الإهداء
مقدمة
تمهيد
1 - اللغة والتطور البشري
2 - حين تربي الذئبة الإنسان
3 - الأنثربولوجية واللغة العربية
4 - اللغة والسيكلوجية
5 - البيئة واللغة
6 - اللغة والمجتمع
7 - الأحافير اللغوية
8 - ضرر اللغة
9 - ضرر اللغة أيضا
10 - اللغة والجنون والإجرام
11 - الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية
12 - إحدى الكلمات
13 - اللغة القديمة واللغة العصرية
14 - المجتمع العربي القديم
15 - الكلاسية داء الأدب العربي
16 - الإيحاء الاجتماعي للكلمة
17 - الأقوال أفعال
18 - الذكاء واللغة
19 - كلمات تبني الأخلاق
20 - الكلمة شعار
21 - فن البلاغة
22 - اللغة العصرية
23 - كلمات كوكبية
24 - القدرة على اصطناع الكلمات الأجنبية
25 - أوجدين والإنجليزية الأساسية
26 - التفسير الاقتصادي للغة والأدب العربيين
27 - اللغة العربية في مدارسنا
28 - الخط اللاتيني
29 - التيسير، التيسير
30 - ثقافة إقطاعية وأدب إقطاعي
31 - حاجتنا الحتمية إلى الحروف اللاتينية
32 - المؤلفون المصريون يؤلفون بالإنجليزية
33 - الكلمات اللاتينية والإغريقية في لغتنا
34 - نحو التوحيد
35 - تلخيص
الإهداء
مقدمة
تمهيد
1 - اللغة والتطور البشري
2 - حين تربي الذئبة الإنسان
3 - الأنثربولوجية واللغة العربية
4 - اللغة والسيكلوجية
5 - البيئة واللغة
6 - اللغة والمجتمع
7 - الأحافير اللغوية
8 - ضرر اللغة
9 - ضرر اللغة أيضا
10 - اللغة والجنون والإجرام
11 - الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية
12 - إحدى الكلمات
13 - اللغة القديمة واللغة العصرية
14 - المجتمع العربي القديم
15 - الكلاسية داء الأدب العربي
16 - الإيحاء الاجتماعي للكلمة
17 - الأقوال أفعال
18 - الذكاء واللغة
19 - كلمات تبني الأخلاق
20 - الكلمة شعار
21 - فن البلاغة
22 - اللغة العصرية
23 - كلمات كوكبية
24 - القدرة على اصطناع الكلمات الأجنبية
25 - أوجدين والإنجليزية الأساسية
26 - التفسير الاقتصادي للغة والأدب العربيين
27 - اللغة العربية في مدارسنا
28 - الخط اللاتيني
29 - التيسير، التيسير
30 - ثقافة إقطاعية وأدب إقطاعي
31 - حاجتنا الحتمية إلى الحروف اللاتينية
32 - المؤلفون المصريون يؤلفون بالإنجليزية
33 - الكلمات اللاتينية والإغريقية في لغتنا
34 - نحو التوحيد
35 - تلخيص
البلاغة العصرية واللغة العربية
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف
سلامة موسى
الإهداء
إلى الأستاذ أحمد أمين
أهدي هذا الكتاب إليك لأنك أنت الذي أوحيت إلي من حيث لا تدري بتأليفه.
مقدمة
كلنا نكتب الآن عن اللغة، وكلنا نشعر بخطورة هذا الموضوع؛ لأننا انتهينا بما نعرفه من اللغات الأوروبية، إلا أن تأخرنا اللغوي في مصر هو سبب من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي، وقد كان الثقاب الذي أشعل هذا الموضوع في وجداني، وبعثني على تأليف هذا الكتاب؛ مقالا نشره الأستاذ (أحمد أمين) في مجلة الثقافة، أوضح فيه أن معاني الكلمات تتغير حين يتغير الزمان والمكان؛ أي حين يتغير المجتمع الذي تستعمل فيه الكلمات، ويمكن للقارئ أن يعيد هذا الكتاب شرحا وتعليقا، وتوسعا في معاني هذا المقال.
واللغة المثلى هي: التي لا تلتبس كلماتها، ولا تنساح معانيها، ولا تتشابه عن بعد أو قرب؛ بل هي التي تؤدي المعاني في فروق واضحة كالفروق بين رقمي 5 و6. ثم هي اللغة الثرية الخصبة، التي يحتاج إليها المتمدنون؛ بل هي التي تتسع أيضا لاختراع الكلمات الجديدة، التي تتطلبها الحاجات النامية المتزايدة لهؤلاء المتمدنين.
وفي مصر طبقة من الكتاب حاولت، ولا تزال تحاول، استخدام اللغة العربية وسيلة من الوسائل الأدبية؛ لاسترداد الأمس. بل إن عندنا من اللغويين من يتحدث عن اللغة العربية كما يتحدث المستشرقون الأوروبيون عن اللغة السنسيكريتية، ولكن مع فرق أصيل، فإن هؤلاء لا يحاولون إحياء الميت من الكلمات السنسيكريتية، ولكن أولئك يحاولون هذا الإحياء للكلمات العربية، حين كان يجب عليهم، لو كانوا على وجدان بالعصر الحديث، أن يدفنوها، ومعظم هذه الطبقة يتألف من معلمي اللغة العربية في مدارسنا.
وليس في هذه الدنيا شيء هو أثمن من اللغة الحسنة؛ لأننا نفكر، وننبعث بالكلمات، وسلوكنا في البيت، والشارع، والحقل، والمصنع هو قبل كل شيء سلوك لغوي؛ لأن كلمات اللغة تقرر لنا الأفكار، والانفعالات، وتعين لنا السلوك كما لو كانت أوامر، بل نستطيع أن نقول: إن سيادة البريطانيين على الهنود، أو المتمدنين على المتوحشين، هي إلى حد ما سيادة لغوية؛ أي: مجموعة خصبة وافية من كلمات المعارف، والأخلاق، تحدث براعة في الفن، وتوجيها في السلوك، يؤديان إلى السيادة، وأحيانا إلى العدوان.
وحين تحرم لغتنا من كلمات الثقافية العصرية، تحرم أيضا الأمة المعيشة العصرية. فنحن مازلنا نعيش بكلمات الزراعة، ولم نعرف كلمات الصناعة؛ ولذلك فان عقليتنا عقلية قديمة، جامدة، متبلدة، ترجع إلى الماضي حتى إننا نؤلف في ترجمة معاوية بن أبي سفيان في الوقت الذي كان يجب أن نؤلف فيه عن هنري فورد، عبرة الصناعة في عصرنا، أو عن الذرة وعبرتها للمستقبل.
والدعوة إلى لغة عصرية هي في صميمها دعوة إلى المعيشة العصرية؛ لأن الكاتب، حين يستبيح اعتناق الكلمات العلمية كما هي بلا ترجمة، إنما هو في الواقع يستبيح حضارة العلم، والمنطق، والرقي، الصناعي، بدلا من حضارة الآداب، والعقائد، والزراعة.
وواضح أن اللغة هي: ثمرة المجتمع الذي يتكلم أفراده بها، ولكن المجتمع أيضا هو ثمرة اللغة التي تعين لأفراده بكلماتها سلوكهم الذهني، والعاطفي. وقد ألتفت إلى عبارة قالها الأستاذ (عباس محمود العقاد) بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون - على غير ما يحب - إلى اللغة العامية. وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد، أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي: أن الاشتراكيين شعبيون، يمتازون بالروح الشعبي، ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضا مستقبليون، وليسوا سلفيين؛ ولذلك يحملهم احترامهم للشعب على إيثار لغته الحاضرة على لغة السلف، وفي حين هو سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيدا في هذه السلفية؛ لأني أعتقد أن 90 بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون، وهذه السلفية هي نتيجة لحرمان الأمة من الرقي الصناعي، وقصرها على الزراعة. وعرقلة، بل عرقبة، كل تقدم صناعي حاولته الأمة في السنيين الستين الأخيرة؛ لأن المجتمع الصناعي كان جديرا بأن يحدث مجتمعا مستقبليا، يكتب مؤلفوه بلغة الشعب، وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب، إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية في الأخلاق، والتعليم، والاقتصاد، ومكافحة الفاقة، وإني بالطبع لا أغفل هنا ارتباط اللغة بالتقاليد، والعقائد، وأن هذا الارتباط؛ من أسباب الكراهة للتطور اللغوي، أعني: أن العقلية الكلاسية في اللغة، عقلية التقاليد التليدة، قد أحدثت لنا مزاجا أدبيا اجتماعيا هو: النظر إلى الماضي، ومحاولة استرداد الأمس، والتبلد والتجمد، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن نشق طريقنا إلى المستقبل.
وهذه هي إحدى الغايات التي قصدت من تأليف هذا الكتاب، ولكن هناك غايات أخرى، فإني أردت أن أصل بالقارئ إلى تصور جديد للغة من حيث نشأتها، وتكونها إلى نضجها، وما تحمل من رواسب تاريخية قد تعود علينا بالضرر؛ لأنها كانت تخدم مجتمعا ربما كانت فضائله معدودة بين الجرائم في سلوكنا العصري. كما أني ألتفت إلى الضرر الفادح الذي لحق بتفكيرنا حين نستعمل كلمات ليست محكمة المعنى؛ فلا تنعقد الصلة الحسنة بها بين الكاتب والقارئ، وهذا كثير في لغتنا، وهو عقبة في التفكير العلمي الدقيق، ولم أنس أن أنبه القارئ إلى أن بلاغتنا التقليدية التي تعلم لطلبتنا في المدرسة، والجامعة، هي بلاغة الانفعال، والعاطفة في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تأكيد المنطق، والعقل، كما أني توسعت في شرح المعنى الذاتي، والمعنى الموضوعي للكلمات، وهذا موضوع تخصب فيه الالتباسات، والشبهات في المجادلات السياسية أو العقدية أو الاجتماعية.
وقد مسست بعض الإصلاحات المقترحة مثل: إلغاء الإعراب، واتخاذ الخط اللاتيني. وأكثرت من المقارنات بين لغتنا واللغة الإنجليزية؛ لكي أبرز للقارئ عيوب لغتنا وإرهاقها للمتعلمين بقواعد وتقاليد لم تعد لها فائدة، وبديهي أنه لو تفشى النظام الصناعي في مصر؛ لاستتبع ثقافة علمية وأدبا مستقبليا، وعندئذ يأخذ «التميع» في اللغة مكان «التجمد»؛ لأن جميع الظواهر الاجتماعية تنهض على أساس من النظام الاقتصادي، واللغة إحدى هذه الظواهر.
ونحن بالطبع آخذون في تعميم الصناعة في بلادنا، على الرغم من العرقلة، بل العرقبة، التي تلاقيها مصانعنا من أولئك المسيطرين الذين يرون أنه لا يجوز لنا أن نعيش على هذا الكوكب إلا مزارعين، وفلاحين ننتج القطن رخيصا وفيرا ولكن ليس من المعقول أننا الذين تنبهنا وأصبحنا على وجدان بالرقي العصري، نسكت ونقول: دعنا من الكلام في رقي اللغة حتى يعم النظام الصناعي، وهو الكفيل بالتغيير المنشود؛ إذ يجب أن نساعد على هذا الرقي بتجديد اللغة. وحسبنا من هذه المساعدة أن نشخص الداء، ونومئ إلى الدواء، وننبه الغافلين، وننصح للمعاكسين وأعظم هؤلاء المعاكسين هم: الذين تخصصوا في درس اللغة العربية، مثل: خريجي دار العلوم؛ فإن تخصصهم هذا قد حال بينهم وبين دراسات بشرية عديدة؛ فضاقت آفاقهم وصاروا ينظرون إلى لغتنا كما لو كانت إحدى اللغات المتحجرة في المعابد ، لا ينبغي تغيير كلمة أو حتى أسلوب التعبير فيها أو خطها.
زد على هذا أنهم قد أصبحوا طبقة لهم وضع اقتصادي، ووجدان طبقي ينهضان استبقاء اللغة العربية في جمودها الحاضر؛ ولذلك يخشون التغيير، ويرون فيه هجوما على مصالحهم الاقتصادية، ولكن يجب أن نذكر أن مصلحه الأمة يجب أن تعلو على مصالح أية طبقة فيها.
وظني أنه حتى هؤلاء، سيجدون في هذا الكتاب أفقا جديدا يتجه إليه تفكيرهم.
وحسبي من تأليف هذا الكتاب التنبيه، ثم المناقشة، ثم العمل.
س. م
12 مارس 1945
راجعت في مارس من 1953 هذا الكتاب، فزدت فيه فصلا عن «علاقة اللغة بالجريمة والجنون». وأصلحت هنا وهناك بما اقتضته الظروف، كما زدت فيه شروحا وتعليقات.
س. م
تمهيد
أعظم المؤسسات في أية أمة هو لغتها؛ لأنها وسيلة تفكيرها، ومستودع تراثها من القيم الاجتماعية، والعادات الذهنية.
واللغات تتفاوت؛ فهي: مجموعة صغيرة من الكلمات قد لا تزيد على ثلاثمائة كلمة عند إحدى القبائل البدائية، وهي قد تبلغ مائة ألف كلمة عند أمة متمدنة قد ارتفعت فيها الفنون والعلوم.
واللغة الراقية هي: علم، وفن، وفلسفة بمعنى أنه يمكننا أن ننظر إليها النظر العلمي، فنبحث أصولها، ونميز بين معانيها، بل نضع الكلمات الجديدة لتأدية المعنى الجديد، ويمكننا أن ننظر إليها النظر الفني؛ فننشد بالكلمات، والجمل رفاهية ذهنية لا تؤديها الدقة العلمية، وكذلك يمكننا أن ننظر إليها النظر الفلسفي؛ فنضع الكلمات الجديدة، أو نكسب الكلمات القديمة معاني جديدة تؤدي بعد ألفتها في المجتمع إلى حال منشودة من الخير.
وغاية اللغة قبل كل شيء هي الفهم، ولم نصل بعد إلى اللغة المثلى، بل نحن لا نكاد نعرف كيف تكون؛ إذا جعلنا الفهم أول غاياتها، فقد وصلنا في العدد إلى الأرقام الهندية؛ فكانت أعظم خطوة لغوية في الحساب والعلوم، فهل نستطيع يوما أن نصل في سائر الموضوعات إلى لغة تنقل إلينا الفكرة الفنية أو العلمية أو الفلسفية بمثل الدقة والسهولة اللتين ننقل بهما إلى أذهاننا عدد الألف، أو المليون؟
وإلى أن نصل إلى هذه الغاية ستبقى اللغة عاجزة عن التعبير الدقيق؛ إذ يجب أن نذكر من الآن أننا لا نعرف الدقة التامة في أي علم من العلوم؛ إلا إذا استطعنا أن ننزل بحقائقه إلى الأرقام، ولذلك لا مفر من أن نقول: إن الرقي في اللغة يعني الدقة، وهو يقاس بها، فما دامت الكلمة مسيبة في المعنى، تحتمل هذا المعنى ونصفه، فضلا عن معنيين مشتبهين؛ فإنها تضر التفكير كالآلة التي لم يحكم بناؤها؛ فلا يمكن التكهن بمنتجاتها.
والإنسان حيوان لغوي يرى ويسمع، ويفكر باللغة، ولكل كلمة إيحاء معين في أذهاننا ففي مصر نقول: «وزير» وفي الولايات المتحدة الأمريكية يقولون: «سكرتير»، والعمل الذي يؤديه الوزير، والسكرتير واحدا، ولكن إيحاء الكلمة الأولى أرستقراطي، وإيحاء الكلمة الثانية ديمقراطي، ولهذا أثره البالغ في الشعب الذي يلوك إحدى الكلمتين، كما له أيضا أثره البالغ في نفس الموظف الذي يصف نفسه بأنه سكرتير أو وزير، فهو متواضع في الحال الأولى، منتفخ في الحالة الثانية.
وللكلمات توجيه اجتماعي بعيد الأثر في المجتمع فإن كلمة «البر» من أشرف الكلمات الموحية التي تربي الأبناء، وتبعث على التعاون، والإخاء في حين أن كلمة «الدم» تحدث في كل عام في بعض مديريات الوجه القبلي نحو ثلاثمائة قتيل؛ لأنها تحمل شحنة عاطفية تجعل كثيرا من الرجال يقتلون بلا روية.
والكاتب المتنبه الذي يحس الوجدان الاجتماعي يجب أن يؤكد المعاني البارة للأمة، وأن يضع الكلمات الجديدة؛ كي توجه التوجيه الفلسفي أو الاجتماعي وبذلك تنمو اللغة وتتطور ولا تركد.
واللغة في تفاعل لا ينقطع مع المجتمع الذي ينطق أفراده بها. والقيم اللغوية في تغير دائم لهذا السبب، والمحاولة لوقف هذا التغير، هي تعطيل للتطور الذهني للأمة.
ومن الغايات الشريفة لكل لغة: الاقتصاد في التعبير فاللغة الحسنة تتوخى المترادفات؛ لأنها ثرثرة صبيانية يضيع بها الوقت، والكاتب الذكي يحيل المترادفات من التوحيد إلى التنويع فنحن نميز الآن بين الذهن والعقل، وبين الروح والنفس، وبين الحكومة والدولة، وبين المثقف والمتعلم، وهذا حسن. كذلك نحن نتبع الأسلوب التلغرافي، ونتخير الكلمة التي تحمل العبرة فضلا عن المعنى .
وهذا الكتاب قد توخيت فيه بحث بعض مشكلاتنا اللغوية مع تعيين الأهداف التي نرمي إليها من اللغة، وأرجو أن أبعث به المناقشة عن القيم اللغوية العربية، ووجوه الإصلاح فيها بالبناء والهدم فنحن أمة متطورة، فيجب أن تكون لنا لغة متطورة، بل لغة متمدنة تتسع للتعبير عن نحو مائة وعشرين علما وفنا لم يكن يعرفها العرب الذين ورثنا عنهم لغتنا، ويجب أن يتغير رأينا في البلاغة عما ألفوه؛ فأنهم كانوا يقصدون منها إلى أنها فن لمخاطبة العواطف، ولكنا يجب أن نزيد على هذه الغاية غاية أخرى، هي أن تكون البلاغة علما يراد به مخاطبة العقل؛ لأننا نعرف أن الحضارة التي نعيش في أحضانها قامت على الأرقام الهندية التي تخاطب العقل في دقة وبساطة أكثر مما قامت على الاستعارات، والمجازات التي تخاطب العاطفة في إغراق ومترادفات.
