيا عن حق حماية الرهبان الأحباش في القدس.
ظهر في أفق الحياة الحبشية «لدج كاسا» (بعد ذلك تيودورس الثاني)، وكان شهما مجازفا، فتغلب على خصومه ومزاحميه، وكان رجلا خياليا يعتقد أنه بطل رباني مرسل من العناية الإلهية لأداء وظيفة سامية للوطن، وهي جمع كلمة الأحباش، ولم شعثهم تحت علم واحد؛ لتبلغ ذروة المجد والقوة، فيخشاها العالم كله.
وكان الرأس علي يرى غير رأيه، ويفضل التأني وتقديم الرأي على الشجاعة، فكانا في أخلاقهما على طرفي نقيض، فساءت العلاقة بينهما ، وتنازلا في مواقع عدة انتهت بأن خلص لدج كاسا من الرأس علي بأن أصابه بجرح في رأسه أرداه قتيلا.
وتوج كاسا ملكا على الحبشة باسم تيودورس الثاني؛ لأنه علم من بعض الأساطير أن سيأتي على الحبشة ملك قوي اسمه تيودورس يلم شمل الأمة والوطن، ويحكم بالعدل والإنصاف، فترهب الدول جانبه، ويعم اليسر والرخاء عهده، فاعتقد كاسا (ومعناها بالحبشي عوض) أنه هو المقصود بالذات، وإن لم يعتقد فقد أراد أن يكون هو، فتوج في 7 / 2 / 1855 ملك ملوك الحبشة.
واجتمع الصديقان بلودن وبل ثانية في معسكر تيودورس عقيب تتويجه، وقد تزوجا من سيدتين حبشيتين عريقتين في المجد، وكانا صديقين للرأس علي، فلما قهره كاسا؛ لاذا بمعسكر الغالب معا.
وقام تيودورس ببعض شئون الإصلاح في البلاد، وحدث أن مستر بل (أحد الاثنين) قتل برصاصة طائشة مجهولة المصدر، فحزن عليه تيودورس حزنا شديدا؛ لأنه كان يعول عليه، وكان يجد في عشرته السلوة التي يلقاها الملوك في الندامى.
فكان عهد تيودورس نذيرا بهلاك الصديقين؛ فإن بلودن الذي بقي بعد مصرع بل، وهو قنصل إنجلترا بمصوع، مرض وأراد السفر إلى وطنه للعلاج، فأبى عليه تيودورس مفارقته، فخطفه بعض خصومه، ودفع النجاشي ديته، ثم اشتدت عليه وطأة المرض، فتبع رفيقه السابق بل إلى الدار الآخرة، وبموتهما فقد النجاشي تيودورس (كاسا سابقا) خير أعوانه، فساءت علاقته بإنجلترا حتى نشبت الحرب بين إنجلترا والحبشة.
فطلب الإنجليز من حكومة مصر (عهد إسماعيل) أن يأذن لهم باجتياز بعض الأرض المصرية الواقعة على بحر القلزم، فلم يكتف إسماعيل بإجابتهم إلى ذلك، ولكنه لاستيائه من تيودورس وضع الأسطول المصري كله، الذي كان في البحر الأحمر، تحت تصرفهم، وكلف حاكم مصوع بمساعدة الإنجليز في كل ما يرغبون، وانتهت الحرب بين إنجلترا والحبشة بموت تيودورس، كما قدمنا، في سنة 1868، وصيرورة العرش الحبشي إلى يوحنا.
الرأس يوحنا وحروب مصر والحبشة
كان يوحنا في أول أمره راهبا صغيرا في دير، ولكنه ما لبث أن تركه وترأس عصابة من الأقوياء، وأخذ يقطع الطريق على السابلة، ثم اشتد ساعده، وزاد بطشه، وعلا نفوذه حتى تمكن من تبوء كرسي الحكم في مقاطعة البحري، والتغلب على الرأس باريو.
ولما جاء الإنجليز لمحاربة تيودورس ساعدهم يوحنا مساعدة فعالة؛ فكافأه لورد ناييبير أوف مجدالا
3
بعد قهر النجاشي وموته، بأن ترك له اثني عشر مدفعا، وألفي بندقية، وميرة كثيرة ليستعين بها على الحلول محل تيودورس، وبعد انسحاب الجيش الإنجليزي تخلف عنده بريطاني اسمه جون تشارلز كركهام، فعضد يوحنا في التغلب على بعض خصومه، فعلت عنده منزلته، وبما أن يوحنا لم يكن من آل بيت الملك، أبى كثيرون من رؤساء الأحباش الاعتراف به، وأخذوا يناوئونه العداء، وأهمهم رأس قبيلة القالا، فانشغل بقتالهم حينا من الدهر.
وكانت الدولة المصرية قد توغلت في فتوحها حتى بلغت خط الاستواء، فوقع في خلدها أن تجعل النيل كله مصريا، فسيرت حكومة مصر إلى جوف بلاد الحبشة رجلا سويسريا اسمه متزنجر لمعرفة أحوالها، واستمالة كبار رءوسها، فتوغل متزنجر في الحبشة، وغاب خبره حينا عن مصر، ثم عاد حاملا شيئا من منتجاتها، وزين لحاكم مصر إذ ذاك، وهو الخديو إسماعيل، التغلب عليها وامتلاكها، مغتنما فرصة الفتنة بين أمرائها، وأقسم له بأغلظ الأيمان أنه يملكها ويدوخها بنفر من العسكر المصري وشيء يسير من النفقة.
فأعجب الخديو برأيه، ومال إليه، فولاه الحكم على مصوع (مفتاح الحبشة)، فسار متزنجر إلى مقر وظيفته، واغتنم في سنة 1872 فرصة غياب يوحنا في محاربة القالا في الجنوب واستولى على سنهيت المذكورة آنفا، وهي عاصمة البوغوس، وتعرف باسم «كرن»، واستمال الرأس محمد الذي كان يكره يوحنا، واشترى منه مقاطعة قريبة من مصوع اسمها «آيلت».
وخشي يوحنا عاقبة الفتح المصري، وأخذ يرى شباك الدولة المصرية حوله بعين الرعب والحذر، وينظر إلى تقدم الجنود بقلب مضطرب، ووقع في خلده في أول الأمر أن يستظل بحماية أوروبا بأن يصور لهم الهجوم المصري بصورة غزو إسلامي لبلاد مسيحية، يستدعي أن تقابله النصرانية الأوروبية بحرب صليبية جديدة، فأرسل صديقه جون شارلز كركهام إلى الملكة فيكتوريا وباقي عواهل أوروبا في تلك المهمة، ولكنه لم يجد من أحدهم أذنا مصغية، وعاد رسوله بخفي حنين.
وأيقن يوحنا أنه لا يحك جلده مثل ظفره، فصمم على أن يتولى جميع أمره، وأن يقوم بالدفاع عن نفسه بنفسه.
وفي سنة 1874، توفي السلطان أحمد سلطان هرر،
4
وتولى السلطنة بعده الأمير محمد، فاستبد بالأهلين، فاستنجدوا بإسماعيل، فأخذ يسعى في شراء زيلع وبربر، ثغري هرر، من الدولة العثمانية، وتمت الصفقة، وتنازل الباب العالي عنهما في يوليو سنة 1875، مقابل زيادة 13365 جنيها على جزية مصر السنوية.
فامتد سلطان مصر على ساحل القلزم الغربي عامة من خليج السويس إلى تجوره، وتجاوزه إلى رأس جردافوي على المحيط الهندي متناولا بذلك نفس أرض الصومال.
وعقدت الحكومة المصرية لواء حملة لمن يدعى رءوف باشا، فاحتلت مدينة هرر في 11 أكتوبر سنة 1875، وقبض قائدها على السلطان محمد وقتله خنقا بحيلة في حفلة دينية حينما كان السلطان جالسا يصلي أو يذكر، وقتل معه خمسة وعشرين شيخا من الزعماء، واستولى على كل ما كان يملكه ذلك السلطان.
5
وقد شبه لحكومة مصر بعد شراء زيلع واحتلال هرر أن اكتساح الحبشة بات أمرا لازما، ولم يعد منه مناص، فجهزت حملة الأميرالاي أرندروب الطوبجي الدانماركي في شتاء 1875، فسار قاصدا إلى «عدوة» إحدى عواصم يوحنا. وكانت إنجلترا وفرنسا قد سلحتا الحبشة بالأسلحة النارية، سواء بالبيع أو بالإهداء.
وفي أكتوبر سنة 1875، علم يوحنا بزحف المصريين نحو أسمرا، فاستنفر جميع المقاتلين من رعاياه في سائر أنحاء المملكة، فلبوا نداءه أفواجا، وأخذ يوحنا يمكر بجيش أرندروب ويخدعه، فيتقدم تارة ويتأخر طورا، ثم يختفي، ويظهر بعد ذلك فجأة، ولا يلبث أن يعود إلى الاختفاء لإطماع عدوه في نفسه، حتى انطلت حيلته على المتحمسين في الجيش المصري، ولم يكن هذا إلا استدراجا من يوحنا لخصومه، والتقى الجيشان على ضفاف نهر المأرب، وكان عدد الأحباش بنسبة ألف لكل عشرة من المصريين، فهزموا.
فبادرت مصر إلى تجهيز حملة أخرى تحاط بجميع مسببات الفوز وتسييرها للحال؛ للاقتصاص من الأحباش، وللاقتصاص لشرف مصر، بحيث تبلغ الغرب في آن واحد أنباء كسرة أرندروب، وأنباء فوز الحملة المرسلة للثأر لها فوزا ساحقا، فتستمر الثقة بمصر تامة، وتزداد على مر الأيام رسوخا، وتم ذلك وسلم لواء الحملة إلى السردار راتب باشا،
6
وكان مولدا من أب شركسي ووالدة سودانية، وكان شجاعا أبي النفس لا يهاب الموت، ولكنه كان كثير التردد في الحرب والسياسة.
وقد أوصت الحكومة المصرية راتب باشا وبقية قواد الحملة، وهم من الشركس والترك والأمريكان والأوروبيين، بمراعاة شروط القانون الدولي في الحرب، واتباع الأصول المتفق عليها عند الأمم المتحضرة، فيمنعون الجيش من ارتكاب أي عمل وحشي، ويحملون الجند على تجنب الإساءة إلى غير المحاربين من الجيوش، فلا يقلعون زرعا، ولا يهلكون ضرعا، ولا يقتلون شيخا، ولا يذبحون طفلا، ولا يهينون امرأة، ولا يحرقون بيتا.
ولم تكتف الحكومة المصرية بتوصية السردار راتب باشا بكل هذه الوصايا السبع، بل جعلته مسئولا مسئولية شخصية عن كل مخالفة تقع من هذا القبيل، وسافرت الحملة وكلها أمل في الفوز والنجاح
7
في 14 ديسمبر سنة 1875.
ومن غرائب المصادفة أن رئيس حركة النقل في تلك الحملة كان أحمد عرابي بك - الذي أعدته الظروف في الأيام التالية لإضرام نار الفتنة العسكرية المعروفة في التاريخ باسمه - وكان رأي الضباط الأمريكيين فيه حسنا جدا، ويقول الكولونيل داي إن عرابي كان يكون ضابطا من خيرة الضباط في قطر غير القطر المصري، فاستبدل وأقيم مكانه الضابط شاكر الشركسي. وضابط مصري آخر هو علي الروبي أفندي، الذي اشتهر فيما بعد في حوادث الثورة العرابية، عهد إليه برياسة فرع المهمات، وكان ضابطا من أحسن الضباط، وامتدحه رؤساؤه وزملاؤه الأمريكيون.
وكان النجاشي يوحنا يتقدم نحو الجيش المصري المنكود الطالع كسابقه بخطى الثعالب وعزم الأسود، حتى أصبح على بعد بضع ساعات من «تياخور» و«عدي راسو».
وفي يوم 7 مارس سنة 1876
8
وقعت الواقعة، ففوجئ الجيش المصري، وقائده الشركسي المولد، وأركان حربه المختلط
9
بجيش النجاشي قادما من ناحية دنجل وامهور من الجنوب والشمال والغرب، وتدفق الأحباش من كل صوب بصياح وصلصلة سلاح مزعجين، وسميت موقعة «قرع».
غير أنه إذا بكت مصر دمعا سخينا على أولادها الذين ضحى بهم في تلك الأودية السحيقة جهل قوادهم الأتراك والشراكسة، فإن الحبشة وإن تغنت بالفوز في «قرع» لم تجد بدا من البكاء بدل الدمع دما، فإن عدد قتلاها لغاية 10 مارس سنة 1876 بلغ خمسة آلاف، ناهيك بالجرحى، والذين فروا ولم يبلغوا ديارهم إلا معطوبين.
وقد ثبت أن الجيش الحبشي الذي فتك بأرندروب وحملته كان يزيد على سبعين ألف مقاتل، ولم يقل الجيش الحبشي الذي قاتل في «قرع» عن خمسين ألفا.
وفي 12 مارس دارت مفاوضات الصلح بين مندوب النجاشي والسردار راتب، فصدر الأمر إلى السردار بعقد الصلح بأحسن ما يمكن من الشروط، والجلاء عن البلاد.
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
أصل الحبشة من اسمها يدل على الجمع والضم واللم، وفي لغة العرب «حبش» جمع، و«تحبش» القوم تجمعوا، و«الحباشة» جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. ولما صار لفظ «الحبشة» يدل على جنس معلوم من بني آدم نسبت إليهم الشدة في السواد، وفي حدة الأصوات. وفي العربية المحكية في مصر يقال: «تحبيشة» و«حباش» مجموعة مؤلفة من جملة عناصر خصوصا في الطعام أو الفاكهة.
وهذا الاسم ينطبق على الواقع؛ فإن أهل الحبشة خليط من شعوب مختلفة، أولها الفرع الشرقي من أسرة حام، وهو أغزرها عددا، وأقدمها إقامة، وأعرقها أصلا، وهم الكثرة الغالبة في الأمة، ويرجع احتلالهم لهضبة الحبشة إلى ما قبل العصر الحجري، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ بنقاوة دمائهم، فاختلط بهم زنوج على الفطرة من سكان النيل الأبيض، وحميريون من أصل سام من جنوب جزيرة العرب.
ولا تزال آثار هذا الاختلاط ظاهرة في شمال الحبشة، وأهل هذه المنطقة يسمون أنفسهم «إيتو بيافيان»، وهم الذين أطلق عليهم العرب اسم الأحباش أو «الخليط»، ومن كلمة حبش جاءت كلمة الإفرنج «إبيسنيا».
وما زال العنصر السائد في البلاد هو العنصر الحميري السامي، ولو لم يمتزج هذا العنصر بالزنوج لأمكن الاحتفاظ بكل مقوماته القومية، ولكن خالطته دماء سوداء، وأدى هذا الاختلاط إلى تحول في اللون، وفي شكل الشعر، وتباين التقاطيع في سحنة الرجال والنساء.
1
واللغة الحبشية الرسمية التي يتكلمها المتعلمون فنن من اللغة السامية، وترجع إلى اللغة الحميرية أقدم فروع اللغة السامية، وقد جلبها معهم النزلاء الأول الذين نزحوا من اليمن إلى ضفاف عطبرة ومأرب والنيل الأسود وبحيرة تانا.
وكان الشعب الحبشي يدين بالوثنية الأفريقية، فدخلت عليه معتقدات سامية، ولكن الدين الإسرائيلي لم ينتشر فيه لأسباب كثيرة، إلى أن جاء القرن الرابع المسيحي فأدخل فرمنتيوس السكندري النصراني العقيدة النصرانية، وما زالت ديانتهم إلى الآن. وقد يعجب الإنسان من بعض المفارقات الاجتماعية التي تجمع بين المتناقضات؛ فالنجاشي وهو ملك مطلق أو ملك الملوك يتمتع بسلطة لا تحدها العادات المرعية، وهي قانون عرفي محفوظ غير مكتوب ولا مدون، ويتحتم على كل إنسان أن يحترمه ويرعاه. ويخضع للنجاشي كل الرءوس، وتحت الرءوس الدجازماك والكانيازماك، وهما رئيسا الميمنة والميسرة.
وما زالت بعض الأحكام تصدر بما يخالف القوانين المعمول بها في أنحاء العالم؛ لأن الشعب الحبشي صرف كل جهوده نحو الدفاع عن استقلاله، فلم ينتبه إلى ناحيات الحضارة الإنسانية، فإن بعض ممالك أوروبا وأفريقيا لم تترك له فرصة إلا ليلم شعثه، ويجهز جيشا من المحاربين الأشداء، وعمله الوحيد الذود عن حياض استقلالهم القومي، وحريتهم الوطنية، ثم إن أوروبا هذه التي لم تترك فرصة لهؤلاء المساكين يلتمسون أثناءها وسائل الترقي التي نالتها أوروبا نفسها في هدوء وأمان، منذ القرون الوسطى إلى الآن، نرى أوروبا هذه تعير الأحباش بأنهم لا يطبقون في محاكمهم قوانين بونابرت، وأنهم لا يزالون يستعملون السحر والمندل في اكتشاف المجرمين، ويأخذون بما يقول به طفل منوم على يد قسيس صادق، أو مشعوذ دجال، وأنهم لا يزالون يخلطون بين القتل العمد والقتل الخطأ.
2
وأن مسيحيتهم لا تزال فطرية ولم تخلص من شوائب قديمة ... كل هذا تنسبه بعض ممالك أوروبا للحبشة، وتنسى أنها هي السبب في بقاء تلك العورات التي تضخمها وتبالغ في وصفها، وتهول بها حتى تسيء إلى سمعة الحبشة. ونسيت هذه الممالك الأوروبية أن الحبشة كانت مستقلة ومتمتعة بالحرية عندما كانت تلك الممالك نفسها ترزح تحت نير حكام وطغاة وظالمين مستبدين من أهل البلاد وغيرهم.
إن الأحباش فضلوا أن يعيشوا أحرارا وهم حفاة عراة يقاومون الجوع والظمأ، ويقاسون أهوال الفقر والفاقة، وقد وضعوا الحرية والعزة القومية فوق كل اعتبار آخر. وفي الوقت نفسه تعيش على ظهر هذه الأرض أمم سابحة في بحبوحة من النعم، وسارحة في فردوس من الهناء المادي، ولكنها في الوقت نفسه رازحة تحت نير العبودية، وأفرادها يلبسون الخز والديباج والحرير والسندس، ورجالها يحلون صدورهم بالنياشين والأوسمة، ويحملون ألقاب الشرف المصطنع، والتي يظنون معها أنهم فوق البشر، ويدوسون في رفق ولين بأقدام مكسوة بجوارب من الحرير الناعم، وفي أحذية من جلد ملون لين الملمس على أرض ممهدة لا أشواك فيها، ولا صخور جارحة.
وإنه ليوجد رجال من العقلاء والعلماء والشرفاء، والذين يؤخذ برأيهم، ويقام لقولهم وزن. وهؤلاء الرجال يفضلون في صراحة وشجاعة حياة الأحباش وأخلاقهم على أنهم حفاة وعراة وفقراء، وجائعون وعطشانون؛ لأنهم متمتعون برجولتهم كاملة، ولأنهم يعرفون أسمى حقوق البشر، ويحتفظون بها، ويدافعون عنها. يفضلونهم على هؤلاء الأعيان والنبلاء الناعمين المنعمين «المطقمين»، «المطمرين»، «المجمرين» كأنهم خيول مطهمة أعدت لركوب سادتها في الحرب والسلم، ومع كل تلك النعومة والرشاقة وحسن القيافة تجد هؤلاء السادة بمعزل عن إدراك المثل العليا التي تمجدها أوروبا، والتي أدركتها الحبشة وهي لا تزال على الفطرة الإنسانية.
وحجة هؤلاء الرجال في هذا الحكم الذي يبدو غريبا، هي أن كل العلوم والمعارف، والثقافة، والتربية الفردية أو القومية، وتهذيب الأمة للأم، وعناية الوالد بالولد، وتمجيد آثار الجدود، وصيانة التقاليد في الأسرة والقوم والوطن، وكل ما تؤدي إليه معدات الحضارة الحديثة. كل تلك ترمي إلى غاية واحدة؛ وهي غرس بذور الحرية والشجاعة في قلوب الأمة، والاستهانة بالماديات في سبيل المعنويات، وتفضيل الحياة العليا المحفوفة بالمهالك على الحياة الدنيئة المحاطة بأنواع النعم والملذات.
وقد قام نزاع قديم بين علماء التربية وعلماء النفس على أي نوع من تربية الأطفال أصلح لتنميتهم على أرقى المبادئ وأسماها؛ حتى يصبحوا رجالا يعتمدون على أنفسهم، ويفضلوا الصالح العام على الصالح الخاص، ويقدموا منفعة الوطن على منفعة الأسرة والفرد.
فقالوا: تربية الأنجلو سكسون هي المثلى، وألفوا في ذلك كتبا منها: «سر تقدم الإنجليز السكسون»، وسبقه أميل روسو، وأميل القرن التاسع عشر، ثم قالوا: التربية الفرنسية أو الألمانية.
وإنهم لكذلك وإذا بتربية الحراج والغابات والهضاب ورءوس الجبال والخلاء والعراء تبذ كل هذه الأنظمة، مع أنها تربية لا تنطوي على برنامج دقيق لآداب المائدة، أو قواعد الرقص الحديث، أو بيان النظم التي تحتم لبس القمصان اللامعة، وسترات الأسموكنج والفراك. هذه التربية البعيدة جدا عن حياة الصالونات، والبعيدة جدا عن «نفاق المجتمع المثقف ثقافة عليا» بذت جميع مظاهر الحضارة الأخرى في وجوب الدفاع عن كيان الأمة التي ينتمي الفرد إليها.
وإن أوروبا التي تعيب على الحبشة ما تعيبه حتى يصفها بعض المتعنتين أنها لا تستحق وصف الأمة، ولا تسمو إلى عضوية جامعة الأمم، تتناسى وتتجاهل أن الحبشة قضت أكثر من ثلاثة قرون منعزلة عن العالم المتمدن، ومحاطة بقبائل معادية تقطن الأراضي الجرداء، والصحاري الصخرية الملتفة حول الهضبة الخصيبة التي أوت إليها النواة الأولى التي تكون منها الشعب الحبشي، وأن هذا الهامش الصخري الأجرد الخالي من كل عناصر الحياة ومظاهرها ليتسع حتى يبلغ ثلاثمائة ميل أحيانا، فهو نطاق فظيع قاس ضربته الطبيعة بيد من حديد، وجعلته حائلا لا يغلب. عدو من الحجر الصلد، وحارس لا ينام وإن كان من جلمود الصخر.
وفي تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة، ومواقع فاصلة، فتمتاز أمة عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات، وهاتيك المواقع، ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الشدائد والملمات، فنرى أمة يهولها اعتداء الأجنبي عليها، ويفت في عضدها، ويضعف من نخوتها، وينهك من قوة إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك.
وهذه أمة غير صالحة للبقاء، وعاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود، وهي أمة كتب عليها الفناء، وحكم عليها بالنفاد، ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين منزل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية.
وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار، أو قبض على خناقها القرباء، تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة، وتجري في أعوادها أمواه الحياة.
ومن هذا النوع الثاني أمة إثيوبيا، فقد كانت نتيجة احتكاكها أثناء القرن التاسع عشر احتكاكا سياسيا، تارة تسوق إليه الصداقة، وطورا يؤدي إليه العداء مع ثلاث ممالك من أهم ممالك العالم، وهن مصر وبريطانيا وإيطاليا، أن أفادت الحبشة من التقبيل والضم مرة، والتصادم والتلاحم أخرى، والرمي بالورد والهدايا تارة، والتراشق بالنبال والسهام طورا، أنها جمعت كلمتها، ولمت شملها، وتعلمت من سياسة هذه الدول الثلاث - وقد كانت كل منها إمبراطورية في عصرها - ومن ضروب سياستها وفنون حروبها ما جعلها في نهاية القرن التاسع عشر تخرج ظافرة قاهرة غالبة فائزة رافعة علم الحرية تحت لواء منليك الأول، أحد ملوكها.
وكان يعرف من قبل بملك شوا، وقد صار نجاشي الحبشة وإمبراطورها بعد أن أخضع تيجريه، ولاستا، وأمهرا، وجوجام، وعناريا، وجراجحة، وولموا، وجيما، وغيرا، وجوما، وليكا، وواليجا، وكافا.
لقد كافحت الحبشة في سبيل حياتها قرنا كاملا، فقد بدأت أوروبا تتدخل في شئونها سنة 1805 ممثلة في سياحة شخصين؛ هما: الفيكونت جورج فالنتيا، وكاتم أسراره هنري صولت، وانتهت بمعركة عدوة التي هزمت فيها إيطاليا في شخص الجنرالات باراتيري، والبرتوني، وإريموندي، ودابورميدا.
علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها
ما فتئ المصريون من بداية هذا النزاع يظهرون عطفهم نحو الحبشة؛ لأن المصريين تناسوا أو نسوا معارك القرن الماضي، واعتبروا الأحباش ناسا منهم؛ لأن علاقة مصر بالحبشة قديمة جدا، ولأن مسلمي الحبشة يعدون مصر مركزا روحيا لهم، وهم ينتظرون من مصر الإرشاد والعطف، كما أن بطريرك الأقباط في مصر هو الرئيس الديني للأحباش النصارى، ومنهم الأسرة المالكة وأغلب رءوس الدولة، وفوق هذا فقد كان رئيس أساقفة الحبشة من أول عهد المسيحية حتى اليوم ينتخب من رجال الدين الأقباط، وهو الآن الأنبا مرقص مطران الحبشة، وأصله من بهجورة بجوار نجع حمادي.
وهناك سبب آخر لاهتمام المصريين بشئون الحبشة الحاضرة؛ وهو أن سبعين في المائة من مياه النيل مصدرها الحبشة، عن طريق النيل الأزرق ونهر سوباط. ومن الأمور الثابتة أن الأحباش لم يعبثوا منذ فجر التاريخ حتى اليوم بمصالح مصر فيما يخص المياه التي تحتاج إليها. وهذا جميل لا يمكن لمصر أن تنساه.
1
ولا شك في أن مصر ذات نفوذ معنوي عظيم، ولكنها للأسف ليست عضوا في جمعية الأمم، ولو كانت هناك وسمع صوتها بجانب أصوات الأعضاء الآخرين لكانت بعض الدول التي تعتبر حروب الفتح مبررة بالأغراض القومية، ترددت قبل أن تجاهر بالعداء مجموعة من الشعوب فيها مصر المحترمة في الشرق وفي أوروبا، ولذكرت تلك الأمم، ولا سيما إيطاليا، ما بينها وبين مصر من المودة والروابط التاريخية من قديم الزمان.
صاحب الغبطة الأنبا يؤنس بطريرك الأقباط وحوله بعض المطارنة والأعيان.
ولو كانت لمصر شخصية محترمة في جنيف؛ لكان للقاهرة أرفع مقام في النزاع الحالي، وكانت تصبح مصر عاصمة دولية تتجه إليها الأنظار، وتشد إليها الرحال، وتجتمع لديها كلمة الرجال، وتمسي مفتاح الشرق الأدنى بلا جدل.
