بين دین اور علم
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
اصناف
وعلى هذا ترى أن أعظم الحقائق العلمية شأنا - بل أكبر ما كشف العقل الإنساني من نظام الطبيعة خطرا وجلالا - تلك الحقيقة العظمى التي تسمو بالدين بقدر ما تسمو بالعلم، لم تخترق طريقها إلى عالم المعرفة الإنسانية إلا متسللة خفية، دابة دبيب الزواحف بين عقبات من العقائد الزائفة وأشواك من التقاليد.
في الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1543، وصلت أول نسخة من الكتاب مطبوعا إلى حيث كان يقيم «كوبرنيكوس»، ولما أن وضعت النسخة بين يديه كان الجهبذ الكبير محتضرا على فراش الموت. وبعد بضع ساعات كان بعيدا عن هذا العالم، بل بعيدا عن أن تصل إليه أيدي أولئك الأنقياء الذين ربما كانوا قد هدموا مجده هدما، وأذاقوه الموت ألوانا، لو لم تعجل به إلى العالم الثاني خطاه.
غير أنه لم يكن بعيدا عن أن تناله الأيدي الفاجرة بإثمها؛ فإن الموت نفسه لم يكف لأن يكون حجابا يحجب عنه الأذى والكفران. والظاهر أنهم خافوا أن ينزلوا العقاب المادي بالجثة الهامدة، فاكتفوا بأنه لا يذكر على شاهد قبره شيئا عن جهوده العظيمة التي بذلها في حياته، ولا أن يشار بحرف واحد إلى استكشافه العظيم، وأن ينحت على قبره دعاء قال فيه واضعه: «اللهم إني لا أسألك غفرانا كما غفرت لبولص، ولا إحسانا كما أحسنت إلى بطرس، ولكن أسألك أن تنعم علي كما أنعمت على اللص وهو معلق فوق صليب الإعدام.» ومضى على ذلك ثلاثون عاما، تجرأ بعدها صديق من أصدقائه، أن يحفر على قبره تذكارا يشير إلى استكشافه العظيم.
إن المقدمة التي وضعها «أوسياندر» والتي ادعى فيها أن «كوبرنيكوس» قد أذاع ما أذاع على أنه نظرية تخيلية - لا على أنه حقيقة يؤمن بها - قد أدت إلى كل ما خيل إليه أنها سوف تؤدي إليه؛ فقد قطع رءوس الكنيسة من الزمان حقبة لا يقل مداها عن السبعين عاما وهم يفضلون أن لا يثيروا من حول الكتاب عجاجة؛ حتى لقد استطاع أساتذة من أمثال «كالجانيني»
Calganini
أن يلقنوا المذهب الجديد على أنه نظرية فرضية. وعلى الرغم من أن اللغط كان كثيرا ما يرتفع من حول هذا الاستكشاف في الدوائر اللاهوتية بين حين وحين، فإن الرجل لم ينفجر إلا في حدود سنة 1616؛ ذلك لأن المذهب كان قد تركز في عقل «غاليليو» العظيم، فاعقتد أنه حق وأن لا حق غيره، وأخذ يذيعه ويدفع عنه، بل مضى يبرهن على أنه حق مستعينا بالتلسكوب، فصادرت الكنيسة الرومانية الكتاب، على اعتبار أن كل ما قرره كوبرنيكوس في كتابه لا ينال رضاها، أو يصحح بما يوافق مشتهياتها. ولم يكن ذلك التصحيح عندهم إلا الرجوع عن الحق الثابت إلى تلك الخيالات الوهمية التي كانت تدعى ظلما بنظرية «بطليموس».
ولا ينقصك على أنهم لم يقصدوا بالتصحيح سوى هذا النكوص من دليل؛ فلديك الأدلة ناطقة فيما أتوا من فعل في ذلك العام الذي منع فيه «غاليليو» عن أن يلقن علم الفلك أو يناقش فيه مستعينا بقواعد «كوبرنيكوس»، وعندما حظروا ذيوع كل كتاب يبشر بدوران الأرض. وعلى هذا أصبحت قراءة كتاب «كوبرنيكوس» إثما لا يوازيه من عقاب سوى اللعنة الأبدية، وقبل الناس أن يمضوا لهذا القرار خاضعين مهطعين مقنعي رءوسهم.
لهذا خضعت أكبر العقول وأرشد الأحلام؛ فإنهم وإن لم تطاوعهم موحيات عقولهم على أن يؤمنوا بالنظام القديم، فلا أقل من أن يتظاهروا بأنهم به مؤمنون. ولقد حدث هذا حتى بعد أن فتح الطواف طول الأرض للعيون منفذا تنفذ منه إلى الحق، وفرجة ترى منها سبيل الرشاد، ومهما يكن من أمر فإن مثل المبشر اليسوعي «يوسف أكوستا»
Joseph Acosta
لمثل رائع؛ فإن كتابه «تاريخ جزر الهند طبيعيا وأدبيا» الذي نشر في الربع الأخير من القرن السادس عشر، قد هدم كثيرا من القواعد التي كان يرتكز عليها عديد وافر من الأخطاء الفلكية والجغرافية. ففي ذلك الزمان الذي قنع فيه العقل بالنقل، ومضى مثبتا للتقاليد؛ أوحى ذلك المبشر لأهل الأرض بحقائق من العلم أمعن في التبشير بها إلى أبعد حد ذهبت إليه شجاعته، وانتهت بسالته، غير أنه ارتد إزاء حركة الأجرام السماوية محافظا محضا؛ إذ أعلن في غير رهبة ولا خجل أنه «رأى بعيني رأسه القطبين اللذين تدور عليهما السماوات كما تدور الرحى على قطبيها.»
نامعلوم صفحہ