وكلمات اللغة هي بمثابة النقود التي نتعامل بها، وكثيرا ما يكون فيها النقد الزائف، أو القديم الذي بلي وانمسح منه نقشه، والأمة التي تهمل كلماتها ولا تجددها ولا تسك الكلمات الجديدة؛ هي أخسر من الأمة التي تجيز التداول للنقد الزائف؛ لأننا نشتري بنقود المعدن أو الورق حاجات الجسم ولكنا نشتري بالكلمات حاجات الذهن والروح والأخلاق والرقي.
الفصل الأول
اللغة والتطور البشري
هناك أسباب كثيرة لتطور الإنسان الذي وصل به إلى السيادة على سائر الحيوان؛ فإن ضخامة دماغه قد أعدته للتفكير السديد، ثم قامته المنتصبة قد حررت يديه؛ فجعلته يحمل الآلات، ومن ثم صار تفاعل بين العقل واليد، الأول يتخيل ويخترع، والثانية تتناول وتنفذ. ثم هناك العينان في الوجه، وليس في الصدغين كما في سائر الحيوان، فإنهما تشرفان على مجال فسيح يجمع بين أشياء كثيرة، ويجعل العقل قادرا على المقارنة والتمييز.
ولو كان دماغ الإنسان صغيرا لما قدر على التفكير، ولو كانت يداه على الأرض يمشي بهما لما قدر على تناول الآلات والأشياء؛ ولو كان اعتماده على الشم بدلا من النظر؛ لصغر المجال الذي يشرف منه على الوسط، فما كان عندئذ يجد المادة للتفكير الجامع التعميمي.
فالدماغ واليد والعين كلها تجمعت وتعاونت لرفع الإنسان فوق الحيوان، ولكن هناك عاملا آخر كثيرا ما يهمل هو: «اللغة» فإن الإنسان - قبل كل شيء - حيوان لغوي، وللحيوان صوت ولكن للإنسان لغة، وفرق عظيم بين الاثنين؛ فإن الحيوان عندما يتألم أو يخاف يصرخ، والصراخ هنا ذاتي يعبر عن إحساسه، ولكن الإنسان عندما يصرخ، والصراخ هنا ذاتي يعبر عن إحساسه، ولكن الإنسان عندما يتألم أو يخاف ينادي فهو هنا موضوعي قد نقل إحساسه إلى غيره من زملائه، ومع هذا لا يزال حتى الصراخ غير عام بين الحيوان وقت الخوف أو الألم، فإن السباع وحدها هي التي تصرخ، كما نرى في القطط والكلب والأسد، أما البهائم مثل البقر أو الحمير أو الخراف فلا تصرخ عندما تتألم أو تخاف.
ولكن يجب ألا ننسى إن الصراخ ذاتي، أما النداء فموضوعي، الأول عاطفة كله والثاني عاطفة وعقل. الأول حركة عقيمة لا تتحيز غير مكانها، أما الثاني فدعوة إلى المجتمع.
والحيوان لعجزه عن اختراع اللغة لا يختزن تفكيره ولا ينتفع لهذا السبب بتفكير آبائه أو زملائه، ولكن اللغة عندنا جعلت الزمن تاريخيا والفضاء جغرافيا، فالكلب الذي يعيش في القاهرة يعرف الشارع الذي به منزله وبضعة شوارع أخرى، ولكن الصبي يعرف «جغرافية» القاهرة ومكانها في القطر ومن النيل، بل مكانها على كوكبنا فالفضاء عنده جغرافي بفضل هذه الكلمات: القاهرة، النيل، مصر، البحر المتوسط، أفريقيا، آسيا، إلخ.
وخيال الصبي لهذا السبب يتسع وتفكيره يمهر بهذه الكلمات التي ورثها من المجتمع الذي يعيش فيه، وكذلك الشأن في الزمن، فإن وقت الكلب هو ساعته أو يومه أما نحن فلنا أمس وغد، ولنا سنين ماضية وسنين قادمة ولذلك لنا تاريخ، ولولا الكلمات التي جعلت الزمن تاريخيا، والفضاء جغرافيا لما استطعنا أن نفكر ونختزن اختباراتنا، فضلا عن اختبار معاصرينا وأسلافنا؛ أي لما كان لنا ثقافة، والحيوان ينتفع باختباراته الشخصية التي مرت به في حياته ولكنا نحن، بفضل اللغة، ننتفع باختبارات غيرنا في العصور الماضية والعصر الحاضر.
وتفكيرنا يمتاز عن تفكير الحيوان بالذكاء؛ لسبب عظيم يتصل بالأسباب التي سبق فذكرناها، نعني أننا نفكر بالكلمات، وصحيح أننا نستطيع التفكير الساذج البدائي بلا كلمات، كما يحدث في الأحلام، ولكن التفكير الذي تتداخل فيه العوامل وتنبسط ساحته؛ يحتاج إلى كلمات، ويكاد يكون من المستحيل أن نفكر بذكاء أو منطق في أي موضوع بلا كلمات.
وليس بعيدا أن يكون التفكير في صميمه كلمات غير منطوقة، كما يقول «واطسون»، واعتقادي أننا ننسى اختباراتنا في السنتين الأوليين من أعمارنا؛ لأننا لم نربط هذه الاختبارات بكلمات تجعل التفكير فيها ممكنا؛ لأنها لم تنقش في الذاكرة بكلمات.
وكثير من التفكير الحسن - بل أحيانا من العبقرية - يعود إلى أن اللغة التي نستعمل كلماتها قد بلغت من الرقي درجة عالية؛ لأن الكلمات في هذه اللغة تحمل المعاني الأنيقة الدقيقة التي لا توجد في كلمات لغة أخرى مختلفة من لغات أفريقيا السوداء. فلو أن «جيته» ولد في قبيلة أفريقية؛ لما استطاع أن ينتج الثمرات الزكية التي نقطفها من مؤلفاته؛ لأن اللغة القبلية لم تكن عندئذ لتسعفه بالكلمات التي تؤدي معانيه، بل كانت تبقى هذه المعاني أجنة، تؤلمه بالمخاض ولا تجد المخرج من ذهنه، أو تخرج جهيضة.
ولكي نفكر التفكير الحسن، نحتاج إلى اللغة الحسنة؛ نعني: اللغة الدقيقة التي تؤدي معنى معينا، ولا تتجاوزه إلى هوامش المعنى، وكذلك يجب أن تكون أنيقة، لا تستطيع وصف الألوان الأصيلة كالأبيض والأسود فقط، بل تستطيع أن تنقل إلينا الظلال والأصباغ التي بينهما فليس من البلاغة أن نقول: إن الأخضر يطلق على الأسود، كما تقول معاجمنا، بل يجب أن نميز لونا من آخر تمييزا صارما، وكذلك يجب أن نضع الكلمات التي تعين الألوان الخفية بينهما، ويجب أن تكون لنا بلاغة عصرية لا تقتصر على مخاطبة العواطف بل تخاطب العقل، ويجب أن تكون غايتها الأولى الفهم، وما دام الأمر كذلك فإن المنطق هو: الأساس الأول لأية بلاغة يراد بها التعبير السديد.
ولكي تفهم الفهم الدقيق الأنيق - باعتبارنا متمدنين - يجب ألا نقنع بالمعنى الغامض المسيب، بل يجب أن نعرف الجو السيكلوجي الذي تعيش فيه كلماتنا، وهل هي تؤدي الغاية الأولى من وجودها، وهي: التفكير الحسن؛ أي الفهم، أم لا؟
الفصل الثاني
حين تربي الذئبة الإنسان
كثيرا ما كنا نسمع عن أطفال بشريين يعيشون مع الحيوان، وينشئون النشأة الحيوانية، وكنا نحمل هذه القصص على أنها نوع من الاختراع الذي لا يصدق، ولكن الواقع يثبت أن هناك أطفالا خطفتهم الحيوانات وقامت بتربيتهم؛ فنشأ هؤلاء الأطفال وعاشوا في الغابات.
والذئبة أقرب الحيوانات إلى اتخاذ مهمة الأمومة للطفل البشري؛ وسبب ذلك أنها تغزو القرى والحقول المجاورة، وأكثر ما يكون هذا في الليل، وأقله في النهار؛ فإذا وقعت على طفل في الحقل غفلت عنه أمه؛ حملته كي تأكله فإذا تلمس الطفل حلمات ضرعها ورضع تحرك حنوها؛ فعطفت عليه وأخذت عاطفة الأمومة والرعاية مكان عاطفة الجوع والأكل، وعندئذ ترعاه كأنه ابنها، ويتفق هذا في القليل النادر.
والمعروف أن الرضاع يثير في الأم حنانا لا تحسه قبله، ولذلك يقال: إن المرأة التي تريد أن تتخلص من وليدها عقب الولادة بقتله أو نبذه، إنما تفعل هذا قبل أن ترضعه؛ لأنها تحس حنانا عليه، فإذا أرضعته شق عليها الانفصال عنه وحنت عليه، وهناك حوادث تم تحقيقها، وثبت ثبوتا مؤكدا فيها أن الذئاب خطفت بعض الأطفال؛ فنشئوا في جحورها، وعاشوا مع الذئاب. ويمكن القارئ المطلع أن يقرأ كتاب المستر جيسل عن «طفل الذئاب وطفل الإنسان»
Wolf Child and Human Child; by A. Gesell .
فإن المؤلف كان يعيش في الهند في 1920 فسمع عن صبي بشري، يعوي عند الغسق مع ذئبته ويسلك سلوكها، وكان بالطبع لا يصدق هذه الإشاعة. ولكنه بعد تكرارها عمد إلى بندقيته وتعقب الذئبة إلى الجحر، فقتل الذئبة وقبض على صبيتين كانتا في حجرها، وكان هذا في 17 أكتوبر من 1920، وكتابه هو قصة هاتين الصبيتين ولنترك الصغرى منهما؛ لأنها ماتت بعد سنوات أما الكبرى، فيرجح المؤلف أنها ولدت في 1912 ولا يعرف متى خطفت، وكان المؤلف وزوجته يديران ملجأ، فوضعت الصبية فيه، وكان عمرها وقتئذ ثماني سنوات، فكانت في النهار تنام، أو تقعد ووجهها إلى الحائط فإذا جاء الليل نشطت وصارت تجري على أربع، يديها وركبتيها، وكانت تشرب الماء لعقا بلسانها من الإناء الذي تنحني فوقه، وتلعق منه كالكلب أو الذئب، ولم تكن تخشى الظلام، فإذا كانت ساعة معينة في الليل لا تتغير عوت عواء الذئاب، وإذا اقترب منها أحد؛ كشرت عن أنيابها. وكانت تفتش على الرمم وتأكلها، وكانت تحب جراء الكلاب وأطفال الماعز والقطط والفراخ وتلعب معها جميعا، ولكنها كانت تنفر من الأطفال البشريين.
قلنا إنه قبض عليها في 17 أكتوبر من 1920، ونقول إنها بقيت تمشي على أربع، بل تنهض على أربع إلى 24 مايو من سنة 1922، حين وقفت على قدميها بعد أن أغريت على ذلك.
وفي أغسطس من 1922 وقفت على ركبتيها وأكلت من الطبق بيديها بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة، ولكنها ما زالت إلى هذا التاريخ تلعق الماء.
وفي نوفمبر من 1922 قالت «ما» لرئيسة الملجأ، وقالت أيضا «بهو. بهو» في طلب الماء، أو الطعام، ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمات مع أنها كانت تصرخ وتصيح.
وفي 10 يونيو من 1923 وقفت وحدها على قدميها بلا إغراء.
وفي 9 يناير من 1924 بدأت تخشى الظلام، وكانت أيام توحشها مع الذئبة تخشى النهار، وتختبئ، ثم تنهض في الليل، وتغزو الحقول، والقرى مع أمها الذئبة.
وفي 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية.
وفي 1926 بلغ مجموع الكلمات التي عرفتها ثلاثين كلمة.
وفي 29 يناير من 1926 رفضت أكل الرمم.
وفي 6 ديسمبر من 1926 أبدت حياء، ورفضت الخروج من غرفة النوم بدون ثياب، وكان عمرها وقتئذ من سنة ولادتها 14 سنة، ومن يوم تركها للذئبة 6 سنوات.
وفي 14 يناير من سنة 1927 بلغت كلماتها 45 كلمة.
وفي 15 يوليه من 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحتها.
وفي 14 نوفمبر 1929 ماتت وعمرها نحو 17 سنة. •••
ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة عبرة، بل طائفة من العبر ...
العبرة الأولى:
أن السلوك يستقر في السنوات الأولى من الطفولة، ربما كانت السنوات الأربع أو الخمس أو الست. وأننا بعد ذلك يشق علينا إلى ما يقارب الاستحالة أن نغير هذا السلوك؛ ونعني بالسلوك: الاستجابات العاطفية التي ينشأ عنها تصرفنا.
والعبرة الثانية:
أن ما نسميه طبيعة وغريزة، إنما هو في أحوال كثيرة تعليم وقدوة، حتى المشي ننساه إذا عشنا مع ذئبه، بل يذكر المؤلف أن هذه الفتاة عندما قبض عليها كانت قد برعت في المشي على أربع حتى كانت تسبق المطاردين لها من البشر!
والعبرة الثالثة:
أن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي، والخوف، والأكل، والشرب والغضب ... كل هذا مكتسب بالوسط، وليس وراثيا.
والعبرة الرابعة:
وهذا هو الذي قصدنا من هذا الفصل: أن اللغة هي التي تعين لنا السلوك، والتصرف البشريين؛ فإن هذه الفتاة قبض عليها وهي في الثامنة، فاحتاجت إلى سنتين كي تقول «ما» للرئيسة، ولكي تقول «بهو، بهو» في طلب الطعام والشراب، وبدأ ذكاؤها عندئذ يتفتق، فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك، وهذه التغيرات تدل على حركات ذهنية بين الفتاة، والوسط.
فإذا كان أحدنا يعيش في غابة، أو صحراء منفردا بلا لغة؛ فإن ذهنه لن يتفتق؛ بل يبقى مغلقا مثل هذه الفتاة الهندية من حيث الاعتبارات البشرية، ولم تكن هذه الفتاة جاهلة من حيث الاعتبارات الذئبية، ولكن ذهنها كان عاطلا عندما قبض عليها وعمرها ثماني سنوات وبقي عاطلا، أو كالعاطل، إلى أن ماتت بعد أن بلغت 17 سنة؛ لأنها لم تحصل إلا على 45 كلمة؛ أي مقدار ما يمكن أن يعرفه أبله. فهي من حيث الذكاء الطبيعي ربما لم تكن ناقصة، ولكن من حيث تفتق هذا الذكاء كان النقص واضحا، وأكبر أسبابه أنها كانت خرساء لا تعرف الكلمات البشرية التي تحمل إليها العواطف والأفكار البشرية، ومع أنها قضت في عشرة البشر سبع سنوات، فإن ذهنها لم يتفتق إلى الدرجة التي كان يبلغها الطفل في هذه السن؛ لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه مسحاء تتقبل التعليم الجديد، ولكن هذه المسكينة التقت بالبشر، ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف التي بعثتها فيها عشرة الذئاب، ومن هنا صعوبة تعلمها.
واللغة هي التي تجعل الزمن تاريخيا والفضاء جغرافيا، وهذه الفتاة حرمت اللغة فحرمت بذلك الفهم، وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني حين تعلمت الكلمات، وكانت كل كلمة جديدة تعين لها فكرة جديدة، أو عاطفة جديدة، ثم سلوكا جديدا.
الفصل الثالث
الأنثربولوجية واللغة العربية
كان يمكن أن أستغني عن هذا الفصل في هذا الكتاب، ولكني أعالجه في سرعة وإيجاز؛ كي أجعل القارئ يألف الطريقة ويدخل في المزاج اللذين تتألف منهما اللغات، بل ترتقي.
فإن الكلمات أصوات نشأت بين البرمائيات كالضفدع؛ كي ينادي الذكر الأنثى، وكانت غايتها الأولى لهذا السبب جنسية، بل ما زلنا نرى أن أغاريد الطيور التي ينضع بها الجو في الربيع إنما يقصد بها - في الأغلب - نداء الجنس الآخر للتناسل، والصوت يعبر عن العاطفة؛ ولذلك يجب ألا نستغرب قول «فرويد»: إن الباعث الأول للنشاط البشري هو الشهوة الجنسية، ويجب ألا يصدمنا هذا القول؛ لأن فرويد قد بصر من خلال هذا القول إلى الجذور الأولى التي تختفي في جوف التطور ومهما تنتشر الفروع وتبسق في السماء فإن جذورها لا تزال في الأرض.
ولغتنا العربية مجموعة أو خليط من كلمات الحضارة والبداوة، بل الغابة الأولى حين لم يكن يعرف الإنسان الزراعة، أو الصناعة، انظر مثلا إلى كلمة «كخ» التي تعم جميع البشر في نهي الطفل عن شيء فأنا وأنت، والقردة، والإنجليز، والألمان، والصينيين، والهنود، والإغريق إلخ سواء في هذه الكلمة التليدة.
نشأت لغتنا كما نشأت جميع اللغات في الأوساط البدوية الأولى، وكان استنباط المعاني يجري وفقا للوسط، ونستطيع الآن - بتحليل الكلمات والرجوع إلى أصولها القديمة - أن نعرف العقائد، والقواعد الاجتماعية التي كان يعيش أسلاف العرب فيها. انظر مثلا إلى كلمة «الحياة» فإنها مشتقة من «الحيا»؛ أي عضو التناسل عند المرأة، وما زال الفلاحون عندنا يقولون «حيا البقرة» أو «حيا الفرس» ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف أن علاقة الرجل بالمرأة تؤدي إلى التناسل، فكان يعتقد أن الأم هي الأصل الوحيد للأولاد، بل إنه كان يصنع التماثيل «للحيا» ويحملها، باعتقاد أن الحيا أصل الحياة، وأنه ما دام يحمل تمثاله؛ فإنه سيعيش وينجو من المخاطر، وعلى هذا الاعتقاد بأن الأم هي كل شيء؛ صار النظام الاجتماعي عند الإنسان البدائي أمويا، وهذا واضح عند قدماء العرب، ويتضح أكثر عندما نعرف أصل كلمتي «الضمد» أو «الحماة».
وتطور الناس، وانتقلوا من النظام الأموي إلى النظام الأبوي، ولكن بقيت في لغتنا «الحياة» تدل على أصولنا وجذورنا الاجتماعية.