ولا ريب عندنا في أنه لو كان لمصر هذا الحق لوقفت بجانب مبادئ العصبة، دون أن تنظر إلى كونها متفقة وسياسة إنجلترا أو إيطاليا أو غيرهما أم لا؛ لأن مبادئ العصبة تضمن الحياة والحرية للأمم الصغيرة والأمم المغلوبة، والأمم التي تطلب الحرية، والأمم التي تقاوم الحرب، وقد انضمت إلى مبادئ هذه السياسة جهارا حكومات عظمى، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا.
ولا نشك لحظة في أن وجود مصر بالعصبة كان كفيلا بمنع الحرب التي قد تمتد فتصير أوروبية فعالمية، ويكون تقصير الذين قصروا في حق مصر وفي حق العصبة سببا في كارثة عالمية لا يعلم مداها إلا الله.
2
هل مصر أقل من الأحباش، أو المكسيك، أو كولومبيا، أو العراق، أو الفرس؟ نعم إذا تساوينا، وفاقت مصر في بعض الشئون، إلا أن هذه الأمم تتمايز باستقلالها القومي أو حكمها الذاتي، أليست مصر دولة حرة ذات سيادة؟ ولو فرضنا أن هذا الاستقلال نظري، ألا يعادل استقلال الهند أو كندا، وكلتاهما عضو في العصبة؟!
وقد صدق من قال إن «مصر بلد في هذا الجانب من الشرق بمكان القلب للطائر يرفرف بجناحيه في أفريقيا وآسيا، وبذيله على قلب القارة السوداء.»
3
عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
إن المشكلة الحبشية أعوص مسألة عالجتها جامعة الأمم منذ وجودها، وبقاء هذه العصبة أو زوالها رهينان بنجاحها أو فشلها في الوصول إلى نتيجة تؤيدها وتعيد هيبتها في نفوس الأمم والحكومات، فإن لم تصل إلى هذه الغاية من استتباب السلام العالمي، وتحقيق الأمن بين الأمم، فعليها العفاء، لا عليها السلام!
وترجع تلك المشكلة في صورتها الحديثة إلى مسائل معلقة خاصة بتعيين الحدود والمنطقة المحايدة بينهما، وطلب إيطاليا الخاص بتعويض عن حادثة «وال وال»، وتفسيرها لنصوص معاهدتي 1906 و1925 تفسيرا يخالف ما تذهب إليه الحبشة.
وقد دارت في أول الأمر بين الدولتين (وهما عضوان في عصبة الأمم) مفاوضات سلمية، بقصد تسوية النزاع بينهما تارة في روما، وطورا في الحبشة نفسها، وكانت هذه المفاوضات تنجح حينا، وحينا يبدو عليها الحبوط، وطريقها بتبادل الآراء بين مندوبين مفوضين من المملكتين بالمذكرات المكتوبة. وبدأت في أواخر فبراير، وأوائل مارس سنة 1935، وإن كان النزاع يرجع إلى أوائل سنة 1934، ومنذ الساعة الأولى ألقت الحبشة اللوم على كاهل إيطاليا كلما أنذرت المفاوضات بالفشل.
وصرح ممثل النجاشي بأن لا وسيلة لنجاح المفاوضات وضمان السلم غير عدول إيطاليا عن خطة المعاندة، ورغبتها الإجحاف بحقوق الحبشة، وطلبت الحبشة تحقيقا عادلا قبل المناقشة في مطالب إيطاليا، وأصرت في مذكرة بعثت بها إلى روما على طلب جواب صريح عما إذا كانت مستعدة لعرض المسألة كلها على التحكيم الدولي.
وتشبثت الحبشة بهذا الطلب العادل؛ لأنه ينطبق أولا على روح العصر الجديد في السياسة الدولية، ويتفق مع دستور عصبة الأمم الذي أقرته الدولتان بالانضمام إليها، وتشبثت إيطاليا بمعارضة طلب التحكيم، وقالت الحبشة: «لو كانت إيطاليا على حق ما عارضت في التحكيم ، وإذا صح أن أثق بالمحكمين وأضع حظي في أيديهم، فليس لدى إيطاليا ما يمنعها من سلوك خطة تماثل خطتي.»
وكانت إيطاليا من قبل شهر فبراير، بل من أواخر سنة 1934 قد اتخذت تدابير عظيمة، ولا سيما من الوجهة العسكرية، فقابلت إصرار الحبشة على التحكيم بالامتعاض، وأنكرت عليها اعتبار النزاع بين الدولتين من اختصاص عصبة الأمم؛ لأنها شعرت بأن الحبشة تريد استدراج إيطاليا إلى مجلس عصبة الأمم الذي اجتمع في شهر مايو.
وقد استنتج كثير من رجال السياسة أن الحبشة لا بد أن تكون مرتكنة في تلك الخطة إلى بعض الدول العظمى، وأن بريطانيا في مقدمتها.
وكان ما قيل عن استعداد إيطاليا العظيم صحيحا، فإنها بدأت بإرسال الطائرات الحربية إلى الصومال، ففي أواخر أبريل غادرت طائرة حربية مائية إيطاليا قاصدة إلى مصوع عن طريق مصر وهي تقل الجنرال بينا، والكولونيل كابا، والقومندان جورانو، والكابتن فيوري من ضباط الجيش الإيطالي، ومنها الطائرة الكبرى التي كانت تقل نخبة من عظمائها، وسقطت في جو القطر المصري بمن فيها من العظماء وما فيها من الوثائق.
ويظهر أن إيطاليا رأت أن تجمع بين أمرين؛ الأول: الاستمرار في الاستعداد استعدادا عظيما لم يسبق له مثيل في تاريخها، والثاني: موافقة الحبشة على طرح المشكلة على بساط التحكيم.
وعلى الرغم من موافقة إيطاليا
1
على التحكيم، فما زال الريب والتشاؤم مخيمين على الأفكار في عاصمة الأحباش، واعتقد الكثيرون منهم أن إيطاليا أعلنت موافقتها على التحكيم لكي تمنع صوت الحبشة من الوصول إلى مجلس عصبة الأمم؛ ولذا عقبت إيطاليا على الموافقة بالتسويف والمطل في تأليف لجنة التحكيم وهي تحاول حصر مهمة اللجنة في نطاق حادثة «وال وال»، في حين أن الحبشة تصر على معالجة مسألة الحدود بحذافيرها، ودفعة واحدة.
وأخذ الأحباش يعتقدون أن إيطاليا لن تبقى على مسالمتها ولينها ونعومتها بعد أن يصفو لها الجو في أوروبا، وتسنح لها فرصة مناسبة؛ ولذا رأى النجاشي نفسه مضطرا إلى التخلي عن خطته السابقة، من إهمال القيام باستعدادات عسكرية، وإن كلفته وحكومته ما لا يطيقانه ، وما لا يرغبان فيه من بذل مال وتضحية برجال.
وفي تلك الفترة (أوائل مايو سنة 1935) خطب سنيور سافير بوفيرا، النائب الإيطالي في المجلس، فقال:
إذا كانت إيطاليا لا تطرح اليوم مسألة الحبشة على بساط البحث، فستضطر غدا إلى بسطها بالنظر إلى عدم كفاءتها في إدخال الحضارة والمدنية إلى بلادها الواسعة،
2
وأن فرنسا وبريطانيا تقدران المهمة التي أخذتها إيطاليا على عاتقها لكي تدافع في تلك البلاد عن كرامة العالم المتحضر، والكرامة الوطنية.
وكانت إيطاليا لا تزال تقول بواجبها نحو الإنسانية والمدنية، وتتخذ من هذا الواجب ذريعة للحرب والاستيلاء على البلاد.
ولم تصدر الحقائق الرائعة عن دخيلة أفكار إيطاليا في الاستعمار إلا عن لسان السنيور موسوليني، الذي صرح في خطب رنانة أن إيطاليا تريد الأرض للاستعمار، وتريد إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية.
3
وكما هي العادة في مثل هذه الظروف أخذت المصادر الإيطالية تذيع أن جنودا إيطالية قتلوا وسلبوا في الإريتريا، وأن قاتليهم من الأحباش، كما أذيع بعد ذلك أن العلم الإيطالي أهين، وأن موظفا إيطاليا كبيرا اعتدي عليه في محطة السكة الحديد. وكان شيء أبسط من هذا بكثير سببا في الحرب بين أوروبا والشرق، فإن فرنسا حاربت الجزائر واحتلتها لأن الداي (أمير البلاد) داعب سفير فرنسا على وجهه بمروحة خفيفة كانت في يده.
نقول: ولما فكر النجاشي في الاستعداد للطوارئ ولم يخدع بظواهر الأمور، اتصلت حكومته ورجاله ببعض البلاد الأوروبية لتصدير الأسلحة إليها. وكان لإيطاليا عيون وأرصاد، فأصبحت بواسطتهم على بينة من تقديم المعدات الحربية إلى الحبشة، ومن مصادرها والوسطاء بين هذه المصادر والحبشة؛ فبذلت المساعي لدى الحكومات التي أغضت عن إرسال هذه المعدات، وبدأ السنيور جايدا في جريدة «جورنالي ديطاليا» يهدد من طرف خفي ويقول: «إن صداقة إيطاليا تتوقف على الخطة التي تتبعها كل دولة أو بلد بإزاء إرسال المعدات الحربية إلى الحبشة.»
وقال سنيور شاتس في تقرير الميزانية الذي قدم لمجلس الشيوخ: «إن المعركة بين الغرب والشرق ستدور في أفريقيا.» ثم أخذت إيطاليا تحتج علنا على ألمانيا لأنها ساعدت على تصدير السلاح إلى الحبشة، وأطلقت الصحافة الإيطالية لنفسها العنان، فأخذت تنشر المقالات العنيفة ضد الحبشة وضد كل من يظهر بتعضيدها.
4
والذي أدهش العالم أن إيطاليا كانت تلوم الحبشة على التسلح، وتعاتب ألمانيا على معونتها، وهي في الوقت نفسه تكوم الأسلحة والذخيرة تكويما في الإريتريا، فكأنها تستحل أن تتأهب بكل الوسائل لتهجم، وتأبى على الحبشة أن تستعد لتدافع عن نفسها، ولو كان استعدادها ضئيلا، مع الفارق بين الدولتين.
وفي أواسط مايو بدأ الرأي العام المحايد في أوروبا، داخل العصبة وخارجها، يزداد اقتناعا بأن إيطاليا تريد على كل حال أن تحل بالسيف والمدفع أمورا كان يمكن حلها بالطرق السلمية، وبدأ هذا الاقتناع يزيد القلق في العالم.
ومن سوء الحظ أن الدول الأوروبية بدأت في سنة 1935 تهتم اهتماما عمليا بتنظيم جهاز لضمان السلم في أوروبا على مبادئ عصبة الأمم، فتغادرها إيطاليا لتمضي في مغامرة لا خير فيها، وأمسى «حادث الحدود البسيط» يتضخم حتى اتخذ شكل محاولة تقوم بها دولة أوروبية كبيرة للتوسع الاستعماري في جهة من أفريقيا، يعرف العالم كله أنها كانت تتمنى التوسع فيها منذ عهد بعيد.
وبدأت الصحف الأوروبية تقدم لإيطاليا النصائح بشأن المصاعب العسكرية والمالية والسياسية؛ سعيا وراء كبح مطامعها الاستعمارية، وعابوا عليها أنها تطلب مطالب قانونية بحملة عسكرية، وبدءوا يقولون إن حربا استعمارية كهذه تستنزف دم الجيش الإيطالي، وتترك إيطاليا هزيلة، وتعجزها عن علاج مشاكل أوروبية مهمة مثل مشكلة النمسا.
وسلك سنيور جايدا في جريدة جورنالي ديطاليا
5 «مسلكا خطأ»، فأخذ يوجه نقده نحو مستر إيدن أنطوني؛ لأنه يمثل إنجلترا لدى عصبة الأمم، ويفضح أمورا قال إنها حدثت في حروب إنجلترا الاستعمارية في جنوب أفريقيا ومصر والسودان، ويعيب على إنجلترا أنها تعير إيطاليا بما كانت تبيحه لنفسها بالأمس.
وقد أفضى النزاع الحبشي إلى وجود اختلاف جوهري في الرأي بين إيطاليا وإنجلترا، فتبددت الجبهة المتحدة التي تحققت في ستريزا تبددا تاما، وأخذت إيطاليا تحشد الجنود حتى بلغ ما جمعته مليون جندي تحت السلاح.
وفي الثلث الأول من يونيو، اقترح السير نورمان إنجيل إقفال قناة السويس في وجه إيطاليا، وهو كاتب إنجليزي نال جائزة نوبل في العام الماضي (34) لدعايته للسلم، وهو صاحب كتاب «الوهم العظيم»، الذي ألفه قبل الحرب الكبرى، وتنبأ فيه بأن حال الأمم المنتصرة في الحروب الحديثة لن تفضل حال الأمم المهزومة، وحققت الحرب العظمى جميع تكهناته.
6
وفي أواخر يونيو، تشكلت لجنة للتحكيم واجتمعت في لاهاي - وهي لجنة مختلطة - وقال الحبشان إنه إذا قضى المحكمون المكلفون بالبحث في تسوية النزاع بحكم ضد الحبشة؛ فإنها تصدر تصريحا تكون فيه ترضية لإيطاليا.
وأخذ الدوتشي يخطب في الملايين متهددا ومتوعدا، ويرد النجاشي بخطب قومية متواضعة، قوامها الصلاة والبكاء والاستغاثة بالله والأنبياء والقديسين، والاستنجاد بأوروبا وأمريكا المتمدينتين حتى في الأعياد والحفلات الدينية.
ومن كلماته في آخر يونيو:
أنا أتحدى أي إنسان أن يبين لي أية ناحية أخلت فيها الحبشة بواجبها كعضو في عصبة الأمم منذ ظهر هذا النزاع؟ وأي عمل من أعمالنا استثار هذه الحرب؟ إذا كان الحق في جانبنا، وإذا كانت الأمم المتمدنة عاجزة عن منع الحرب؛ فلتقف على الأقل موقفا لا يمنعنا عن الدفاع عن أنفسنا.
وأخيرا فشلت لجنة التحكيم في لاهاي، وهي التي نص في معاهدة الدولتين (الحبشة وإيطاليا) في سنة 1928 على أن تكون مؤلفة من مندوبين عن كل دولة منهما، ومندوب يختار من إحدى البلاد المحايدة. وطالما تعبت إنجلترا وفرنسا في التعجيل بتشكيل لجنة التوفيق وهما تعتقدان الخير في الإسراع بتشكيلها.
7
ولما كان الشعب الإنجليزي مفرطا في تقديس الحرية لأفراده، ولا يتقيد أحد منهم بآراء غيره ولو كان أقرب الناس إليه؛ فقد رأينا سير جون سيمون، وزير الخارجية، يسير في سياسة غايتها إنصاف الحبشة، وإحقاق حقها، وفي الوقت نفسه تتقدم لادي جون سيمون زوجته في جريدة «جورنالي ديتاليا» بمقال تصف فيه فظاعة النخاسة التي ترتكب في الحبشة، ولكن على الرغم من مقالة لادي سيمون، فإن بيوتا مالية كثيرة على شاطئ الأطلنطي تقدمت تعرض قروضا ضخمة على الحبشة، وتقدم لها ألوف المتطوعين بغير أجر، من أمريكا وأيرلندا ومصر واليابان وألمانيا وتركيا .
وقامت بشأن اليابان ضجة منذ زمن طويل؛ فقد أشيع أنهم يفكرون في مصاهرة النجاشي، وأنهم يدربون الأحباش على حرب السيوف، وأن لهم مصالح خطيرة في الحبشة تجارية وزراعية واقتصادية؛ ولذا هاج سخط الطليان على اليابان، فقال بعض ذوي الرأي فيهم: إن مسلك اليابان بمثابة تحد لسلطان الاستعمار الآسيوي للأجناس البيضاء، وإن تعاون الغربيين ضد هذا الخطر الأصفر أمر لازم. كل هذا حاصل ودائر وإيطاليا تريد اتقاء تدخل عصبة الأمم، والزعيم يصرح بذلك فيقول: «إن إيطاليا ترفض تدخل العصبة في الخلاف بيننا وبين الحبشة، وسنقوم بإنفاذ رغبتنا ومطلبنا مع اليقظة السياسية والحربية، ودون إهمال الحال في أوروبا.»
وفي أواخر يونيو، نشأت حالة جديدة خطيرة، وهي أن إنجلترا خشيت شقاقا يدب بينها وبين فرنسا؛ لأنها رأت لها ضلعا قويا مع إيطاليا، وما زال «الدوتشي» يفتن موسيو لافال ويتودد إليه، ويعاهده ويعقد معه المواثيق، ويذكره بتضحية إيطاليا في الحرب العظمى بانضمامها لجانب الحلفاء، واكتراثها الحاضر بحماية حدود فرنسا الشرقية، فأرادت إنجلترا أن تضمن اتحاد فرنسا معها في عرض المسألة على عصبة الأمم، وتنفيذ ميثاق العصبة بنصوصه.
وقد زاد التقرب بين الدولتين أن إيطاليا أخذت تعرض كل يوم مطالب جديدة، وشروطا لم يسبق فحصها وهي تظهر أن الامتيازات المقترح منحها لا تكفيها، ثم هي تلح في طلب معونة مالية يصعب تقديمها؛ لأن الدول لا تريد تعضيدها على الحرب بالقروض. وكانت إيطاليا تخشى عصبة الأمم؛ لأنها تخشى تحول الرأي العام العالمي ضدها؛ إذ يظهر له من خلال البطء الذي تقتضيه إجراءات عصبة الأمم أن القضية الإيطالية غير عادلة لدى فحصها من وجهة القانون الدولي.
ومن ذلك التاريخ ساءت الحالة المالية في إيطاليا، ولم تغط الحكومة أوراق النقد بنسبة أربعين في المائة من الذهب، وسقطت قيمة الليرة الإيطالية في الأسواق الخارجية.
وفي تلك الفترة، بدأ سنيور جايدا خطة سيحكم التاريخ بخطئها، وهي الحملة التي حملها ضد بريطانيا، ونشر ما ظنه إفشاء أسرارها الاستعمارية، وهي أمور ثابتة في الكتب والصحف منذ عشرات السنين، ولا تهم أحدا سوى إنجلترا والأمم التي لها بها علاقة، وإن صح له أن يذكر حوادث حرب البوير، أو الصومال، أو محاربة الملا
8
المفتون، فلماذا لم تتدخل إيطاليا في ذلك العهد لنصرة البوير أو الصومال، فكان دفاعها يسجل لها بمداد الفخر والثناء؟!
وبلغت هذه الحملة أشدها عندما نشرت حكومة روما بيانا شبيها بالرسمي قالت فيه: «إن صحف إنجلترا تتأسف أن بريطانيا قد حصلت على إمبراطوريتها العظيمة بغير تردد، حتى إنها كثيرا ما وطأت تحت أقدامها صنوف الشعوب الأخرى، وهي الآن تحاول الدفاع عن مصالح الحبشة المتوحشة (كذا) ضد الحكم الإمبراطوري الإيطالي. وهذا الدفاع يؤثر في الصداقة بيننا (إيطاليا وإنجلترا) بدرجة شديدة.»
9
وقد أدى طعن إيطاليا في مسلك اليابان إلى مظاهرات عنيفة في شوارع طوكيو ضد إيطاليا، وأخيرا تورطت إيطاليا فقبلت عرض المسألة على مجلس عصبة الأمم، وقيل عن بعض المصادر: إنها رضيت بذلك لأنه يكسبها وقتا لتمام الاستعداد، مع أنها تشحن في كل يوم بواخر حوافل بالجند والعتاد.
وقد دفعت نحو مليون جنيه لشركة قناة السويس رسوما لمرور السفن المحملة رجالا وسلاحا وذخائر. وكان قرارها هذا في آخر يوليو، وقد عينت أعضاء وفدها في العصبة؛ وهم: بارون الوازي، وسنيور جوارناشكيلي، وكونت بيترو ماركو، وسنيور كورتيزي، والأستاذين ليسوني، وبيراردي.
أما الإنجليز فقد جعلوا على رأس وفدهم مستر أنتوني إيدن، الذي تمقته إيطاليا، ويحمل عليه سنيور جايدا في جريدته صباح مساء، وشدت أزره بوليم سترانج ووليم مالكن وتومسون. وفرنسا يمثلها لافال وبعض أعوانه. وقد أخذت إنجلترا تصرف جهودا جبارة في اكتساب فرنسا لصف العصبة، وصار مركز لافال من أحرج المواقف؛ لأنه أمسى كزوج الضرتين يتراوح قلبه بين الاثنتين، ووراءه والد إحداهما يسوقه بالسياط، وهو مجلس النواب الفرنسي، فإنه يأبى أن يعضد لافال إيطاليا على الحرب؛ فتسقطه أحزاب الشمال بين عشية وضحاها.
وقد طارت في جو مصر أثناء تلك الفترة أكثر من أربعين طائرة حربية إيطالية إلى الصومال وإريتريا، غير التي تشحن مفككة لتركب في موطنها.
وأخيرا قررت العصبة أن مجلسها سيجتمع في يوم 4 سبتمبر لبحث مسألة الحبشة بحذافيرها، ولم تصرح إيطاليا بأنها لن تلجأ إلى القوة، بل أبدت تحفظا إزاء هذا القرار يدل على أنها لم توافق صراحة على أن يبحث المجلس في المسألة الحبشية بجميع وجوهها في يوم 4 سبتمبر.
وقد شعرت الحبشة أن إيطاليا تريد أن تكتسب الوقت، فأخذت تستعد من جانبها، وترسل جنودها إلى الجنوب والشمال، ووقعت الحبشة مع اليابان عقدا في 2 أغسطس لتوريد مقدار هائل من الأسلحة والذخائر؛ للتعجيل بتزويد الجيش بالعدة الحديثة، واشترت الحبشة في أسواق طوكيو ألوفا من الأسياف اليابانية المرهفة.
وما زال الرأي العام في أوروبا يؤيد الحبشة حتى قامت مظاهرات لتعضيدها في معرض بروكسل ببلجيكا، فخطب أحد الخطباء وقال:
لقد عاد خطر الحرب، وأخذت الفاشستية الإيطالية تتأهب لإضرام النار، وإهراق الدماء في الحبشة، التي يريد شعبها أن يعيش في ظل السلم والحرية.
وكانت هذه الخطبة أمام الجناح الإيطالي، وأراد بعض المتظاهرين أن يحطم صورة بعض رموز الأماني الإيطالية. وفي الحق أن اجتماع مجلس عصبة الأمم في أوائل أغسطس لم يسفر عن شيء سوى تأجيل خطر المشكلة شهرا.
وبدأ رجال السياسة الأوروبية في دوائر العصبة وأروقتها يتكلمون عن توقيع العقوبات التي ينص عليها الميثاق. وظن بعضهم أنها حربية، وآخرون يحسبون أنها اقتصادية. وذكروا في عرضها إقفال قناة السويس، أو حصر إيطاليا حصرا بحريا، أو مقاطعتها اقتصاديا وماليا،
10
وبدأت إنجلترا تحرك لسانها ويدها، فخطب مستر أنطوني إيدن بالراديو، وأنذر إيطاليا بالعقوبات في حالة ظهورها بمظهر العناد.
وفي خلال شهر أغسطس ازدادت الحال تحرجا بين بريطانيا وإيطاليا، وشعرت بريطانيا بدنو موعد انعقاد عصبة الأمم في 4 سبتمبر، وضرورة الانتهاء بتصميم ذي خطورة، كما أحست بتأخرها في التأهب لمقابلة الحوادث، بعد أن استعدت إيطاليا استعدادا مهولا في الجو والبر والبحر، فأخذت تحشد أسطولها في البحر الأبيض، وتتخذ لطائراتها أماكن ثابتة، وانشغلت بإحكام إقفال جبل طارق، وتأمين جزر البحر الأبيض الواقعة تحت حكمها.
وكان هذا الاستعداد البحري العظيم ردا على مذكرة السنيور موسوليني للعصبة، وهي مستند ضخم أوضح فيه بتفصيل ممل أطوار الخصومة المزعومة، وصنوف الاعتداءات التي يقول: إنها وقعت من الحبشة خلال مدة طويلة، وهذه المذكرة مصحوبة بصور فوتوغرافية.
ومن الاستعدادات المهمة الإيطالية ربط روما بإريتريا تليفونيا، وإعداد أسطول جوي ضخم، وإذاعة أنباء مروعة عن حرب الغازات والجراثيم، واختراع أشعة سرية تسمى أشعة الموت يحركها ماركوني كيف شاء؛ فيقتل الخلائق. ولكن هذا الخبر يحمل عناصر اختلاقه.
11
ومذ بدأت بريطانيا مظاهراتها البحرية والجوية، أخذت تنتشر شائعات عن إمكان اتقاء الحرب، وتقهقر إيطاليا وقبولها بامتيازات اقتصادية أقل من الانتداب لتعوض عليها «خسارتها» في البر والبحر.
فشل المؤتمر الثلاثي في باريس، وهو الهيئة التحكيمية الثانية التي فشلت. أولاها اللجنة المختلطة «لاهاي»، وهذه هي الثانية.
وما زالت فرنسا وبريطانيا على استعداد لبذل الجهود لتسوية الخلاف بين الدولتين، ورجال العصبة يذكرون أن شعوب العالم جاهدت في السنين التي تلت الحرب بجد وإخلاص لإيجاد عهد دولي جديد يقيها شر ويلات الحروب؛ لأن الحرب هي العدو الألد لكل تقدم.
وكانت إيطاليا في مقدمة الأمم التي سعت هذا السعي المشكور، وعقدت في بلادها مؤتمرات السلام، مثل: رابالو، ولوكارنو، وكيلوج، وستريزا، وقطعت معظم الدول على نفسها عهودا في ميثاق باريس بالعدول عن اتخاذ الحرب أداة للسياسة الوطنية. وعلى هذا الرأي كان مندوبو إنجلترا وفرنسا، إلا مندوب إيطاليا، فقد قدم بيانا قوامه 5000 كلمة كلها مطاعن قاسية في الحبشة، وأيد مطاعنه بتقرير لوجارد، وببعض ما كتبته لادي سيمون خاصا بتجارة الرقيق، وأن الحبشة تعتدي على أرواح الطليان وأموالهم، وتمتد أقدامهم إلى حدود الأراضي الإيطالية، ورد مندوب الحبشة على تهم إيطاليا ونفاها وفندها، وقد عد بعضها بمثابة إعلان حرب من إيطاليا على الحبشة.
وكانت ألمانيا تلزم الصمت، وتقول صحافتها: إن السياسة الألمانية لا علاقة لها بالمشكلة الحبشية، ولكن المسألة تهمها من وجهة أخرى؛ وهي ضرورة السلم واليسر في البلدان الأخرى؛ لتتمكن ألمانيا من عمل التجديد الوطني في بلادها، ولكن العالم كله يعلم أن ألمانيا متربصة بإيطاليا والنمسا، فإذا أعلنت الحرب مدت يدها إلى النمسا وضمتها إليها، وحققت حلم النازي وحلم بيسمارك، وحلم الجامعة الألمانية، فتصبح دولة الرايش أقوى مملكة في أوروبا.
