عصری بلاغت اور عربی زبان
البلاغة العصرية واللغة العربية
اصناف
وقد كنت أقرأ كتابا بعنوان «صائدو الرءوس» لمؤلفه «ألفريد هادون» والكتاب يصف قبائل من المتوحشين في غينيا الجديدة ينتظم مجتمعهم على مراتب من الشرف والمروءة والشهامة تحتاج لبلوغها إلى أن يصيد الإنسان إنسانا آخر ويقطع رأسه، وعلى قدر ما يعلق من رءوس في كوخه يكون شرفه وشهامته ومروءته!
وأعظم ما لفتني في هذا البحث أن هناك عند هذه القبائل كلمات تحمل دلالات الشرف، والشهامة والمروءة، وتتصل بالقتل وفصل الرأس من البدن وتعليقه للفخر.
وهؤلاء المساكين ينشئون على هذه الكلمات، ويفكرون وفق الصور التي ترسمها لهم، ثم ينفعلون بالشرف، والشهامة، والمروءة، فيغتالون خصومهم أو غير خصومهم كما يفعل الشاب الريفي عندنا في جرجا وقنا، وأسيوط عندما يذكر كلمات الدم والانتقام والثأر؛ فيقتل ويظن أنه شهم شريف.
وعلى قدر كلمات الفضائل في لغتنا نكون فضلاء.
وعلى قدر كلمات الرذائل في لغتنا نكون أرذالا.
وعلى قدر المنطق في كلماتنا نكون منطقيين في سلوكنا.
وعلى قدر الخبال في كلماتنا نكون مخبولين في سلوكنا.
وأحب أن أكرر أن الكلمات أفكار، وأننا لا نستطيع أن نفكر بلا كلمات أو ما يقوم مقامها من إيماءات باليد أو بالعين أو نحو ذلك، وهناك حقيقتان سيكولوجيتان الأولى هي قوة الكلمة المتكررة في الإيحاء، فإننا نستطيع أن نحدث إيحاء لشخص آخر أو لأنفسنا؛ بكلمة مكررة تحمل معنى أو توجيها، وهذا هو التنويم النفسي الذي يحمل النائم على أن يسلك سلوكا معينا، فإذا تكررت كلمات الدم والثأر والانتقام؛ أحدثت الإيحاء ثم الإجرام، ومعظم سلوكنا - بل ربما كله - يعود إلى الكلمات التي تعودناها منذ الطفولة.
والحقيقة الثانية: أن الكلمة المنيرة؛ أي التي تنير العقل بالمنطق، أو القلب بالبر والشرف والمروءة، هذه الكلمة تمسح عن العقل النائم المضطرب غشاوة؛ ولذلك نحن نطلب من المريض أن يشرح بالكلمات تاريخ مرضه، ويحاول تعليله وكثيرا ما يشفى بمحض القوة المنيرة الإنسانية التي في الكلمات التي يستعملها؛ لأنه باستعمالها قد حدد مرضه وعين أماراته وأسبابه.
وكثيرا ما ألاحظ أن شيخوخة العقل تبدو مبكرة عند المسنين من الأميين، ولكنها تتأخر - أو لا تبدو بتاتا - عند المتعلمين المثقفين؛ وعلة ذلك تتضح مما شرحنا هنا، وهو أن الأفكار كلمات وما دام المسن يعرف الكلمات فإن عقله يحتشد بالأفكار، فلا يكون هناك مجال للخلط أو الخوف أو النسيان.
نامعلوم صفحہ