ثم من «الرحم» اشتق الناس الرحمة؛ أي أن الرحمة كانت في الأصل العلاقة القائمة بين أبناء الرحم، وهذه الكلمة تدلنا على أن النظام الأموي سبق النظام الأبوي، ثم ارتقى الناس؛ فصارت الرحمة فضيلة عامة بين أبناء القبيلة، أو الأمة كما اشتققنا نحن الإخاء البشري من الأخوة بين أبناء العائلة.
وكذلك عرف الإنسان البدائي الروح من الريح والنسمة من النسيم، والنفس من النفس (بفتح الفاء)؛ لأن الفارق الوحيد عنده بين الحياة والموت لم يكن أكثر من التنفس فإذا انقطع كان الموت، ومن هنا نشأت عقيدة الروح، وهذه الكلمات - وكثير غيرها - تكشف لنا اللبنات الأولى التي تكون بها أساس اللغة العربية، ولكل كلمة منها معنى (أنثربولوجي) يوضح لنا نشأة الأفكار والعقائد.
فنحن في عصرنا نميز مثلا بين الأسود والأزرق والأخضر، ولكن معاجمنا لاتزال تحتفظ بالمعنى القديم لهذه الألوان، وهي أنها لون واحد، ويشارك العرب معظم الأمم البدائية في اشتقاق الملاحة، بمعنى الظرف، والصباحة، من الملح؛ لأن الملح كان من الأشياء الثمينة التي لم يكن يحصل عليها غير المترفين.
وأعتبر أيضا اشتقاق المساعدة من الساعد؛ لأن المساعدة تعني أن أحدا يستعمل ذراعه في خدمتنا وأعتبر الأنفة من الأنف، والشمم من الشم؛ لأننا حين نأنف من شيء نرتفع بأنوفنا، أو انظر كيف اشتقت المعاقبة من التعقب؛ لأن الإنسان البدائي كان يعاقب خصمه بأن يتعقبه حتى يجده ويثأر منه، وما زالت معاجمنا تقول: «تعقبه: تتبعه وأخذه بذنب كان منه.» أو انظر إلى كلمة «كف» بمعنى منع؛ فإنها مشتقة من الكف؛ أي باطن اليد؛ لأننا نمنع الناس بأيدينا؛ أي بكفوف أيدينا، والكفيف سمي كذلك؛ لأنه بمثابة من يضع كفه على عينيه.
ثم انظر إلى فعل «أحصى» بمعنى عد؛ فإنه مشتق من الحصى؛ أي صغار الحجر. وذلك لأن الإنسان البدائي كان يجهل العد بالأرقام؛ فكان إذا شاء مثلا أن يعرف ما عنده من خراف؛ وضع في جعبته عن كل خروف حصاة؛ فإذا شاء العد أخرج حصاة عن كل خروف، وحسبه هذا، وقد اشتق الرومان الحساب والعد على هذه الطريقة نفسها - كما نرى في الفعل الإنجليزي «كالكيوليت
Calculate » بمعنى حسب من «كالكيولس
Calculus » بمعنى الحصاة، أو الحجر.
والمشهور أن لغتنا في أصلها ثلاثية الحروف، ولكن الأغلب أنها كانت ثنوية؛ أي: أن كلماتها كانت من حرفين فقط، فها هنا أربع وعشرون كلمة تدل على معان متقاربة، وهي: أن شيئا قد خرج من شيء. وهي: نبأ، نبت، نبث، نبح، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبض، نبط، نبع، نبغ، نتأ، نتح، نثر، نثل، نفث، نفخ، نفذ، نفر، نغض، نفط، نط، نطق.
وهذه الكلمات مترادفة في معنى الشيء يخرج من شيء آخر، ولكن من مصلحة اللغة والفهم، أن نعين لكل منها معنى يختلف عن الآخر، وهذا هو ما قضى به منطق اللغة والتمييز الذهني.
ومن هذا الفصل الموجز يتضح لنا أن كل لغة إنما هي: بمثابة المصنع الذي يعيش في عصرنا، ومع ذلك يجمع في مستودعاته فأسا من الحجر كانت تستعمل قبل ثمانية آلاف سنة، وإبرة من الشوك كان أسلافنا يستعملونها قبل مائة ألف سنة، وسيفا من البرونز كان يستعمل قبل أربعة آلاف سنة، وبين مصنوعات أخر مثل: الرديوفون، والمصباح الكهربائي، والسولفانيلاميد ... إلخ. ومن هنا بدأ هذا الارتباك الذهني الذي يؤدي إلى قله الفهم، أو اختلاطه؛ ذلك لأننا نستعمل أدوات قديمة كي تؤدي لنا خدمات جديدة.
الفصل الرابع
اللغة والسيكلوجية
الحق أن هذا الكتاب بجميع فصوله هو: بحث سيكلوجي في القيم اللغوية. وإذا كان هذا يجرنا إلى أبحاث أخرى اجتماعية، أو تاريخية، فإن الغاية الأولى يجب أن تبقى ماثلة، وهي: أننا ننظر إلى اللغة من خلال العدسة السيكلوجية.
ولم تعط اللغة سوى القليل من حقها من الدراسة السيكلوجية إلى الآن. وصحيح أن الرغبة في الدعاية قد حملت قليلين على هذه الدراسة في اللغات الأوروبية، ولكن الموضوع لا يزال في أولياته، وهو بكر في اللغة العربية.
وقيمة اللغة في التفكير وفي السلوك لا تزال إلى حد كبير مجهولة، والعجب أننا لم نلتفت من قبل إلى أننا نفكر بالكلمات، وأننا لا نعرف حقائق الأشياء التي نتناولها بالذهن أو باليد، وإنما نعرف أسماءها فقط. وكثيرا ما يختلط علينا الاسم والمسمى؛ فنظنهما شيئا واحدا مع أن الحقيقة هي أن الكلمات رموز للأشياء، والشبه بينهما وبين النقود كبير هنا فإن القرش قطعة من المعدن نرمز بها إلى قوة شرائية معينة، ولكن هذه القوة خاصة بنا نحن؛ أي بمجتمعنا، وليست خاصة بالقرش، من حيث إنه قطعة من المعدن.
وكذلك الشأن في الكلمات، فإنها رموز فقط. فإذا لم نتنبه إلى هذه الرمزية؛ فإننا نقع في ألوان من السخف، ونتورط في أنواع من المعاني التي قد تضرنا بدلا من أن تنفعنا، وتستبد بنا بدلا من أن نستخدمها، وكثيرا ما يحدث هذا لنا. فإن ما نسميه تفكيرا مثلا إنما هو - أو معظمه في أغلب الأحوال - كلمات تجري على المستوى العاطفي؛ فتؤدي إلى الانفعال بدلا من التفكير.
ومنذ نولد يتسلط المجتمع علينا بالكلمات التي نتلقنها منه؛ فننشأ وقد فرضت علينا مقاييس اجتماعية، وأخلاقية، وروحية من هذه الكلمات، ونجد أننا نسلك سلوكا معينا بما غرسته هذه الكلمات في أذهاننا من القيم، ونحن في هذا السلوك نعتقد أننا أحرار، ولكن الواقع أننا مقيدون بهذه الكلمات التي بعثت في أنفسنا انفعالات، وأكسبت أذهاننا فيما لا مفر لنا من التسليم بها؛ لأن هذه الكلمات قد تعلمناها من الصغر حين لم يكن الذهن قد نضج وتدرب على التساؤل، والنقد.
فنحن نسلم تسليما أعمى ولا نعترض على المعنى الذي تفرضه علينا الكلمة فنحن نقول: التشاؤم، والسماء، والروح، والحياة، والشرف، والوطن، والشجاعة إلخ، ولم يقف أحدنا قط ويسأل: ما هذه الأشياء؟ لأن جميع هذه الكلمات تحدث في أنفسنا انفعالا نظن أنه طبيعي لا يحتاج إلى التساؤل، أو اتخذت مقاييس ذهنية نعيش بها ونسلك في حياتنا على مقتضاها.
ونظن حين نستعمل هذه الكلمات أننا نفكر، والحقيقة أن التفكير هنا في حدود هذه الكلمات لا يتجاوزها، بل الواقع أننا لو شرعنا في التفكير السديد المحكم في إحدى هذه الكلمات؛ لهاج علينا المجتمع؛ وذلك أن هذا المجتمع قد ورث هذه الكلمات، وانتظم بمعانيها فهو يأبى على الفرد أن يستقل ويفكر منفصلا عنه؛ لأن هذا التفكير هو عندئذ هجوم على هذا المجتمع؛ أي: على عقائده، وعاداته الذهنية، وعواطفه النفسية، ولكل منا مجتمعه الذي يتأثر به، ويفهم معاني الكلمات كما اكتسبها منه فكلمة الشجاعة مثلا تحمل طائفة من المعاني تختلف باختلاف المجتمعات.
فالشاب في حلبة لمصارعة في ناد رياضي يفهم من الشجاعة معنى خاصا، والجندي في الجيش يفهم من هذه الكلمة معنى خاصا آخر يختلف عن المعنى الأول، وحين أقول: «شجاعة الأسد» التي تختلف أيضا عن المعنى الذي أقصده حين أقول: «شجاعة شهداء المسيحية»، أفهم معنى يختلف عما أعني حين أقول: «شجاعة سقراط»، ثم لا تنس شجاعة اللص الذي نشأ في عصابة تفتك وتغتال، ثم شجاعة ذلك الفيلسوف الذي يرفض القتال، ويرضى بالاعتقال؛ لأنه «عالمي»، ثم شجاعة الكاتب الذي لا يبالي الرأي العام إلخ.
والكلمات بذلك لا تكسبنا اتجاها أخلاقيا على «المستوى الذهني» فقط، بل تكسبنا أيضا اتجاها مزاجيا على «المستوى العاطفي»؛ فإن كثيرا مما نشمئز منه، أو نطرب له، أو ننشط إليه يعود إلى الكلمات التي تعلمنا وانغرست بها عواطفنا. وحسب القارئ أن أذكر له أن كثيرا من الرجال والسيدات في مصر يشمئزون من «الأنكليس» مع أنه مثل سائر السمك، بل يعد من أجوده؛ وذلك لأنه يسمى «ثعبان»، بل انظر إلى كلمة «بجعة» فإنها اسم شنيع لطائر يعد تحفة في الطيور؛ ولذلك لم يستطع شاعر عربي أن يستغل الطاقة الفنية في هذا الطائر؛ لشناعة اسمه مع أن اسمه في الإنجليزية والفرنسية جعل كثيرا من الشعراء الإنجليز والفرنسيين يذكرونه في أشعارهم، وكذلك يجب أن نذكر أن كثيرا من شعرائنا يذكرون «البلبل» بكثرة؛ لحلاوة اسمه فقط مع أنهم لم يروه قط ومع أنه ليس فيه شيء من جمال البجع.
وهنا لنا عبرة فإذا شئنا أن نعمم رأيا أو عقيدة؛ فلنختر لها اسما مغناطيسيا جذابا.
والخلاصة أننا نفكر بالكلمات، وكثيرا ما نخدع فنظن أننا نعالج الأشياء في حين أننا نعالج أسماءها فقط، ثم إن الكلمات تكسبنا اتجاها أخلاقيا، أو تكون لنا مزاجا فنيا، وأحيانا تحمل إلينا تقاليد هي رواسب الثقافة القديمة التي كثيرا ما تضرنا في مجتمعنا العصري، والفصول القادمة هي توسع في هذه المعاني.
الفصل الخامس
البيئة واللغة
الأصل في هذا الكتاب مقال نشره الأستاذ أحمد أمين في مجلة «الثقافة»، أشار فيه إلى أن الكلمات تتغير معانيها بتغير الزمن والبيئة، وجاء فيه:
إن اللغة تؤدي معانيها في دقة وإحكام في مواد العلوم كالرياضة والطبيعة والكيمياء، ومصطلحاتها مضبوطة قل أن يعتريها غموض، أو إبهام. وقريب من ذلك التاريخ، فاللغة قادرة على أداء معانيه وحمل رسالته أداء حسنا، وإن لم تبلغ في ذلك مبلغ العلم، فإذا نحن جاوزنا ذلك إلى الفلسفة، والأدب؛ رأينا اللغة مسكينة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط.
وإحكام حتى المصطلحات من الصعب تعريفها وضبطها، فما أصعب أن تعرف «الوجود» و«الحقيقة» و«ما وراء الطبيعة» وما إلى ذلك، وما أصعب ما تعرف «الشعر» و«الأدب» و«الخيال» ونحوها، وكذلك في فروع الفلسفة والأدب، فمن الصعب تعريف «الجمال والجميل» و«الفضيلة والرذيلة» و«الزمان والمكان» و«العدل والحرية». ومن العسير تعريف «القصة والرواية والمثل» وما أكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج؛ لأن كلا يتكلم، وفي ذهنه معنى للشيء غير ما عند الآخر، ولو اتفقوا على التحديد؛ لاتفقوا على النتائج.
ولا أنسى حادثة رويت لي، وهو أنه من زمان أرادت حكومة العراق التعاقد مع الحكومة المصرية بالمراسلة والخطابات فكان الاتفاق مستحيلا؛ لأن كلتا الحكومتين كان لها معنى خاص في مصطلحاتها لا تفهمه الأخرى، ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافهة، والاتفاق على معاني المصطلحات، وسمعت محاضرة لفاضل عراقي في التربية، فثار جدل حول الموضوع تبين أن سببه الاختلاف في المصطلحات؛ فهم يطلقون اسم «المدارس الداخلية» على غير ما نطلق، ويسمون «الفصل» ما نسميه نحن بالسنة ، ويسمون «التوقيعات» ما نسميه نحن بالترقيات، ويسمون «مدارس الحضانة» ما نسميه نحن برياض الأطفال، وهكذا.
من أسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي: عدم دقتهم في الاستنتاج، فهناك عقول تستنتج من الجملة أكثر مما يلزم، وهناك عقول تستنتج منها أقل مما يلزم. وكلاهما خطأ إذا قلت: «إن الغول مرعب»، فاستنتجت منه أني أقول: «إن الغول موجود.» فقد أخطأت، واستنتجت أكثر مما يلزم؛ لأن الخيال قد يرعب، والوهم قد يرعب، ولو لم يكن الشيء موجودا، وإذا حدثتك عن فرس بأنه أشهب فاستنتجت أني أقول إنه موجود كان استنتاجك صحيحا.
ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين وليس الأمر مقصورا على الجمل، بل دلالة الألفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين الأشخاص بحسب مدنيتهم وثقافتهم وعقليتهم، فإذا قلت: «كرسي» لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر، وكذلك الشأن في كلمات «بيت» و«دولاب» و«سرير»، وإذا قلت: «علم الحساب» فمفهومها عند الصانع المتعلم تعلما بسيطا ليس كالمعنى الذي يفهمه العالم بالرياضيات، وهكذا.
وهذا ما يجعل الناس، إذا اختلفت مدنياتهم وعقلياتهم وثقافتهم؛ لا يتفاهمون تفاهما صحيحا، ومن أسباب ذلك عدم دلالة الألفاظ على معان واحدة في الرموز المختلفة، ولا تصدق أن معاجم اللغة تستطيع أن تشرح دلالة الألفاظ شرحا تاما صحيحا، فكل كلمة هالة غير معناها الأصلي يعجز المعجم عن شرحها، فدنيا الأطفال التي تعين على شرح الألفاظ، غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، ودنيا الجاهل غير دنيا العالم، وكل يفسر الألفاظ حسب دنياه.
يتصل بهذا أن كل لفظ من ألفاظ اللغة يوحي بأشياء تختلف باختلاف الأشخاص حسب بيئتهم وتجاربهم في الحياة وغير ذلك، فكلمة أبيض توحي إلى الفلاح باللبن وقد توحي إلى الطفل بالسكر، وقد توحي إلى سكان البلاد الباردة بالثلج، وكلمة «وزير» توحي إلى الشرقيين بمعان غير ما توحي به عند الغربيين. وكلمة «العيد» توحي إلى الأطفال بمعنى الثياب الجديدة والأراجيح، وعند أطفال آخرين بالهدايا تهدى إليهم، وعند الرجال بالزيارات، والتهنئات إلخ.
وكلمة «البرلمان» و«نظام الحكم » توحي بمعان مختلفة في الأفراد المختلفة والأمم المختلفة، وهذا سبب آخر من أسباب الاختلاف بين الناس في الأفهام والفهم، فوحي الألفاظ عن الناس يختلف اختلافا كبيرا.
بل قد يكون اللفظ يوحي بمعنى عند الناس في عصر لارتباطه بحادثة أو نادرة؛ فإذا نسيت الحادث انقطع وحي اللفظ فمنذ سنين كانت كلمة «تعديل الأساس» و«ردم البرك» و«الحكم الصالح» تستثير منا الضحك؛ لإيحائها بمعان خاصة؛ فلما زال الإيحاء زال التأثير.
ولذلك أعتقد أنا فقدنا كثيرا من كتب الجاحظ وقطع الأدب الاجتماعي؛ لأن بعض ألفاظها وجملها كانت توحي بمعان معروفة، فلما تقادم الزمن جهلت، فبطل سحرها، وإن شئت فاقرأ رسالة «التربيع والتدوير» للجاحظ، وهي تدور حول السخرية من «أحمد بن عبد الوهاب» وتشعر بغموض في بعض الجمل والإشارات، وسبب غموضها أنها كانت إشارات إلى أشياء مفهومة في زمنها، ثم انقطع وحيها فغمض معناها.
ما وظيفة اللغة؟ يخطئ من يظن أن اللغة تؤدي غرضا واحدا وهو: نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، فلها أغراض أخرى كثيرة قد يصعب حصرها، وقد يبعد إدراكها، فمن أعجب أغراضها أحيانا أنها تستعمل لتخدير الأعصاب كتمرينات السحرة مثل ألفاظ «شمهورش» و«جلجوت» ونحو ذلك، فهي لا تؤدي معنى ولكن تخدر الأعصاب بغرابتها وتأليف حروفها؛ ولذلك لا يصح أن نحاول فهم سجع الكهان فهما تاما، فهي لم يقصد منها الإفهام التام بقدر ما قصد منها التخدير والمعاني المحلولة، وأحيانا يقصد بالألفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية لها أثرها النفسي كأثر الموسيقى؛ ولذلك لم تكن تخلو الأدعية الدينية إذا تليت في المعابد بلغة أجنبية من أثر قد يكون بالغا؛ لأن الألفاظ توحي بمعان سحرية موسيقية وإن لم تفهم معانيها الأصلية، وهذه لغة الإنسان الأول كانت صيحات متشابهة اللفظ، ولكنها أحيانا تدل على الخوف، وأحيانا على طلب النجدة، وأحيانا على التحذير من خطر، وإنما تختلف دلالتها باختلاف موسيقاها. ا.ه.