ولا يغني إيطاليا عن ذلك استعدادها على الحدود النمسوية وحشد جنودها، كما فعلت في العام الغابر عند الثورة النمسوية. وبعض رجال السياسة على رأي خاص في عصبة الأمم وخططها وما أصابها من ضروب الفشل، وما ارتكبته من الأغلاط في أساليب عملها بتعكر جو الثقة بين الدول، فصارت تتدلل عليها وتتهددها بالانسحاب، بل وتنسحب فعلا كلما حاولت أن تنفذ خططها القومية كما فعلت اليابان وألمانيا.
وفي الوقت الذي اتحدت فيه كلمة أوروبا على إنصاف الحبشة كان المسلمون فيها يعاهدون إمبراطورهم على الدفاع عن الوطن، وقد أشاع البعض في مصر أن المسلمين مضطهدون في إثيوبيا، وأنهم رازحون تحت مظالم الاضطهاد الحبشي الذي منشؤه التعصب الديني. وفي أواسط الصيف اجتمعت الجمعية الوطنية الإسلامية في الحبشة وقررت مقابلة النجاشي، وعرض خدمتهم العسكرية الوطنية على جلالته؛ بشرط تسليحهم وتدريبهم تدريبا حربيا، ومساواتهم بإخوانهم النصارى في بعض الحقوق. وهكذا صح ما قلناه، في غير هذا الموطن من الكتاب، من أن حروب الدول في الحبشة ساعدت على تكوينها واتحاد عناصرها.
وفي يوم 11 سبتمبر، اجتمع مجلس العصبة، وألقى سير صموئيل هور خطابا يعد من أخطر ما فاه به رجال السياسة في هذا العام، وهو من نوع الخطب التي كان يلقيها سترزمان،
12
وبريان،
13
ومن أقواله: «إن الرأي العام البريطاني بصرف النظر عن بعض أخطاء قومية، وبعض النقط الضعيفة التي ظهرت فيه أحيانا كان عادة يبدي بداهة سديدة في المسائل الكبيرة الأهمية، وفي حالة الأزمات الخطيرة يعرب عن صدق العزيمة، والميل إلى الإنصاف، وأصالة الرأي.
والشعب البريطاني يدعم العصبة لأن نظامها يكفل السلام العام. وإن نظام عصبة الأمم هو أسمى فكرة في تاريخ البشر، وتحقيقه ليس من الأمور الهينة حتى في أكثر الأحوال ملاءمة. وكان شعبنا يعمل، ولا يزال، لترقية الحكم الذاتي وتنميته في دائرة الإمبراطورية. وكنت منذ أسابيع الواسطة في حمل البرلمان البريطاني على إقرار مشروع عظيم متشعب الأبواب للحكم الذاتي في الهند.
وللأمم الصغيرة الحق في الحياة التي تحلو لها، ولها الحق في صيانة حقوقها. والأمم سواسية، وفي وسعها أن تساعد مساعدة قيمة لخير الإنسانية. ونعتقد (أي الشعب البريطاني) أن للأمم التي لا تزال متأخرة في مضمار الحضارة الحق في أن تتوقع من دون مساس باستقلالها، والاعتداء على حدودها، أن تقدم إليها المساعدة من الأمم التي هي أرقى منها على ترقية مواردها الطبيعية، وتدعيم حياتها القومية.
14
وإن الخوف من احتكار المواد الخام لإحدى الدول أو بعضها هو المعضلة الحقيقية، وسبب النزاع العالمي هو اقتصادي محض. ولا يجوز لنا أن نتغافل أو ننسى أن المشاكل الحالية اقتصادية أكثر منها سياسية.
15
فرأي الحكومة البريطانية هو هذا، وهو الخوف من الاحتكار. والشعب البريطاني يؤيد العصبة بسبب ولائه لها، وحرصه على حياتها، وإنجلترا مستعدة لمقاومة كل اعتداء، ولا تعدل سياستها ما دامت العصبة في الوجود.»
وقد اقتبسنا الأفكار الجوهرية من خطبة سير صمويل هور لأنها أهم خطبة ألقيت في العصبة بعد خطب سترزمان وبريان، ويلفتنا فيها أنه أغفل ذكر الخلاف الناشب بين إيطاليا والحبشة، ودار حول المسألة العالمية بلباقة ومهارة، وقرر أن إنجلترا شعبا وحكومة تعلم أن النزاع العالمي هو على «القوت» الذي أساسه المواد الخام في المستعمرات، وأن إنجلترا مستعدة لإعادة النظر في تقسيم هذه المواد بالعدل والإنصاف.
وقد أفرغ نظريات الحرب العظمى الخاصة بحماية الأمم الضعيفة وحقها في الحياة في قالب لطيف، ولكنه لم يجعلها أساس الكلام، بل جعل يطمئن الأمم ذات المطامع على المواد الخام إلى درجة تقسيم الثروة العامة بين الجميع لإزالة المخاوف. وهذا تطور عجيب في السياسة الدولية.
وقد فطنت إيطاليا أو «الدوتشي» إلى مرامي هذه الخطبة البعيدة الغور؛ فتساءلت: هل إنجلترا مستعدة لإعادة توزيع الانتدابات استعدادها لتوزيع المواد الخام؟ وهذا المصدر نفسه يدهش؛ لأن سير هور تجاهل مسألة زيادة السكان في إيطاليا. وغاب عن هذا المصدر أن مسألة توزيع الخامات تجب مسألة زيادة النسل، والغرض يغمض ويصم
16 ...
ومما يدلنا على أن سير هور كان أقرب إلى العدل، أن الرأي البريطاني انقسم في شأنه، ونقده المتطرفون، ولكن الطبقات الوسطى أعجبت به.
أما فيما يتعلق بالنزاع الجوهري، فإن الساسة في العصبة أخذوا يملون طريقة تأليف اللجان، ويحاولون حل المسألة على يد مجلس العصبة مباشرة (البندان 4 و15). وقد ضغط سير هور على موسيو لافال حتى حدد موقفه تحديدا جليا، وانضم إلى العصبة وهو على أحر من الجمر؛ لأنه لا يريد أن «يخون» إيطاليا. ولم تنس له إيطاليا هذا الجميل، بل قالت: إنه بذل أقصى الجهد، ولكنه خضع للتأثير المباشر. وكان مسلك «الدوتشي» في هذا كله أنه يزدري الأساليب السياسية، ويزدري القرارات الدولية، ويريد أن يصل إلى غايته بكل الوسائل.
لم يكن سير هور أفلاطونيا في خطبته، بل عندما كان صوته يهز أعواد المنابر في جنيف، كانت البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات والطرادات والغواصات البريطانية تجوب البحر الأبيض، وتدنو من موانيه، وتعد الدفاع عن الثغور والجزائر والشواطئ.
وفي تلك الفترة خشي «الدوتشي» من هجوم ألمانيا على النمسا أثناء حرب الحبشة، فتقرب إلى برلين ليعقد محالفة «عدم تعد»، فكان ذلك سببا في نفور الرأي الفرنسي منه، وهذا الذي حول «دفة» موسيو لافال بالعصبة.
ومن لطائف الموقف خطاب موسيو هاواريات، مندوب الحبشة، فقد دق على نغمة إنجيلية وقال: «نحن شعب مسيحي نطلب السلام والمحبة مع كل الشعوب حتى الدول المخاصمة لنا،
17
ونحن نؤمن بالبشرية ... وأن عصبة الأمم وضعت حدا للفتوحات. ويجب الوفاء لمبادئ الدين المسيحي ... نحن لم نخلق النخاسة، ولكن ورثناها عن أجدادنا، والعبيد أسعد من عمال المصانع، ولكن ندرك أن الحرية أفضل من السعادة.»
وفي نظرنا، ومع عطفنا على الحبشة، أن هذا الخطاب يعد غلطة سياسية. وإننا نفهم الدافع لمندوب الحبشة على هذا الخطاب ونرثى له، فإنه إنما استنفر الشعور المسيحي، واستصرخ الغرب، واستنجد بأمم الحضارة لأنه يئس من الارتكان إلى القوة المسلحة أو كاد، ولأنه ظن أن حظيرة عصبة الأمم أصغى أذنا، وألين جانبا، وأرق قلبا من وزارات الخارجية، وسفارات دول أوروبا، ولو أن بجواره في العصبة دولة كمصر، جارة أفريقية، وصديقة شرقية؛ لكانت له لهجة أخرى في الخطاب، وأسلوب آخر في الجدل.
لأن زمن «الاستنعاج » قد مضى وانقضى
18
وعلى كل حال فقد نال سير هور بغيته من خطبته؛ فقد جرت فرنسا إلى حظيرة العصبة، وأقلقت بال إيطاليا، وحازت ثناء الخصوم والمترددين حتى سوفيات روسيا أنفسهم، ونفخت في روح الأحباش، وانتظر العالم كلمة لافال فقال: إن العصبة وليدة آلام البشر، وشيدت على الأنقاض للحيلولة دون الحرب، وإيمان فرنسا بها لم يضعف؛ لأن سياسة فرنسا قائمة على عهد العصبة، وعطف على عهد سترتيزا، وقال: «اجتمعنا بالمندوبين البريطانيين، ورأينا أن رئيس الحكومة الإيطالية يشعر بمثل ما نشعر به من الرغبة في تعزيز السلم، ولا خلاف بيننا وبين بريطانيا في السياسة التي سنتبعها.»
وفي هذا الوقت جاء من أمريكا صوت مستر كودل هيل يذكر إيطاليا بميثاق كيلوج الذي وقعت عليه اثنتان وستون دولة، وأيده روزفلت وأعلن حياده. كل هذا حادث وسنيور موسوليني يقول إن بريطانيا تعارضه لأنها تريد الاستيلاء على الحبشة!
وأثناء ذلك تحركت مسألة قناة السويس، فكان الرأي القانوني هو على استمرار فتحها لجميع الدول في جميع الأوقات، ودهش العالم أجمع لأن مصر ذات الشأن العظيم في النزاع لا يسمع لها صوت في عصبة الأمم؛ لأنها ليست عضوا فيها، مع أن دولا أصغر منها بمراحل تتمتع بالعضوية كفنزويلا وأراجواي.
وهذا أمر عجيب؛ لأن ساسة مصر لم يحاولوا ذلك من سنة 1922، مع أنه إذا حدثت حرب لن ترغم مصر على الدخول فيها فقط، بل ستصير ميدانا فعليا لها. وقد دلت الاستعدادات في شهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر على أن مصر تتوقع الحرب، وتخشى الغازات الخانقة، ونسف القناة، وغزو إيطاليا من الحدود الغربية، ونسف خزان أسوان،
19
وإشعال النار في مخازن البترول بالسويس (الناحية المعروفة عند أهل السويس بالزيتية). وقد أخذت إيطاليا تستعد في الجزر الاثنتي عشرة وتحصنها، وتلغم شواطئها مقابل استعداد إنجلترا العظيم في البحر الأبيض، وتحمس الأحباش فألفوا فرقا من النساء بقيادة الإمبراطورة.
20
ولا نظن أن دولة في التاريخ القديم أو الحديث نالت العطف الذي نالته الحبشة، فإن أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا تضافرت جميعها على نصرتها.
ومن محاسن المصادفة أن الحبشة
21
لم تحرم من تعضيد بعض أبطال التاريخ الحديث أمثال ديفاليرا، حاكم أيرلندا الشهير ورئيس دولتها، فقد حضر مندوبا عن وطنه. وهذا امتياز عظيم يقوم حجة على أعداء الحرية، فلولا استقلال أيرلندا الذي نالته بشق الأنفس ما استطاعت أن تقف بجانب الدول العظمى في عصبة الأمم، بل كانت لا تزال معدودة «مديرية أو محافظة» بريطانية. خطب فقال:
ستقوم أيرلندا بواجبها كاملا، ليس الإنسان وحشا ضاريا، وليس النصر دائما للأقوى، والأكثر شراسة (اقرأ بين السطور قوله: انظروا لنا وقارنوا!) إذا كان واحد من المعتدين تطلق يده والآخر تغل يده، فخير لنا أن نعود إلى نظام المعاهدات السرية.
وهو يشير بذلك إلى منع السلاح عن الحبشة.
وحتى مملكة ابن سعود الوهابية (ولا نقول هذا استصغارا لشأنها، بل لبعدها عن حلبة الوغى) عرضت معاونتها العسكرية لعصبة الأمم في مقاومة التعدي الإيطالي، وبذلك يكون السنيور موسوليني قد فاز في حشد كل الدول المسيحية والإسلامية والوثنية ضد إيطاليا في الشرق الأدنى والأوسط والأقصى.
لقد أسفر اجتماع العصبة عن تأليف لجنة خماسية لحل النزاع حلا مباشرا نهائيا، وعرض هذا الحل على الدولتين المتنازعتين، فإن قبلتاه حبا وكرامة، وإن رفضته إحداهما تكأكأ الكل عليها لقهرها وإرغامها. وقد أتمت اللجنة الفرعية عملها في وضع التقرير بالمقترحات في نصف شهر سبتمبر، وقد بني على أساس اقتراحات مؤتمر باريس التي رفضتها إيطاليا، وقد وضع بالإجماع مع الحرص على سلامة حقوق السيادة القومية.
وفي الوقت نفسه ذاع أن الحرب تعلن في آخر سبتمبر، والرأي العام في الحبشة على أن زمن الخطب والمفاوضات قد انتهى، وأن معين عصبة الأمم قد نضب، وعجزها ظهر وثبت.
وقد رفضت إيطاليا جميع اقتراحات اللجنة الخماسية بغير تردد، وهي تتلخص في إبطال الرقيق، وتشجيع الاستثمار الاقتصادي لموارد الحبشة، ورقابة الأمور المالية والضرائب الحبشية، وتخلي إنجلترا وفرنسا عن شقة من الأرض في الصومال لإيطاليا، وإعطاء الحبشة منفذا إلى البحر.
وفي 21 سبتمبر، اجتمع وزراء إيطاليا وخطبهم الدوتشي ساعة، وقرروا بعد المناقشة رفض الاقتراحات بأكملها.
ودهش الرأي العام العالمي من هذا الرفض ، واستحكمت حلقات العداء بين إنجلترا وإيطاليا، وعادت صحف إيطاليا للحملة على أنطوني إيدن الذي تعتبره «شيطان المسألة الحبشية»، وأعلنت إنجلترا أنه لا نزاع بينها وبين إيطاليا، بل إن النزاع بين إيطاليا وعصبة الأمم، وشاع أن ملك إيطاليا المحبوب من جميع العالم، والذي لم يسمع صوت جلالته في هذه المدة إلا قليلا، أرسل إلى ملك إنجلترا خطابا بخط يده يناشده فيه أن يوفق بين الحكومتين، وشاع أيضا أن جلالته لا يحب الحرب، ومثله في ذلك مثل قداسة البابا الذي خطب لمصلحة السلام كما يقتضيه واجبه ومركزه.
22
ولكن كثيرين من أهل التفكير على أن رفض إيطاليا يعد من قبيل الإرهاب، وإظهار الثبات وعدم التزعزع حيال اتحاد العالم، ولكنهم لن يلبثوا أن يلينوا، وآية لينهم أن يناقشوا الاقتراحات، وفعلا بعد أن هدأت العاصفة، وجست إيطاليا نبض أوروبا صرح الدوتشي بأن الأرض المعروضة عليه مقحلة وجدباء؛
23
وبذلك خرجت إيطاليا من صمتها، وعدلت عن عنادها، وأظهر سنيور جايدا، «روح الشر» في هذه المشكلة، نوعا من المسالمة.
واقترح مندوب إيطاليا تجريد الحبشة تجريدا تاما من السلاح، وأن تتولى إيطاليا إعادة تنظيم جيشها، وأن تتخلى الحبشة لإيطاليا عن منطقة من أراضيها ممتدة إلى غربي أديس أبابا من الشمال إلى الجنوب؛ لتصل بين الإريتريا والصومال الإيطالي، وإصرار إيطاليا على أن أي منفذ بحري يعطى للحبشة يجب أن يكون عن طريق الممتلكات الإيطالية.
وقال بعضهم متهكما في التعليق على هذه الشروط: إنها لا تفرض حتى في حالة انتصار إيطاليا انتصارا باهرا بعد حروب مهلكة، فما بالك بطلبها أثناء السلام!
أما الحبشة فقد قبلت مشروع الخمسة بدون تحفظ، وما زالت إيطاليا تهدد بالانسحاب من العصبة.
وقد جندت كل كائن ممكن تجنيده، حتى إنها نبشت الأرض على الكبتن جينون، وهو ضابط في الستين من عمره (كان عمره 20 عاما في الموقعة) نجا مع الأفراد القلائل الذين نجوا من معركة عدوة! وقيل إنه تطوع للخدمة في شرق أفريقيا. ونحن نعجب بشهامة هذا الجندي الشيخ، لا لأنه ساع إلى حتفه بظلفه - فإن الأعمار بيد الله - ولكن لأنه يعود عن طيب خاطر إلى المكان الذي رأى فيه الموت رأي العين بعد انقضاء أربعين عاما تحولت خلالها حاله، وابيض شعره، وانحنى ظهره، وضعضعته الأيام، ولكنها لم تفت في عضده، وإن كان في إيطاليا من طرازه واحد فرد، ففي الحبشة ألوف ينتظرون الحرب والصدام، فإنها تستعد لتجنيد مليون مقاتل، فتدفق سيل من رؤساء القبائل للاندماج في الجيش.
ومما يؤسف له أن مستر فرنك كيلوج، صاحب الميثاق السلمي الدولي الشهير، قد استقال من عضوية محكمة لاهاي الدولية، والسبب الظاهر أحوال ترغمه على التغيب عن المحكمة، والسبب الصحيح ضجره وقرفه مما وصلت إليه حالة بعض زعماء شعوب أوروبا ممن وقعوا على ميثاقه.
وقد خيم اليأس على نفوس العصبة بعد رد الدوتشي، فإن رده لا يدل على أنه عاد إلى المسالمة والوفاق. وقد قدم هذا الرد لأنه يعلم أن الحبشة لا تقبله، وأن أعضاء العصبة لن يقبلوه، ولم يبق إلا أن تنسحب إيطاليا من العصبة.
وأخذت الأنباء تتسرب بأن بعض أعضاء مجلس الشيوخ، وأركان الحرب
24
في إيطاليا أخذت تتشاءم من الحرب، وتسيء الظن بنتائجها، وتتوقع الشر والسوء من مغبتها، ويتصل بعضهم بجلالة فيكتور عمانوائيل ليقنع جلالته بذلك؛ لما هو مشهور عنه من حب الخير والسلم، وبغض الحرب وإهراق الدماء.
ولا يزال بعض النوكى والحمقى يظنون أن الدوتشي قد يعود إلى المصالحة، ويظنون أعماله من قبيل «البلف» والتهويش، والحقيقة في ذهن العقلاء والمفكرين أن الرجل جاد الجد كله، قد يكون مغامرا، وقد يكون شاعرا بالخطر، ولكنه بلا ريب قد وزن كل الأمور، وحسب لكل شيء حسابه، ولم تفته صغيرة ولا كبيرة، وأن حوله فئة من أهل السياسة والحرب قد عاونوه على الوصول إلى نتيجة تسره وتسرهم، واتخذوا لها أهبتهم، ولسانهم الناطق سنيور جايدا، منشئ جورنالي ديطاليا، وشاعر الفاشستية المداح والهجاء، ورافع لواء المعاداة لإنجلترا، وفاضح أسرار الاستعمار، على زعمه.
وعلى هذا الرأي حكومة الحبشة وشعبها، ومعظم رجال السياسة والصحافة في إنجلترا وألمانيا، بل إن حوادث الأيام نفسها تؤيد صحة عزم الدوتشي ، فلم تر في تاريخ العالم أن عشرة آلاف رجل يرسلون في يوم واحد لميدان الحرب دون أن تكون الحرب مؤكدة وواقعة. وقد وقعت فعلا!
كل هذا حادث وعصبة الأمم مستمرة في أداء عملها، وأعضاؤها يعتقدون أنهم قادرون على منع الحرب، وبعد أن رفضت إيطاليا اقتراحات الخمسة، وقدمت اقتراحات مستحيلة القبول عقدت لجنة الثلاثة عشر المؤلفة من جميع أعضاء مجلس العصبة، ما عدا العضو الإيطالي؛ لوضع تقرير عن النزاع بين إيطاليا والحبشة، فقرر شكر إمبراطور الحبشة؛ لأنه أمر بسحب جنوده ثلاثين كيلومترا وراء الحدود رغبة منه في اجتناب الحوادث، وتلت طلبه البرقي بإرسال لجنة دولية ترقب من يبدأ بالاعتداء، فاتفقت على صيغة الجواب، ووعدته خيرا. ويعد هذان العملان حكما تمهيديا ضد إيطاليا، ولهذا الاجتماع الإجماعي سابقتان في حرب جران شاكو، وفي نزاع الصين واليابان، وستظل دورة انعقاد الجمعية العمومية للعصبة مستمرة إلى أن ينجلي الموقف، فاحتج مندوب إيطاليا على استمرار الاجتماع إلى أجل غير مسمى؛ بحجة أن العصبة غير مرتبطة ارتباطا رسميا بالنزاع الناشب.
ومما يجدر ملاحظته من الوجهتين السياسية والقانونية أن إيطاليا التي تتهدد العصبة بالانسحاب، وتحاول التقليل من قدر قراراتها في نظر العالم، لم تترك ناحية من ناحيات النقد القانوني ضد العصبة إلا تناولتها بكثير من الدهاء والحيطة، كما يفعل أمهر المحامين وأحذقهم، فمن ذلك قولهم: إن الوقت مناسب لتطبيق البند 16 من عهد العصبة على الحبشة، وهو ينص على «إخراج العضو الذي لا يليق أن يبقى في العصبة ...» والبند 22 الخاص بالانتداب، وأن العقوبات لا تفرض إلا في حالة الانشقاق المفاجئ لا في الحالة الراهنة، حيث سبق للمجلس أن تدخل في الأمر، وقد تخلفت إيطاليا عن حضور جلسة 26 سبتمبر؛ لتحتفظ بكامل حريتها فلا يصدر أي قرار في مواجهتها.
وفي وسط هذا التوتر الشديد في أعصاب العالم تكلم سنيور بنديتو موسوليني فقال (27 سبتمبر 1935): «لقد فكرت مليا، وحسبت كثيرا، ووزنت كل شيء، ولن يستطيع أحد وقف مليونين من أبناء إيطاليا يتوقون إلى شرف الذهاب إلى شرقي أفريقيا لخدمة وطنهم، والموت في سبيله إذا قضت الضرورة، وأنا أختار التضحية بالحياة على السلام (كذا).» وقد تقدم الدوتشي بقلمه يكتب بدون توقيع في جريدة المنبر «تريبونا»، التي صدرت في 27 سبتمبر بروما، فقال: «إن العقوبات لا وجود لها في ميثاق العصبة، والمادة 16 تشير فقط إلى قطع العلاقات المالية والتجارية، ولما كانت إيطاليا الفاشستية لم تقترض درهما واحدا في تاريخها، فلا يمكن أن ينكر عليها ما لم تطلبه، والبلاد التي تدعو بإلحاح إلى توقيع العقوبات هي التي تبيعنا أكثر مما تشتري منا، فإذا لم تشأ أن تبيع لنا أو تشتري منا فإننا نشكرها، ولكن إذا حاصرونا فمعنى ذلك الحرب، ونحن نحارب أيضا.»
وقد انتهز خصوم إيطاليا فرصة هذا التصريح وقالوا إن الحبشة قد تصير كابوريتو ثانية، وقد تمسي الحبشة عند ذلك مقبرة الفاشيزم.
25
وعلى الرغم من تفاؤل الدوتشي، وفرحه بالحرب والتضحية والموت في سبيل الحبشة، وتفضيله القتل على السلم، فإن صوتا من إيطاليا، ومن نفس هؤلاء الشبان الذي يذكرهم جاء يقلل من حدة هذه اللهجة، ويغمرها بشيء من المرطبات؛ فقد نشرت صحيفة عربية كبرى حديث شاب إيطالي جاء فيه اعتذار عجيب عن الإقدام على الحرب:
لسنا مقبلين على الجهاد بقلوب مرحة ... ولكنا نشعر بأن إيطاليا مضطرة للتوسع وإلا تنفجر، ونعلم أن أمامنا أهوالا ومصاعب وخسائر لا بد أن تتحملها، ولن يكون هذا تسلية ولهوا لجيلنا الحاضر.
26
وفجأة تغيرت لهجة الدوتشي وأعوانه بعد أن أيقنوا أن العصبة جادة في خطتها، ومصممة على تنفيذ ما صحت عزيمتها على تنفيذه، فعدل بارون الويزي مندوب إيطاليا عن مغادرة جنيف تنفيذا لأوامر جديدة وصلت إليه من روما.
واجتمع وزراء إيطاليا في يوم 28 سبتمبر، وعرض عليهم موسوليني تطورات الحالة منذ الاجتماع الأخير، واعتذر عن رفض اقتراح الخمسة؛ بحجة أنها أغفلت مصالح إيطاليا التي تؤيدها وتؤكدها معاهدات 1889 و1906 و1925 - وأغفل الدوتشي معاهدة 1896 التي عقدت بعد معركة عدوة - وسخر من حسن الظن بالنجاشي في سحب جنوده وراء الحدود، وأخيرا قرر المجلس ما يأتي:
أولا:
إيطاليا لن تبادر العصبة بالعداء.
ثانيا:
إيطاليا تحترم المصالح البريطانية، وهي مستعدة لعقد معاهدة مع إنجلترا تطمئنها على مصالحها في شرق أفريقيا.
ثالثا:
تجتنب إيطاليا كل ما من شأنه توسيع الخلاف بينها وبين الحبشة.
وقد فسر هذا العمل بأنه مساومة إيطالية، ومناورة جديدة للدخول في مفاوضة ثلاثية خارج العصبة، وأن معناه أيضا تأجيل إعلان الحرب.
ولكن الطليان يعتبرون هذا البلاغ تحديا لإنجلترا، وإنجلترا ترفض أن تتفاوض خارج العصبة.
وقد انتهى شهر سبتمبر ولم تعلن الحرب، ولم تنجح العصبة في حسم النزاع، ولم تتزحزح إيطاليا عن موقفها إلا بحيلة تقصد بها إلى كسب الوقت، وإحداث الفشل في صفوف العصبة.
وأراد موسوليني أن يختم الشهر بحادث سياسي، فصرح للصحف
27
بأن بريطانيا وإيطاليا اتفقتا على التهام الحبشة، وأن بريطانيا تعتبر استقلال الحبشة في دور التكوين، وقد وقعت «أنا موسوليني» في سنة 1925 مع سير رونالد جراهام، سفير إنجلترا (كان مستشار الداخلية في مصر)، اتفاقا بتقسيم الحبشة تقسيما فعليا بيننا، واشتركت معنا فرنسا للمحافظة على حقوقها الاقتصادية، ولا بد لنا من الاحتلال العسكري ضد الفوضى والوحشية، كما حدث في العراق ومراكش، وقد أخطرت بريطانيا بالخطة التي ستنتهجها إيطاليا في 29 / 1 / 1935 ، ثم أعادت إخطارها في 1 / 5 / 1935.