الفصل السادس
اللغة والمجتمع
يجب على قارئ الفصل السابق أن يفهم أكثر مما قال الأستاذ أحمد أمين؛ أي يجب أن يفهم أن اختلاف البيئة والمجتمع والتاريخ والجغرافيا؛ يغير معاني الكلمات التي نستعملها، ونعتقد أننا سواء في فهم معانيها، فعبارة «سلطة الحكومة» تعني: معاني مختلفة في الهند، والولايات المتحدة، ومصر، وألمانيا، وروسيا، واليمن.
وهذا الاختلاف الذي ينشأ من الجغرافيا يقابله اختلاف آخر ينشأ من التاريخ، ومن هنا الصعوبة التي نجد في فهم الكتب الدينية القديمة؛ لأنه كان للكلمات التي استعملت مثلا قبل ألف سنة ملابسات لا نجد مثلها في عصرنا، بل كذلك كتب التاريخ، فإن المؤلفين يلتفتون إلى معان لم نعد نلتفت إليها؛ لأن اللغة الحية تتفاعل مع المجتمع وتتغير بتغيره، أما إذا كانت لغة خاصة بالكهنة تتلى فقط في المعابد؛ فالتفاعل ينعدم، والكلمات عندئذ تتحجر؛ أي تحتفظ بمعانيها على مدى المئات أو الألوف من السنين، ومثل هذه اللغة تعد في القيمة الاجتماعية صفرا.
فاللغة الحية تتفاعل مع المجتمع فتحنط بانحطاطه وترتقي بارتقائه؛ أي أنها تتطور، وهي حين تتطور؛ ينشأ بينها وبين المجتمع اتصال فسيولوجي، ووظائف عضوية كما بين اليد، والذهن كلاهما يخدم الآخر وينتفع به؛ ولهذا السبب يجب ألا يكون للمجتمع لغتان إحداهما كلامية؛ أي عامية والأخرى مكتوبة؛ أي فصحى كما هي حالنا الآن في مصر وسائر الأقطار العربية؛ لأن نتيجة هذه الحال أن اللغة المكتوبة تنفصل من المجتمع؛ فتصبح كأنها لغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد، وينقطع الاتصال الفسيولوجي بينها وبين المجتمع؛ ولهذا يجب أن تكون غايتنا توحيد لغتي الكلام والكتابة، فنأخذ من العامية للكتابة أكثر ما نستطيع ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر ما نستطيع، حتى نصل إلى توحيدهما.
واللغة الحية هي الجهاز العصبي للمجتمع، أو الشبكة التلفونية التي يتخاطب ويتفاهم بها أفراده، فإذا عجزت عن تأدية هذا التخاطب والتفاهم فهي خرساء؛ أي بمثابة الشبكة التلفونية المقطوعة أو التالفة، ويجب السرعة في ترميمها.
وقد عرفنا هذا الخرس في كثير من شئوننا الثقافية؛ فإن المسرح مثلا لم يرتق؛ لأننا لم نستطع تأليف الحوار باللغة الفصحى بين أشخاص الدرامة؛ لأن الكلمة الفصحى ليست «جوية»؛ أي أنها لا تنقل إلينا جو الحديث؛ لأننا ألفنا أن يكون الحديث باللغة العامية، فترجمته إلى اللغة الفصحى يصدمنا، ويشعرنا بأن هذه الكلمة ليست في مكانها؛ أي ليست في جوها الاجتماعي، ولغتنا خرساء (والخرس هنا أوضح وأخطر) من حيث إننا جعلناها مثل لغة الكهان جامدة لا تتغير وكانت نتيجة هذا أن في العالم بنحو «مائة وعشرين» علما، وفنا لا تنطق لغتنا العربية إلا بنحو عشرة أو عشرين منها، ولكنها خرساء في سائرها.
فاللغات الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، وغيرها؛ لغات ناطقة في «مائة وعشرين» علما، وفنا، ولغتنا خرساء في نحو «مائة» علم وفن؛ ولهذا السبب نحن جهلاء في جميع هذه العلوم، والفنون ما دمنا قد اقتصرنا على لغتنا، ونحتاج كي نستنير بهذه العلوم، والفنون إلى درس إحدى اللغات الناطقة.
فالتفاعل القائم الآن بين لغتنا ومجتمعنا ليس تفاعلا صحيحا؛ فإن هناك انفصالا يحول دون إيجاد الدورة اللغوية كاملة به؛ ولذلك حدث المرض من هذا الانفصال، وهو الجهل لنحو مائة علم وفن لا يمكن أن نعرفها إلا إذا تركنا لغتنا ونطقنا بلغة أخرى.
ثم اعتبار آخر يجب أن نلتفت إليه، وهو أننا ورثنا كلمات كانت قبل ألف سنة تعبر عن حاجات المجتمع العربي في بغداد، أو مصر، أو دمشق، وهذا المجتمع كان أتوقراطيا أرستقراطيا؛ فورثنا كلماته الأتوقراطية والأرستقراطية مع أننا نحاول أن نكون مجتمعا ديمقراطيا، ونحن نتأثر بهذه الكلمات ونستضر بها؛ لأنها توجهنا إلى غير ما نحب من الوجهات، كما نغرس في شبابنا عواطف نكره أن نراها في القرن العشرين. فانظر مثلا إلى إيحاء كلمة «وزير» في مصر بجانب إيحاء كلمه «سكرتير» في بريطانيا، أو الولايات المتحدة، وانظر إلى إيحاء عبارات «صاحب الدولة»، «صاحب السعادة»، صاحب العزة؛ فإنها جميعا تفتت العقائد الديمقراطية التي تقول بالمساواة الاجتماعية، أو انظر إلى كلمة «حضرة» التي لا يمكن ترجمتها إلى أي لغة أوروبية؛ (ولكن يمكن ترجمتها إلى اللغة الصينية القديمة).
ثم انظر إلى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة؛ فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاء يكاد يكون تاما أما نحن فقد رددنا الاعتبار للمرأة المصرية، ولكن ما زلنا نستعمل الكلمات القديمة، فنقول «أم فلان» أو «حرم فلان»، ولا نذكر الاسم مع أن الاسم جزء من الشخصية، وإهماله هو سبة للمرأة ألا ترى كيف أن أحدنا يغتاظ إذا أخطأ أحد في ذكر اسمه فقال: «علي حسين» بدلا من الاسم الحقيقي «حسين علي»؟ وهذا لأن كلا منهم يحس أن اسمه من كرامته، وهو بعض شخصيته، وإهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل إلينا عقيدة اجتماعية يجب أن نكافحها، فيجب أن نؤلف بين المجتمع ولغته فنجعل اللغة ديمقراطية إن شئنا أن نكون مجتمعا ديمقراطيا.
الفصل السابع
الأحافير اللغوية
أحافير الحيوان والنبات هي الأجسام المتحجرة التي مضى عليها الألوف أو ملايين السنين ونحن نستخرجها من باطن الأرض ونحفظها في المتاحف؛ كي نعرف منها تطور الحياة، ولا يمكن أن نرد الحياة إلى هذه الأحافير؛ لأن الحياة قد أبادتها وارتقت عليها، وأخرجت لنا أنواعا أخرى، وهذه الأحافير كانت في يوم ما من تاريخ الأرض حية، ولكن سنة التطور قضت عليها بالانقراض.
وفي اللغات أحافير من الكلمات التي لا تجري على لسان أو قلم، ولكن المعاجم تحتفظ بها للدراسة كما تحتفظ المتاحف بأحافير الدينصور أو غيره، فإذا عمد كاتب إلى استخراجها وبعث الحياة فيها فإنه لن يصل من هذا المجهود إلا إلى تكليف المجتمع عبئا لا ينتفع به، فالإنسان القديم كان يعتقد أن عالمه حافل بالآلهة، والأرواح الظاهرة والنجسة، وأن حياته مدبرة بها للخير، أو الشر، وكان ينشد حظه في النجوم والكواكب ويتيمن بحركة الطير أو يتشاءم بها، وكان راضيا بهذا العالم، يجد فيه منطقا للسلوك الحسن، فكان يستعمل الكلمات التي تؤدي له هذه المعاني، وقد نبذنا نحن هذه العقائد، ولكن بقيت هذه الكلمات الغيبية القديمة التي نستعملها؛ فتفسد أذهننا حتى إننا من وقت لآخر نقرأ عمن يخاطبون الأرواح، أو يقرءون طالعنا في النجوم، وما زلنا نتفاءل أو نتشاءم من حادث أو كلمة، ومازال للعفاريت والجن والنجوم سلطان على بعض النفوس التي لا تستطيع أن تتخلص من هذه الأحافير اللغوية؛ وذلك لأن الطفل ينشأ وهو يستمع إلى الكلمات؛ فتغرس فيه عقائد يعجز عن التخلص منها حتى وهو في الخمسين أو الستين من عمره.
وأحيانا نجد رجلا ممتازا في العلوم التجريبية قد درب ذهنه على تحري الحقائق المادية، ينزع إلى الإيمان ببعض الغيبيات، وكل ما عنده كلمة مثل «روح» يحملها ويجري بها وراء المشعوذين الذين يبحثون له عنها تحت المائدة، أو على ألسنة الدجاجلة الذين يستغلون تصديقه، وهو إنما ينزع إلى هذه الغيبيات بفضل كلمة أو كلمات تعلمها في الصغر؛ فغرست فيه عادات ذهنية لم يعد قادرا على التخلص منها ولكن الأحافير اللغوية لا تقتصر على ما ورثنا من كلمات، مثل الجن أو العفاريت أو الأرواح؛ فإنها تتسرب إلى لغتنا المألوفة، وحتى لنقول: «علا نجمه» أو «أفل نجمه» أو نحو ذلك، ونحتاج إلى شرح مسهب؛ كي ننقل المعنى العصري لصبياننا بهذه التعابير القديمة التي كانت حية أيام الفراعنة أو البابليين، وما دمنا نشرحها الشرح العلمي ونبين للصبي أن العقيدة القديمة كانت مخطئة، وأننا لا نرمي من هذا التعبير إلا إلى معنى النجاح والرقي أو العكس؛ فإن كل الضرر ينحصر عندئذ فيما نتكلف من شرح ولكن قد يكون لهذا التعبير مع ذلك فائدة للصبي حين يعرف منه عقائد القدماء البائدة.
ولكن هناك أحافير لغوية كبيرة الضرر على مجتمعنا، ومن أسوأها في مصر في عصرنا هاتان الكلمتان: «شرق، وغرب» فإن كلمة شرق توحي إلينا أننا بشر ننتمي إلى آسيا، وأفريقيا وكأننا على عداء مع أوروبا وأمريكا. ولما كان الأوروبيون والأمريكيون هم المتمدنون السائدون في العالم؛ فإن عداءنا يغرس في نفوسنا كراهية للتمدن وعادات المتمدنين ومعظم المقاومة التي للقبعة، بل كلها تقريبا يرجع إلى هذه الكلمة «شرق»؛ لأن المصري يحس أن الشخصية القومية الشرقية تنهار باتخاذ القبعة التي تمتاز بها الشخصية القومية الغربية.
وكلمات الغيبيات توحي عقائد غيبية تعين للمؤمن بها سلوكا يتنافى مع المنطق، ويؤخر عن تحقيق النجاح، وكثيرا ما يقعد أحدنا في «الترام»، فيجد جاره وهو يتلو كلمات غيبية؛ يريد أن يحقق بها غاية اجتماعية، أو اقتصادية فبدلا من أن يعمد إلى المنطق؛ فيدبر الوسائل المادية، والشخصية يتلو هذه الكلمات، وكأنه (كما كان يفعل البابليون) يستوحي النجاح من النجوم، والكواكب.
ومن الأحافير اللغوية كلمات «الدم»، و«الثأر»، و«العرض» في بعض مديريات الصعيد؛ فإن هذه الكلمات تؤدي إلى قتل نحو «ثلاثمائة» امرأة، ورجل كل عام ولا بد أن بعض القراء سيثب إلى القول: بأن هؤلاء القتلة يذودون عن شرفهم. وكل ما أستطيع أن أرد به هو: أن سكان الوجه البحري لا يقتلون مثل هذا العدد من الرجال والنساء؛ لأجل «العرض»، و«الثأر»، فإما أن السبب أنهم لا يستعملون هاتين الكلمتين في حديثهم كما يفعل أهل الصعيد، وإما أنهم أقل إجراما بطبيعتهم، والفرض الأول هو المعقول.
وهناك أحافير لغوية كثيرة في الشعر العربي القديم، فإن الشاعر كان يعيش في جو تلائمه كلمات معينة؛ فلما انقطعت الصلة بيننا وبين هذا الجو؛ صرنا نجد هذه الكلمات غريبة عن أذهاننا، وقلوبنا؛ فهي لا تضيء بصيرتنا ولا تنبه ذكاءنا ولا تحرك خيالنا، انظر مثلا إلى «الحداء» وكيف اتصلت معاني الفعل من هذه الكلمة بكثير من الشعر والنثر، وأدت الخدمة الأدبية في التعبير الحسن قبل ألف سنة. ولكن من يحاول استعمالها في عصرنا إنما يستعمل كلمة من الأحافير اللغوية التي يجب أن يجد مندوحة عنها في استعارات وعادات عصرية تلابس مجتمعنا.
واللغة التي تلابس مجتمعنا هي لغة السوق، والبورصة، والمكتب، والمصنع والنادي، والبيت، والكتاب، والجريدة، والمجلة، والمنبر، والمدرسة، أما إذا انفصلت واقتصرت على الكتاب وهجرت المجتمع فصار لنا لغتان فإن لغة المجتمع ستبقى حية، ولكن لا تجد العناية التي يستحقها الحي، فهي تعيش في وكس وضعف وتبقى اللغة الأخرى كأنها أحافير تحفظ وتصان كما تصان لغة الكهنة في المعابد عند المتوحشين.
الفصل الثامن
ضرر اللغة
كانت - ولا تزال - اللغة من أعظم الميزات البشرية؛ لأنها جعلت التفاهم والتفكير ممكنين، بل جعلت الثقافة تختزن وتورث من جيل إلى جيل آخر، ولكننا نجد أن اللغة كثيرا ما تحيل التفاهم إلى التباس، فيسيء بعضنا إلى بعض؛ لأنه يجهل الغاية من كلامه، وكلنا يعرف ظروفا مرت به حين كان في حوار مع آخرين، فكان يضطر إلى أن يسأل: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟
وهذا السؤال يدل على أن الكلمات تلتبس - بل تلتغز - معانيها بين شخص وآخر؛ وأنها لهذا السبب لا تؤدي الغاية الأولى منها، وهي الفهم والتفاهم. واللغة الحسنة هي التي يقل فيها الالتباس أو ينعدم؛ لأن لكل كلمة معنى معينا لا يتجاوزه ولا يتسع لهوامش تحمل الشك أو الغموض أو الزيادة أو النقص، كما هي الحال في كلمات كثيرة مائعة تسيل على الجوانب ولا تثبت في نقطة بؤرية.
واللغة بما ورثت من عادات ذهنية قديمة كانت شائعة قبل آلاف السنين قد حملت إلينا من المعاني ما لم نعد في حاجة إليه، بل نحن نستضر به، انظر مثلا إلى السباب الديني في كلمتي كافر ونجس، فهاتان كلمتان قد ورثناهما من عصر كانت العقيدة فيه أساس السلوك. ولم يكن الناس يستوون في الحقوق؛ لأنهم كانوا يختلفون في العقيدة ونحن نعيش الآن في عصر نقول فيه بالمساواة بين جميع الناس بصرف النظر عن عقائدهم، ونطالبهم بأن يجعلوا المنطق مرشدا لحياتهم، ولكن هاتين الكلمتين تحدثان انفعالا يسيء إلى السلوك العام في أية أمة، ونحن حين نسمي إنسانا «كافرا» نحرك عاطفة خسيسة للكراهة كما نفعل حين نسمي سمكة «ثعبانا» ونحمل الناس على كراهتها، فهنا ضرر اللغة واضح، فإننا إذا دخلنا معملا كيماويا وجمعنا فيه نحو عشرين شخصا من سلالات وشعوب مختلفة وحاولنا أن نميز بتجارب علمية دقيقة بين الكافر والمؤمن، والنجس والطاهر؛ لما استطعنا. بل إنا لنجد بالعلم أنهم (كما يقول: أسقف برمنجهام في ظرف مشابه) سواء.
وقل مثل هذا في كثير من الكلمات التي تحمل شحنات عاطفية سيئة، فإنها كثيرة في كل لغة، ونحن حين نحاول التفكير بالمنطق والتعقل في أي موضوع نجد هذه الكلمات تعترضنا وتسد علينا السبيل دون التفكير الناجح.
ومن أضرار اللغة - وخاصة في لغتنا العربية - هذه المترادفات التي تبعثر المعاني، وتبعدنا عن الإحكام في التعبير، ويجب أن يكون من قواعد التعليم للبلاغة الجديدة لهذا السبب محاسبة التلميذ في إنشائه على الكلمة الزائدة كما نحاسبه على الخطأ الذي يقع فيه حين يرفع مفعولا أو ينصب فاعلا.
ولذلك يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلا من مخاطبه العواطف، والبلاغة بفنونها المختلفة - كما هي الآن في لغتنا العربية - تخاطب العواطف دون العقل، وهذا ضرر عظيم؛ فإننا حين ننصح لأحد الشبان بأن يسلك السلوك الحسن في الدنيا ويتخذ أسلوبا ناجعا في الحياة نشير عليه بأن يجعل العقل والنطق - دون العاطفة والانفعال - هدفه ووسيلته في كل ما يعمل، ولكن البلاغة العربية في حالها الحاضرة هي بلاغة الانفعال والعاطفة فقط.