أما سفر وحدات الجيش، فكان جهارا عن طريق قناة السويس، فلماذا لم تحرك بريطانيا ساكنا؟ ولماذا لم تحتج إلا بعد زيارة كابتن إيدن لروما؟
بعد أن مضى على هذا التصريح يومان، اعتدت إيطاليا على الحبشة بالطائرات والمدافع بدون إعلان حرب (2 أكتوبر سنة 1935)، وما زالت تحارب وتخذل إلى يوم 12 أكتوبر الذي سبقته فترة سكون وتردد. وقد رفعت العصبة «الحظر» فأرسلت الدول بالأسلحة إلى الحبشة، وأجمعت الأمم على مقت إيطاليا، خصوصا بعد أن ظهر عجزها عن اكتساح الحبشة في أسبوع كما أنذرت وأملت وادعت، ولم تكسب إلا تنفيذ العقوبات الاقتصادية كنص البند السادس عشر من عهد العصبة.
تطور الغارات على الأمم
الأمور الثلاثة التي قيل إنها سبب الحرب
لقد شغلت الحرب الحبشية الإيطالية الحاضرة أذهان الكتاب والقراء ورجال السياسة وعلماء الاجتماع في كل مكان، حتى غضوا الطرف عن مسألة تاريخية كبرى لها أكبر الأثر في تكوين النزاع السياسي الذي تنشأ عنه الحرب.
فقد نظروا جميعهم إلى تلك الحرب بوصفها عملا دوليا عدائيا ترتب على ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
الأخذ بالثأر لهزيمة عدوة الشهيرة.
الأمر الثاني:
رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري للحصول على ما يسد الرمق.
الأمر الثالث:
رغبة زعيم إيطاليا في إحراز نصر خارجي يعيد لأرض إيطاليا وشعبها مجد الدولة الرومانية البائدة.
والأمران الأول والثالث غير جديرين بالاكتراث من الناحية الدولية العامة، ولا يهمان أحدا سوى إيطاليا نفسها، وقد لا يهمان فريقا كبيرا من الشعب الإيطالي المعاصر؛ لأن موقعة عدوة وقعت في سنة 1896؛ أي منذ أربعين عاما تامة، والكثرة الساحقة ممن حضروها، أو تحمسوا لها، أو شربوا مرارتها قد انقرضت أو كادت، ولم يبق لها ذكر إلا في بطون الكتب، وليست عدوة «الزاسا» ثانية انتزعت من جسم الوطن، حتى تبقى نيران الثأر مشتعلة في قلوب بنيها، ولا تطفأ إلا أن تسترد وتعود إلى أحضان الأم الرءوم.
1
هذا عن الأمر الأول، وهو تعليل الحرب التي نشبت برغبة الأخذ بالثأر.
الأمر الثالث وهو رغبة زعيم إيطاليا في إحراز نصر خارجي يعيد المجد، وهذا الأمر يعد مغالطة تاريخية، وسفسطة سياسية؛ لأن العقل السليم والنظر الصادق لا يسمحان لصاحبهما أن يتخيل أن مجرد الانتساب إلى شعب عريق قد قامت قيامته، واندثرت معالمه، وانحلت عناصر حضارته، ومحيت آية وجوده من صحيفة الوجود، أن مجرد الانتساب إلى هذا الشعب يكفي لإعادته سيرته الأولى؛ لأن أسباب الانحلال التي اعترت كيان الإمبراطورية الرومانية ذهبت بتلك الإمبراطورية،
2
كما أن عناصر التكوين وتاريخ النشأة لتلك الإمبراطورية ليست متوافرة كلها، أو معظمها في الأمة الإيطالية الحديثة التي دخلت في التاريخ الحديث بوصفها وحدة قومية يرجع الفضل فيها إلى ثلاثة من أعيان السياسة الوطنية؛ وهم: متزيني، وكريسبي، وكافور. فنهضة إيطاليا الحديثة نهضة اقتصادية وسياسية، وليست نهضة حربية كالتي قامت عليها إمبراطورية روما.
3
وإذا رجعنا إلى كتب متزيني
4
وخطب كافور نجد أنهما لم يرميا قط إلى عظمة إمبراطورية ولا توسع استعماري، بل كانا يرميان إلى تحرير وطنهما من ربق الاحتلال النمسوي والفرنسي، وإصلاح الشئون الداخلية. وهذا ليس بالتاريخ القديم، بل يرجع إلى القرن التاسع عشر، فإن روما لم تحرر من الجنود الأجنبية إلا في حرب السبعين؛ أي منذ ستين عاما تقريبا.
ولا يكفي للزعيم أن يكشف للعمال عن بضعة مبان قديمة، أو بعض «أقواس نصر» خاوية كحمام كراكلا، أو إصطبل نيرون حتى يعيد مجدا بناه جبابرة الحرب، ودهاة السياسة، أمثال: يوليوس قيصر، وأغسطس، وشيشرون، وأن الإمبراطورية الرومانية هزمها العرب في ساحات الشام (واقعة اليرموك)، كما هزم البقية الباقية منها غزاة الترك في الاستيلاء على القسطنطينية.
إذن يكون الكلام على إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية التي فتحت العالم مجرد كلام جميل، وأحلام زاهية، وأماني معسولة لا يصح في الأفهام أن يقام لها وزن. وقد تصلح بروقا خلابة لأعين الشعب في بلاده، وهي على حد قول الإنجليز اللاذع: «بضاعة لا تصلح للتصدير»، وفي ظني أن ذكاء الزعيم يقنعه بصحة هذا الرأي.
بقي الأمر الثاني الذي يصح أن يكون هو السبب الصحيح للحرب التي نشبت، ولم يحصل إعلانها، وهو رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري.
التوسع الاستعماري الحديث
ومهما يكن رأي دعاة الاستعمار، فلا يمكن أن يفيض أحدهم في البحث ويفي الموضوع حقه بمثل ما صنع بول ديبوا في كتابه الممتع «الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر»
5
فإن هذا العالم المدقق قسم الاستعمار الأوروبي إلى ثلاثة أقسام:
الأول:
الهجوم على القارات الآهلة بالمتوحشين (أستراليا وأمريكا).
الثاني:
استعمار وطن الشعوب الآيلة إلى الانحلال (كالهند والصين).
الثالث:
الهجوم على القارة السوداء (أفريقيا)، ولكن العالم ديبوا لم يفته وهو يدافع عن بعض نظريات المستعمرين الذين أتقنوا سياسة الاستعمار حتى كادوا يجعلونها فنا جميلا، أن يرجع الأمور إلى أصولها، فأشار من طرف خفي إلى وجوه الشبه بين الاستعمار الحديث وغارات القبائل البربرية في القرون الوسطى على الأمم المتحضرة التي دقت نواقيسها؛ فأضاعها الترف والتطرف في نعومة المدنية، واستنامت إلى ملذات الرفاهية.
هجوم البرابرة على الأمم المتحضرة
تاريخ الأمم هو تاريخ «النزوحات» التي حصلت بينها، وهي أشبه الأشياء بالتموجات الإنسانية الحية، ومظهرها أن قبائل رحالة قوية يضيق بها العيش والمرعى في أوطانها، فتنزح على غير هدى في طلب الرزق، ولا تلبث أن تنقض على بلاد آهلة بالسكان، وشعوب في درجات مختلفة من الحضارة، فتنزل عليها نزول الصاعقة، وتستولي عليها، فتبيد حضارتها تارة، وطورا تخضعها لنفوذها، فإذا تم الإخضاع، فإما تندمج فيها، وتفقد على مر السنين وكر الأعوام مؤهلات الغزو والطغيان، وإما تحتفظ بقوتها فتفني الشعوب الأصيلة عن آخرها.
وضرب العلماء أمثالا لذلك هجوم الهون والفندال والفيزيجوت على روما وأوروبا الوسطى وإسبانيا، فحكموها بعد أن أزالوا ملكها، وخربوها حتى صار اسم «الفندال» علما على التخريب.
6
وكان منهم إباطرة أمثال كراكلا، وكانت لهم نظم فطرية أضافوها إلى ما وجدوه في حوزة الممالك المقهورة. وهجم النورسمان والسكسون من شمال أوروبا على إنجلترا وأيرلندا، فغلبوا القلتيين أو السلتيين على أمرهم.
هذا في الغرب، أما في الشرق فقد أغار المغول والتتار على بغداد، في أواخر القرن السابع الهجري، وهي في قمة مجدها تحت حكم العباسيين، فصنعوا بها ما صنعوا من تخريب وتقتيل، وتحطيم لآثار الحضارة، حتى جعلوا أهراما من الرءوس البشرية، وأغرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الكتب المخطوطة في نهر دجلة.
وكان لهؤلاء المدمرين زعماء نابهون؛ أمثال: جنكيزخان، وتيمورلنك الأعرج، وغيرهما.
وإن المؤرخين ليصعدون في سلم التاريخ إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذكرون هجرات قبل التاريخ؛ مثل نزوح قبائل اليمن بعد خراب سد مأرب إلى الشمال، ومنهم قبائل احتلت الحجاز ومكة، وطردت القبائل السابقة كقبيلة جرهم، وصعدوا إلى الهكسوس الذين أغاروا على مصر وملكوها، وقهروا ملوكها، وأغارات القبائل الوحشية على بابل وآشور، ولم ينسوا أن يصفوا خروج بني إسرائيل من مصر بأنه نزوح قبيلة قوية لفتح فلسطين المستضعفة.
وغير خاف أن هذه القبائل كلها إنما أغارت على الأمم المتحضرة في سبيل الرزق والتحضر، ورغبة الاستقرار في بلاد مجهزة بكل أدوات المدنية.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
فلما أن تحضرت أوروبا بعد الحروب الصليبية، وبعد سقوط القسطنطينية، وانتفاعها بعلوم العرب واليونان، ثم تفوقها عليهم بالأسلحة والعدد، وبلغت الحضارة الأوروبية قمتها في القرن التاسع عشر، وقام اقتصاديون؛ أمثال: آدم سميث ومالتوس في إنجلترا،
7
وجان باتست ساي في فرنسا، وكان الإفرنج قد جاسوا خلال القارات الخمس، ووقفوا على بواطن أمورها، وأولهم «ماركو بولو» الإيطالي، وكوك الإنجليزي، وفاسكو دي جاما وبيزارو البرتغاليان، وكريستوف كولومب البيزاني فالجنوازي، وكان أسبقهم ابن بطوطة العربي المسلم، ولكنه لم يفد أمته شيئا!
نقول: لما جاس هؤلاء الرحالون المشبعون بروح الاستطلاع والغزو خلال الممالك، وعادوا إلى أوطانهم بأنباء مدهشة تشبه أنباء سندباد البحري، لحقهم من الإنجليز ليفنجستون، وستانلي، وأمين باشا (وهو ألماني)، فكشفوا أفريقيا ومنابع النيل.
وصادف أن توهمت أوروبا أنها سوف تجوع وتعرى، وتحتاج إلى القوت الضروري على توالي الأعوام، وأدرك الضيق المادي طبقة العمال ولا سيما في بلاد الإنجليز، فانتحر أحد عمال المناجم بعد أن قتل أولاده خشية الإملاق، فكتب كارليل فيلسوفهم في تلك الحقبة في كتابه «الماضي والحاضر»
8
يقول في الفصل الأول:
لقد حدث للمرة الأولى حادث فاجع لم يسبق له مثيل في هذه البلاد، ألا وهو أن رجلا إنجليزيا مسيحيا قتل نفسه بعد أن قتل أولاده خشية الجوع والبرد. وإنها لعلامة جد خطيرة، وأمر له ما بعده حدث في يوم عبوس قمطرير.
فحينئذ - وحينئذ فقط - هبت تلك الأمم للاستيلاء على البلاد الضعيفة، أو ذوات الحضارة المنحلة؛ مثل: الهند، وشمال أفريقيا، والهند الصينية، ووادي النيل إلخ.
الأسباب التي انتحلتها دول أوروبا لتبرير الاستعمار
ولما كانت دول أوروبا قد ضربت في الحضارة بسهم نافذة، واتخذت لها رداء من المدنية، ووجها مستعارا من مكارم الأخلاق، ولا سيما بعد ظهور مبادئ الثورة الفرنسية، وتوكيد حقوق الإنسان، وانتشار فكرة الحرية والمساواة بين الأمم، وصارت لهم حكومات منظمة ومسئولة أمام مجالس نيابية، وصحافة قوية تنشر كل ما يقال ويكتب في أنحاء العالم؛ فقد خجلوا أن يجاهروا بالسبب الحقيقي لغاراتهم الجديدة على أمم العالم، وهو الخوف من الجوع، وخشية الإملاق المهدد لكيانهم، فاتخذوا أسبابا باطلة، وألبسوها ثياب الحق فقالوا: «إنما نفتح البلاد ونغير عليها لا لمنفعتنا ولكن لخيرهم، فنحن نريد تمدينهم وتحضيرهم، ونريد حمايتهم من أنفسهم، ومن طغيان حكامهم.»
وكما انتحل بعض ملوك أوروبا في القرون الوسطى حجة الحكم والسلطان بالحق الإلهي
9
كما فعل شارل الأول في إنجلترا، ولويس الرابع عشر في فرنسا، وشارلمان وغيرهم، فقد اتخذت بعض الدول الأوروبية فكرة «المسئولية أمام الإنسانية» فصارت تقول: نحن مسئولون أمام العالم عن حماية هذه الأمم وتهذيبها وتحضيرها، ولا يمكننا أن نتخلى عنها لئلا تهلك أو تتدهور أو تتردى في الهاوية، ولكن أعمال هذه الدول في تلك البلاد المستعمرة كانت تكذب دعواهم، فقد حكموها لمصلحتهم الذاتية، ومحوا آيات استقلالها، وعملوا على تأخيرها لتمام الاستيلاء عليها.
وقد برعت أوروبا في تنفيذ خططها، وأتقنت سياسة الاستعمار، ومصرت الأمصار، ودونت الدواوين، وأنشأت المكاتب والمدارس لتخريج الرجال، وتأهيلهم للخدمة في المستعمرات، وعلمتهم لغات البلاد المقصودة بالحكم؛ كالعربية، والهندية، والأندنوسية، حتى لغات الزنوج والشلوك أتقنوها، ووضعوا لها القواميس والمعاجم، ووضعوا القوانين والشرائع لحكم تلك البلاد، وأسسوا وزارات جديدة أطلقوا عليها اسم وزارات المستعمرات، قد يكون شأنها في بعض الدول أعظم من شأن وزارة الأمور الخارجية كما هي الحال في فرنسا الآن.
العراك بين الدول العظمى على المستعمرات
ولم تكن الملحمة العظمى بين القوي والضعيف لتمر دون تيقظ الحزازات بين الهاجمين والمغيرين؛ لأن الأمر لا يخلو من دسامة إحدى اللهى وضآلة الأخرى، وسمن بعض الفرائس دون البعض، فكان من هذا القبيل أن حاربت إنجلترا جارتها فرنسا في سهول كندا لتزاحمها على تلك السهول الواسعة ذات الخصوبة العظيمة،
10
وحارب السكسون بعضهم بعضا في أمريكا نفسها، ففاز المستعمرون على دولتهم الكبرى بريطانيا؛ فأسسوا جمهورية الولايات المتحدة.
وحاربت إنجلترا الدولة الروسية في القريم، وأوشكت إنجلترا أن تحارب فرنسا على فشودة (حملة الجنرال مارشان)،
11
ولما دخلت اليابان في دورة الاستعمار وتشبهت بأوروبا، التحمت في حرب عظمى مع روسيا للنزاع على منشوريا. وأوشكت ألمانيا أن تحارب فرنسا لأجل مراكش (1912) بسبب سياحة غليوم الثاني وسفره إلى «أغادير». وختمت تلك المعارك كلها التي ولدت الأحقاد على مدى العشرات من السنين بالحرب العظمى التي ما زال سببها غامضا لدى العامة.
وحقيقتها أنها حرب سببها الاستعمار الذي تنبهت عناصره بعد غزوة إيطاليا في طرابلس، وطمع ألمانيا في نصيب من المستعمرات أوفر مما كان لديها، فتكشفت الحرب عن سلبها ما كان لديها، والحكم عليها بالإعدام السياسي، والموت المدني ولو إلى حين.
الوجه الأخير للاستعمار
وهو وجه «المحاق». وقد عادت فكرة الاستعمار كالعرجون القديم، وأظهر ما في هذا الوجه هجوم إيطاليا على الحبشة على الرغم من وجود عصبة الأمم. وخطورة الأمر ترجع إلى أن كلا من الحبشة وإيطاليا عضو في تلك العصبة. وقد بذلت دول أوروبا غاية ما تستطيع في التوفيق والحيلولة بينهما وبين الحرب، فأعلنت إيطاليا بعملها إفلاس العصبة، وأثبتت أن حب الاستعمار لا يزال نارا تتأجج في صدور أهل أوروبا، حتى بعد الحرب العظمى ومؤتمر نزع السلاح.
ولكن إيطاليا أحسنت إلى العالم في شيء واحد،
1
وهو أنها جاهرت بأنها تحارب لأجل التوسع، وحبا بتوفير الرفاهية لأبنائها، ورغبة في إيجاد ميدان جديد لنشاط الأجيال المقبلة من سلالة الفاشيين، وتنفيسا عن صدر الأمة التي تكاد بلادها تضيق بشعبها. وبعبارة أخرى، تريد إيطاليا أن تقول: «طالب العيش ما تعدى» ولما يمض على استيلائها على طرابلس ربع قرن، وقد يعز على الزعيم أن لا يضيف إلى أملاكه أرضا جديدة يضمها إلى إريتريا والصومال ليزهو بحكم أهلها وثروتهم بين الأمم. ولكنه كان صريحا، فلم يخف أغراضه، ولم يخجل من التصريح بها، بل عير بعض الدول العظمى بما فعلته في سبيل الاستعمار.
2
وإذن تكون غزوة إيطاليا للحبشة من نفس النوع الذي وصفناه في النبذة الثالثة من هذه العجالة، فها هي أمة متحضرة، ووارثة لدولة عريقة في المجد، وموجدة نظاما جديدا في الحكم الداخلي، وهو النظام الفاشي، قد أدركتها أعراض الوراثة من دماء الذين أغاروا على روما وحكموها، فأغارت على بلاد أجنبية بعيدة عن مقر ملكها بألوف الأميال، ولم يعقها عن تلك الغارة أن تلك البلاد الأجنبية البعيدة عريقة هي الأخرى في الاستقلال والحرية، وفي الشجاعة الحربية، وفي الإيمان الديني ، ولم يعقها أن تلك البلاد داخلة في زمرة الأمم التي أرسلت مبعوثيها إلى عاصمة جامعة الشعوب بجنيف.
3
مما يثبت التناقض الإيطالي وعدم الثبات على المبادئ أن مندوب إيطاليا في عصبة الأمم في جلسة 15 سبتمبر سنة 1923، وهي الجلسة التي قبلت فيها الحبشة في العصبة، وكان إذ ذاك هو الكونت بونينو لونجاري (سلف بارون الوازي) قال إنه يرحب باسم إيطاليا بقبول الحبشة، تلك الدولة العريقة في الحرية والعقيدة منذ ثلاثة آلاف سنة لدى دخولها في عصبة الأمم، وإن إيطاليا تعد طلبها العضوية في العصبة تحية عظمى تقدمها الحبشة إلى العصبة. وقد دافع عنها خير دفاع وقال: إنها مصدر نور وحضارة في أفريقيا.
وإذ كانت القبائل المتوحشة تغير على الأمم المتحضرة بأقواس، وسهام، وسيوف، ورماح، وخوذات، ودروع، فإن إيطاليا المتحضرة تغير على الحبشة بالطائرات، والغازات، وأشعة الموت، والأساطيل، والدبابات، والمدافع الرشاشة، وقنابل الديناميت. وهذه الأمة الحبشية نفسها لم تكن تملك إلا الأقواس والنبال والرماح.
الأدلة المادية على أن الحرب الناشبة غايتها طلب الرزق!
لقد نوه مندوبو إيطاليا بجنيف في 18 سبتمبر سنة 1935 بأن إيطاليا يجب أن تتحصل على متسع من الأرض لزراعها العاطلين عن العمل، وأن تستعمر البلاد، وتمد المصانع الإيطالية بالمواد الخام، وأن هذا لا يتسنى إلا إذا كان لإيطاليا جيش احتلال دائم في الحبشة، ورقابة على إدارة الحكومة، وقال الزعيم موسوليني في يوم 19 سبتمبر لمستر وارد برايس في روما:
إن منطقة الدناكل التي تقترح لجنة الخمسة إعطاءها لإيطاليا ليست سوى مهد قديم لبحر جف ماؤه، فلا تنمو فيه عشبة خضراء، ولا يمكن حتى الحبشي نفسه أن يجد فيها وسيلة للارتزاق، تلك هي صحراء أوجادين أو الصحراء الحجرية ... وقد عالجنا بعض الصحراء الليبية وصيرناها صالحة للسكنى. أما الصحاري الجرداء القاحلة المملوءة صخورا هائلة صماء؛ فلا يمكننا أن نفعل بها شيئا.
ماذا يقول سنيور بنيتو موسوليني لو أن دولة أقوى من دولته أعلنت عليه حربا جائرة، وكادت أن تقهره، فعرض عليها جزيرة صقلية وجنوب شبه الجزيرة لتستعمرها، فرفضت عرضه، وطلبت سهول لومبارديا وتوسكانيا لخصوبتهما ، وذلك بحجة أن عمالها عاطلون، وزراعها لا يجدون ما يزرعون، هل يطيق الحياة حينئذ، أم يقبل التنازل عن أرض الوطن؟
النتيجة
ويستنتج من كل ما تقدم، وهو بعض ما يجب أن يقال، أن غارات الأمم على بعضها بعضا لا تزال مستمرة، وأنها تطورت، فبعد أن كان المتوحش يهاجم المتحضر، أمسى الذي يعتبر نفسه في أعلى قمة الحضارة يهاجم الأمة التي يعتبرها هو متوحشة، فقد قال مندوب إيطاليا في إحدى جلسات العصبة: «إن الحبشة ليست أمة، ولا تستحق أن تكون عضوا في جامعة الأمم.»
4
ولكن على الرغم من هذا التطور الذي تم في مدى عشرين قرنا؛ فإن سبب الغارات لا يزال واحدا، وهو التوسع في طلب القوت، والبحث وراء الرغيف اللدن، سواء أكان في أمريكا أو أفريقيا أو آسيا.
ولما كانت القبائل البربرية قد انقرضت، فلا شعوب سلافية تنحدر من الشمال على روسيا، ولا هون، ولا فيزيجوت، ولا فندال، ولا تتر، ولا مغول؛ لأن دول أوروبا أبادتها في منابتها، فقد حلت تلك الدول المتحضرة نفسها محل تلك القبائل، واتخذت خطة الهجوم والإغارة، وهي لا ترحم حتى نفسها، حتى تغير ألمانيا على الألزاس، وإنجلترا على أيرلندا، وروسيا وألمانيا والنمسا على بولونيا، وذلك بأسباب شتى؛ كالحدود الطبيعية (نهر الرين)، وضرورة الجوار (أيرلندا)، أو الخوف من النزعة الحربية (ضد بولونيا).
الزمن تغير والعالم تطور، ولكن غريزة الشر، ورغبة الاعتداء، والطمع الأعمى فيما بين يدي السوى باقية لم تتحول، سواء أكان الحاكم ملكا مستبدا، أو رئيس جمهورية شعبية، أو زعيما فاشيا!
ثلاثة رجال وثلاث دول
تقدمة
تدل حياة الرجال على حيوية الأمم.
كلما شعرت الأمة الحية بخطر يتهددها بعثت من أعماقها برجل يدافع عنها، ومثلها في ذلك مثل الجسم السليم الذي يقاوم الأمراض الطارئة.
تكتب الأقدار على كل رجل أن يقوم بواجب النجدة والإنقاذ، ولا تعلم إلا الأقدار نفسها مكان هذا الرجل، فتعده وتحيطه بالعناية، وتتعهده بالتربية كالأم الرءوم؛ ليقوم بما وكلت إليه القيام به.
وهذا ما حدث في أرض الحبشة ، فقد بعثت العناية وحيوية الأمة بالرأس ثيودورس ليكافح بريطانيا، وبالرأس يوحنا ليكافح مصر، ثم بالإمبراطور منليك ليكافح إيطاليا؛ ففشل الأول، ولكنه فاز بجمع كلمة البلاد، وسقى بدمه شجرة الاتحاد، وانتصر الثاني على مصر مرتين، فكسب لشعبه هيبة لا تنسى، وخرج الثالث مكللا بتاج النصر، وما زال حامله إلى أن مات.
كانت إنجلترا في علاقتها بالحبشة كريمة، فلم تصارحها العداء إلا بعد أن رأت منها المناوأة والمشاكسة، ولم تكن إنجلترا تفكر مطلقا في الاستيلاء على الحبشة، بل كانت تريد أن تفتح لتجارتها أسواقا على شاطئ القلزم وفي شرق أفريقيا، وكانت تريد أن تكتشف الحبشة لتأمن جانبها في مستقبل الأيام، لتشعب مصالحها في كل بقعة من البر والبحر على مقربة من إثيوبيا. وقد فطن الإنجليز إلى أن مركز الحبشة في أفريقيا بالنسبة لإمبراطوريتهم يشبه مركز الأفغان في آسيا.
ولعل مركز الحبشة أهم لأفريقيا من مركز الأفغان للهند، فإن من يملك الحبشة يملك البحر الأحمر، وشرق أفريقيا، ومنابع النيل، ويسيطر على السودان ومصر، وعلى وسط أفريقيا وجنوبها. فإنجلترا تريد أن ترقب كل ما يقع في الحبشة بعين لا تغمض، ولكنها لا تريد أن تملكها، ولإنجلترا سياسة تقليدية لا تحيد عنها قيد شعرة. وفوق هذا فإن الإنجليز يعلمون أن الاحتفاظ بالحبشة «شارية وعميلة» خير من التغلب عليها واستعمارها. وما أصدق فراسة الرأس علي عندما قال لبلودل وهو يوقع معاهدة الصداقة في سنة 1843، وكان يخط اسمه بالخط الأمهري وهو باسم: «إن هذه المعاهدة لن تفيد أحدا؛ لأنه ليس في الحبشة ما يغري أحدا من الإنجليز!»
ولكن ما لا يغري الإنجليز يقنع صاحبه ويكفيه، وقد يغري غير الإنجليز فيجردوا الطائرات، والمدمرات، والبوارج، والجنود، والبغال، والجمال، والأنعام، وقد يخاطر هذا القادم على حرب أفريقية بما يزيد على ما يؤمله من كسب، أو يتوهمه من ربح.
1
فإذا كانت الحرب عملية حسابية وجب عليه أن يرجع عنها ويعود أدراجه راضيا من الغنيمة بالإياب، وصائنا أرواح الأولاد والأقارب والأصحاب، وإن كانت الحرب للمجد، فبئس المجد الذي يعرض طالبه للخراب، ولديه في ميادين أخرى أكاليل أخرى أحق بالتطاحن، وأحرى بالكفاح.