وإذا جعلنا المنطق أساس البلاغة؛ فإننا عندئذ نجعل قواعد المنطق ونظريات إقليدس مما يدرس للتفكير الحسن، وهو الغاية الأولى للبلاغة، ونبين قيمة الأرقام في التفكير الحسن ثم تأتي بعد ذلك الفنون، وهي عاطفية انفعالية للترفيه الذهني. ولكن يجب أن نذكر أن التفكير الدقيق بالمنطق أخطر وأثمن من الترفيه الذهني بالفنون، وإذا جعلنا المنطق أساس البلاغة فإننا سنبحث الكلمات من حيث معانيها. ونبين كيف أن الناس كثيرا ما يخلطون بين الشيء واسمه، وأن هذا الخلط يشقيهم؛ لأنه يبعدهم عن التفكير الناجح ويؤخر نجاحهم ويعطل المجتمع عن الرقي.
كنت في الريف فوجدت الفلاحين يذكرون كلمة «وريتة» ويقصدون منها إلى ثلاثة أشياء مكروهة وهي البومة؛ لأنهم يتشاءمون منها، وابن عرس؛ لأنه يفترس الفراخ، والحمى؛ لأنها تمرضهم فهنا ثلاث كلمات: البومة، وابن عرس، والحمى، وقد اختلطت على الفلاحين أسماؤها؛ فصارت في أذهانهم مسميات، كأن الحمى ليست من جراثيم حية تدخل الجسم وتأكل خلاياه، بل هي «ح م ى» وكذلك لم يعد ابن عرس حيوانا يحتاج إلى أن ننصب له الشراك كي نوقعه، بل هو كلمة تحدث ضررا إذا لفظناها، وكذلك حملت البومة شحنة عاطفية تتصل بالسحر القديم؛ فإذا ذكرنا الكلمة فقد هيأنا الجو للخراب، ولذلك يجب في عرف الفلاحين أن نقاطع هذه الكلمات الثلاث، ونقول بدلا منها «وريتة».
وهذا المثل على سذاجته يجب أن ينبهنا إلى علاقتنا باللغة؛ فإننا كثيرا ما نخلط بين المسمى والاسم، وإذا كنا لا نتشاءم بالبومة ولا نقول «غراب البين»؛ فإننا نضفي على بعض الكلمات مثل «الاشتراكية» معاني مكروهة، حتى إن بعض الحكومات كانت تمنع ذكرها في الصحف، والكتب، ولكنها مع هذا المنع، لم تخترع كلمة مثل «وريتة»، كما اخترع الفلاحون حين أرادوا التعبير عن الحمى وابن العرس والبومة.
وما يقال عن الكلمات المكروهة يقال أيضا عن الكلمات المحبوبة، فإننا كثيرا ما نخدع بكلمات لها بريق، أو رنين، أو ضجيج، وكثيرا ما ننسى أن الكلمة ليست هي الشيء وإنما هي رمز للشيء على أن البلاغة القديمة - بلاغة الانفعال والعاطفة - يمكن أن نستخدمها للتوجيه الاجتماعي في الأمة، ولكن مع الحذر من أن يعود هذا التوجيه لدعاية سيئة لأحد المذاهب الضارة.
الفصل التاسع
ضرر اللغة أيضا
اللغة الحسنة هي التي حين نعبر بها نحس السيادة المنطقية على كلماتها. فلا نشعر أنه كان يجب أن نزيد هنا أو ننقص هناك، أو أن معنى الكلمة التي استعملناها قد يحمل القارئ على أن يفهم ما قصدناه، وبكلمة أخرى نقول: إن اللغة الحسنة هي تلك التي تتيح لنا التفكير المنطقي كما لو كانت كلماتها أرقاما تؤدي لنا الحساب الذي لا يحمل حاصل الجمع أو الطرح فيه معنى الشك، أو على الأقل يجب أن نقارب هذه الحال من الدقة على قدر الإمكان.
والواقع أن العلوم لا تنضج إلا حين تقاس بالأرقام وتعبر الأعداد عن حقائقها، ولا يزال كثير من علمي السيكلوجية والاجتماع بعيدا عن إمكان التعبير عنه بالأرقام؛ ولذلك تنقص قيمتها بقدر هذا العجز عن استخدام الأرقام في شرحها وفهمها، ونحن في مصر نسيء إلى اللغة العربية وإلى شبابنا أيضا، حين نتخذ معهم طرقا عتيقة في معالجتها يمكن تلخيصها فيما يلي: (1)
أننا نعلمهم مبادئ البلاغة العاطفية بالمجاز، والاستعارة، والتشبيه إلخ كي يصلوا منها إلى التعبير الفني أو الرفاهية الذهنية بدلا من مبادئ البلاغة العقلية المقيدة بقواعد المنطق؛ حتى يصلوا إلى دقة التعبير وتوقي الالتباس. والنتيجة من هذه البلاغة العاطفية هي الضرر؛ لأنها تحدث لهم اتجاها نحو التزاويق، والبهارج فإذا طلب إليهم التفكير عجزوا. (2)
هذه البلاغة العاطفية قد حملت المعلمين على الإكبار من شأن الاقتباس حتى إننا كثيرا ما نرى في كتب الإنشاء التي يتداولها التلاميذ عناية المؤلفين بما يسمونه «الجمل المختارة»، وهي عبارات تحتوي كلمات لها بريق أو رنين أو ضجيج، والتلميذ الذي يكلف استظهارها إنما يفعل ذلك على حساب تفكيره. فكأننا نقول له لا تنظر إلى هذه الدنيا بروح الباحث المتفهم المفكر، وإنما استظهر العبارات المزخرفة وتكلف التزاويق؛ لأنها أحسن ما يمكنك أن تعبر به في الإنشاء.
ونحن في هذا التوجيه نحمله على العناية بالقشور، بل بما هو أتفه منها وترك اللباب؛ أي التفكير السديد. (3)
وضرر ثالث هو أيضا نتيجة ما ذكرناه، نعني به: العناية بالأسلوب ومحاولة التلميذ أو الطالب أن يتعلم أساليب المتقدمين ويحاكي أحسنها وكأنها غاية الإنشاء، ونحن في كل هذا نكاد نجحد الذهن وعندما يشب هؤلاء الشبان يتجهون إذا ألفوا كتابا أو كتبوا في صحيفة وجهة الاقتباس والتزويق دون التفكير والبحث، وهذا ما نراه شائعا في كتبنا ومجلاتنا بل أحيانا نجد المصري المتعلم الذي درس في أوروبا واصطنع المنطق العلمي في تفكيره عاجزا عن التأليف في اللغة العربية؛ لأنه يجهل الاقتباس والتزويق ولذلك يحجم عن التأليف، فنحرم ثقافته مع حاجتنا العظيمة إليها.
فكيف نعالج هذه الحال؟ (1)
نعالجها أولا وقبل كل شيء بأن نجعل قواعد المنطق تقوم مقام قواعد البلاغة القديمة؛ أي دقة التعبير بدلا من تزويق التعبير، ومخاطبة العقل بدلا من مخاطبة العواطف. (2)
ونعالجها ثانيا بأن نقاطع الاقتباس في الإنشاء في المدارس الابتدائية والثانوية، ونجعل التفكير يقوم مقام الاقتباس، فيجب ألا تكون هناك «جملة مختارة»، تحفظ عن ظهر قلب، بل يجب أن يعود الصبي أو الشاب كيف يفكر ويبحث ويطلع. (3)
يجب أن نعرف أن الأسلوب هو الناحية الأخلاقية للكاتب؛ فإذا كان الكاتب فنانا يعيش الحياة الفنية وينظر إلى الدنيا من خلال العدسة الفنية؛ فأسلوبه فني، وإذا كان عالما؛ فأسلوبه علمي، وإذا كان اجتماعيا الخ.
وأسلوب الكتابة هو بعض أسلوب الحياة، فالرجل المستقيم الصريح في معاملاته يكتب في عبارة صريحة وفي كلمات لا تقبل الالتواء، فإذا طالبنا الصبي أو الشاب بأن يحسن الأسلوب في كتابته؛ فإنما نطالبه في الحقيقة بأن يتخذ أسلوبا حسنا في معيشته، وأن يرقي شخصيته، وإذ استقرت هذه القواعد في مدارسنا وتعلمها صبياننا وشبابنا فإننا سنجد عندئذ المؤلفين المفكرين والصحافة النيرة المرشدة، صحافة الشخصيات الكبيرة، والتفكير العلمي الدقيق.
الفصل العاشر
اللغة والجنون والإجرام
لا أقرأ جريدة الصباح حتى أجد جريمة أو جريمتين مرجعها إلى اللغة وسأحاول هنا معالجة هذا الموضوع الذي على ما يبدو عليه من اللون الفلسفي وعلى ما سيجد فيه القارئ من عمق؛ سيرتاح في النهاية إلى الاستنتاجات التي سنصل إليها وهي جد خطيرة في مجتمعنا المصري الحاضر، وهو بلا شك بحث فلسفي، ولكن في عصرنا الديمقراطي يجب أن يكون الأدب والفن والفلسفة للشعب بل لعامة الشعب التي على كل منا أن يعلمها ويرفعها. وقد قال سارتر زعيم الوجودية: «إن الفلسفة يجب أن تنزل عن أريكتها وتدخل في السوق.»
وموضوعنا بأخصر عبارة هو: أن كلماتنا التي نتحدث بها ونقرأها تعين أخلاقنا وسلوكنا الاجتماعي، فنحن فضلاء أو أرذال باللغة، ونحن عقلاء أو مجانين باللغة كما نحن علماء أو جهلاء باللغة اعتبر أيها القارئ شابا ريفيا في مديريات سوهاج أو قنا أو أسيوط وقد نشأ وتربى وسمع بأذنه وتكرر سماعه لكلمات الثأر والانتقام والدم؛ فإن هذه الكلمات حين ينطق بها تصور له صورا فكرية معينة وتحمله على أن يسلك السلوك الإجرامي بقتل خصومه لأوهى الأسباب، بل إنه يفهم كلمات الشرف والعرض والسمعة على غير ما يفهم الشاب في القاهرة أو الإسكندرية؛ ولذلك ما هو أن يرى أخته تتحدث إلى أحد الشبان حتى تستطير هذه الكلمات عقله وتلهب عاطفته، فيجمع إلى معانيها معاني الكلمات الأخرى: الدم والثأر والانتقام ثم يكون قتل الأخت.
كلمات تؤدي إلى جرائم
ولا يمكن أن نقول إن جرائم العرض في قنا وجرجا وأسيوط أكثر مما هي في القاهرة أو الإسكندرية؛ ولكن جرائم الدفاع عن العرض أكثر؛ لأن هذه الكلمات؛ أي الثأر والدم والانتقام مألوفة في الصعيد أكثر مما هي مألوفة بين سكان الوجه البحري والقاهرة.
جرائم الدفاع عن العرض التي تذكر لنا صحفنا كل يوم جريمة أو اثنين منها هي جرائم لغوية لا أكثر إما لوجود كلمة كان لا يصح أن توجد وإما بتحميلها معنى كان يجب ألا تحمله، أو اعتبر كلمتي الحسد والشماتة فإنهما تبعثان في النفس أسوأ الإحساسات، وكنا نكون أطيب قلوبا لو أننا لم نتعلمها، بل هناك من الكلمات البذيئة التي نسمعها من صغار الباعة الجائلين، ومن أمثال الحشاشين مما يتصل بالشئون الجنسية ما يعين لنا سلوكا أو اتجاها جنسيا؛ لأن الكلمة إيحاء مهما ظننت أنك خلو منه فإنك تحسه من حيث لا تدري إذ هو يتصل بعاطفتك. الكلمة فكرة، والفكرة إحساس، وقد يحتد الإحساس فيصير عاطفة، بل عاطفة جنونية.
وأنا الآن أدلك أيها القارئ على حوادث من الجنون تتكرر في مصر بسبب اللغة.
اعتبر سيدة أنيقة جميلة تعتني بهندامها وتعجب بقامتها ووجهها قد اقتربت من سن الثامنة والأربعين أو التاسعة والأربعين، ثم وجدت توعكا أو توترا؛ فلما استشارت الطبيب قال لها: إن حالتها تعد طبيعية في سنها سن اليأس.
يأس؟ من منا يسمع هذه الكلمة ولا يضطرب؟
الواقع أن جميع نسائنا يضطربن لهذه الكلمة، وقد يزيد الاضطراب بسبب الضرة أو الحماة أو الخوف من الطلاق فيصير جنونا، أو على الأقل شذوذا يلفت النظر ويحتاج إلى العلاج.
ولو أننا استبدلنا بكلمتي سن اليأس سن الحكمة، أو سن النضج؛ لكان لهذا المعنى الإنساني توجيه آخر نحو الأمل، والنشاط، ولكان منه سبب لسعادة نسائنا بدلا من شقائهن.
وأستطيع أن أزيد في أمثلة الجنون أو الشذوذ الذي ينشأ من الكلمات السيئة، وخاصة من تلك الكلمات التي تتصل بالعلاقات الجنسية والتي تعين لنا أسماء؛ أي معاني بذيئة لأعضاء الخلود البشري؛ لأننا حين نصف الأعضاء بالنجاسة ، أو نسميها «سوأة» إنما نصم التعارف الجنسي بأسوأ الوصمات، ونجعل منه جريمة مستترة، ونحيل أشرف عاطفة بين الزوجيين إلى دنس وخسة وعيب، وعندئذ يصطبغ الاتصال الزوجي بكل المعاني.
وقد كنت أقرأ كتابا بعنوان «صائدو الرءوس» لمؤلفه «ألفريد هادون» والكتاب يصف قبائل من المتوحشين في غينيا الجديدة ينتظم مجتمعهم على مراتب من الشرف والمروءة والشهامة تحتاج لبلوغها إلى أن يصيد الإنسان إنسانا آخر ويقطع رأسه، وعلى قدر ما يعلق من رءوس في كوخه يكون شرفه وشهامته ومروءته!
وأعظم ما لفتني في هذا البحث أن هناك عند هذه القبائل كلمات تحمل دلالات الشرف، والشهامة والمروءة، وتتصل بالقتل وفصل الرأس من البدن وتعليقه للفخر.
وهؤلاء المساكين ينشئون على هذه الكلمات، ويفكرون وفق الصور التي ترسمها لهم، ثم ينفعلون بالشرف، والشهامة، والمروءة، فيغتالون خصومهم أو غير خصومهم كما يفعل الشاب الريفي عندنا في جرجا وقنا، وأسيوط عندما يذكر كلمات الدم والانتقام والثأر؛ فيقتل ويظن أنه شهم شريف.
وعلى قدر كلمات الفضائل في لغتنا نكون فضلاء.
وعلى قدر كلمات الرذائل في لغتنا نكون أرذالا.
وعلى قدر المنطق في كلماتنا نكون منطقيين في سلوكنا.
وعلى قدر الخبال في كلماتنا نكون مخبولين في سلوكنا.
وأحب أن أكرر أن الكلمات أفكار، وأننا لا نستطيع أن نفكر بلا كلمات أو ما يقوم مقامها من إيماءات باليد أو بالعين أو نحو ذلك، وهناك حقيقتان سيكولوجيتان الأولى هي قوة الكلمة المتكررة في الإيحاء، فإننا نستطيع أن نحدث إيحاء لشخص آخر أو لأنفسنا؛ بكلمة مكررة تحمل معنى أو توجيها، وهذا هو التنويم النفسي الذي يحمل النائم على أن يسلك سلوكا معينا، فإذا تكررت كلمات الدم والثأر والانتقام؛ أحدثت الإيحاء ثم الإجرام، ومعظم سلوكنا - بل ربما كله - يعود إلى الكلمات التي تعودناها منذ الطفولة.
والحقيقة الثانية: أن الكلمة المنيرة؛ أي التي تنير العقل بالمنطق، أو القلب بالبر والشرف والمروءة، هذه الكلمة تمسح عن العقل النائم المضطرب غشاوة؛ ولذلك نحن نطلب من المريض أن يشرح بالكلمات تاريخ مرضه، ويحاول تعليله وكثيرا ما يشفى بمحض القوة المنيرة الإنسانية التي في الكلمات التي يستعملها؛ لأنه باستعمالها قد حدد مرضه وعين أماراته وأسبابه.
وكثيرا ما ألاحظ أن شيخوخة العقل تبدو مبكرة عند المسنين من الأميين، ولكنها تتأخر - أو لا تبدو بتاتا - عند المتعلمين المثقفين؛ وعلة ذلك تتضح مما شرحنا هنا، وهو أن الأفكار كلمات وما دام المسن يعرف الكلمات فإن عقله يحتشد بالأفكار، فلا يكون هناك مجال للخلط أو الخوف أو النسيان.
ومن هذا البحث المؤاجز نعرف أيضا أن أعظم ما تحتاج إليه أمة ما كي يرتقي مجتمعها وتنقص أمراضها وجرائمها، وكي يسلك أبناؤها السلوك الاجتماعي الحسن؛ أن تعمل لترقية لغتنا، وتنقيتها، ووضع الكلمات الجديدة التي تزيد الإحساس بالفضائل، وما أجمل أن نذكر للشعب ونكرر الذكر لكلمات الحرية والديمقراطية، بل الديمقراطية الاجتماعية والمساواة والإخاء والحب والمروءة والشرف والثقافة وحق المرأة في الإنسانية ونحو ذلك؛ أنها كلمات يصح أن يكون كل منها برنامجا للسلوك الاجتماعي السوي، بل الراقي.
الفصل الحادي عشر
الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية
طبيعة الكلمات هي الجمود وطبيعة الأشياء التي تعبر عنها هي التغير، فكل شيء في الدنيا، بل في هذا الكون يتغير، والحياة في الحيوان، والنبات هي أعظم المظاهر لهذا التغير، وهذا التغير على أقصاه في الإنسان؛ لأنه يعيش في مجتمع تتغير به أخلاقه وعاداته وآراؤه.
ونحن في تفكيرنا نتخذ أسلوبين: الأسلوب الموضوعي حين نتجرد من إحساسنا الشخصي، أو لا نجد له مجالا، كما لو قلنا: كرسي، أو، أسد، أو، شمس، أو شارع. فكلنا على وجه التقريب يذكر هذه الأسماء دون أي انفعال، وكلنا سواء تقريبا في إدراك صورها؛ ولذلك إذا كنا في حوار، وذكر أحدنا الشمس أو الكرسي؛ لم يحتج الآخر إلى أن يسأله: ماذا تعني؟ لأن المعنى واضح.
وهذه الكلمات موضوعية؛ أي أنها غير متأثرة بذواتنا، والمفكر العلمي يحاول على الدوام الوصول إلى هذا الأسلوب الموضوعي في التفكير؛ أي أنه حين يبحث مشكلة يتجرد من إحساساته وميوله وما يحب وما يكره.
ولكن هناك الأسلوب الذاتي أسلوب الأديب، والفنان فرجل الأدب يتحدث عن المثليات ، أو الجمال، أو الذوق، أو العظمة. وهذه الكلمات جميعها ذاتية؛ أي تعبر عن إحساساته وانفعالاته؛ ولذلك نختلف فيها كثيرا، فقد يقول أحدنا: إن القناعة من فضائل الفلاح. فأرد أنا عليه ولي انفعالات نفسية: لا بل هي من رذائله، وقد يستمع أحدنا إلى امرأة تغني فيقول: إن الأغنية حسنة، فيرد آخر: بأنها ليست أغنية وإنما هي أغنوجة.
ومن هنا نفهم أن الغناء والقناعة كلمتان ذاتيتان نختلف فيهما كثيرا، أما الكرسي، والشارع فكلمتان موضعيتان لا علاقة لهما بانفعالاتنا وإحساساتنا؛ ولذلك لا نختلف فيهما.
فحين أسمع أحدهم يقول: «امرأة جميلة» فإني أفهم كلمة امرأة ولا أختلف معه؛ لأن الكلمة موضوعية، ولكنه حين وصفها بالجمال قد تعرض للمناقشة؛ لأن الكلمة ذاتية إذ قد تكون فكرتي عن الجمال غير فكرته.
والكاتب الذكي هو الذي يحاول أن يكون عمليا موضوعيا وليس عاميا ذاتيا، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة ستحتوي - على الدوام - كلمات ذاتية تعبر عن الآداب والفنون، وهي هنا ليست عامية، ولكنها تعبر عن ذاتية ممتازة.
انظر مثلا إلى قول أحدنا: هذا الصبي ذكي.
فإن وصف الذكاء هنا قد يكون ذاتيا؛ لأن المتكلم ربما وصفه بذلك؛ لأنه استخف ظله، أو لأن هذا الصبي قد خدمه، أو لأن المتكلم نفسه ليس ذكيا فكلمة «ذكي» هنا ذاتية، ولكن السيكولوجيين استطاعوا أن يجعلوا هذا المعنى موضوعيا؛ فهم يقولون: «هذا الصبي يبلغ معدل ذكائه 107»، وذلك بعد قياس مضبوط.
وكلمات الشرف، والثقافة، والغباوة، والفاقة، والثراء، والعدل، والشجاعة، والجمال، والقناعة، والتكبر، والغضب، والتسامح؛ كلها، كلمات ذاتية تعبر عن انفعالاتنا الشخصية أو ظروفنا البيئية ولا تعبر عن حقائق موضوعية مثل: الكرسي أو الشارع، والتفكير السديد ينقلنا أو يحاول أن ينقلنا من النظر الذاتي للأشياء إلى النظر الموضوعي ومن الوصف المائع العام إلى الوصف بالأرقام كما رأينا في معدل الذكاء في السيكولوجية وكثير من الفهم السيئ للفلسفة القديمة، وما يلحق بها من أدب، ودين يرجع إلى أنها عالجت شئون الدنيا بكلمات ذاتية قد اختلفت معانيها بعد مرور ألف أو ألفي سنة.
وقد ارتقت الأمم بكلمات ذاتية مثل: مروءة، وشرف، وشهامة، وحياء، وأنفة. كما انحطت بكلمات ذاتية أخرى مثل: شماتة، وكفر، ونجاسة. ولكن إذا صرفنا النظر عن الارتقاء والانحطاط فإننا نجد أن الكلمات الذاتية كثيرا ما تبعث على الالتباس والفهم السيئ، ومن هنا الاختلاف الدائم في الدين، والفلسفة، والآداب والفنون، والاتفاق التام في العلم؛ لأن كلمات العلم موضوعية، ولذلك أسلوب التفكير فيه موضوعي.
الفصل الثاني عشر
إحدى الكلمات
لغتنا تستوي وسائر اللغات العصرية في نقص التعبير عن المعاني الذاتية. وهذا النقص سوف يبقى - كما قلنا - إلى أن نهتدي نحن وسائر الأمم إلى اللغة العلمية أي: اللغة التي تنقل المعنى من «الذاتية» إلى «الموضوعية».
بدلا من أن نقول: هذا الصبي ذكي نقول: يبلغ ذكاء هذا الصبي 115.
وبدلا من أن نقول كان يوم أمس حارا مرهقا نقول: بلغت الدرجة المئوية للحرارة أمس 39.
وقد سبق أن قلنا أيضا: إن العلم لا تنضبط قواعده إلا إذا عبر عنه بالأرقام. وقد يتساءل القارئ في أسف واكتئاب: أي دنيا هذه التي يعيش فيها الناس بلغة الأرقام؟
ولكن يجب أن نذكر أن العالم لا يزال في بداية التعبير اللغوي، وأن الفرق بيننا، وبين المتوحشين في اللغة إنما هو فرق الدرجة والتفاوت، وليس فرق النوع والاختلاف فالمتوحش يعبر عن حاجته بنحو 500 كلمة، ونحن بنحو 5000 أو 50000 وهو يقول عما زاد على العشرة إنه «كثير»؛ أي أنه يعبر بكلمة واحدة عن أعداد المئات والألوف والملايين، وربما لا يزال متعلقا بطريقة «الإحصاء» بالحصى كما كنا نحن قبل ألوف السنين، ولكن مع هذا لا تزال في لغتنا العربية ولغات الأمم العصرية كلمات تعبر عن إحساسات مختلفة تتغير معانيها ولا تتغير الكلمة التي تدل عليها، ونحن في هذا مثل المتوحش الذي يسمي ما زاد على العشرة «كثيرا».
انظر مثلا إلى كلمة «أحب».
فالرجل يحب المرأة هذا الحب البيولوجي الذي يقصد منه إلى التناسل، والزوج يحب زوجته، وإحساس الزوجين للحب يرتفع على المستوى البيولوجي فهنا اختلاف.
ولكن أحدنا يقول إنه يحب الملوخيا فهل كلمة الحب التي تستعمل للتعبير عن العلاقة بين الرجل والمرأة هي نفسها التي يصح أن تستعمل للتعبير عن العلاقة بين الرجل والملوخيا؟ وهل الإحساس واحد في الحالتين؟
والإنجليز يفصلون بين هذين المعنيين باستعمال
Love
للأول و
Like
للثاني.
ألسنا نرى أن كلمة «أحب» كلمة عامة تدل على إحساسات مختلفة، ولكننا نطلقها عليها جميعها؛ لأننا كالمتوحش حين يسمي ما زاد على العشرة «كثيرا»؟
ثم هناك حب الأم لأطفالها، ثم حب الأطفال للأم، وكلاهما أيضا مختلف، ثم حب الإنسان لله، ثم وصية الدين بأنه يجب لنا أن نحب بعضنا بعضا، ثم حبنا للمال، ثم هناك الحب بين الحيوان، بل أن السمكة نفسها لتحب أطفالها وتذود عنها.
فهل يصح أن تؤدي كلمة الحب كل هذه المعاني المختلفة؟ ألا يدل قصور هذه الكلمة على قصور اللغات العصرية - أرقاها وأدناها - وأننا ما زلنا في المرحلة الأولى من التعبير؟
أجل إن اللغات جميعها لا تزال في طور التجربة؛ وستبقى كذلك ما دام عقل الإنسان يرتقي ويطلب الوضوح مكان الغموض والمعنى الموضوعي مكان المعنى الذاتي، ويكاد ارتقاء السيكولوجية يتوقف على هذا وحده؛ أي على تفسير الإحساس الذاتي تفسيرا موضوعيا، ومن هنا الصعوبة الكبرى في ترجمة الشعر، والدين، والأدب؛ لأن هذه الثلاثة تتصل بالمعاني الذاتية التي يشق على أبناء أمة أجنبية أن يفهموها؛ لأن البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها قد اختلفت وأحدثت عواطف مغايرة لما كان في البيئة الأصلية التي وضع فيها الشعر والدين والأدب.
وكلمة «الحب» واحدة، من مئات الكلمات الذاتية التي تتسع كل منها لجملة صور مثل: كلمات الفهم، والجمال، والألم، والسرور، والحزن، والنشاط، والكراهة، والحنان، والمجد، والسعادة، والإيمان، والتعقل، والوهم، والغيرة.
وهناك كلمات أخر نتوهم منها أنها موضوعية، ولكنها تحدث لنا إحساسات وانفعالات ذاتية؛ فتلتبس معانيها وتختلف في دلالتها مثل: الديمقراطية، والحرية، والأوتوقراطية، والتعصب؛ فإنها جميعها تدل على حالات نراها في شعب أو جماعة، وكان يجب أن تكون موضوعية ولكنا نقحم إحساساتنا الشخصية فيها، فتعود وكأنها ذاتية.
فلو قيل لنا: إن الهندوكيين يكرهون البوذيين في الهند ويؤذونهم؛ استطعنا أن نفهم معنى التعصب هنا ، ونحكم حكما موضوعيا نزيها؛ وذلك لأننا لسنا هندوكيين أو بوذيين، ولكن عندما يقرأ المسلم تاريخ الحروب الصليبية؛ يجد نفسه مختلفا كل الاختلاف مع القارئ المسيحي؛ لأن كلا منهما ينظر نظرا ذاتيا لمعنى التعصب.
الفصل الثالث عشر
اللغة القديمة واللغة العصرية
كل من يعرف اللغة الإنجليزية؛ يدرك الفرق العظيم بين اللغة التي كان يستعملها «شكسبير» حوالي سنة 1600، وبين اللغة الإنجليزية الآن، وهذا الفرق هو فرق النمو والتطور، فإن اللغة الإنجليزية لم تجمد وتتحجر، ولم يلتمس الكتاب «جملا مختارة» من «شكسبير» كي يزخرفوا بها إنشاءهم بل أخذت اللغة تتميز بالتنفية والتنقية حتى اختلفت اختلافا كبيرا عن لغة شكسبير، مع أن المدة بينهما لا تزيد على 340 سنة.
ومما يذكر في تطور اللغة الإنجليزية أن الملك «جيمس» حين زار كنيسة «سان» بول الكاتدرائية عقب انتهاء المهندس من بنائها؛ عبر عن إعجابه بهذه الكلمات
Amusing, Awful, Artificial
فسر المهندس غاية السرور. ولكن هذه الكلمات قد انتقلت في عصرنا من معنى الاستحسان إلى معنى الاستقباح والاستهجان، والاستهزاء.
وهذا هو التطور وهذا هو الرقي؛ فإن اللغة الحية التي يستخدمها مجتمع حي يجب أن تتطور، ومحاولة تجميد اللغة والتزام عباراتها القديمة وكراهة إيجاد الكلمات الجديدة؛ إنما تعني: تجميد الأذهان وعرقلتها في التفكير الناجع.
حين كنت أحرر في إحدى الجرائد كان بها شيخ مصحح يشرف على اللغة ويمنع تسرب الأخطاء، وكان رجلا طيب القلب جامد الذهن، فكان يعارض في كلمة «ماهية» الموظف ويضرب عليها، ويضع بدلا منها «مرتبا»، أو «أجرا» فكان المخبر الذي كتب الخبر يرى عقب طبع الجريدة أن وكيل الوزارة أو رئيس القلم قد زيد «أجره» فيهرول إلى الشيخ ويصرخ ويهيج، ولكن الشيخ يصر على أن كلمة «ماهية» لم ترد قط في المعاجم بمعنى «أجر» ولا عبرة باصطلاح الحكومة على المعنى الجديد لها.
وهذا هو النظر الجامد للغة ولو أن كتاب العرب القدماء كانوا قد التزموا هذا الجمود لقصرت اللغة في التعبير، ولكن في اللغة العربية أكثر من ثلاثة آلاف كلمة رومانية وإغريقية، وفارسية وهذا زيادة على المعاني الجديدة التي ألحقت بالكلمات القديمة؛ فتخصصت الكلمة لمعنى معين بعد أن كانت عامة، وهذا هو ما نفعل نحن الآن فقد خصصنا:
الدستور للنظام الأساسي للدولة.
والصحيفة للجريدة، أو المجلة.
والغارة لهجوم الطائرات.
والعلم للمعارف التي يمكن امتحانها بالتجربة أو ما يساويها في التحقيق.
والإذاعة لما يصدر عن المحطات الإشعاعية.
والجامعة لمجموعة كليات مستقلة في ثقافتنا إلى حد ما ... إلخ.
وبهذا التخصص وبإيجاد كلمات جديدة مرنت لغتنا بعض المرونة، وخدمت مجتمعنا، ولكن مشكلاتنا اللغوية لا تزال كثيرة، وما زلنا نلتزم عبارات مقتبسة يعافها الذهن الذكي، ومرجع هذه العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي تعلمناها وغرست في أنفسنا قيمة مزيفة للاستعارة والمجاز، فما زالت صحفنا مثلا تقول:
عرض على بساط البحث بدلا من عرض للبحث.
وخاض غمار القتال بدلا من «قاتل».
حمي وطيس القتال بدلا من «حمي القتل».
دارت رحى المعركة بدلا من «دارت المعركة».
وضعت الحرب أوزارها بدلا من «انتهت المعركة».
لتعزيز أواصر الثقة بدلا من «لتعزيز الثقة».
صب جام الغضب بدلا من «غضبه».
أطلق سراحه بدلا من «أطلقه».
نتجاذب أطراف الحديث بدلا من «نتحدث».
وقل منا من يقول: الحرب الضروس أو الموت الزؤام، ولكن العبارات السابقة التي ذكرت لا تزال ترى كل يوم في جرائدنا على الرغم مما فيها من استعارات ومجازات يمكن أن نستغني عنها بل على الرغم من أنها كلمات تحتاج إلى مجهود كبير لتفسيرها لصبياننا مثل: وطيس، أوزار، أواصر، جام، رحى.
وفي استغنائنا عن هذه العبارات اقتصاد ذهني ومادي، ويجب ألا يفهم القارئ أننا نعارض الاستعارة كائنة ما كانت، ولكنا نعارضها حين يمكن الاستغناء عنها فيكون الاقتصاد الذهني والمادي كما يتضح من الأمثلة التي ذكرنا، إذ ألغيناها جميعا ولم ينقص المعنى، وأيضا حين تعكس لنا مجتمعنا؛ فإن كلمات الوطيس والجام والرحى لا تتصل بمجتمعنا العصري كما كانت تتصل بمجتمع العباسيين. وأولى من هذه الكلمات كلماتنا العصرية مثل: قطار، أو موطر، أو تليفون الخ.
الفصل الرابع عشر
المجتمع العربي القديم
خدمت اللغة العربية مجتمعين عربيين: أولهما المجتمع البدائي حين كان العرب قبائل يرحلون وينتجعون، وقد ورثنا نحن من هذا الطور آلاف الكلمات عن الصحاري والإبل والخيل والغزو والخيام، ولكنا لم نرث شيئا من هذا الطور يتعلق بالزراعة أو الصناعة أو الحكومة، ثم خدمت اللغة مجتمعا عربيا آخر هو المجتمع الحضري، وإذا قلنا «المجتمع الحضري» فإننا نعني مجتمع بغداد؛ لأنها كانت بؤرة الثقافة العربية نحو أربعة قرون، وكانت مدن مصر وسوريا والمغرب والأندلس والحجاز تستوحيها وتستمد منها.
والمجتمع البدائي الأول لا نكاد ننتفع بتراثه اللغوي، أما المجتمع الحضري الثاني فهو رأس المال الذي نستغله ونرجع إليه ونستمد منه، ولغتنا ما زالت هي لغته بكلماتها ومعانيها مع تغيير قليل في المعاني وزيادات في بعض الكلمات. وقد خدمت اللغة هذا المجتمع الخدمة الصادقة ولهذا السبب نفسه؛ أي لصدق الخدمة التي قامت بها اللغة للمجتمع العربي أيام الأمويين والعباسيين والأتراك قد حملت كلماتها إلينا جوا غريبا عنا، ونحن نشعر بهذه الغرابة حين نحاول وصف مجتمعنا ونبحث عن الكلمة «الجوية» التي تؤدي معنى نحتاج إليه في السوق والبورصة والمكتب والمصنع والمداولات السياسية والحقوق المدنية والعلوم المادية، إلخ. وحملت إلينا عادات ذهنية ما زلنا نستضر بها؛ لأنها لم تعد تتفق وحياتنا العصرية وإليك شرحا موجزا.
كان المجتمع العربي أرستقراطيا يعيش بكد العامل أو بكد العبيد كما كان الشأن في أوروبا مدة القرون الوسطى، وكان لذلك يحتقر العمل اليدوي، وكانت الطبقة المتوسطة معدومة؛ ولذلك لا نستغرب اقتراح أحد الأدباء مدة العباسيين ألا يباع الورد للسوقة؛ لأن هذا الزهر أجل من أن تتناوله يد العامل الخسيس ولا نستغرب أيضا أن يكون أوفى الكتب الأدبية التي نعتمد عليها في تفهم المجتمع العربي القديم هو كتاب «الأغاني»، وفصوله هي مجالس الأثرياء والخلفاء مع المغنيين والمغنيات واسم الكتاب وموضوعه يدلان على أرستقراطية الأدب الذي نشأ لخدمة المجتمع العربي الأرستقراطي، ثم أرستقراطية اللغة التي تعبر عنه.
ومجتمعنا الآن ديمقراطي أو نحن نحاول أن نجعله كذلك وننشد الديمقراطية في الحكومة والعائلة والمدرسة، ولكن التراث اللغوي الأرستقراطي الذي ورثنا من العباسيين لا يساعدنا على ذلك.
ثم كان هذا المجتمع حربيا فإن الصراع بين الدولة الرومانية والدولة العربية؛ أحال اللغة إلى خدمة الحرب؛ فزكت الخطابة والشعر خطابة الحرب وشعر الحرب وكثرت كلمات العاطفة والانفعال (الكلمات الذاتية)؛ لأن المجتمع العربي كان معسكرا يحتاج رجاله إلى ما يملأ قلوبهم حماسة وقد ورثنا هذا التراث مع أن مجتمعنا سلمي يحتاج إلى كلمات السلم وليس إلى كلمات الحرب.
كان المجتمع العربي القديم يعيش في ظل حكومة استبدادية لم تعرف قط معنى البرلمان أو المجلس البلدي؛ ولذلك نحن نحمل عبء الكلمات العربية التي خدمت هذا المجتمع الاستبدادي ونحاول تحميلها المعاني الديمقراطية الجديدة، أو نصطنع الكلمات الجديدة مثل «برلمان» لكي تؤدي معنى لم تعرفه الثقافة العربية القديمة.