وقد دهش العالم المتمدن من أن يرى زعيما شهيرا، وحاكما مدبرا كالزعيم الإيطالي راضيا بل متلهفا على أن يضع أمة أبية عظيمة في موقف عسكري ومركز مالي لا يدعوان إلى الارتياح، ولا تؤمن عاقبتهما، فقذف بربع مليون رجل إلى شاطئ مقحل، وأرض جرداء، وصحارى صخرية كالحة يابسة تبعد عن أرض الوطن بألوف الأميال، وكل ذلك وسط مخاطر ومهالك قد تستمر بضع سنين.
2
ولكن يظن البعض خطأ أن سحب الجنود الإيطالية من شرق أفريقيا بدون قتال قد يؤدي إلى العصيان والفتنة، وقد ينذر بسقوط الذين نادوا بهذه الحرب وأعدوا لها ما استطاعوا، ثم ترددوا أو خشوا العواقب، فعادوا من حيث أتوا.
وقد فات هؤلاء المتطيرين والمنذرين أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن التقهقر المنتظم خير من الانتصار الطاحن، وقديما قالوا بأن الصلح المجحف بحقوق الرجل خير من ربح الدعوى؛ لأن الربح معناه استمرار النزاع، واستقواء أحد الخصمين على الآخر، بعكس الصلح الجائر؛ فإنه نهاية يحسن السكوت عليها، ويطيب الوقوف لديها، ويلقى عندها السلاح من الناحيتين. ولعمري إن عودة الجند بغير قتلى ولا جرحى خير من عودتهم على حال لا يعلمها إلا الله؛ لأنه هو وحده الذي يعلم عواقب الأمور، ولا يمكن أن يخطئ العالم كله ويصيب موسوليني!
نعم إن مجد الوطن شيء عظيم، وفرح الأيم والأرمل واليتيم بانتصار الأمة على خصمها يفوق حزنهم على من فقدوا من أبناء وأزواج وآباء، ولكن هذا يصح في حال واحدة، وهي حال دفاع الأمة عن كيانها، ورد الهجوم عن حياضها. وعندما يكون الوطن في خطر حينئذ يكون الدفاع مشروعا؛ لأنه دفاع عن النفس والعرض والوطن، ولكن هذه المشكلة التي يعالجها العالم منذ بضعة شهور لم تظهر فيها الحبشة بمظهر الأمة المعتدية، ولا المتهجمة، ولا الطامعة، ولا الطامحة، بل ظهرت بمظهر الآمنة المطمئنة المستكينة المستغيثة؛ ولذا كسبت عطف العالم، وألانت قلوب الدول، وأشهدت الدنيا على قضيتها، فصارت دول الاستعمار نفسها تنكر التعدي، وتحتج عليه، وتأبى على الزعيم الإيطالي أن يغمض عينه عن عراقة الحرية في تلك البلاد النائية التي عاشت ألوف السنين رافعة علم الاستقلال الوطني، والكرامة القومية في قلب القارة السوداء.
من ثيودورس إلى هيلاسيلاسي
كان ثيودورس الثاني يدعى قاسه، وهي كلمة حبشية معناها «عوض»، كما كان هيلاسيلاسي يدعى «تفري»، وكان ثيودورس رجلا عظيما، وينتظر من الحياة أن يكون له دور جليل يمثله في مسرح بلاده، فلما لم يجد ما يعينه على ذلك في حقائق التاريخ الحبشي، التمسه في سجل الأساطير، وكان مثله الأعلى أن يسود وطنه لا ليجني ثمار الفخار الشخصي، ولا ليدخر الأموال ويختزنها، بل ليخدم الوطن، ويعلي شأنه، وهو يعتزم أن يجود بنفسه في سبيل الوطن، فهو يطلب العلا لنفسه ليبذله في خدمة وطنه. وهذا أقصى ما تبلغه الكرامة في شخص الملوك، يصلون إلى أقصى درجات السمو القومي ليكونوا أشرف خدام الوطن، لا على أنهم أجراء، بل على أنهم مواطنون عظماء.
فلما آن الأوان، وكشرت أوروبا عن أنيابها لثيودورس، لم يتقهقر، ولم يرض بإذلال نفسه، بل خاض غمار المعارك، ولما أن أيقن أنه مقهور لا محالة نال من نفسه بيده، قبل أن يقع أسيرا في أيدي خصومه «بيدي لا بيد عمرو». وكان خصومه يقدرون شجاعته وإقدامه، ويكنون له الاحترام، ولا يرضون إذلاله، ولكن سبق السيف العذل، وراح حلم ثيودورس أدراج الرياح، ولم يتمكن بحكم القضاء والقدر من خدمة وطنه، ولكنه أوجد المثل الأعلى لمن يأتي بعده، وترك صورة جميلة من حياة الملوك وما يجب عليهم نحو أوطانهم. لقد كان «رائدا» لمستقبل بلاده، وقائدا لطلائع الأجيال المقبلة، وراسما لخطة لا بد من تنفيذها لفخر الوطن.
كان يرمي إلى توحيد كلمة الوطن ولم شمل الإمارات الصغيرة، والقبائل المختلفة، والمعتقدات المتباينة، واللغات المتعددة تحت راية واحدة، وكان يقصد إلى مقاومة العدو الأجنبي الذي يهجم على أرض الوطن مهما كانت قوة جيوشه، وعدد عساكره، وكان يرمي إلى ترقية روح الشعب وتهذيبه وتثقيفه؛ ليتمكن من مسايرة الأمم المتحضرة في أفريقيا وغيرها.
وكانت مصر في نظره هي النموذج الذي يحتذى، والمثال الواجب أن يتبع، فلما أن حاربت الأقدار صاحب هذا المنهاج الجليل السامي، مؤذنة بأن حياة الأفراد مهما عظموا قد تذهب أحيانا في سبيل حياة الأمم، ولم يتمكن ثيودورس من تنفيذه، بقي المنهاج لمن يجيء بعده، ويحمل بيده تلك الشعلة التي أرغمت الأقدار ثيودورس على التخلي عنها، وهو يجود بأنفاسه، فحملها يوحنا، ثم أسلمها إلى منليك الثاني، وقد كان هو المليك الذي كتبت على يديه نجاة الوطن بأسره من أسره!
كان يوحنا - وهو قاهر الجيش المصري - ماكرا؛ لأنه كان رئيس عصابة قبل أن يكون راهبا أو أميرا وقائدا؛ ولهذا لم يتمكن من التفاهم مع مصر لتدوم له نعمة حسن الجوار
3
لأن حكومة مصر لم تكن تنوي إذلال الحبشة في سنة 1875، ولكنها كانت ترمي إلى إعلاء شأن راية مصر في وادي النيل، وصيانة منابع النهر العظيم، والظهور أمام العالم المتمدين بمظهر العظمة القومية، في وقت هجمت فيه أوروبا على أفريقيا لتقتسمها كما يقتسم الجياع مأدبة يكون الداعي إليها مجهولا، فاقتطعت كل دولة ما شاءت، وجارت تلك الدول على نصيب مصر وأملاكها في قلب أفريقيا وشرقيها.
ولم تكن الدولة المصرية ترمي إلى احتلال الحبشة أو إذلالها، ولعل يدا أجنبية هي التي دفعت بمصر في هذا المأزق، وهي التي تربطها بالحبشة روابط شتى، منها وحدة العقيدة، سواء في ذلك المسلمون المقيمون في هرر، أو النصارى المقيمون في بقية الحبشة، وأصل ديانتهم عن مبشر إسكندري في مستهل القرن الرابع، ومنها الجوار، ومنها وحدة الأصل السامي واتحاد أصل اللغات التي تتكلمها الأمتان.
ومنها العنصر التاريخي، وتمجيد سليمان وبلقيس في القرآن، وهما المقول إنهما مؤسسا الأسرة المالكة في بلاد أسد يهوذا، وقصتهما من أجل القصص في القرآن الكريم وأروعها، يسمعها المسلمون وغير المسلمين صباح مساء، فذكراهما لدينا في كل وقت حاضرة.
4
ومنها خروج النيل الأزرق وروافده من بحيرات الحبشة.
وإذن كان هذا التخاصم القصير المدى غلطة سياسية تكفل الدهر وحسن تدبير الشعبين بتصحيحها. وقد كتبت الأيام على يوحنا أن يكون ممثلا لهذا الدور في التاريخ الحبشي الحديث، فنحن لا نلومه لأنه كان يدفع عن وطنه هجوما أجنبيا، ولكننا نعيب عليه أنه لم ينجح في الوصول إلى صلح شريف يمحو الخطأ السياسي، ويربط أواصر الصداقة بينه وبين الدولة المصرية من جديد مع سبق اعترافه بها.
أما منليك الثاني إمبراطور الحبشة الذي انتصر في موقعة عدوة الشهيرة، فقد كتب له أن يكون الملك الكامل الذي تم على يده منهاج ثيودورس.
وقد ولد الإمبراطور منليك في سنة 1844، وتولى ملك شوا في سنة 1866، وتوج إمبراطورا على الأحباش في سنة 1889، وانتصر في موقعة عدوة سنة 1896، وتوفي في سنة 1913، ولم يرزق ذكورا، وتزوج من الإمبراطورة تانوفي فرزق منها بنتين زوديتو (يهوديت)، التي توجت إمبراطورة سنة 1916، وماتت سنة 1930، ولم تترك عقبا. وكان رحمه الله يعرف لآخر أيامه في أوروبا بأنه «بعبع» إيطاليا.
عبقرية منليك وقوة إرادته
كان منليك الثاني طويل القامة، مهيب الطلعة، جميل المنظر، ربعة بين الرجال، متواضعا وقورا، وعاش أربعة وسبعين عاما، وكان في جميع أطوار حياته، ما عدا شيخوخته ومرضه الأخير، نشطا ميالا إلى العلم بكل شيء، وبسبب هذا الميل ألم بأمور شتى، وتعلم صناعات جمة كالميكانيكا وفحص الأسلحة، حتى أصبحت فنون الميكانيكا والكشف عن عدد الحرب لديه من أسهل الأمور.
وكانت نفسه مفطورة على العدل، فكان يعامل جميع رعاياه بالمساواة، ويحكم بينهم بالعدل، ويحب لهم الخير، فأجمع المسلمون والنصارى من رعاياه على حبه، وعرفانهم بجميله.
وكان له شغف شديد بفنون البناء، حتى عده بعضهم أعظم مهندس معماري في الحبشة، وقد رسم بيده أغلب رسوم المباني، وكان يصف للقائمين بها كيفية السير بموجب هذه الرسوم؛ أي أنه ينفذ التصميمات التي يضعها، حتى استوجب نبوغه في ذلك عجب الأوروبيين ودهشتهم.
وقد تعلم من بعض الأطباء والصيادلة تركيب بعض الأدوية، وكان يوجد في قصره رجال من المهندسين والصناع والعمال يقومون بالأعمال الصناعية والهندسية التي يتطلبها منهم، وهو يحادث كلا من هؤلاء بما يخص صناعته وفنه، ويشاهد بنفسه ما يقومون به من الأعمال، ويسأل عن كل مجمل ومفصل من المسائل التي لا يدركها، ويطلب إليهم أن يصنعوا أمامه ما خفي عليه حتى يتقن علمه بالاختبار.
وقد استحسن أحذية الإفرنج الذين كانوا يفدون عليه عندما كان ملكا على مقاطعة شوا، فطلب مرة من أحد المهندسين أن يصنع له حذاء أمامه ليرى كيفية صنع الأحذية، فاعتذر له المهندس بأنه لم يشتغل أبدا بصنع الأحذية، فلم يرق هذا الكلام في نظر منليك، وأصر على طلبه، فلم ير المهندس بدا من تنفيذ أمر الملك، فقام بتجهيز ما يلزم لصنع الأحذية، وأوصى بصنع قالب خشب، وحل قطع حذاء قديم عن بعضها ليرى كيفية صنعها، ثم أحضر الجلود اللازمة، وأخذ يشتغل بصنع الحذاء أمام منليك حتى صنع له حذاء منها، وكذلك نفذت رغبة الإمبراطور التي وقف بواسطتها على كيفية صنع الأحذية.
وأمر مرة المهندس أن يصنع له بندقية تطلق بالخرطوش على الطراز الجديد، وهو يعلم أن صنع هذه الأشياء في أوروبا يكون أقل عناء ونفقة، ولكنه يطلب صنعها أمامه وفي بلاده ليقتنع بإمكان صنعها في وطنه، ويتأكد من معادنها وأخشابها وصلاحيتها للصناعات التي ترد من أوروبا.
أما مهارته السياسية والحربية فلم يكن فيها شك، وقد اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، أما طريقة استيلائه على عرش شوا، فهي أنه لما قرب الإنجليز سنة 1867 من مجدالا تمكن منليك من الفرار منها، وقطع الوديان والجبال الصعبة المرور وحيدا ليس معه أحد، ولحق ببضعة آلاف رجل من رجال أبيه وأخصائه وقومه وقبيلته، وكانوا في انتظاره، فاستقبلوه ورحبوا به، وسروا به، فسار من هناك ومعه رجاله، وجميعهم مسلمون، وهاجم أنوبذابا، حاكم مقاطعة شوا المولى من قبل تيودورس، فهزمه واستولى على بلاده (شوا)، وصعد على عرش أجداده وأبيه.
ومن هذا التاريخ انقطعت جرثومة الحروب الداخلية في تلك المقاطعة، وأصبحت من ذلك اليوم أضخم جزء من أجزاء المملكة الحبشية. ولما صعد يوحنا إلى العرش الحبشي بدأت الخصومة بينه وبين منليك، ولكن منليك حقن دماء الأمة، وخضع ليوحنا مع أن انتصاره عليه لم يكن صعبا، وما زال يحافظ على كيانه، ويرد خصومه، وقد انتقم له بعد قتله. وقد اجتمعت كلمة الحبشة على ترشيحه للعرش وتتويجه، فتم له ما أراد برغبة الأمة.
صاحب الجلالة الإثيوبية المغفور له منليك الثاني إمبراطور الحبشة وقاهر الطليان في عدوة.
خلفاؤه
وترك الإمبراطور الأميرة شوارجه التي تزوجت من الرأس ميخائيل، الذي كان أصله مسلما، وانتحل المسيحية تقربا من منليك الثاني، فرزق من شوارجه بليج ياسو، الذي عينه منليك وليا لعهده، وتوج إمبراطورا سنة 1913، وخلع في سنة 1916، ويقال إنه مات في الأيام الأخيرة،
5
فكأنه حيل بين ملكين شرعيين؛ وهما: ليجياسو وزوديتو؛ ليصل الإمبراطور هيلاسيلاسي إلى العرش، وهو ابن الرأس ماكونين الذي يعادل منليك الثاني في شجرة النسب؛ فإن ساهالاسيلاسي رزق هيلا ملاكوت ووازيرو نتانا، فولد لهيلا ملاكوت منليك الثاني، وولد لنتانا رأس ماكونين الذي ولد له هيلاسيلاسي، فمنليك الثاني ورأس ماكونين أولاد عم، وزوديتو تعادل هيلاسيلاسي في درجة القرابة، وليجياسو بمثابة ابن الأخت لهيلاسيلاسي.
وليس هنا مجال البحث فيما إذا كان هيلاسيلاسي مغتصبا للعرش من ليجياسو أولا، ومن زوديتو ثانيا.
فإن ليجياسو عزل سنة 1916 بإرادة الحلفاء؛ لأن سياسته كانت تجعله إلى الألمان والأتراك أقرب، فسعى الفرنسيون في إبعاده بحجة أنه يبطن الإسلام ويظهر النصرانية، بسبب أن أباه كان مسلما وانتحل النصرانية طمعا في نسب الإمبراطور، وزعموا في ذلك الوقت أنه سافر إلى حدود الحبشة، وقابل وفدا من تركيا بايعهم على الإخلاص لهم، وأنه كان يلبس عمامة مكتوبا في ثناياها لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنه صلى صلاة المسلمين، ونشر راية عليها نص الشهادة الإسلامية.
فتقدم الحلفاء بالرأس «تفري» ليحل محله، وقامت بينهما حروب دامية، وانضم الرأس ميخائيل الذي كان لا يزال على قيد الحياة لولده، ولكن «تفري» انتصر في النهاية وسجن ليجياسو وقيده بسلاسل من ذهب، ولم يحكم عليه بالإعدام؛ لأن تقاليد الأسرة المالكة في الحبشة لا تبيح قتل الأمراء صبرا إلا عند الضرورة القصوى.
6
وإذن تكون الأقدار قد اختارت الأمير تفري ابن الرأس ماكونين ليتلقى الهجوم الأوروبي الأخير على بلاد الحبشة، فرفع بذلك عبء تلك المسئولية الخطيرة عن كاهلي امرأة ورجل هما زوديتو وليجياسو . وفي الحق إن بلادا كالحبشة لا يحدث فيها أن يصل ولي العهد المعين من سلفه إلى العرش إلا نادرا، بل يصل إلى العرش من يستطيع الوصول إليه بالقوة أو الحيلة؛ لأن الأمم المتحضرة هي وحدها التي تستطيع أن تحترم تسلسل الأبناء والأحفاد على العروش، وتحافظ على النظم الموضوعة لتتويج الملوك أو الملكات، وتوليهم شئون بلادهم.
فبينا ترى دولة كإنجلترا تحكمها فتاة، هي الملكة فكتوريا، ولما تبلغ نهاية العقد الثاني، ويمتد عهد ملكها إلى أن تبلغ الشيخوخة الفانية، وقد بلغت دولة بريطانيا في عهدها من العظمة والاتساع والنفوذ والسلطان ما لم تبلغه دولة أخرى، بل ما لم تبلغه إنجلترا نفسها إلا في عهد الملكة إليزابث.
ولم يخطر ببال أحد أن يعرض على الملكة الشيخة أن تتنحى عن العرش وقد بلغ ولي عهدها (الذي صار فيما بعد الملك إدوارد السابع) من الكبر عتيا، وشاب فوداه ولحيته وهو لا يزال وليا للعهد! كل ذلك ليس إكراما لشخص الملكة، أو عطفا على شيخوختها، أو تقديرا لجهادها، أو تفاؤلا بحسن طالعها؛ لأن إنجلترا نالت في عهدها ما لم تنله في عهد سواها، ولكن لأن الأمة وضعت نظاما خاصا بالملك، وأرادت أن تحترمه. وهذا ما لا يحدث في معظم ممالك الشرق.
وفي نفس هذا الوقت كان سلاطين آل عثمان وأولياء عهدهم ووزراؤهم ورجال حاشيتهم يدبرون لبعضهم بعضا صنوف المكايد والمقالب، فيخلعون من يخلعون بفتوى شرعية، يبادر بتقديمها جماعة السوفته (علماء الدين)؛ بحجة أن السلطان خالف الشرع الشريف، أو فقد عقله فاستحق العزل، وإذا رؤي الاستغناء عن الفتوى فإن كأس السم أو حد الخنجر حاضران للخلاص من أيهم، ولا يزال مصرع السلطان عبد العزيز والسلطان مراد وغيرهما سرا غامضا.
ولم يكن الأمر مقصورا على سلاطين آل عثمان، بل كان شاملا لعروش الشرق جميعا، فكانت حظوظ هذه العروش وأصحابها في أيدي المصادفات والمطامع، وإن هذا لداء دفين في الشرق، وفي كل مملكة تشبه الشرق، وقد سرى الداء إلى بعض ممالك البلقان، فكان مصرع الملك إسكندر، والملكة دراجا في عاصمة الصرب من أروع المصارع وأفظعها.
وهذا لا يدل على أن أوروبا لم تقع في مثل هذه المحن، فإن تاريخ إيطاليا لعهد الإمارات الاستبدادية حافل بها،
7
كذلك حديث الرجل ذي القناع الحديدي لعهد لويس الرابع عشر، وتاريخ إنجلترا نفسه يدل على أنه في سنة 1215، بعد أن سافر ريكاردوس قلب الأسد إلى الشرق في حملة الحروب الصليبية، وترك ولي عهده طفلا بوصاية أخيه حنا، طمع حنا في الملك فاغتصبه، وسجن ابن أخيه في برج لندن، وسمل عينيه بالحديد المحمي ثم قتله في سبيل العرش المغتصب.
8
وأمرت إليزابث بقتل الملكة ماري الأيقوسية.
ولكن كل هذا يدل على أن بعض أمم الشرق وأمراءهم لا يزالون في هذا القرن والذي قبله في درجة من المدنية تعادل تلك التي وصفناها، فالشرق في القرنين التاسع عشر والعشرين يعادل أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة 1876 إلى سنة 1896
في سنة 1869 اشترت إيطاليا ثغرا صغيرا اسمه عصاب في شمال بوغاز باب المندب باسم شركة بحرية هي «فلوريو روباتينو»، وفي سنة 1882 حلت الحكومة الإيطالية نفسها محل تلك الشركة، فنزلت بثغر عصاب مستعمرة إيطالية وأقامت، ثم أرسلت نائبا عنها يدعى الكونت إنتونلي إلى الإمبراطور منليك الثاني على رأس بعثة ليعين تلك المستعمرة الإيطالية، فأكرم الإمبراطور وفادتها، وعقد معها معاهدة صداقة كانت الضربة الأولى على الحبشة؛ لأنها اعترفت بحقوق لإيطاليا في بلادها.
وفي سنة 85 احتلت إيطاليا بعض الثغور والجزائر أهمها مصوع التي كانت لمصر بحق تنازل الدولة العثمانية عنها للخديو إسماعيل مقابل زيادة الجزية، وكان ذلك بموافقة إنجلترا، ثم اتجهت نية إيطاليا إلى تأسيس مستعمرة قوية في البحر الأحمر، وكان هذا بداية تكوين الإريتريا التي أمست خنجرا في ظهر الحبشة من ذلك التاريخ إلى الآن.
فإن نفوذ إيطاليا لم يلبث أن انتشر وزاد، فغضب له الملك منليك الثاني الذي كان لا يزال ملك شوا، وزاد غيظه أن احتل الأميرال الإيطالي شيمي ميناء مصوع، ونفى منها المحافظ المصري إلى السويس ، وأمر الحامية المصرية بإخلاء المدينة، وكانت هذه السياسة الاستعمارية تنفيذا لخطة فرنسيسكو كريسبي، أحد أتباع الثلاثة الذين بنوا إيطاليا الحديثة؛ وهم: متزيني، وجاريبالدي، وكافور.
ولكن بقدر ما كان هؤلاء السادة عظماء كان هذا الوزير سخيفا، فإنه أراد أن يقلد إنجلترا في سياستها الخارجية، ويترسم خطوات بيكنسفيلد وغلادستون على ما كان بينهما من الخلاف والتناقض، ومن هنا كان الفشل الذي أصاب كريسبي في سياسته، والذي انتهى بهزيمة عدوة، وسقوط وزارة هذا الرجل، على أنه كان يبدو على خطة كريسبي أثر من النجاح في بدايتها لو أن الملك يوحنا قاهر المصريين كان منفردا بالسلطة في الحبشة؛ لأنه تساهل معهم وغض الطرف عن زحفهم، ولكن منليك كان شريكه وأعلى منه مكانة في السياسة، وكعبا في الحرب، فانبرى للطليان، وكلف أحد قواده بطردهم من البلاد، وسير جيشا إلى هرر فامتلكها.
1
وفي يناير سنة 1887، التقى الجيش الحبشي بالجيش الإيطالي في دوجالي، وكان الفرق بين الجيشين عظيما في العدد والعدد، فهزم الطليان، وقتل معظمهم، وأسر بعضهم، وعادة الأحباش في كل حروبهم أن يلقوا خصومهم بجيش يفوقهم عشرات المرات حتى يدخلوا الارتباك والاضطراب في صفوفهم.
ووصلت أنباء هزيمة الطليان إلى روما، فسببت غضبا وطنيا كما حدث في مصر سنة 1874، وكذلك أعدت إيطاليا جيشا قوامه اثنا عشر ألف عسكري، كما أعدت مصر في سنة 1875 جيشا قوامه 15000 عسكري، وأبحر جيش إيطاليا من نابولي يقصد إلى إريتريا، وتوسط الإنجليز في الصلح فلم يفلحوا، وفي مارس سنة 1888، مرض قائد هذا الجيش فجأة فتوقف عن القتال، واستعمل الطليان حيلة للإيقاع بين الأحباش والسودان والإنجليز فلم يوفقوا، وعرضوا على منليك أن ينضم إليهم في القضاء على الملك يوحنا صديقهم القديم فرفض عرضهم، وقبل هداياهم من السلاح والمال.
ومما يذكر لملوك الحبشة بالثناء العطر، ويكتب بمداد الفخر، أنهم مهما دب بينهم دبيب الشقاق في شئونهم الداخلية، وتنافسوا على العرش، فلا يتفقون مع الأجنبي على محاربة بعضهم بعضا، فإن منليك على بغضه يوحنا، واتهامه إياه بموآزرة الطليان والتساهل لهم حتى أنشبوا أظافرهم في جلد الحبشة ولحمها، أبى أن يناصر الطليان على يوحنا؛ لأنه يعلم أن الطليان يستعينون به على هلاك إحدى القوتين، ثم ينفردون له فيوقعون به بدوره، وتكون لهم عليه يد هو في أشد الغنى عنها؛ لأن يوحنا مهما تقوى فلن ينال من منليك ما يناله الطليان منه بعد ذهاب يوحنا، وأن في بقاء يوحنا إلى جانب منليك استبقاء لقوتين تحاربان إيطاليا، وهما على كل حال خير من قوة واحدة.
2
ولم يكن يوحنا قاهر المصريين بالملك الذي يستهان به، فإنه حارب التعايشي في القلابات، وهزم الدراويش في المتمة، ولكن شهر مارس الذي حمل له النصر في سنة 76 على المصريين جاءه بالبلاء في سنة 88، فخر قتيلا في 9 مارس في نفس ساعة انتصار الخليفة على جيش الأحباش.
ولما كان الأحباش من أهل الفطرة الذين يفقدون رشدهم إذا فقدوا قائدهم، فقد ركبوا رءوسهم وفروا وتركوا جثة مليكهم وقائدهم بين يدي الدراويش، فأمر التعايشي بدفنه بعد أن سلب كتبه وسلاحه، وبعث بها إلى عاصمة ملكه، وانتهز منليك هذه الفرصة وقد حلت له الأقدار عقدة كان عن حلها عاجزا، فنادى بنفسه ملكا على ملوك الحبشة.
وكان الطليان متربصين، وقد ظنوا أن الدهر قد حالفهم فاحتلوا مدينة دوجالي التي هزموا لديها، وانتهزوا فرصة انشغال منليك بنشوة النصر المعنوي والصعود إلى العرش، فعقدوا معه معاهدة في مايو سنة 1888 في أوشيال.
وكان رجل إيطاليا لدى التعاقد هو أنطونيلي نفسه الذي اتصل بمنليك منذ أربع سنوات، وظن أنه تخصص في السياسة الحبشية.
ولكن هذا السفير الإيطالي أخطأ المرمى، وخان الأمانة؛ لأنه كتب بلغته ما لا ينطبق على ما كتب باللغة الحبشية، وفسرت إيطاليا معاهدة أوشيالي بأنها تبيح لها وضع الحبشة تحت الحماية الإيطالية، لترهقها بالأمر الواقع.