لم يكن المجتمع العربي القديم يعيش على المعارف والمنطق إلا في أقله وكان يعيش على العقائد والغيبيات في أكثره؛ ولذلك يشق علينا في مجتمعنا أن نؤدي المعاني للمعارف المادية؛ لأن لغتنا حافلة بكلمات الغيبيات والعقائد دون كلمات العلوم الجديدة.
والنتيجة لهذه الحالة أننا نجد صعوبات لغوية خطيرة كلما حاولنا معالجة المعارف العصرية؛ لأن لغتنا قضت شبابها وهي تلابس مجتمعا أرستقراطيا حربيا عقديا؛ فكثرت مصادرها اللونية التي تعبر عن حاجات هذا المجتمع، فكانت لغة الخطابة والشعر والغيبيات بل لغة اللهو والأغاني والقتال، ولكنا نحن نختلف عن العباسيين والأمويين من حيث إن حضارتنا قد صارت تنشد الديمقراطية وتنهض على الصناعة وتعتمد على المعارف والماديات دون العقائد والغيبيات، ومن هنا صارت البلاغة القديمة بلاغة الإدارة تعبر عن شهوات ورغبات وليست بلاغة المنطق التي تعبر عن العقل والذكاء كما حفلت اللغة برواسب من الكلمات التي لا ننتفع بل نستضر بها كلما حاولنا تحريك المجتمع؛ لأن التحريك يعد هنا تعكيرا.
الفصل الخامس عشر
الكلاسية داء الأدب العربي
كل لغة تحتاج إلى شيء من الكلاسية نعني النزعة التليدية، حين يتصل الأديب بأسلافه من الأدباء يتذوق مؤلفاتهم وينغمس في أمانيهم ومثلياتهم، ويقتني بذلك التراث الذهني السابق، وفي كل عصر نجد الكاتب الذي ينزع إلى تليده والكاتب الذي ينزع إلى طريفه ، وهما ليسا خصمين ولكنهما متعارضان، وقد ينتفع أحدهما بالآخر؛ إذا لم يكن الفرق بين الطارف والتليد عظيما كما يكون أحيانا أيام الثورات والانفجارات الاجتماعية، ففي هذه الأيام تتقهقر النزعة التقليدية وتبرز النزعة التجديدية، ويحدث العكس أيام الاستقرار حين تقنع الأمة بالكلاسية وتطمئن إلى التقاليد بل تتعلق بها وتخشى التجديد والتغيير، وبدهي - لهذا السبب - أن الكاتب الذي ينغمس في الكلاسية؛ إنما يفعل ذلك لأنه يعيش في بيئة أدبية راضية عن التقاليد كارهة للتجديد والكلاسية ليست في الواقع شيئا أكبر أو أصغر من التقاليد الفكرية والأدبية.
لما كان «فولتير» في إنجلترا ذكر له أحد الناقدين الإنجليز قول «شكسبير» في رواية هاملت: «فما تحرك فأر»، واستحسن الناقد هذا التعبير؛ لما فيه من بساطة، ولكن «فولتير» أجابه بقوله: ماذا تقول؟ إن الجندي يستطيع أن يجيب هذه الإجابة في ثكنته، ولكن لا يجوز هذا على المسرح أمام أسمى الأشخاص في الأمة أولئك الذين يتحدثون بلغة شريفة؛ ولذلك يجب ألا يجدوا مثل هذه اللغة عندما يستمعون.
وكان «فولتير» هنا كلاسيا تليديا ينشد الفخامة والروعة في الكلمات وكان قد ترك فرنسا الملوكية الرجعية التي يتلألأ فيها عرش «لويس الرابع عشر» أو الخامس عشر تحيط به نجوم من النبلاء والأمراء والسيدات المزينات بالآلي التي جمعت أثمانها من أقوات الملايين من الشعب.
عاش «فولتير» في هذا الوسط ومع أنه ثار عليه بعد ذلك فإنه كان قد تلبس بمزاجه ونزع نزعته، فكان الكاتب التليدي كما كان «جان جاك روسو» الكاتب الطريفي وأوروبا لا تزال إلى الآن في مشكلاتها ومثلياتها تستنير بضوء روسو، فهي ثائرة متغيرة لم تستقر.
ولكن إنجلترا التي زارها «فولتير» والتي ألف فيها «شكسبير» ولم يأنف من ذكر الفأر في درامة عالية مثل: «هاملت»، إنجلترا هذه لم تكن رجعية؛ إذ لم يكن فيها عرش مستبد كالعرش الفرنسي، وكانت قد استقرت فيها الحرية والبرلمانية بعد قطع رأس «تشارلس الأول» ثم كانت الحركة التجارية قد أوجدت فيها طبقة متوسطة طريفية يحضر أفرادها دور التمثيل وكل هذا جعل الوسط الأوروبي غير تليدي .
وداء اللغة العربية في جميع الأقطار العربية هو داء الكلاسية الرجعية التليدة، وليس هذا الداء جديدا؛ فإننا نجد أثره مثلا حين نقرأ عن رفض إحدى قصائد «أبي نواس» وهو المجدد العظيم في مباراة أدبية - على ما نذكر - وكذلك لما دخل «جنكيز خان» بغداد ألغى كلمات التفخيم التقليدية وألح في وجوب التبسيط اللغوي. وهنا يقول ابن عرب في كتابه «فاكهة الخلفاء»: «فكان في المكاتبات ... لا يزيد على وضع اسمه ... من غير مجازات واستعارات ... وكذلك الأمراء والوزراء ... ولما فرغ من ترتيب هذه القواعد الملعونة وخرج بها على خلاف الشريعة الميمونة ...» إلخ ... إلخ.
فنحن هنا إزاء رجل مغولي دخل الأقطار العربية وليس له فيها تقاليد اجتماعية أو دينية أو أدبية، فعمد إلى تبسيط اللغة فلا حضرة ولا جناب كما يقول مؤلف «فاكهة الخلفاء» الذي يحنق إلى درجة أنه يجد في هذا التغيير في اللغة مخالفة «للشريعة الميمونة» أي: أنه لم يختلف هنا عما يقول الدكتور «زكي مبارك» حين ألف كتابه عن «اللغة والدين والتقاليد»، حيث يرى الارتباط بين الثلاثة وحيث يكره أشد ما يكره حرية المرأة حتى إنه ذكر أنها تستحق الضرب بالحذاء على رأسها وأن والده كان يفعل ذلك بزوجاته، وهو هنا ينساق فيما يتوهمه من تقاليد عربية.
وحين أسست الحكومة المصرية مدرسة «دار العلوم» وقصرت الملتحقين بها على المسلمين دون المسيحيين أو اليهود؛ إنما نظرت أيضا هذه النظرة؛ أي أنها رأت ارتباط اللغة بالدين والتقاليد فاللغة عند زكي مبارك وابن عرب والحكومة المصرية؛ ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتليفزيون، بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب، ولا بد أن ابن عرب يفرح ويطرب لو أنه بعث في عصرنا حين يجد أننا خالفنا «جنكيز خان» «الذي كان في المكاتب ... لا يزيد على وضع اسمه ... من غير مجازات واستعارات»؛ ذلك لأننا نقول الآن صاحب المعالي وصاحب السعادة ... إلخ ... إلخ.
وخلاصة القول أن الداء الأصيل في اللغة العربية هو الكلاسية التليدة، وهي لذلك لا تكتسب طريفا؛ لأنها قانعة بتليدها، وهذه حال يجب ألا نرضاها نحن ؛ لأنها تحول دون أن نكون أمة عصرية. وصاحب المعالي وصاحب السعادة وضرب المرأة بالحذاء على رأسها؛ لن ينجينا من مثل (جنكيز خان) بأسلوبه العصري، ويستطيع القارئ الذكي أن يرد هنا بأنه عندما يتغير الوسط الاقتصادي يتغير الوسط الاجتماعي؛ أي عندما نصير أمة صناعية؛ لا بد أن تتغير اللغة وتقبل الطريف.
وهذا صواب، ولكن قبل ذلك يجب أن نعرف لماذا نكره إلغاء الإعراب وتبسيط التعبير (فأر شكسبير) واصطناع اللغة العامية؛ كي نعبر الهوة التي تفصل بين الأدب والشعب واتخاذ الخط اللاتيني، وأيضا حرية المرأة.
الفصل السادس عشر
الإيحاء الاجتماعي للكلمة
في 1870 كانت فرنسا يتسلط عليها الإمبراطور نابليون، وكان مفكروها يكرهون النظام الإمبراطوري ويطلبون إلغاء العرش وإعادة الجمهورية، فكان مما كتبه الأديب الكبير فلوبير قوله: إن الشعب الفرنسي يتعلق بالإمبراطورية؛ لأنه مخدوع باسم نابليون؛ أي أن اسم نابليون الأول قد ترك في التاريخ رنينا ودويا كانا لا يزالان يجدان الصدى في النفس الفرنسية؛ ولذلك فإن كلمة «نابليون» كانت توحي إلى الشعب حبا وتعليقا في غير مكانهما؛ لأن نابليون الثالث لم يكن يستحقهما سنة 1870.
وفلوبير على حق؛ فإن للكلمات إيحاء سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا، فما هو أن ننطق بالكلمة أو تخطر هي ببالنا حتى تنطلق طائفة من العواطف تحرك إرادتنا وتعين سلوكنا وتفكيرنا، وقد سبق أن قلنا: إن كلمات الدم والانتقام والثأر تحدث ثلاثمائة جناية في الصعيد كما أن كلمتي شرق وشرقيين تحدث بين بعضنا صدودا عن الحضارة العصرية كأننا في حرب مع الأوروبيين وإن هذا الصدود يؤذينا في تطورنا ولا يزال عندنا من الكلمات والعبارات ما يوحي إلينا إيحاء سيئا يتعارض مع الروح الديمقراطي الذي نرجو أن نعممه في المجتمع والحكومة والعائلة ومن ذلك مثلا قولنا «أبناء البيوتات» أو «حرم فلان» أو «أم فلان».
ولكل كلمة إيحاؤها الذي يقوى أو يضعف وكثيرا ما ينعدم التفكير؛ لانعدام الكلمة، فإن المبشرين الذين عاشوا بين القبائل البدائية أو المتوحشة في أفريقيا السوداء كانوا يجدون مشقة عظيمة بل أحيانا استحالة في شرح الديانة المسيحية؛ لأن لغة هذه القبائل لم تكن تحتوي كلمات تدل على الله أو الجنة أو جهنم أو النعمة أو المجد أو الصدق.
وكثير من فضائلنا ورذائلنا معا يرجع إلى الكلمات، فلو لم تكن هناك كلمتا الصدق والكذب لكان من الشاق علينا أن نفهم معنييهما، وكلمة «الشماتة» توحي إلينا أسوأ العواطف.
واعتبر مثلا أيها القارئ طبيبا وحشاشا يتحدث كل منهما عن الأعضاء التناسلية، فالأول يذكر كلمات لا تحرك عاطفته أو تهكمه أو سخريته ولكنها تحرك ذهنه؛ لأنها كلمات يقصد منها إلى المعارف؛ ولكن الحشاش يذكر كلمات توحي العاطفة الجنسية أو التهكم أو السخرية، فالموضوع هنا واحد ولكن اختلفت معانيه باختلاف الكلمات التي تستعمل في وصفه.
وهنا يجب أن نذكر أن كثيرا من توجسنا من الحب واختلاط الجنسين؛ يرجع إلى أننا نستعمل كلمات الحشاشين، سواء أكانت فصحى أم عامية في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلا من كلمات العلماء أو المثقفين؛ ولذلك كلما فكر بعضنا في الحب أو اختلاط الجنسين على الشواطئ أو العري خطرت بذهنه كلمات توحي البذاء أو العهر؛ فيصد ويصرخ في دعوة إلى انفصال الجنسين، فأحدنا المتعلم المثقف العصري حين يفكر في الاستحمام والشواطئ واختلاط الجنسين تخطر بباله هذه الكلمات: الصحو، الأوزون، فيتامين، السباحة، هواء البحر المعقم، المؤانسة، الرياضة، النحافة، الرشاقة.
وأحدنا الآخر غير المتعلم أو بالأحرى غير العصري؛ تخطر بباله هذه الكلمات: الأرداف، الأكفال، البطن المتعكن، وصدر مثل حق العاج رخص. وكلمات أخرى تخطر ببال الحشاشين؛ فتؤدي إلى تفكير الحشاشين ثم إلى الصراخ بالعيب والعار على الشواطئ، والحب نفسه يتكيف بالكلمات التي تستعمل في وصفه أو شرحه بين المحبين فهو عهر بين الشاب وبغي، وهو كذلك بين الحشاش وزوجته، ولكنه يرتفع إلى الطهر والشرف بين المثقفين الذين يستعملون الكلمات السامية المهذبة لكل ما يتصل بأعضاء الخلود البشري.
والإيحاء الحسن من الكلمات كثير أيضا، فانظر إلى قولنا: «الروح الرياضي»، وكيف تؤثر هذه العبارة كالسحر وتبعث عاطفة حسنة في الشاب حين يجور أو يغضب، وانظر إلى قولنا: يجب أن تكون (جنتلمانا)؛ فإن هذه الكلمة الإنجليزية تجمع من المعاني ما لم نوفق نحن ولا غيرنا - مثل الفرنسيين أو الإيطاليين - إلى ترجمته بإحدى كلماتنا؛ ولذلك استعملت في اللغات الثلاث.
ولما خرجنا نحن من ظلام القرون الوسطى وجدنا من المعاني في اللغات الأوروبية ما لم نجد ما يقابله في لغتنا؛ فاخترعنا الكلمات التي تؤديها فقلنا: عائلة، وتطور، ووطنية، وشخصية، ودستور، وثقافة، وعالمية، ومسئولية، وإخاء.
وهذه الكلمات أحاطتنا بجو حسن من التفكير العصري، يجعلنا نتابع تطورات العالم ونفهم مشكلاته، ولم تكن لهذه الكلمات التي ذكرنا معرفة في لغتنا، أو كان بعضها معروفا ولكنه لا يحمل هذه المعاني العصرية التي نلصقها بها مثل: ثقافة وإخاء ودستور نجدها في المعاجم، ولكنا لا نجد لها معانيها العصرية.
واذكر أيها القارئ الجو السيئ الذي يبعث تفكيرا سيئا في صبياننا عندما يركبون الترام أو يسيرون في الشارع؛ فيسمعون الباعة الجائلين يشتم بعضهم بعضا بذكر الأعضاء التناسلية بكلماتها الفجة؛ فإن الصبي ينشأ وقد تلبس بالمعاني الفجة التي لهذه الكلمات، وهو عندما يبلغ الشباب يجد أن علاقته بالمرأة مكيفة مصوغة إلى مدى بعيد بهذه الكلمات، وهو يشقى بهذا.
والصبي حين يقرأ المجلات الأسبوعية تعلق بذهنه كلمات من النكات الجنسية تعين له السلوك الجنسي في المستقبل أو تؤثر فيه؛ ذلك لأن لكل كلمة إيحاءها الذي يندس في العقل الباطن ويكون لنا عادات في التفكير والأخلاق، ويجب لهذا السبب أن نحيط أبناءنا بالكلمات المثلى التي تبعث التفكير الحسن كما يجب علينا نحن الكبار ألا نستسلم لإيحاء الكلمة، بل ننظر من خلالها إلى المعاني المختفية التي لا تتفق والحقائق فنميز بين الكلمة الذاتية وبين الكلمة الموضوعية، وليس هذا بالمجهود اليسير، وقل منا من ينجح فيه، ومعظمنا ينجح في الكشف عن قليل من الكلمات وتحري محتوياتها من غموض أو وضوح ومن خير أو شر؛ ذلك لأننا نتسلم الكلمات منذ الطفولة، فننشأ على تصديق ما يقول به العرف عنها، ثم نقبل ما تبعثه فينا من عواطف؛ فإذا شببنا أخذنا غيرها من الكلمات، وبقدر ما عندنا من ذكاء ناقد تكون قدرتنا على التخلص من بعض إيحاءاتها.
وذكاؤنا الناقد محدود بالعمر، والكلمات غير محدودة؛ إذ هي تراث آلاف السنين.
الفصل السابع عشر
الأقوال أفعال
من الأوصاف المألوفة أن نقول عن أحد الزعماء أو السادة إنه «رجل أقوال وليس رجل أفعال». وأحيانا نسمع من ينبهنا إلى أن الكلام غير العمل، وقد كان نابليون نفسه يصف الأدباء بأنهم «تجار الكلمات»، «ولأبي تمام» شطرة من بيت كثيرا ما تذكر هي «السيف أصدق أنباء من الكتب».
والواقع أن أبا تمام لم يقل كلمة هي أبعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة؛ لأن السيوف لا تتحرك إلا للكلام الذي سبقها، والكلام هو القوة الروحية المتسلطة، والسيف هو القوة المادية الخاضعة، أليس من الواضح أن السيوف إنما جردت في حروب العرب والرومان لأن كلا منهما كان يفكر بكلمات تحمل قوات ذهنية وروحية ونفسية تختلف مما كانت تحمله الكلمات الأخرى عند الفريق الآخر؟
ثم انظر إلى نابليون، لقد ضاع كل ما فتحه بالسيف في أوروبا وأفريقيا قبل أن يموت، أما الكلام الذي رتبه في «قانون نابليون» فلا يزال حيا إلى الآن، ولو أن نابليون عني بالكلمات ولم يحتقرها؛ لكان إلى جنب سيوفه ومدفعه دعاية لمذهبه الجديد في الحكم من حيث اتحاد أوروبا وإلغاء النظام الإقطاعي، ولكنه أهمل هذه الدعاية؛ ولذلك استطاع أصحاب الكلمات القديمة بزعامة «مترنيخ» أن يفوزوا عليه، وأن يطفئوا نور العصر الجديد إلى حين.
ونحن البشر نختلف عن الحيوان من حيث إن أحسن أعمالنا هو أقوالنا؛ أي هو كلماتنا التي نعين بها المبادئ والمثليات ولقد فتح الإسكندر الدنيا المعروفة في زمنه فما هو أن مات حتى تشتتت، ولكن أستاذه أرسطو طاليس رب الكلمات لا تزال كلماته حية بعد 2200 سنة من وفاته.