وكان منليك في ذلك الوقت مشغولا بأمرين؛ الأول: الانتقام للملك يوحنا من خليفة المهدي، والثاني: حفلة تتويجه، فأتم التتويج في سنة 89، وعدل عن حرب الدراويش مؤقتا، وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة، فزادت نفوذها في الحبشة ببذل المال والهدايا للقواد، وبلغت قوتها أقصى مداها في سنة 95، وأصبح مركزها ثابتا لا يزعزع في إريتريا .
وكانت إيطاليا أرسلت في سنة 92 إلى الحبشة بقائدين من أشهر قوادها، ولكن وجودهما في إريتريا لم يوهن من عزيمة النجاشي، ولم يعقه عن إعلان تخلصه من معاهدة أوشالي، ورد قرض إيطالي بلغت قيمته أربعة ملايين ريال.
وفي سنة 1894، حارب الطليان الدراويش وأجلوهم عن مدينة «كسلا» التي تسيطر على الحبشة حربيا كما ذكرنا، والتي تمكن من تكون بيده من السيادة المطلقة على ميدان عدوة، إحدى عواصم الحبشة، وكانت هذه الخطوة هي الأخيرة في تنفيذ خطة الطليان الحربية للاستيلاء على البلاد، بعد أن ملئوها بالرواد والجواسيس، فجاسوا خلال المملكة، وعرفوا مسالكها ومهالكها، ولكن هذا الاستعداد العظيم، وتلك الدراية التامة بمفاوز الأحباش لم تغنهم فتيلا حيال ثلاثة أشياء تذرع بها الأحباش، ودرعتهم بها الطبيعة، وهي:
الأول:
مفاوز الحبشة وجبالها التي حفت بالمكاره والمهاوي والمهالك؛ كانهمار السيول، وقلة الماء، وانتشار الأمراض.
3
الثاني:
خطة الأحباش في الحروب، وهي إرباك العدو بجيوش جرارة تفوق جيوشه أضعافا مضاعفة، وطبيعة الحبشي المحارب الذي اشتهر بالخفة والدهاء، والاستدراج للعدو، والإحاطة به من كل جانب، وإرهابه بالسيوف والرماح التي تقطر دما، ثم القسوة في معاملة العدو وكل من ظفر به، والإجهاز على الأسرى.
الثالث:
خضوع الجيوش الحبشية لقائد عظيم هو في الوقت نفسه زعيم وطني لا يعمل لمجده الشخصي، ولكن لينقذ الوطن، وكان هذا القائد العظيم والملك المغوار منليك الثاني، فهزم الطليان في موقعة «أمبا الأجي»؛ فانتحر قائدهم توسيلي، وكان يعين النجاشي في هذه الحرب الطاحنة وزيره ويده اليمنى، القائد الرأس ماكونين (والد هيلاسيلاسي)، فتمكن من حصار مكالي، ولم ينسحب عنها إلا بعد أن أخذ من الطليان غرامة حرب قدرها مليون ريال.
وحاول براتيري أن يعقد الصلح، فرفضه منليك، وصحت عزيمته على منازلة الطليان في موقعة حاسمة، فاستعد بالسلاح الذي أمدته به بعض الدول الأوروبية، وحشد جيشا قوامه ربع مليون جندي، ولما أصبح على غاية الاستعداد، وأخذ للموقعة الفاصلة أهبته، عرض على براتيري أن يدفع للحبشة 25 مليون ريال، وأن ينسحب إلى حدود إريتريا، فرأى القائد الإيطالي أن الشرطين بمثابة التعجيز له ولدولته، فرفضهما، ولكن إيطاليا عادت فندمت بعد الهزيمة.
وفي فبراير سنة 1896، برز براتيري بجيش عدده 20 ألفا، وسار قدما إلى عدوة، فلقيه منليك نفسه على رأس جيش يفوق على جيشه أربع مرات، وكان القائد العام أدموندي يعاونه ألبير توني، وديروميده، والينه.
4
وفي أول مارس سنة 1896، تقدم القواد الأربعة بجنودهم إلى تلك الجبال العالية، والصخور الشامخة التي يحفظ الحبشان كل خطوة منها عن ظهر قلب، فأحاطوا بالجيوش الإيطالية، وأعملوا فيها بكل سلاح حتى أجهزوا عليها في ساعات معدودة، فخسر الطليان أكثر من نصف جيشهم بين قتيل وجريح، وأسر الأحباش النصف الآخر عدا ما وقع لهم من العتاد والسلاح والذخيرة، ومنها سبعون مدفعا، ووضع الأحباش يدهم على المعسكر كله، وقتلوا قائدين، وأسروا الثالث، وأسرع الجنرال براتيري إلى أحد الثغور فطير نبأ الهزيمة إلى روما ناسبا الخسارة إلى جنوده، وأسرع بالفرار إلى وطنه، فقابلوه شر مقابلة، وسقطت وزارة قومه، وعقد مجلس حربي عال لمحاكمته، فحكم ببراءته، ودمغه بحيثيات قضت على حياته نص بعضها ما يأتي: «وحيث إن المجلس يرى أن اللوم في الهزيمة واقع على من اختار هذا الرجل للقيادة وهو لا يصلح لها، وأقل من أن يتولاها، فلا لوم عليه ولا تثريب.»
5
وفي الحق عد هذا الحكم بمثابة موت مدني.
وبعد أن تم النصر للحبشة، واستولى منليك على أسلاب الجيوش المهزومة، اقتفى أثر الفلول الهاربة إلى إرتيريا فمر بحدودها، ووضع يده على حصن أدجري واستولى عليه، وأخلى الطليان من تلقاء أنفسهم مدينة كسلا، وحاولوا أن يجمعوا جيشا جديدا، ولكنهم عجزوا عن القتال بعد أن دب الرعب في قلوبهم.
وكان منليك قد أنشأ مدينة أديس أبابا، ومعناها بالحبشية الزهرة الجديدة، وجعلها عاصمة ملكه، فأرسل الطليان إليها في أكتوبر سنة 96 وفدا لعقد الصلح، فكانت أشبه بسدان سنة 1872، وفرساي سنة 1919، فعقدت المعاهدة، وقد نص فيها على إلغاء معاهدة أوشالي، وهي أصل البلاء؛ لأنها أسست على الخداع، وتغيير الحقيقة، وجنى كريسبي وأنطونيلي ثمرات أعمالهما!
وعاش منليك بعد ذلك الفوز 17 سنة كان أثناءها موضع الاحترام والتقديس في أفريقيا والشرق، ومصدر الرعب في بعض ممالك أوروبا، ولا سيما إيطاليا.
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
لا نريد أن نعرض للنظام الفاشي بخير أو بشر، حتى ولا بالنقد البريء المباح؛ لأننا لا نريد أن ننزل بهذا البحث إلى مستوى الجدل، وإن كنا نحترم السياسة ونقدرها، ولكننا نعلم أنها كثيرة المزالق، ومواطن التحليل فيها تدني من الخطأ الذي قد لا يغتفر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام الفاشي الذي ابتكره السنيور بنيتو موسوليني المعروف في العالم باسم الدوتشي؛ أي الزعيم، قد أثبت وجوده وقدرته على الحياة، فقدم بذلك البرهان التاريخي الذي لا بقاء لنظام اجتماعي أو سياسي بدونه.
وفوق هذا قد أثبت هذا النظام والقائمون به أنه أدى لوطنهم خدمة جلى، وقضى على شرور كثيرة، وجلب خيرا وفيرا، ودل بذلك على أنه النظام الصالح للوطن الإيطالي. وقد أثنى عليه كل من شهده وجنى شيئا من ثماره داخل إيطاليا، وقد قلب إيطاليا رأسا على عقب، وقال بعض محبذيه: إنه جعل من بلادهم جنة على الأرض، وإن الذين زاروا إيطاليا قبل تفشيه يكادون لا يتعرفونها بعد انتشاره وقيامه وتسلطه؛ لأنه صبغ كل شيء بصبغته التي أسسها النظام المطلق، والأمان المطلق، والأمانة المطلقة.
ولكن هذا النظام العجيب الذي وحد كلمة الأمة، وجعلها كرجل واحد، وأخضعها لرجل واحد، وعلق سائر آمالها برجل واحد، قد حكم عليه ذووه بأنه نظام قومي. وخطب سنيور موسوليني نفسه في سنة 1928 وقال: «إن الفاشية بضاعة لا تصلح للتصدير، ولا تضمن نتائجها خارج حدود إيطاليا.» ولا نعلم إن كان قال هذا القول تواضعا، أو حثا للأمم على الاقتداء به، ولكن وجب علينا أن نصدقه؛ لأن رب الدار أدرى بما فيها.
ولم نسمع بصاحب مذهب سياسي أو اجتماعي قبل الدوتشي يحجر على مذهبه، ويحرم عليه الخروج من كسر بيته، بل على العكس تعود أصحاب المذاهب أن ينسبوا إليه الصلاحية المطلقة، والقدرة المطلقة، والنجاح المطلق في كل زمان ومكان، وإذن لا بد أن يكون سنيور موسوليني قد ذكر هذا القول عن مذهبه لحكمة خفيت على سامعيها في ذلك الحين.
وأظن بعض الناقدين لمحوا إليها عرضا في كتبهم فقالوا: إنه نظام جميل ونافع، ولكنه يجعل الأمة معلقة بأهداب رجل بعينه، فإن شاخ أو مرض أو مات (مد الله في أجل الدوتشي ليجني ثمار أقواله وأعماله في الأولى وفي الآخرة) إذن لتعطلت الأداة الحكومية، وتلكأت في انتظار ظهور خير خلف لخير سلف! في حين أن الواجب يقضي بأن تكون القوانين العامة والخاصة هي الأداة الصالحة للحكم بدون اعتبار الأشخاص.
ومما لا ريب فيه أن هناك نظريات متعارضة فيما يتعلق بالقوانين، وطريقة تنفيذها، فقد يكون القانون الرديء أداة حسنة في يد رجل فاضل، كما يكون القانون الطيب أداة سوء في يد ظالم أو مستهتر. وسوف يعالج المؤرخون في المستقبل مسألة الفاشية؛ هل قامت على عنق رجل واحد وتفكيره، أم قامت على دعائم قوانين عادلة فاضلة، أم أنها نهضت بالأمرين معا: الرجل الفاضل والزعيم الكفؤ والقوانين المنصفة؟!
ومهما يكن حكم المستقبل على الفاشية؛ فإن الكثرة من الكتاب أجمعت على نفعها في مسقط رأسها، والقلة المدركة ومنها من أوذي وهاجر باختياره، أو نفي مرغما، ومنهم من ألف كتبا صوب فيها سهام نقده إلى الفاشية.
ونحن مع محافظتنا على الحياد الذي أعلناه في مستهل هذه الكلمة، نعتقد أن الفاشية وإن نجحت في الداخل، فلم تجد لها نصيرا في الخارج، ولم يفز مقلدوها بطائل لا في إنجلترا ولا في أيرلندا. ولا يصح القول بأن الهتلرية نوع من الفاشية، وإن كانت تشبهها في تفرد رجل واحد بالسلطة، ولكن الذي يفرق بين الفاشية والهتلرية هو أن الأولى قامت باسم الإصلاح الداخلي، والأخيرة قامت باسم حماية الوطن من الاعتداء الأجنبي، والخلاص من قيود معاهدة فرساي.
وإذن قامت الهتلرية لتكون وسيلة لغاية تختلف عن غاية الفاشية الإيطالية، دع عنك الاختلاف في أخلاق الأمتين وتاريخهما وعناصر حياتهما.
وإذن لا تكون الهتلرية وليدة الفاشية ولا شقيقتها الصغرى؛ لأن الهتلرية ثمرة التاريخ الحربي والسياسي لألمانيا في القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. أما الفاشية فهي فكرة مبتكرة قامت في ذهن رجل واحد ظن أنه يصلح شعبه بتنفيذها، ووجد من نفسه شجاعة وإقداما وعزما، فأثر في نفوس معاصريه من مواطنيه، ولا سيما الشبان منهم، والطامحون إلى الأعمال، والمتلهفون على المجد، والمنتظرون لمنقذ يظهر فجأة في أفق الوطن الذي كان خاليا في تلك الفترة من رجال عظماء، أو ممن لديهم قدرة كافية على التقدم للزعامة.
1
ولما كانت أوروبا بعد الحرب العظمى قد أصبحت نهبا بين الديكتاتوريين (ولا أحب أن أصفهم بالطغاة)، فظهر بريمو دي رفيرا في أسبانيا، وبانجالوس في اليونان، وبلودوسكي في بولونيا، وتحدثوا عن ديكتاتورية مزمعة في فرنسا. وفي ظلال هذه الديكتاتوريات قامت الفاشية، وأضافت إلى قميصها الأسود درع الديكتاتورية الفولاذي.
وقد يجد الباحث في نشأة الفاشية ما يدل على أن الزعيم الإيطالي لم يكن يرمي إلى امتداد النفوذ الفاشي إلى ما وراء الإصلاح الداخلي، الذي كانت إيطاليا في أشد الحاجة إليه عقيب الحرب الكبرى، وابتداء عهد الاشتراكية في شمال إيطاليا.
وقد تمكن الزعيم الإيطالي في مدى عشر سنين من تنفيذ النصيب الأوفر من الإصلاح الداخلي، فأنهض الشعب، وأوجد له مثلا عليا جديدة، وأدخل في روعه أنه سليل أمة مجيدة كانت لها إمبراطورية مترامية الأطراف.
وتضافرت بعض الظروف التي لم تكن في الحسبان، وهي نتيجة الحالة السياسية العامة في أوروبا التي أعقبت الحرب العظمى، فجعلت لإيطاليا مكانة أوشكت أن تضع في يدها ميزان السياسة الدولية، ولا سيما عند ظهور النازي وانتصار الهتلرية. وبعد أن كانت شهرة الفاشية مقصورة على مناهج الإصلاح الداخلي تعدت إلى السياسة الخارجية.
ويظهر أن بعض دول أوروبا تراخت في تأييد نفوذها لانشغالها بالمسائل الخارجية، وجدت مشاكل في الشرق والغرب، مثل: حرب منشوريا، وتفوق اليابان، ورجوع أوروبا في غير وعي إلى سياسة الاتفاقات السرية، ونسي ساستها أنهم عندما أنشئوا عهد عصبة الأمم قضوا على سياسة المعاهدات السرية، وفشل مؤتمر نزع السلاح، وفشل المؤتمر الاقتصادي، وأمست لوكارنو حلما لذيذا، وقضى الموت على سترسمان وبريان - وكانا ضمانا قويا ضد الحرب - وتسلحت ألمانيا، وتزعزعت ثقة عصبة الأمم في نفسها، وانسحبت منها بعض الدول العظمى، وهددت أخرى بالانسحاب، وتلبد جو أوروبا، وظهرت بروق ورعود، وأوشك الميزان أن يختل، واغتال الفوضويون بعض الملوك، وحدثت ثورة اليونان، ومالت النمسا نحو الملكية.
فاشتم العالمون ببواطن الأمور رائحة البارود بعد ثورة النمسا، وأعدت بعض الدول أساطيل هوائية قوية، وكان العالم يتخيل أن مستقبله في السلم والحرب سيكون في الجو لا في البر والبحر،
2
وشعر الزعيم الإيطالي أن هناك فرصة سانحة للحملة الحبشية في خفاء وهدوء؛ لأن العالم مشغول بأمور أخرى غير أفريقيا الشرقية.
ومن هنا بدأت المشكلة الحقيقية؛ لأنه لو لم تكن النية معقودة في إيطاليا على حرب استعمارية كبرى ما تشددت إيطاليا كل هذا التشدد، ولانحلت العقدة بالتحكيم الذي حاولوه مرات عدة، ولو أن عصبة الأمم احتفظت بهيبتها لخشيت إيطاليا عاقبة التمادي في مخالفة الرأي الدولي العام.
ولكن علم إيطاليا بدخائل الأمور في العصبة وفي وزارات الخارجية شجعها على الإقدام مع شيء من المجازفة. وتهاونت الدول وأهملت وأمهلت، واستمر الاستعداد وحشد الجيوش، وجمع الذخيرة، وتحميس الرأي العام في إيطاليا، وهو يكاد يكون كتلة واحدة. وليس في إيطاليا للعمال أو الاشتراكيين صوت مسموع، وإلا لقالوا كلمتهم ضد الحرب، ولكن إخفات الأصوات ليس معناه أنها غير موجودة.
3
ولكن كثيرين من الساسة والأذكياء وذوي الرأي خطئوا هذه السياسة لأسباب لا تعد، وما زالت الحال على ذلك حتى حدثت شبه عزلة دولية، فلا الأمم ولا الحكومات - حتى التي كانت تعطف على إيطاليا - استمرت على ولائها، ولعل حوادث التاريخ المقبلة تدل على أن أصدقاء إيطاليا الذين وقفوا في وجهها هم أشد إخلاصا لها من الذين شجعوها (إن كان هناك من شجعها على خوض تلك المغامرة). وقد نتج من كل ما تقدم أن ظهر خطأ السياسة الفاشية في التفكير في هذه الحرب، والاستعداد لها، والتصميم على خوض غمارها مهما كانت النتيجة.
الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة
ينظر الملأ الآن إلى الحبشة ويعتبرها بعضهم قلب العالم الذي يخفق، كما ينظر إلى إيطاليا وما هي مقبلة عليه بعدما بذلت من صنوف الاستعداد، واتخذت من وسائل، فلا يتبين الناظر في الحالتين شعبين في الشرق والغرب يخوضان حربا طاحنة، ولكنه يتبين زعيمين كبيرين أحدهما رفعه إقدامه وسعة حيلته من مصاف الأمراء إلى دست الملك وعرش الإمبراطورية، وقيل إنه سبط يهوذا، وسلالة الملك سليمان الحكيم من بلقيس ملكة سبأ، وهو يمثل أمة من أعرق الأمم في حب الحرية، والذود عن حياضها.
والثاني رجل من الشعب نشأ نشأته، وعانى في بداية حياته ما يعاني أمثاله حتى بلغ ذروة السلطان في وطنه، وبلغ قمة المجد والنفوذ بين بني جلدته، وهو الآخر يمثل أمة كانت من أعرق الأمم في المجد الحربي والسياسي، وكانت لها السيادة على العالم في عصر من أمجد عصور الحضارة الوثنية، ولكنه تقلب في مواطن الأحزاب ومذاهب السياسة.
ولعل التناطح بين الشعوب ليس إلا تطاولا بين الزعماء، ومظهرا لقوة إرادتهم، ودليلا على رغبتهم في الفوز والانتصار على مزاحميهم في ميادين المجد، وعلو الصيت، وضخامة الشهرة، وخصوصا في البلاد التي لا تكون فيها الأمة مصدر السلطات.
ولدى كل أمة من الأمم مؤثرات وعوامل فكرية تؤثر في نفوس بنيها، ولا تكون الزعامة الصحيحة إلا لمن يعرف كيفية استعمال هذه المؤثرات والعوامل التي تؤثر في النفوس، فإذا ما اهتدى الزعيم أو المرشح للزعامة إلى تلك العوامل، وكيفية استعمالها، تمكن بسهولة من جمع الأفكار، وتوحيد الإرادات الفردية حول فكرته الخاصة وإرادته.
وهيهات أن ينجح الزعيم ما لم يكن مسحورا بالفكرة التي صار داعيا إليها حتى تستولي عليه استيلاء لا يرى معه إلا الفكرة التي ينادي بها. وبدون هذا «الإيحاء الذاتي» لا يمكنه أن ينجح في التأثير في أذهان الجماهير؛ لأنه لا شيء يحرك همتهم مثل مظهر الإيمان الذي يبدو على شخص الزعيم، وإن يكن بعض الزعماء أو قادة الفكر ليسوا من النوابغ في صدق الآراء، وصحة النظر، إلا أنهم من أهل الهمة العالية، وذوي الإقدام والعمل.
والفرق بين الفيلسوف والزعيم هو أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة؛ لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة، وهذا لا يكون إلا ثمرة لليقين. أما الزعيم فلا يتأمل ولا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون، بل يدفعه عدم التأمل إلى التصميم فالحركة.
وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي، وصدق النظر، وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقدونه من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع. وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة القوية الذين يتسلطون عليها، ويملكون زمامها، فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعا من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها، والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة.
وأول ما يصنعه الزعيم هو أن يخلق المعتقد في النفوس، سواء أكان المعتقد سياسيا أم دينيا، ولكن هذا المعتقد الذي يخلقونه في نفوس الجموع يكون دائما قد نشأ وترعرع ونبت ونما في نفوسهم. وأصحاب العقائد الجليلة لم يستطيعوا جذب القلوب إليهم إلا بعد أن ترنحوا هم بتأثير الفكرة التي أرادوا انتشارها، فأوجدوا بقوة إرادتهم قوة التصديق التي هي الإيمان، ومن كان مؤمنا زادت قوته أضعافا، فالإيمان قوة عند الزعيم، وقوة عند الأتباع من المؤمنين بصدق الزعيم.
ولا تخلو أمة من الأمم في وقت من الأوقات من القواد، غير أنهم جميعا ليسوا من أهل الإيمان الصادق الذي يرتقي به صاحبه فيصبح رسولا في أمته، ومبعوثا لبني جنسه، بل إن منهم رجالا يحسنون القول، ويتقنون الدعاية لأنفسهم، ولا يلتمسون الزعامة إلا سعيا وراء منافع أشخاصهم، فيوقظون في أخلاق الأمة مراكز الشهوات ومشاعر الأهواء؛ ليكسبوا رضاء الطبقات النازلة، وقد تتسع دائرة نفوذهم، وتنمو قوتهم، ولكن أعمار أمثال هؤلاء الزعماء قصيرة، وأعمالهم سريعة الزوال.
إن الزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد، والمشاهد أن الذين قاموا بكبريات حوادث التاريخ أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين لم يكن لهم حول ولا طول سوى العقيدة، سوى الإيمان! ولكن متى وصل الزعيم إلى غايته احتاج إلى الاستبداد ليحتفظ بها.
لا ننكر على الفريق الأول مظاهر الحدة والشجاعة والإقدام؛ ولذا تراهم سكارى بفكرتهم، قد أطاعوها فامتلكتهم قبل أن تمتلك أتباعهم، وتراهم يجذبون الجماهير كما يجذب المغناطيس الحديد، فتترامى الدهماء والعامة في أحضانهم، ويعتنقون مذاهبهم بدون تأمل أو تفكير ... ولو كانوا محاربين، فإن الجيوش تنقاد لهم انقيادا أعمى، وقد يكون بين رجالهم وقادتهم من هم أقدر منهم، وأكفأ في فنونهم، ولكنهم لا يكادون ينتهون مما ندبوا أنفسهم له حتى تتوارى تلك المواهب، ويدخلوا في الصفوف كبقية الخلق.
والفريق الآخر قد يكون أفراده أقل فخامة وأبهة في الشكل والمظهر، ولكنهم أدق تكوينا، وأوسع دائرة، وأقوى نفوذا؛ لأن لهم موهبة الدوام.
اعتماد الزعماء على الخطابة وتثبيت دعوتهم في الأذهان
ويعتمد الزعماء جميعهم في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وكل زعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير، ومنذ عهد سقراط إلى يومنا هذا مرت العصور بزعماء ملكوا زمام أتباعهم بقوة الكلام، حتى إن الأديان المنزلة بعثت لها العناية بأنبياء فصحاء حكماء، وزودتهم بكتب منزلة. وحتى موسى - عليه السلام - طلب من الله أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله.
وكانت عمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها، وإذا أنت رجعت إلى خطب زعماء الشعوب فلا تجد إلا المعاني نفسها قد أفرغت في قوالب شتى؛ وذلك لأنهم يعلمون بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثرا عميقا في أذهان الخاصة والعامة على السواء، وكما ينتقل الفكر من عقل الزعيم إلى عقل السامع؛ فهو يثبت ويرسخ؛ لأن ذاكرة السامع تتشبث به.
فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه، فإذا فاز الزعيم في غرس فكرته في أذهان البعض فقد ضمن الفوز على الجميع بحكم العدوى المعنوية والتقليد، وهما قوتان عظيمتان كائنتان في الجماهير تدعمان مواهب الزعيم، وتشدان أزره.
وقد تبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية، وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء، وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولا عند المظلومين والمعوزين والمحتاجين إلى استعادة كرامتهم وحقوقهم. وهذا سر انتشار النصرانية بين الضعفاء والفقراء ، وقد سادت الاشتراكية أولا طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء، فصار منهم اشتراكيون متطرفون، وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدودا، ثم أقبل عليه كل فقراء مكة والجزيرة؛ لأنه دين مساواة «وأكرمهم عند الله أتقاهم»، فاستظلوا بسلطانه عليهم.
فالعمال لا يخضعون، والزراع لا يطيعون أحدا إلا إذا كان ذا نفوذ قوي عليهم، ولأن الأفراد إذا اجتمعوا شعروا بالحاجة إلى الطاعة، وهم يخضعون لمن ادعى السيادة عليهم.
وقد أدت تلك الحالة وضعف الحكومات في بعض ممالك أوروبا إلى حلول بعض الزعماء محل السلطات الحاكمة، ومحو تلك السلطات وتلاشيها في أشخاصهم.
وقد تجلت الزعامة الحربية في رجال أمثال نابليون بونابرت الذي جمع بين صفات الزعامة، كقوة الإرادة والقدرة على إقناع الجماهير، وبين الكفايات الحربية والسياسية التي أهلته إلى الانتفاع بمواهب الزعامة في إنتاج أعمال مثمرة لوطنه ولنفسه.
وقد دلت دراسة أخلاق الزعماء ونفسياتهم على أن نوعا منهم حبته الطبيعة بالحزم والعزم والإرادة الثابتة، ولكنها منحت تلك المواهب إلى حين، وهؤلاء يشبهون النجوم ذوات الأذناب التي لا تلبث أن تظهر وتخترق الجو في سرعة مدهشة حتى تختفي.
أما النوع الآخر فقد حبته الطبيعة بالمواهب الكاملة وقوة الإرادة مع الثبات والدوام والاستقرار، فالنوع الأول أمثال روبسبيير، وغاريبالدي، وميرابو، ودانتون، والنوع الثاني أمثال الأنبياء، وكبار المصلحين.
وإن هذا الرأي لا ينافي الحقيقة الواقعة، وهي أن أصل الأفكار الكبرى المحركة للعالم تبدأ عند العظماء، ثم تنتشر رويدا في الدهماء، ثم ينتحلها الخاصة بحكم التقليد، أو الاقتناع الوقتي، أو الاضطرار حتى تصير حقائق راسخة.
وقد تمضي حقبة طويلة لتمام هذه الدورة العجيبة.
فإذا ما بث الزعيم من أي نوع، فكرته في أتباعه؛ أمست له عليهم سيطرة وسلطان ونفوذ. وهذه المظاهر تولد الطاعة والاحترام حتى يصلا إلى أعلى درجات الإعجاب التي تشبه العبادة؛ ولذا ترى القرآن يذكر النبي والمؤمنين بأنه مذكر، وليس عليهم «بمصيطر»، أي منفرد بالسلطان، ولكن السيطرة المعنوية كائنة لا ريب فيها.
وهذه السيطرة واسعة النطاق حتى إنها تدب في نفوس التابعين في حضرة الزعماء وغيبتهم، وحتى بعد موتهم تكون لهم طاعة تامة؛ فيمتد سلطانهم إلى ما بعد الموت بمئات السنين أو ألوفها.
وقد يقوى هذا النفوذ كلما تغلغلت آثار الزعيم العظيم في أحشاء الزمان كما هو المشاهد في تأثير الأنبياء وكبار القادة والحكماء، فيكفي أن تذكر رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، أو عدل عمر، أو صداقة أبي بكر، أو حكمة سقراط، أو هيمنة بونابرت حتى تستعيد ذكراه وأعماله، فيكاد يكون لديك ماثلا.
وإذا سارت فكرة السيطرة في النفوس قضت على فكرة الانتقاد أو المحاسبة، فيمسي كل ما يقوله الزعيم ويفعله، أو ما قاله وفعله فوق البحث، وبعيدا عن دائرة التمحيص، ويمسي الأتباع أو المؤمنون كأنهم مسحورون؛ ولذا وصف القرشيون محمدا بأنه «ساحر» لا لبلاغة القرآن فقط، بل لقوة الرسول في اجتذاب القلوب وتأليفها.
وهذه السيطرة قد تستمد من شخصية الزعيم كما كانت الحال لبونابرت، أو من مكانته في المجتمع وشهرته بعلمه أو منصبه أو ماله. وهذا هو السر في اختراع الأزياء الرسمية، والملابس المزينة، والأوسمة، والنياشين، والعلامات الدالة على الرتب، ولكن هذه الوسائل المصطنعة لتكوين السيطرة وخلقها في النفوس لا حاجة بها لمن حبتهم الطبيعة بالقوة الشخصية الجذابة التي لا تحتاج إلى كلام، أو وعيد، أو تهديد، أو ثياب مزركشة تجعل لابسها كالخيل المطهمة!
ومن هذا القبيل ما وقع بين محمد وعمر بن الخطاب؛ فإن نظرة من النبي كفت لتغيير قلب عمر، فقد كان أشد الناس بغضا له، ثم انقلب من أخلص أصدقائه، وأطوع أتباعه، وهذه القوة الجذابة تحير الناظر إليها، وتوقع في قلبه الرعب، وما تزال الحيرة والرعب حتى يتمكن حب الزعيم من قلوبهم.
ثم يأتي النجاح، فيتوج عناصر المجد التي يحتاج إليها الزعيم، فيفرح أتباعه به، وتتوطد أركان محبته في قلوبهم، فيؤمنون به، ويضحون بأنفسهم في سبيله؛ لأنه يصبح حقيقة خالدة ثابتة لا تهتز ولا تتزعزع. وقد يكون النجاح وحده سببا للعظمة ولاحترام الجماهير؛ لأن النفس البشرية مفطورة على الإعجاب بالناجح «ولأم المخطئ الهبل» ليس عند العرب وحدهم، بل عند كل الأمم.
فإذا كان كل عماد الرجل في السيطرة على ما يواتيه من النجاح، فإن هذه الدعامة ضعيفة، بل منهارة؛ لأن النجاح أمر وقتي، وليس مضمونا دائما، ومن يصادفه النجاح اليوم قد يخطئه غدا.
ولكن الزعيم الصحيح هو الذي يعتمد على مواهبه الفطرية، ثم يأتيه النجاح فيزيده سلطة ونفوذا، ولكن هذا النفوذ لا يجوز أن يكون عرضيا بحيث إذا تركه النجاح يوما فلا يقلل ذلك الإخفاق من سلطانه على النفوس.
وقد رأينا في تاريخ الزعماء أن الفشل لا ينال منهم (موقعة أحد في تاريخ محمد عليه الصلاة والسلام)، بل قد تنقلب العادة، فيقوى مركزه بالفشل؛ لأنه يعد نفسه لنجاح أعظم وأبهر من الذي فقده.
وقد تخلق الشعوب أربابا تعبدها!
وكثيرا ما يحدث أن تتخذ الجماعات أو الأمم رجلا عاديا ضئيلا ثم ينسبون إليه من العظمة والجبروت ما هو مستعار من أحوال عصره، وظروف وقته، فيكون الوقت هو الذي أحدثه وشهره، فهو ابن الوقت، وكل ما جرى على يديه هو من فعل الوقت لا من فعله.
وأكثر ما تكون هذه الظاهرة عقيب الفواجع الكبرى في التاريخ كالحروب العظمى، وحلول الحيرة في أذهان الأمم محل الهدوء وحسن النظر، ولا سيما إذا كانت الأمم التي يظهر فيها أمثال هؤلاء الزعماء أو الأبطال خارجة مهزومة من حرب، ومكتومة الأنفاس بفعل أرباب رءوس الأموال، الذين يخشون تفوق المذاهب الاجتماعية الحديثة كالاشتراكية، فهم يموتون في جلودهم خشية توزيع الثروات، أو ضياع أماكنهم الدافئة المطمئنة، فيتشبثون بأهداب أضأل المخلوقات وأضعفها، إذا كان أحد هؤلاء الضعفاء مصبوغا بصبغة المغامرة والمجازفة، أو مطمورا في حفرة اليأس، ويريد هو الآخر أن ينجو بجلده من الفاقة.
وأكثر ما يوجد هذا الصنف من الرجال بين أدعياء السياسة، والمتهالكين على درجات سلم الوصول إلى المال والمنصب، ويكونون عادة من ذوي الأعصاب المنهوكة، والقوى المتداعية، فيدفعهم اليأس والضعف والمرض إلى الاستهتار بالحياة، فيلعبون بالورقة الأخيرة، ويطلقون الخرطوشة الأخيرة، وينزعون القميص الأخير، ويخرجون بالجملة من جلودهم كما تخرج الثعابين والأفاعي ، فيقلبون لذويهم وأصدقائهم بالأمس ظهر المجن، ويتخلون عن المبادئ التي كانوا يقدسونها بالأمس، ليجدوا سندا وعضدا من خصوم اليوم الغابر.
وهؤلاء يجدون فيهم أدوات صالحة لتنفيذ غاياتهم، وما عليهم إلا أن يظهروا لأهل الأمس بالمعاداة والمقارفة والمعاكسة والمشاكسة، ويبادروا أول ما يبادرون إلى إلقاء أصدقاء أمس الدابر في المهالك تحبيسا، وقتلا، واغتيالا، وتحقيرا، ونفيا؛ لأنهم هم الواقفون على أسرارهم، والملمون بأخبارهم، والعالمون بما ظهر وخفي من أمورهم، وفي الأغلب يكون ما خفي هو الأعظم!
ومهما يظهر من الخير على أيدي هؤلاء فإنه وقتي وزائل، كالزرع الذي يختلقه «الحاوي» ينمو لساعته وتحت أبصار النظارة، ويزكو في أرض غير خصبة بغير بذور ولا «تقاو»، ولكنه لا يلبث أن يذوي، ويذبل، ويتلاشى، ويختفي، ويغيب عن أعين المعجبين به، ويتلوه القحط - والعياذ بالله - والخراب!
والحقيقة أنه ما كان عصر من العصور ليخرب ويتلف لو أن أتيح له رجل كبير يجمع بين العقل والتقوى، بين عقل يعرف به حاجة العصر، وعزم يمضي به في إبلاغ العصر حاجته، وفي هذين صلاح العصر وفلاحه، ولكن العصور الحديثة، ولا سيما بعد الحرب الكبرى من 1914 إلى 1935 ظهر أنها عصور ضعيفة واهنة، مصابة بالبلاء والحيرة والشرور والخبائث؛ بسبب علة أذهانها الشاكة المرتابة العاجزة، وأحوالها المختلطة المضطربة، يحدوها سائق الشقاء إلى غاية التلف ... نشبه كل هذا بحطب يابس ميت ينتظر من السماء شهابا يشعله، فإذا ما ظهر نيزك من النيازك الخلابة، التي تخترق الأفق وتنحدر منحرفة، ظنوه ذلك الشهاب الثاقب! وسرعان ما يترامون على وهمه وخياله وصورته، فتضيع عليهم الحياة بآمالها، ويهلكون في أثر هذا الشعاع الكاذب أو سراب النور الخادع.
تأثير الخطب الرنانة والكلام الطنان في مصائب الشعوب
ونحن بلا ريب في جيل قحط وبؤس وجفاف، وحطب يابس، وجحود وكفر وضلال، وهو جيل تسبقه، وتلحقه، وتحدوه، وتعقبه الفتن والثورات التي تكون مملوءة بدلائل الاضمحلال والبلى والخراب، وسقوط الدول في مهاوي الاستبداد، وتدهور الشعوب في مغاور اليأس، وكهوف القنوط؛ ولذا تراهم يتمسكون بأضعف المذاهب، وأوهاها، وأذلها، وأقلها، ويجرون وراء كل صاخب .
فداء الضعف في الجيل ، وفي ضآلته، ومرضه، واعتلاله، واختلاله، واضمحلاله، وانحلاله. هذا هو ما نراه سر الوثنية الإنسانية التي أدت إلى عبادة بعض الأشخاص الذين ألهاهم الجهل وقصر النظر، فأفرطوا في العجب والاندهاش من الشيء أو الشخص حتى يصيرا تقديسا وعبادة.
ويكون اعتماد جميع هؤلاء الزعماء والأبطال على الخطابة للتأثير في أذهان الجماهير، التي يستغويها زخرف القول، وتستهويها عذوبة الألفاظ، وتغرر بها الوعود الخلابة.
وليس معنى هذا أن الجماهير تعيش بلا عقل ولا تفكير، أو أنها لا تتعقل ما تسمع، أو لا تتأثر بالمعقول؛ لأن المشاهد عكس ذلك، والاختبار دل عليه، ولكن الفرق بين الفرد والجماعة في طريقة التعقل والاقتناع هو أن طبقة الأدلة التي تقيمها الجماعات تأييدا لأمر من الأمور، أو التي تؤثر عليها منحطة جدا من الجهة المنطقية، فلا يصدق عليها اسم الدليل إلا من باب التشبيه.
فتعقل الجماعة عبارة عن الجمع بين أشياء متخالفة لا رابطة بينها إلا في الظاهر، والانتقال الفجائي من الجزئي إلى الكلي، ومن التخصيص إلى التعميم بلا ترو. والأدلة التي يقدمها إليها أولئك الزعماء والأبطال الذين عرفوا كيف يقودونها كلها من هذا الطراز؛ لأنها هي الأدلة التي تؤثر فيها بخلاف سلسلة من الأدلة المنطقية فإنها لا تدركها.
وكثيرا ما تعجب أيها القارئ عند مطالعة بعض الخطب (التي تسبق الحروب أو الحركات القومية في بعض الممالك المفتونة بعبادة هذا الزعيم أو ذاك) من التأثير العظيم الذي أحدثته في سامعيها على ما بها من الضعف والركاكة، وذلك العجب منك لأنك نسيت أن تلك الخطب قد وضعت خصيصا لتؤثر في الجموع الزاخرة، والجماهير الحاشدة، لا ليقرأها العلماء أو أهل المنطق.
وهكذا تجد الزعيم الخبير بأحوال جماعته، الواقف على بواطن أمورها، الملم بنفسيتها، يعرف طريقة استحضار الصور التي تجتذبها، فإذا نجح فذلك غاية ما أراد، ولو أن أكبر العلماء وأقدر الساسة ألف مئات الخطب في عشرين مجلدا بعد ذلك ما كان لها من التأثير ما أحدثته تلك الكلمات التي دخلت في الرءوس المراد إقناعها.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن عدم قدرة الجماهير على التعقل الصحيح يذهب بملكة النقد، فتمسي غير قادرة على تمييز الخطأ من الصواب، فلا تحكم حكما صحيحا في أمر ما.
عاقبة الظلم والتعدي على القريب والبعيد
يعد هذا القول منا بمثابة كشف القناع عن أسرار بعض المظاهر السياسية والاجتماعية التي نراها، ونحار حينا في تفسيرها وتعليلها؛ فلو رأينا رجلا واحدا يظهر فجأة لينادي بمبادئ تخالف ما كان يتبعه بالأمس، وخلفه رجال يشدون أزره باسم الدولة والمجد، ثم يقود قومه بمفرده إلى الهاوية، ويدفعهم إلى الهلاك فرحا مستبشرا، وهم لا يترددون ولا يفكرون في مصيرهم، وعماد هذا الرجل في تلك المجزرة البشرية، والتردي في مهاوي الدمار خطبه التي يلقيها من على ظهر جواد، أو على قمة جبل، أو مرتكنا على دبابة أو مدفع، فاعلم أنه من هذا الطراز الذي سبق وصفه، وأن ما سبق له من إصلاح أو خير في عمار دار، أو ترميم جدار، إنما كان نوعا من استدراج الشيطان له ولقومه حتى يلقوا حتفهم، ويقعوا في أحضان الفناء بمحض رغبتهم واختيارهم، وإن هذا الاستدراج الشيطاني قد أصم آذانهم، وأعمى أعينهم، وكف أبصارهم، وطمس على قلوبهم فلم يسمعوا نصحا، ولم يتبعوا هداية.
بل إن هذه القلوب نفسها لم تلن أمام أنات الإنسانية المعذبة، وتلك العقول التي كان دأبها الإدراك، أو من طبيعة تركيبها ينبغي لها الإدراك قد فقدت أدوات التفكير، وانقادت انقيادا أعمى وهي تنادي من أعماق قلبها ليحيا الإمبراطور، أو الزعيم، أو الملك العظيم! وما نداؤها وهتافها وتحيتها إلا للشيطان الرجيم الذي ملأ النفوس بالغرور، وأذهب من ذوي العقول عقولهم ليعودوا سيرتهم الأولى من الانحدار والانحطاط والسقوط.
إذا قال زعيم صيني في خطبة: إنني أحارب لأعيد مجد منشو القديم، وأجدد عظمة شنج لي-كنج، وأبعث جلال فو-شو-لو من مرقدها، فإن أهل بكين وشنجاهاي وكانتون ونانكين يصغون إليه في خشوع وخضوع، ويحملون السيوف والبنادق وراءه ليحاربوا، ليفنوا، ليجددوا المجد!
كذلك إذا نادى روماني قديم بأنه يحارب لإعادة مجد روما الداثر، وإقامة حظها العاثر، فالبسطاء من قومه يصدقونه، ويسيرون وراءه عملا بقول نابليون بونابرت في مجلس شورى الحكومة:
إنني أتممت حرب الفندائيين لما انتحلت الكثلكة، واستوليت على مصر إذ أسلمت، وتوجت بالظفر في حرب إيطاليا لأني قلت بعصمة البابا، ولو كنت أحكم شعبا يهوديا لأعدت بناء معبد سليمان.
1
ونحن إن أنكرنا على بطل أو زعيم ذكاء العقل، أو بعد النظر، أو حب الخير، أو العطف على قومه، أو التقلب في المبادئ، أو قلب ظهر المجن لأصدقائه وسادته بالأمس، فلا ننكر عليه المهارة والحذق في معرفة كيفية التأثير في خيال الجماهير؛ فقد أتقنه بالفطرة، أو أنه كان قوة كامنة في حنايا ضلوعه، وفي أركان عقله الباطن، حتى أظهرته الحوادث.
وقد ظهر لنا وللعالم أجمع أن التأثير في خيال الجماعات كان همه الدائم، فلم ينسه في فجر حياته ولا في ضحاها، ولم يهمله في مغامراته الأولى والأخيرة، ولم يفرط فيه في انتصاره وخذلانه، لا في أقواله وأفعاله، ولا في عمل من أعماله، بل هو يفكر فيه ليل نهار، وسوف يفكر فيه على سرير موته بعد عمر قصير أو طويل.
وإن هذه الخطب لتوهمن سامعها أن هذا النظام أو ذاك الذي ابتكره زعيم من الزعماء هو الذي جعل أمة من الأمم القديمة أو الحديثة سعيدة أو غنية، وهذا خطأ من الأخطاء المعنوية التي تشبه خطأ البصر أو السمع الذي قد يؤدي إلى سوء الاستنتاج في المرئيات والمسموعات؛ لأنه ثبت بالاختبار التاريخي أن التأثير الحقيقي في حياة الشعوب لا يكون من طريق النظم أو تغييرها.
فلا يمكن أن يقال الجمهورية أفضل من الملكية، أو الديكتاتورية أنفع من الديمقراطية، فإذا نظرنا إلى جمهورية الولايات المتحدة رأيناها ترفل في حلل الرخاء، وتخطر في جلباب السعادة بفضل نظمها الديمقراطية، حتى إذا رجعنا إلى الجمهوريات الإسبانية الأمريكية (وهي التي تتمتع بنظام جمهوري كالولايات المتحدة) ألفيناها تتعثر في أذيال التقهقر والفوضى، وحكمنا بأنه لا دخل لتلك النظم في سعادة الأولى، ولا في شقاء الثانية، وبأن الذي يحكم الأمم إنما هو أخلاقها ، وكل نظام لا يندمج مع هذه الأخلاق ويمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار. وهو ستار لا يدوم.
لقد قامت حروب دموية، وهبت ثورات عنيفة، وستقوم حروب وتهب ثورات، وكان الغرض منها وسوف يكون إلزام الأمم بنظم يعتقد الناس أنها مجلبة السعادة، وقد يقال: إن النظم تؤثر في نفوس الجماعات لأنها تفضي إلى مثل تلك الحروب والثورات، والصحيح أن لا تأثير لها البتة؛ لأنا قد عرفنا أنها لا قيمة لها في ذاتها، سواء أكانت الغلبة لها أم عليها، وإنما الذي يؤثر في الجماعات أوهام وألفاظ، وعلى الأخص الألفاظ الخيالية.
وقد تؤدي تلك الألفاظ الخيالية القوية إلى المطامع القومية، والحروب الاستعمارية التي يصحبها إهراق الدماء، وخراب الممالك، والتعدي على الشعوب الآمنة المطمئنة، وتقويض أركان السلم في أنحاء العالم القريبة والبعيدة.
وقد كان لبعض رجال السياسة في أوروبا، ولا سيما في الأمم اللاتينية أسوأ الأثر في حياة شعوبهم، ومن هؤلاء الرجال جورج كلمنصو الذي كان يسمى بالنمر، وسمي «أبا النصر»
، ثم أهملته الأمة الفرنسية أعظم إهمال ونبذته؛ لأنها قرنت اسمه بكل أهوال الحرب ومصائبها.
كانت إشارة من هذا الرجل تكفي لقلب الوزارة، وقد أوضح أحد الكتاب مقدار تأثير ذلك الوزير في الكلمات الآتية: «إنا مدينون لموسيو فلان وحده بكوننا اشترينا التونكين بثلاثة أضعاف ما تساويه، وبكوننا لم نضع في مدغشقر إلا قدما متزعزعة، وبكوننا غلبنا في مملكة كاملة جنوب نهر النيجر، وبكوننا أضعنا ما كان لنا من النفوذ الخاص في الديار المصرية. ألا إن نظريات موسيو (فلان) قد كلفتنا من الخسائر أكثر من مصائب نابليون الأول!»
سنيور بنيتو موسوليني زعيم إيطاليا ومحرك الحرب الحبشية الإيطالية.
وهكذا كانت عاقبة بوانكاريه في فرنسا، ولويد جورج في إنجلترا، وودرو ويلسون في أمريكا، وغليوم الثاني في ألمانيا، ونابليون الثالث في الإمبراطورية بعد حرب السبعين، وكل هؤلاء كانوا من أكابر الزعماء والوزراء، وبعضهم ملوك، فما بالنا بمن هم أقل منهم بدرجات ومراحل، أمثال سنيور بنيتو موسوليني وأضرابه؟!
إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا
منذ استعمارها في سنة 1888 إلى الآن
لا يعلم إلا القليلون من الطليان وغيرهم قيمة ما تتكبده إيطاليا من الخسائر الفادحة من الرجال والمال منذ خمسين عاما في أفريقيا الشرقية، وقد قدره أحد الإحصائيين بأكثر من خمسين مليون جنيه من المال، ومليونين من الرجال بين قتلى وجرحى وصرعى قضوا نحبهم بالأمراض والأوبئة.
وإلى القارئ العربي بيان وجيز، مع العلم بأن هذه الحرب الناشبة كلفتهم إلى الآن أكثر من ثلاثين مليون جنيه.
في أواخر القرن التاسع عشر، وبعد استيلاء فرنسا على تونس ببضع سنين نزلت حملة عسكرية قوامها عشرون ألف جندي بقيادة الجنرال سانما رزانو بمصوع.
1
وكانت إيطاليا تعلم أن محاربة الحبشة ليست أمرا سهلا، ولا مأمون العواقب، فرجت إنجلترا في الوساطة بينهما، فنفذت بريطانيا رجاء إيطاليا، ولكن الرأس يوحنا لم يقبل الصلح، ولكنه أحجم عن مهاجمة الطليان، وأعرض عن تحريض رأس الولا، وتربص مدة في معسكره بلا حركة إلى الأمام أو إلى الوراء، ثم انسحب إلى الداخل تاركا الجيش الإيطالي وشأنه، فخاف الجنرال سانما رزانو وقواده الأربعة: جانه، ولانزا، وجاني، وبالديسارا عاقبة اقتفاء أثر الأحباش، ورجعوا بقسم من الجيش الإيطالي إلى إيطاليا، وبقي القسم الآخر في جوار مصوع.
ولما تولى منليك الثاني ملك الحبشة، بعد مصرع يوحنا في القلابات (1888-1889)، ثار عليه أهل مقاطعة تيغري؛ بحجة أحقية رأس منغاشا بن يوحنا في العرش الإمبراطوري، وكان هذا الرأس أميرا على المقاطعة المذكورة. فلما رأى منليك ذلك طلب إلى القائد الإيطالي بالديسارا أن يحتل أسمرا بجنوده الطليان؛ ليتمكن منليك من إرغام التيغريين على الرجوع إلى طاعته.
ولما كان بالديسارا طموحا، فقد فتح مدينة كرين في مقاطعة بوغوس، وبلغ أسمرا في 3 أغسطس سنة 1889. وفي ديسمبر من تلك السنة سافر بالديسارا إلى إيطاليا، وحل محله الجنرال أورارو فتوغل في البلاد.
وكان منليك استعاد قوته ونفوذه و«شم نفسه»، فاحتج على أعمال القائد الإيطالي، ولكن احتجاجه لم يثمر، وعينت إيطاليا الجنرال جاند ولفي واليا على إريتريا، واعتبرتها مستعمرة إيطالية، وما زالت تحارب الأمراء والرءوس ، وتخضع الأهالي تارة، وتمالئهم طورا.
وقد اتخذ الطليان في مستعمرة إريتريا خطتين سياسيتين؛ الأولى: سياسة شوا ومنليك، والثانية سياسة تغري ورأس منغاشيا، فكانوا يبحثون عن الطرق والوسائل التي تعود عليهم بالمنفعة من التفريق بين هاتين المقاطعتين، عاملين بمبدأ «فرق تسد»، فكانوا إذا لاينهم منليك انقضوا على منغاشيا، وإذا مال إليهم منغاشيا انفضوا من حول منليك.
وكانت نتيجة تلك السياسة الإيطالية معاهدات وحروب، منها معاهدة مارب، ومعاهدة أوكسياللي، وموقعة حالايا مع باثا آغوس، وفتنة أسماسق آباررا، الذي أثبت أن التعلم في مدارس الطليان، والاصطباغ بصبغتهم لا يضعف القومية، ولا يوهن من حب الوطن، بل قد يشعل نار الإخلاص للوطن في نفس الشجاع، وواقعة قواتيت، ومعركة سه نافا، واحتلال تيغري، وهزيمة أمبا الأجي، وحصار مكلا، وثورة عقامة، وموقعة لينا، وحرب إله فا.
ولم ينتفع الطليان بعد هذه الجهود بشيء سوى إريتريا، وقد خسروا بسببها «الجلد والسقط»، قال ماركيز دي روديني، الذي رأس حكومة إيطاليا مرات عدة لدى جورفيل، مؤلف كتاب «مصر الحديثة»: «إننا نحن المجانين (يقصد أمته، وهو تأنيب المحب المشفق) قد أنفقنا عشرين مليون جنيه في غزو مستعمرتنا الصغيرة السيئة الحظ المسماة بإريتريا، وهي تكلفنا منذ غزوناها في كل عام 280 ألف جنيه، والله يعلم إن كانت ستدر علينا شيئا من الخيرات، أم تبقى عاقرا مجدبة لا خير منها!»
2
لقد احتلت إيطاليا إريتريا في سنة 1888؛ فتكون نفقاتها على تلك المستعمرة الأفريقية كما يأتي:
جنيه
20000000
نفقات الغزو
13000000
نفقات من 1888-1935
33000000
ثلاثة وثلاثون مليون جنيه
في حين أنه لا يوجد بإريتريا من الطليان سوى 3500 مستعمر.
3
وهذا أحدث إحصاء لسكان تلك المستعمرة من الطليان.
هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
من أغرب أنواع التهويل، وأوسع أبواب الإرهاب التي لجأت إليها إيطاليا وولجتها «مزعجة» الطائرات، و«معجزة» الغارات والغازات، فتوعدت الأحباش بأسراب من عفاريت الجو تصب على رءوسهم وأبدانهم صنوفا من المتفجرات والمشتعلات والخانقات ... بيد أن ثقات الحروب الحديثة في إيطاليا نفسها لا ينتظرون أن تجني جيوشهم فائدة كبيرة من تلك الأسراب المحلقة أو المعلقة؛ لقلة الأهداف التي تتجه إليها.
ولا جرم أن للطائرات أثرا نافعا في استطلاع حركات العدو، ولكن مدى طيرانها فوق جبال الحبشة محدود بما يمهد لها من المطارات، وهو من أشق الأمور على القيادة الإيطالية؛ لوعورة المسالك، وندرة الفسحة في الأرض الحائزة للشروط المطلوبة.
وأكبر المناصرين لإيطاليا لا يجزمون بما يعود عليها من الأجنحة الملتهبة أو المسمومة؛ لأن الحكم على هذا النوع من آلات الحرب لا يزال مرهونا باختبار سلاح الطيران الإيطالي في الحبشة، ففرح إيطاليا به والتنويه بنتائجه قبل التثبت من مقدماته سابق لأوانه.
إن إيطاليا وإن تكن من دول أوروبا الحديثة، إلا أنها لم تحز قصب السبق في الحروب، فما عهدها بالهزيمة في الحرب العظمى ببعيد، كما أنها كانت ضعيفة النكاية بأعدائها في طرابلس الغرب (ليبيا)، فإن إخضاع تلك البلاد الأفريقية (وهي أقرب إلى إيطاليا من الحبشة بعشرات المرات، وليس فيها أكثر من 200 ألف عربي قاموا بحرب العصابات) اقتضى من إيطاليا عشرين سنة، مع أنها لجأت في محاربتهم إلى وسائل تأباها الإنسانية، وتحرمها القوانين الدولية،
1
فما بالها بالحبشة على بعدها وقوتها، واستعدادها وعدد سكانها، ووفرة جيوشها، وقيام العالم لنصرتها؟! لا شك أن في هذه الحالة ستضطر الحكومة الإيطالية لأن تنفق بدرات من الأموال، ومهج ألوف وألوف من الشبان والرجال، وأن تقضي عمرا في الحرب والنضال، وهيهات ثم هيهات أن تحقق ما تؤمل؛ لأن دونه أهوالا وشدائد تشيب منها الأطفال دونها هزيمة عدوة بمراحل.
وليست الحبشة قوما واحدا ولا قبيلا منفردا، بل خليط من شعوب وقبائل شديدة الشكيمة، يجري حب الاستقلال في دمائهم، ويضيفون إلى منعة معاقلهم الجبلية الوعرة كراهية للغرباء المعتدين لا حد لها، ويشجعهم على الاستمرار فيها والاستزادة منها فتيانهم الذين رضعوا لبان العلم في أوروبا وأمريكا ومصر.
ومن هذه الشعوب الأمحريون أو الأمهريون الذين تكتب المعاهدات بلغتهم؛ لأنها أرقى اللغات الحبشية، والشوعيون وغيرهم.
ومهما يكن عدد جيوش الطليان، فإن أفران الحبشة وخنادقها ومفاوزها ستنادي هل من مزيد؟ لأن الجيش الأجنبي الزاحف، ولا سيما من الشمال، عليه أن يحصن القواعد التي يعتمد عليها في مواصلاته ، مع عاصمة إريتريا ومينائها، وهما: أسمرا ومصوع، وعليه أن يبقي فيها حاميات كبيرة، فوق أنه محتاج إلى إنشاء الطرق ثم تأمينها بعد إنشائها.
ولا نظن أن موسوليني يخفى عليه أن كل تقدم من ناحية إريتريا محفوف بالخطر؛ لأن فتح البلاد يقتضي احتلال المراكز العسكرية، وتنظيم إدارتها، وإبقاء حاميات كبيرة فيها، فضلا عن أن الجيوش الإيطالية الجرارة تحتاج إلى مئونة وذخيرة تكادان تعجزان أعظم الأمم وأغناها؛ فهي مضطرة لاستيراد كل ما تحتاج إليه من الوطن الأقصى، وهو عمل شاق كبير النفقات، ولا يمكنها التعويل على أرزاق الحبشة؛ لأن حاصلاتها الزراعية لا تكاد تكفي الأحباش أنفسهم، مع قلة ما يحتاجون إليه بالمعارضة إلى ما تحتاج إليه الجيوش الأوروبية المفطورة على الترف في بلاد أفريقية بعيدة، وفي حالة حرب ... مع أمة موتورة ومهاجمة في عرينها.
دع عنك مقاييس الحياة العادية بين الفريقين، فإن الأحباش في وطنهم، وهذا امتياز لا يستهان به، وهم يفوقون خصومهم في ملاءمة حال البلاد لهم؛ ففي وسع الحبشي أن يجتاز مسافات شاسعة مشيا على أقدامه الحافية،
2
وهذا ما يعجز عنه أهل أوروبا عامة، وأهل الجنس الأبيض خاصة. وروى لنا بعض كبار ضباط المصريين الذين عاشوا في الحبشة أن الحبشي يستطيع أن يطوي مسافة تتراوح بين 25 و40 ميلا في اليوم، ويقضي في ذلك بضعة أيام متوالية دون أن يكل، فإذا ما ركبوا، اعتلوا صهوات بغال أهلية خفيفة الحركة، كثيرة الصبر، قنوعة باليسير من الغذاء، ويمكنهم أن ينقلوا على ظهورها المدافع إلى قمم الجبال المنيعة، فيعرقلون تقدم العدو باستعمالها من أعاليها. وغير خاف أن الرامي بالحجارة من أعلى جبل أقوى من المحارب في السهل مهما كان سلاحه.
ولما كان الأحباش يحاربون وهم عصابات متفرقة، خفيفة الحركة، عارفة بالبلاد؛ فإن الطليان مضطرون لجماعات كبيرة من جنودهم، ليتغلبوا على تلك العصابات، ولكن تلك العصابات لا تحارب لتهزم أمام القوات الغازية، ولكنهم يستدرجونهم إلى الأودية والخنادق الطبيعية ليمزقوا شملهم.
3
قال سنيور موسوليني إنه حسب لكل شيء حسابه، فهل حسب حساب شق الطرق، وبناء الجسور، ونقل المواد اللازمة لها من إيطاليا إلى جنوب البحر الأحمر، ومنه إلى أسمرا ثم إلى المناطق التي يحتلها الجيش الزاحف؟ وهل حسب حساب السيول التي تجرف أثناء تدفقها الجسور والطرقات والمستودعات ومواد البناء؟
تكلمنا عن الإريتريا، وما تكلفته إيطاليا في سبيلها من القناطير المقنطرة من الذهب، والجيوش المجهزة، وأثبتنا أنها لم تعد على إيطاليا بطائل، وليس لهذه المستعمرة قيمة سوى أنها تسيطر على منافذ التجارة الحبشية من الشمال، وهي تجارة يسيرة، وأكبر الصعاب فيها تعرض أهاليها لقلة الماء الناشئة عن ندرة الأمطار، وقصر فصلها في كل عام.
ولكنها تصلح قاعدة عسكرية، ولعل هذه الصلاحية هي التي أغرت الطليان بها، فبذلوا ما بذلوا ظنا منهم أنها تسهل عليهم الاستيلاء على الحبشة، ولكن ما عرف عن الأحباش من حبهم للحرية، وتمسكهم باستقلالهم يجعل كل طمع في التوسع متعذرا إن لم يكن مستحيلا.
فقد سلحت الطبيعة هذا الشعب النبيل بطبيعة البلاد الجغرافية والطوبوغرافية، فكانت تلك الطبيعة من أقوى الوسائل التي يعتمد عليها الأحباش في الدفاع عن الوطن وحريته.
وإن الصعوبات التي تنتاب الطليان من الجنوب لا تقل عن مهالك الشمال؛ فإن الجيش الإيطالي الذي يحاول التقدم من موغاديشيو في جنوب الصومال الإيطالي الواقعة على مصب نهر وبي شبيلي لا بد أن يخترق منطقة جافة طولها 200 ميل، قبل أن يصل إلى آبار وال وال وغرغوبي الواقعة في مقاطعة أوغادن - وهي أصل النزاع بين الدولتين - ولا يشبه هذه المنطقة في الجفاف إلا صحراء الدناكل الواقعة بين الهضبة والبحر في الجنوب الشرقي من عدوة وأكسوم وأديجرات ... وهذه المنطقة الصحراوية جافة جافية، وبيئة واطئة، ولم يفلح في اختراقها من رواد أوروبا إلا لودفيج نسبيت، الذي لقي في سبيلها من المصاعب والمتاعب ما جعله يسميها «عقر الخليفة الجهنمي».
4
أما الجبال الحبشية فكثيرة، ومنها ما يبلغ ارتفاعه 10000 قدم، أو 15000 قدم.
وإذن تكون الجيوش الإيطالية معرضة لمخاطر الجبال، وطول المسافات، وقلة الماء، وعقبات الخنادق الطبيعية التي خددها نهر التاكاز وروافده، وكل هذه العقبات الكبرى تعرقل أي تقدم عسكري في الحبشة وراء عدوة.
ويظهر للخبراء الحربيين الذين يرقبون الحالة في الميادين الحبشية أن الطليان يوجهون جيوشهم إلى طريق ماكال ومجدالا، وقد تقهقروا أمام ماكال، ووقفوا هجومهم،
5
وهذه نفس الطريق التي سلكها لورد ناييبير أوف مجدالا سنة 1868 ضد الإمبراطور ثيودورس. انظر فصل «
طموح مصرإلى فتوح أفريقيا » من هذا الكتاب.
ولكن الأحباش لم تغب عن ذاكرتهم هذه الموقعة، فاستعدوا لاتقاء ما ينسج على منوالها، أو يقاس على غرارها، ولا يلدغ الحبشي من جحر مرتين!
وإذن لا منفذ للطليان في تلك الجبال والوهاد؛ لأن قنن الجبال الشامخة قد تصعد في الجو كناطحات السحاب، بل إنها لتخترق السحب، وتعلو في الجو فوق مناكب الغيوم، وتنخفض انخفاضا مفاجئا إلى أودية سحيقة ذاهبة في جوف الأرض، وليس بين هذا العلو الشامخ وذاك الهبوط السحيق سوى بضعة سهول مختنقة، فكأن هضبة الحبشة أضراس آلة جهنمية تسحق كل من يقع بين فكيها!
وكأن الطبيعة مشفقة على الحبشة من هجوم أخلاف الرومان المتحضرين ومعيدي مجد الإمبراطورية! فلم تكتف بتضريسهم بتلك الأنياب الصخرية، فكست بعض وديانها بنوع من الأتربة الحمراء التي تبدو صلبة جافة، حتى إذا ضغط عليها أقل ضغط (وناهيك بأحذية الجنود، وعجلات السيارات والدبابات والطائرات، وحوافر الخيل) تحولت فورا دقيقا متناهيا في النعومة، فإذا جادها الغيث، ولو كان رذاذا، تحولت معجونا زلقا كالصابون، فيعسر السير فيها حتى ولو كان مشيا على الأقدام، فتضطر الجيوش إلى الوقوف في أماكنها حتى تجمد أعين السماء، وتشرق الشمس فتجف التربة بحرارتها.
وإذا ما غيرت الجيوش الإيطالية خطتها، وحاولت احتلال جبال تانا الشرقية والشمالية، فإنها تعرض مؤخرتها لهجوم العصابات؛ لأن تلك المنطقة الوعرة لا تزال في أيدي عصابات لا تعرف للراحة طعما، ولا تسكت على تغلغل المحاربين الغرباء في مواطنها.
النتيجة
لقد ثبت لدى العالم أن إيطاليا الأوروبية المسيحية المتحضرة معتدية، وأن الحبشة الأفريقية المسيحية الإسلامية، التي تكاد تكون فطرية، معتدى عليها، وأعلنت خمسون دولة من دول العالم مناصرتها للحبشة بالحق؛ لرفع الظلم عنها، ولكنها لم تتمكن من منع الحرب بالقوة، فهذه قرارات تلك الدول الخمسين ممثلة في عصبة الأمم تصدر، والمدافع تدوي، والطائرات تصب جامات نيرانها على الأمة المسكينة المظلومة، والدبابات تسحق أبدان أهلها، وتهلك حرثها وزرعها ونسلها!
ولكن الحبشة على الرغم من ضعفها واستكانتها قد جردت من هذا الضعف وتلك الاستكانة قوة لم تستطع إيطاليا أن تستهين بها، بل أقرت في مواطن شتى بشأنها وبطشها، والعالم ينظر وينتظر، والإنسانية تتوجع وتتفجع، والحضارة والسلم تندبان حظهما؛ لأن الإنسانية مقبلة على مأساة لعلها لم تشهد مثلها حتى ولا في الحرب الكبرى.
وإن مصر الجارة والصديقة، بل القريبة بحكم الجوار والاشتراك في القارة والماء لتبذل أقصى جهودها لنصرة الأمة المظلومة، ولم تقصر في تطبيق العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عصبة الأمم، دون أن تتمتع بالمزايا التي يتمتع بها أعضاء تلك العصبة، فكانت أكثر من الدول الخمسين حبا للسلم ومدافعة عنه؛ لأنهن اشتركن في تقرير العقوبات، أما هي فلم تشترك في التقرير، وانفردت بالتطبيق وهي خارج العصبة، وسوف تتحمل في هذه السبيل خسائر جمة وهي عالمة بها وراضية.
ولعمري إن موقف مصر في الوقت الحاضر ليعيد إلى الذهن موقف بلجيكا في سنة 1914، فلم تكن بلجيكا من أعداء ألمانيا، ولكنها وقفت في طريقها لتحمي فرنسا أو مبادئها، فاكتسحتها ألمانيا اكتساحا، وكادت تمحوها من الوجود.
وها هي مصر قد تضافرت الظروف على وضعها في هذا الموضع، وها هي تتعاون مع بريطانيا العظمى في الدفاع عن مصالح الإمبراطورية البريطانية، وسلامة أملاكها في آسيا وأفريقيا، ويجيء الدفاع عن مصالح مصر عرضا، وقد امتدت يد إنجلترا إلى الإسكندرية لتجعلها قاعدة بحرية؛ لأنها أسلم عاقبة، وأنسب وأحصن من مالطة.
وإنجلترا لا تريد أن تفاتحها مصر الآن في طلب تكون عليه صبغة التهديد، ولكن السياسة الحكيمة والنظر البعيد يحتمان على الدولة الصديقة أن تمد يدها لتتمم تصريح 28 فبراير، في رفق وصداقة دون إرهاق أو إرهاب؛ لتشعر مصر ذات الاستقلال والسيادة برجولتها وصداقتها ونخوتها، وثمرة انضمامها إلى الأمم المتحضرة في محاربة الظلم، والوقوف في وجه المعتدين، وجعل عصبة الأمم أداة صالحة لتسوية النزاع بين الأمم كما يسوى كل نزاع بين الأفراد في المحاكم.
فهل لإنجلترا أن تطرد من مخيلتها فكرة خاطئة، وهي أن مصر تتهددها، أو تريد أن تنتهز فرصة غير ملائمة، وهي انشغال إنجلترا في البر والبحر والجو لتطلب منها مطالب لم تكن لتتقدم بها لو كان السلام سائدا؟
إن مصر تريد السلم والصداقة، ولا تريد الحرب والفتنة والعداء، ولئن كانت بريطانيا العظمى بادئة بمد هذه اليد فهو أعظم، فإن لبت نداء مصر وأصغت إلى صوتها بدون غضب، ولا سخط، ولا شماتة لخصوم الطرفين، الذين لا يلبثون أن يظهروا في الميدان كما تظهر الخفافيش في الظلام، فخير لنا.
إن سياسة بريطانيا كما دلت عليها جهود سير صمويل هور ومستر أنتوني إيدن في جنيف سياسة حكمة وتدبر وإنصاف، وقد بح صوتهما على منابر العصبة في الدفاع عن حقوق الضعفاء، ونصرة المظلومين، فهل لبريطانيا وشعب بريطانيا أن يصغوا أيضا إلى صوت مصر وقد بادرت إلى تنفيذ العقوبات، وشكرتها عصبة الأمم شكرا رسميا،
1
وقد ضحت مصر بما تستطيع بذله من مال ومعونة في الأرض والبحر والهواء؟ وسوف تضحي بأكثر من ذلك.
إن مصر لا تريد أن تنتهز فرصة سانحة إذا كان في انتهاز هذه الفرصة ما يغضب أصدقاءها، ولكن العدل والحق والعرف وحسن الذوق (وقد اشتهرت إنجلترا بكل هذه) تقضي جميعها أن يقدر هؤلاء الأصدقاء هذا «الموقف المصري المشرف». وفي الحق أن عملا كهذا الذي نؤمله من جانب إنجلترا يعلي شأنها في العالم كله، ويكون بمثابة ضمان للسلم والطمأنينة، وله قيمته في السياسة الدولية، وفي التاريخ الإنساني.
إن مصر لا تريد أن تبرق أو ترعد، ولكنها تريد إقرار الحق، ووضع الأمور في مواضعها في هدوء وسكينة، ولا لوم عليها ما دامت أمم العالم وفي مقدمتها بريطانيا العظمى تريد أن تضع الندى في موضع السيف، وأن ترفع صوت الحق فوق صوت المدافع، وتعلي «همسة العدالة» على أزيز الطائرات.
وفي نظرنا أن مصر التي تريد أن تتحد لتقابل الحوادث بصدر رحب، ووجه سمح، وفم باسم ، سوف تكون في صداقتها أنفع وأجدى وأغلى وأعلى، وأرفع منها غاضبة أو مكشرة عن أنيابها، وقد عرفت قيمة الصبر على الشدائد، وحاشا أن تتقدم مصر في «موقفها المشرف» بغضب أو فتنة، أو تحاول الظهور بغير مظهر الود والمحبة.
وإن مصر قد عرفت بالتجربة والاختبار أن ميدان السلم أوسع من ميدان الحرب وأفسح، وإنجلترا علمت العالم أن الأكاليل التي تنال بعد النصر الأدبي أسمى وأشرف وأثمن مما ينال بالنصر الحربي، وإنجلترا تعلم أن هذه الرغبة تتردد في نفوس المصريين جميعا لا يشذ منهم حاكم ولا محكوم.
ومصر تنتظر بفارغ الصبر أن تسمع كلمة بريطانيا، لا في إذلالها وإخضاعها، ولكن لمناصرتها والأخذ بيدها. ومصر لا تطلب هذا خوفا ولا جبنا، ولكنها تطلبه نتيجة للتعقل والتبصر. لقد قيل - إن صدقا وإن كذبا - إن إنجلترا تعتبر انتهاز هذه الفرصة فاجعة عظمى، ولكن هذا يصح إن كانت مصر تبطن غير ما تظهر.
والحقيقة أن مصر مخلصة في حسن نيتها، طاهرة اليد والذيل من الغدر وتبييت الشر، بعيدة البعد كله عن إرادة السوء، وما على بريطانيا إلا أن تبر بعهدها، وتفي بوعدها الشريف، وتتمم تصريح 28 نوفمبر راغبة مختارة، لا مرهقة ولا مرغمة، وحينئذ تعتز إنجلترا بعملها، وبحليفتها القديمة الحديثة، وصديقتها المخلصة مصر!
ليس لمصر مطالب بالمعنى الذي يسبق إلى الذهن السياسي، ولكنها تريد متممات لحياتها الدولية. تلك المتممات التي توثق علاقتها بالدول، وتقوي ما بينها وبين بريطانيا من الروابط دون أن تمس مصالح الإمبراطورية بسوء. ومصر تعلم حق العلم أنها لا تستطيع ذلك، وهي لا ترغب فيه.
وقد رأت بريطانيا ورأت مصر أن هذه المملكة الوسط بين القارات الثلاث لا بد أن تكون ميدانا ذا شأن في كل حرب تقع بين دول أوروبا، وقد قال عنها بونابرت: «مصر أهم مملكة في العالم.» لهذا السبب. ولما كان سلطان القانون الدولي آخذا في النمو والتجلي، فمصر تود أن تتقي أخطار المستقبل بانضمامها إلى عصبة الأمم.
هذه رغبة الأمة المصرية قد أفرغناها في أصدق قالب، وشرحناها بأوجز أسلوب، وقديما قالوا: خير القول ما قل ودل، وخير البر عاجله، وحديثا قالوا: إن سوء التفاهم وخيم العواقب؛ لأنه مجلبة لسوء الظن.
لقد كان المعروف وصنع الجميل منجاة لصاحبهما بين الأفراد، وها هي إنجلترا تود أن تجعل المعروف وصنع الجميل قانونا عمليا بين الأمم. تريد بريطانيا أن تغمد سيفها لتعمل بالحسنى، فهل تقصر الحسنى على من تشاء، وتسل السيف في وجه من يخطب ودها، ويرعى عهودها، ويناصرها في أحرج الأوقات؟
الكلمة الآن لبريطانيا العظمى!
ملحقات الكتاب
(1)
الآيات القرآنية التي لها علاقة بالملك سليمان، وبلقيس ملكة سبأ. (2)
نص المادة 15 من ميثاق عصبة الأمم. (3)
جهاد هنري باربوس في سبيل الحبشة قبيل وفاته. (4)
مراجع الكتاب.
الآيات القرآنية التي لها علاقة بالملك سليمان وبلقيس ملكة سبأ
من سورة النمل (1)
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين . (2)
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين . (3)
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين . (4)
إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم . (5)
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون . (6)
ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون . (7)
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم . (8)
قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين . (9)
اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون . (10)
قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم . (11)
إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . (12)
ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين . (13)
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . (14)
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين . (15)
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . (16)
وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
نص المادة 15 من ميثاق عصبة الأمم
تنص المادة 15 من ميثاق عصبة الأمم التي دار بحث مجلس عصبة الأمم حولها في اجتماعاته الأخيرة، في الفقرة الأولى على أنه: إذا ما قام خلاف بين اثنين من أعضاء عصبة الأمم، وكان من المحتمل أن ينشأ عنه قطع العلاقات بينهما، وكان هذا النزاع مما لا يخضع لإجراءات التحكيم أو أي تسوية قضائية مما تنص عليه المادة 13 من الميثاق، يتفق أعضاء العصبة على رفع النزاع إلى مجلس العصبة، ويكفي لهذه الغاية أن يخطر أي الطرفين بهذا النزاع سكرتير العصبة العام الذي يتخذ كل الترتيبات اللازمة لعمل تحقيق كامل.
وتنص الفقرة الثانية على أنه: يجب على طرفي النزاع أن يبلغا السكرتير العام في أقرب أجل ممكن وجهة نظرهما مؤيدة بالمستندات، ولمجلس العصبة أن يأمر بنشرها توا.
وتقول الفقرة الثالثة: يعمل مجلس العصبة للوصول إلى تسوية، فإذا نجح ينشر على الشكل الذي يراه مناسبا ملخصا للوقائع، ومغزاها، ونص التسوية.
وتقول الفقرة الرابعة: فإذا لم تنجح مساعي التوفيق ينشر المجلس تقريرا وافق عليه الأعضاء بالإجماع، أو بغالبية الأصوات؛ لتعرف ظروف النزاع والتسوية التي يوصي بها المجلس، والتي يراها أعدل وأكثر ملاءمة في الموضوع.
وتقول الفقرة الخامسة: لكل عضو من أعضاء العصبة الممثلين في المجلس أن ينشر ملخصا لوقائع النزاع، ورأيه فيه.
وتنص الفقرة السادسة على أنه: إذا ما وافق المجلس على التقرير بالإجماع مع استبعاد أصوات طرفي النزاع، يتعهد أعضاء العصبة بأن لا يلجئوا إلى الحرب ضد أي طرف يتنزل على نصوص الاتفاق.
وتنص الفقرة السابعة على أنه: إذا ما عجز المجلس عن الحصول على موافقة أعضائه من غير طرفي النزاع؛ فإن أعضاء العصبة يحتفظون بحقهم في التصرف طبقا لما يرونه ضروريا لصيانة الحق والعدل.
وتقول الفقرة الثامنة: إذا ما ادعى أحد طرفي النزاع أن هذا النزاع تبادل مسألة ينص القانون الدولي على أنها من اختصاص هذا الطرف المطلق، وأقر مجلس العصبة هذا الطرف على رأيه، يسجل المجلس هذه الحقيقة في تقرير لا يضمنه أي توصية بحل.
وتقول الفقرة التاسعة: لمجلس العصبة في كل الأحوال الواردة في هذه المادة أن يحيل النزاع على الجمعية العمومية لعصبة الأمم، كما أن لكل من طرفي النزاع أن يرفعه إلى الجمعية العمومية فتصبح مختصة في البت فيه، على أنه يجب أن يقدم هذا الطلب في ظرف أسبوعين من تاريخ عرض النزاع على مجلس العصبة.
وتقول الفقرة العاشرة: في كل القضايا التي ترفع للجمعية العمومية لعصبة الأمم يطبق نص المادة 12 من الميثاق، ونص هذه المادة: «وتسري كل الإجراءات التي تتبع أمام مجلس العصبة، ومن المسلم به أن لكل تقرير تضعه الجمعية العمومية بموافقة ممثلي الدول المشتركة في عصبة الأمم الممثلة في المجلس، كل النتائج والآثار التي تكون لتقرير يصادق عليه مجلس العصبة بإجماع آراء أعضائه مع استبعاد طرفي النزاع.»
جهاد هنري باربوس لنصرة الحق في سبيل الحبشة قبيل وفاته
لا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بطلا مجاهدا، وهاديا إنسانيا جليلا، وهو المأسوف عليه هنري باربوس، الكاتب الفرنسي العظيم، الذي قضى نحبه في سبتمبر من هذا العام وهو يلهج بذكر الحبشة، وضرورة مناصرتها، والذود عنها، فكان له الفضل الأول في لفت أنظار العالم وعصبة الأمم إلى المشكلة الحبشية.
وقد قدم بنفسه للعصبة عريضة شرح فيها وجهة نظره، ونظر أصحابه وأتباعه. وقد قدم هذه العريضة إلى العصبة بنفسه في مايو سنة 1935 قبل وفاته بثلاثة أشهر؛ بوصفه مندوب اللجنة العالمية لمكافحة الحرب والفاشيزم، ونشرها قبل اجتماع العصبة في 4 سبتمبر.
وقد جاء في هذه العريضة أن استقلال الحبشة في خطر من دولة أوربية قوية لم تتورع عن مهاجمة شعب ضعيف مع أن كليهما عضو في عصبة الأمم، ولكن هذا الشعب الضعيف يضحي بوجوده في سبيل حريته واستقلاله المضمون بمعاهدتي 1906 و1915، وبدخوله في عصبة الأمم في 28 سبتمبر سنة 1923.
وقد قدمت الحبشة الدليل على حبها للسلم في التقرير الذي كتبه الكولونيل كليفورد، وأعضاء اللجنة البريطانية لتعيين الحدود المؤرخ 20 مارس سنة 1935 إلى العصبة، الذي قالت فيه: «إنها لا تملك قوة حربية تعادل قوة جارتها القوية، فتلجأ للعصبة لتحمي حريتها وأرضها، وإنها تخشى عواقب الاستعداد الحربي الإيطالي القائم على قدم وساق.» وقد طلب هنري باربوس أن تفحص العصبة النزاع في صراحة وعلنية في جلسة 20 مايو سنة 1935، وأن تكلف إيطاليا سحب جنودها من موضع الخلاف، وأن تقرر تسوية المسألة بالمودة والمسالمة، وأن ينشر قلم كتاب العصبة كل ما دار من المخاطبات والمراسلات بخصوصها.
وكان آخر أعمال باربوس دعوته لمؤتمر دولي غايته حماية نصوص القانون الدولي ونظمه، وحماية الشعب الحبشي، والدفاع عن السلم العام في أنحاء العالم.
مراجع هذا الكتاب (1)
سياحة جيرفيه كورتلمون
C. Courtellemont . (2)
مع غوردون في السودان
W. S. Blunt . (3)
تاريخ الاستعمار الأوروبي
. (4)
مركز مصر الدولي
J. Cocherie . (5)
أعلام المقتطف لفؤاد صروف. (6)
السيرة النبوية لابن هشام، ومرغليوث، والدكتور هيكل. (7)
الأغاني للأصبهاني. (8)
تاريخ عمرو بن العاص للأستاذ حسن إبراهيم. (9)
تاريخ إسماعيل باشا للأيوبي. (10)
دائرة المعارف البريطانية. (11)
تاريخ العالم لفريق من العلماء بإشراف ه. ج. ولز. (12)
مصر المسلمة، والحبشة المسيحية، تأليف كولونيل داي الأمريكي. (13)
مصر الحديثة، تأليف دي جورفيل، نسخة إنجليزية. (14)
عصبة الأمم ومحاكم العدل للأساتذة
J. Scelle
و
Morellet . (15)
الانتقام لمدام جوليت آدم. (16)
انحلال الدولة الرومانية وسقوطها لجيبون. (17)
واجبات الإنسان لجوزيبي متزيني. (18)
رحلة شفيق باشا المؤيد إلى الحبشة في سنة 1896. (19)
مجلة
Europe
وكورترلي رفيو، ومجلة مركوردي فرانس، وجريدة
monde
وجريدة
Lu ، وتاريخ حياة هنري باربوس، والطان، وجورنالي دي إيطاليا وغيرها. (20)
عصبة الأمم ل
Openheim .
نامعلوم صفحہ