وقد خابت الحرب الكوكبية الأولى؛ لأن عدتها من الكلمات كانت أقل من عدتها من السيوف والمدافع، فلما انتهى عمل السيوف والمدافع وهزمت ألمانيا وجاء السلم لم تجد كلمات «ولسون» الجو الملائم لنموها؛ فذبلت وماتت أمام الأعشاب التي زرعها «كليمنسو» «ولويد جورج» ولو أن كلمات ولسون نجحت ووصلت إلى قلوب المتمدنين، ولو أنها كانت قد عبئت بالقوة التي عبئت بها السيوف والمدافع؛ لثبت السلم وعم العالم، وما كنا عندئذ لنقع في هذه الحرب الكوكبية الثانية.
وقد احتاج هتلر إلى نحو عشرين سنة وهو يعبئ الكلمات ويشحنها بشحنات عاطفية قوية تحمل الشعب الألماني على التهيؤ الروحي للصراع الذي ابتدأ في أول سبتمبر من سنة 1939، وأنا أكتب الآن (في إبريل سنة 1944) وقد خسرت ألمانيا شيئا عظيما جدا من قوة السيوف والمدافع، ولكن قوة الكلمات النازية لا تزال تدفعها إلى المقاومة.
وما المثليات والمبادئ إلا الكلمات بل ماذا أعطانا الدين غير الكلمات كأن كل كلمة شعارا أو مبدأ نبني عليه خطط الحياة؟ وهل نسي أبو تمام أن المسيحية تركت كتابا وأن الإسلام ترك كتابا وكذلك فعلت سائر الأديان وأن هذه الكتب أصدق أنباء من السيوف؟ ومن منا ينسى الكلمات الثلاث: الحرية المساواة والإخاء هذه الكلمات التي أحدثت الثورة الفرنسية وغيرت المجتمع في أوروبا ولا تزال تغير مجتمعات أخرى في غير أوروبا، وميزة الأعمال التغيير ولكن هذه الميزة نفسها تلصق أيضا بالأقوال؛ لأنه ما من كلمة نقولها في المجتمع إلا وتحدث تغييرا.
كان أبو تمام شاعرا عربيا وكان «ملتون» شاعرا إنجليزيا وقد قال الأول كلمته الكاذبة البشعة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
وقال الثاني: «من يقتل إنسانا طيبا فإنما يقتل مخلوقا عاقلا هو صورة الله، ولكن من يهلك كتابا طيبا؛ فإنما يهلك العقل نفسه وكأنه يضرب صورة الله في عينها ... إلا أن الكتب ليست أشياء ميتة على الإطلاق؛ إذ هي تحتوي قوة الحياة لأن تنشط كتلك النفس التي هي (الكتب) من سلالتها».
والحرب القائمة هي حرب بين كلمتين: الديمقراطية والفاشية، أجل إن هناك أقولا ليست أفعالا وهناك ميتة هي تلك التي تنفصل من المجتمع وتعتكف في معبد أو في كتب قديمة لا يقرأها الشعب؛ ذلك لأن أخص خصائص اللغة هو اجتماعيتها فإذا لم يتكلم بها الشعب ولم يجر التفاعل بينه وبينها؛ فقدت قيمتها العلمية ولم تعد الأقوال أفعالا.
ولغتنا العربية من ناحية العلوم ميتة؛ ولذلك نحن لا نعيش المعيشة العلمية، ولا يتحرك مجتمعنا التحرك العلمي الذي تقتضيه معارف البيولوجية والكيمياء والسيكولوجية إلخ. وكذلك يعد أدبنا ميتا؛ لأنه ليس أدب الشعب بل عامة الشعب وملايينه إذ يكتب بلغة لا تفهمها هذه الملايين.
وحيوية اللغة تقاس بقدر ما فيها من أفعال وأفعالها تقاس بقدر تفاعلها مع المجتمع الذي ينطق بها، فاللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية أكثر أفعالا من اللغة العربية؛ لأنها أكثر تفاعلا مع المجتمعات التي تنطق بها وأكثر اتصالا بالعلوم العصرية التي تتحرك بها هذه المجتمعات.
الفصل الثامن عشر
الذكاء واللغة
ليس هذا مقام البحث عن الكلمات هل هي أصل التفكير أم التفكير أصل الكلمات، واعتقادنا أن التفكير ممكن بلا كلمات ولكن في صورة بدائية مضطربة كما نفكر في الأحلام، وواضح أن أحلامنا حين تكون على مستوى خامد راكد بالنوم تجري بلا كلمات صورة تأخذ مكان صورة ومنظرا يتلو منظرا.
ونحن الكتاب كثيرا ما نجد - عندما نحلل تفكيرنا - أنه ينبعث ويتصل بالكلمات. ومما لا شك فيه أن هناك بين المتوحشين والبدائيين أذكياء من الطراز الأول ولكن ذكاءهم يبقى عقيما؛ لأنهم حين يفكرون يجدون تفكيرهم محدودا بالتراث اللغوي المحدود الذي ينطقون ويفكرون بكلماته، واللغة لهذا السبب هي أعظم المؤسسات الاجتماعية في أية أمة؛ لأنها الوسيلة لتحريك الذكاء في أبنائها ولتوجيه أخلاقهم بكلماتها التي تعبر عن المعرفة أو العقيدة أو الحكمة، ومن المحال أن تطمع الأمة في أديب من أبنائها إذا كانت لغتها غير أدبية كما أنه من المحال أن تطمع في عالم إذا كانت لغتنا غير علمي.
والفرنسيون معرفون بالمنطق والوضوح والدقة في تفكيرهم واعتقادنا أن هذه صفات لغتهم أكثر مما هي صفات أذهانهم، فإنهم من حيث السلالة لا يختلفون عمن حولهم من الأمم الأوروبية، ولكن اللغة الفرنسية تحتوي كلمات وعبارات في غاية الوضوح والدقة بحيث إن المعنى يبرز بأكثر مما في أية لغة أخرى؛ ولذلك كثيرا ما نجد الكاتب الانجليزي يعبر في غضون إنشائه بكلمة أو عبارة فرنسية يحس أن كلمات لغته لا تؤديها.
وعناية الفرنسيين بتعليم لغتهم في المدارس تفوق أية عناية تبذلها أمة أخرى في تعليم لغتها لأبنائها، ويجب لذلك أن تكون الرسالة التعليمية الأولى لأية مدرسة مصرية هي تعليم اللغة العربية، وأن تكون غاية هذا التعليم إيجاد الكلمات التي تحرك ذكاءنا بالتفكير الحسن، وأن يكون هدف المعلم ليس العبارة الجميلة بل الكلمة الناجحة التي لا يمكن أن تقوم مقامها كلمة أخرى.
ولهذا يجب أن نتجه نحو الأسلوب الاقتصادي المضغوط؛ فنقاطع المترادفات ولا نحمل التلميذ عبء كلمات لا ينتفع بها في تفكيره العصري؛ فإن من يدرس ديوان المتنبي يجد فيه نحو ألف كلمة جديدة غير مألوفة في الصحف أو الكتب العصرية. ولكن هذه الكلمات لا يمكن للشاب المصري أن ينتفع بها في عصرنا؛ لأنها تصف مجتمعا حربيا يخالف مجتمعنا، وهي لا تحرك ذكاءنا أو تحدد المعاني لمعارفنا، كما أنها لا تكسبنا الاتجاه الأخلاقي أو الفلسفي.
وفي هذا القرن العشرين الذي نعيش فيه تحتاج كل لغة متمدنة إلى أن تحوي الكلمات الاجتماعية البارة التي توجه نحو الخير والكلمات العلمية والفنية التي تصف وتعالج مائة وعشرين علما وفنا ومجتمعنا يجب أن يكون - في أكثره - مجتمع المعارف والمنطق وفي أقله مجتمع العقائد والعاطفة؛ ولذلك يجب أن تحوي كل لغة كلمات المعرفة الدقيقة التي لا تلتبس مع كلمات أخرى حتى إذا فكرنا بها سار تفكيرنا على مستوى الذكاء الذي يمكننا من أن نعيش المعيشة العلمية في مجتمع علمي.
وخلاصة القول أنه يجب علينا: (1)
أن نعنى أكبر العناية بتعليم أبنائنا لغتهم الوطنية؛ لأنها وسيلة التفكير التي تحرك ذكاءهم وهي - لذلك - أثمن مؤسساتنا. (2)
أن تكون البلاغة بلاغة المنطق والمعرفة، بدلا من بلاغة الانفعال والعقيدة كما يجب أن نتوقى المترادفات والكلمات الملتبسة، وأن نميز بين الكلمة الذاتية والكلمة الموضوعية. (3)
أن يتأنق التلميذ في تعبيره، ولكن تأنق الذكاء وليس تأنق البهرجة البديعة. (4)
أن يحس المشرفون على اللغة أن كل تقصير في إيجاد الكلمات التي تؤدي إلى الفهم العلمي؛ إنما هو تعطيل لتطور الأمة. (5)
أن نذكر أنه على قدر ارتقاء اللغة ووفرة كلماتها ودقة معانيها؛ يكون الانتفاع بذكاء أبناء الأمة.
الفصل التاسع عشر
كلمات تبني الأخلاق
للكلمات إيحاء اجتماعي للخير أو الشر، وكثير من الكلمات يحمل شحنة عاطفية انفجارية للشر مثل: كلمة «دم» في الصعيد أو للخير مثل كلمة «مروءة» في أنحاء العالم العربي. وفي اللغة العربية كلمات مثل: المروءة والبر والشهامة والفتوة والمجد وهي تحف لغوية يجب أن نقتنيها في بيوتنا ونعتز بها ونعرضها على أبنائنا ونتحدث عنها، وما أسماها من كلمات، كل منها بمثابة المؤسسة الاجتماعية التي تبعث الخير وتعمم الشرف أينما وجدت.
وإذا كانت المجتمعات العربية القديمة قد قصرت في فن الحكومة؛ لأنها لم تعرف البرلمان أو المجلس البلدي فإن هذه الكلمات قد استطاعت في أحايين كثيرة أن توجد المجتمع البار وأن تقيم العدل مكان الظلم وأن تحمل على الطموح والتطلع إلى السماء وأربع من هذه الكلمات الخمس أو على الأقل ثلاث لا يمكن ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.
ولست أقصد هنا من الترجمة أن نجد الكلمة التي يدل اشتقاقها في الإنجليزية على أنها ترادف العربية، بل أقصد الجو الاجتماعي الذي تحدثه كلمات مثل المروءة أو الفتوة أو البر، فإني أجزم بأن اللغة الإنجليزية لا تستطيع التعبير عنها ولو كانت لغتنا تحوي خمسين من هذه الكلمات - بل التحف الغالية - لكان في مقدورنا أن نبني بها أخلاق الأمة ونعين لها النفسية التي تعيش بها في سعادة ورفاهية.
ولو كانت الأمم العربية تكسب في كل مائة سنة كلمة جديدة لها هذه القوة في الخير؛ لصار المجتمع العربي أسمى المجتمعات في التفكير العاطفي، وقد يمكن للسيكولوجي أن يقول: إن هذه الكلمات إنما عبأت هذه العواطف السامية؛ لأنها كلمات تعويضية؛ أي أن المجتمع العربي في القرون الماضية لما كابد من مظالم حكوماته قد تقوض بهذه الكلمات من هذه المظالم؛ فأقام عدلا اجتماعيا مكان الظلم الحكومي أو إلى جانبه.
انظر كلمة «مروءة» وما تحمله إلينا من المعاني السلبية والايجابية التي تكف وتغري فليس من المروءة ألا نغيث السائل المحتاج أو نخون الأمانة أو ننكث العهد ولكن من المروءة أن نتجاوز عن حقوقنا عند المحتاجين وأن نتصدق حتى ولو كنا مخدوعين وأن نعين العاجز ونسعف الملهوف قال الزمخشري: «المروءة هي كمال الرجولة» وقال المصباح: «المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات.»
ولكن أين تعريف المعاجم هذا الجامد مما يعرفه جمهورنا عن هذه الكلمة السامية؟ فإن أحدنا ليقول: «دعك من هذا الرجل فإنك لن تجد عنده مروءة.» وكأنه قد حكم عليه بالإعدام المدني واذكر أيها القارئ: كم من موقف قد احتشدت فيه الدنايا والخسائس وطغت فيه الظلمات الحيوانية على الروحية الإنسانية وإذا بهذه الكلمة ينطق بها واحد؛ فتنفجر منها القوة للخير، فيخسأ الظلم وينهزم العدوان ويخفت صوت الحيوان ويعلو صوت الإنسان ثم انظر إلى كلمة «بر» ونحن نقول في أيامنا البر الاجتماعي ولكن في المعني الأصلي هو البر بالوالدين علاقة عائلية حميمة ما أشرفها وما أجملها.
أو انظر إلى كلمة الفتوة؛ فإن هذه الكلمة لما حملته من المعاني البارة؛ بعثت أفرادا في المجتمع العربي على تأليف جمعيات للخير والشهامة والمجد؛ فكان منهم «فتيان» يخدمون الفضيلة ويرفعون أنفسهم إلى مستوى عال من السلوك والأخلاق. قال الزمخشري: «الفتوة هي الحرية والكرم.» وحسب كلمة أن يكون بها من القوة الانفجارية للخير؛ أن تتألف الجمعيات بإيحاء لفظها.
فهذه كلمات ثلاث خدمت المجتمع العربي، وعينت له أهدافا من الشرف والسمو وبنت له من الأخلاق التي كان الحكم الجائر يهدمها، وكما قلت، لا يمكن ترجمة هذه الكلمات إلى اللغة الإنجليزية؛ لأن لكل منها معنى حميما يتصل بالمجتمع أو العائلة في جونا العربي فإذا أضفت إلى هذه الكلمات كلمات أخر مثل: المجد والشهامة والنخوة؛ عرفت قيمة هذه الكلمات التي يعد كل منها شعارا يهتدي به الفرد في مجتمعه ويجد الاتجاه السديد نحو الملائمة الاجتماعية.
ومهمة الأديب أن يوجد مثل هذه الكلمات في لغته؛ لأنه عندئذ ينقل الجزاءات من المحكمة والسجن إلى المجتمع والضمير، فالشاب الذي انغرست فيه معاني هذه الكلمات وما يقاربها لا يحتاج إلى أن ننصب له الميزان الأخلاقي بالقوانين والمحاكم؛ لأن هذه الكلمات قد أقامت هذا الميزان في ضميره، فالدافع والوازع معا داخليان هنا بالضمير، وليسا خارجيان بالمحكمة والقانون.
وليست الكلمات سواء؛ فهناك من الكلمات ما نستعمله؛ فنرتفع فوق أنفسنا في الذكاء أو العاطفة، بل أكثر من ذلك؛ فإني أكاد أقول إن بعض الكلمات يجعل الناس أذكى مما يتوهمون، كما أن هناك كلمات تجعلهم أشرف وأشهم مما يحسون، وقد تكون الكلمات أربطة اجتماعية تضمد وتجمع كما تكون سموما تفكك المجتمع وتنساب فيه شرورا.
الفصل العشرون
الكلمة شعار
في الفصل السابق ذكرت بضع كلمات عربية قديمة يصح أن يكون كل منها شعارا ينضوي إليه ويعمل به كل شاب بل يصح أن تؤلف الجمعيات للدعوة إلى المبادئ التي تقول بها، فنقول: «جمعية المروءة» أو «جمعية الشهامة» وندعو الشبان والفتيات إلى اتخاذ المبادئ التي تنطوي عليها كل من هذه الكلمات وأي شيء هو أثمن في أية لغة في العالم من أن تحمل كلماتها أو بعض كلماتها كالمبادئ الاجتماعية السامية التي تنظم بها المجتمع ويسير بها أفراده عفو قلوبهم سيرة الشرف والاستقامة والطيبة؟
والأمة المتطورة تحتاج إلى كلمات جديدة تحمل لها الهداية العصرية والأهداف الاجتماعية، كلمات تمتاز بالإيحاء الذي يحيل المجتمع الموات إلى مجتمع حي يقظ كلمات يحس الفرد نشوتها بل يتأثر بكيميائها.
ويجب أن أقول: إننا نحن في مصر قد قطعنا شوطا كبيرا في هذا الميدان؛ فاخترعنا الكلمات التي توجه وترشد، وكان من حظي أن أقوم بنصيب حسن في هذا الميدان، انظر إلى كلمات: وطنية، عائلة، شخصية، مجتمع، ثقافة، تطور، عالمية، تجديد، رجعية، ثورة؛ فإنها جميعها كلمات حيوية تؤدي وظائف فسيولوجية في المجتمع الحي، وليس في المعاجم العربية ما يشير إلى معانيها العصرية، ولكننا نحن وضعناها أو ألصقنا معنى جديدا بكلمة قديمة كما فعلنا في «ثورة» فإن الكلمة المألوفة في كتب العرب هي «فتنة» وهي كلمة كريهة تدل على شعور السادة الغاضبين ولا تدل على شعور الشعب الناهض، فالمؤرخ الذي يكتب عن الثورة الفرنسية إذا كان ملوكيا ؛ فإنه يصفها بأنها «فتنة باغية» على العرش والبلاد، وإذا كان ديمقراطيا فإنه يصفها بأنها «ثورة عادلة» قام بها الشعب الفرنسي في انتقام اجتماعي خطير واستعمالنا «ثورة» بدلا من «فتنة» يحلل معنى اجتماعيا ساميا.
وقد وضعنا نحن «وطنية»؛ لكي نقرر بها إحساسا جغرافيا جديدا يناقض الإحساس الثيوقراطي القديم الذي كان يعم العالم العربي، بل أوروبا في العصور الوسطى.
وكذلك وضعنا «عائلة»؛ لكي ننقل بها نظاما أوروبيا لم يكن موجودا في بلادنا ولم ننجح، ولكن في هذه الكلمة من القوة السيكولوجية ما يسير بهذا النظام رويدا نحو النجاح انظر إلى كلمة «شخصية»، فقد ألفت أنا كتابا عن هذه الكلمة وهي من الكلمات التي تخصب المجتمع وتحفز الفرد إلى الرقي والتطور.
وفي كلمة «مجتمع» معني عصري لم يكن يستطيع الحاكمون في مصر أن يفهموه أيام محمد علي أو المماليك حين كانت ميزات الثورة والحكم والقوة في أيدي الأتراك والأرنئوط دون المصريين.
ولي أنا كتاب عن كلمة «تطور»، أما كلمة «ثقافة» فإني لم أنجح في كلمة أخرى نجاحي في تعميمها، وكلتاهما - ثقافة وتطور - تعين أسلوبا للحياة عند الشاب وتفتح أبواب الرقي والتجديد وتصد الرجعية والجمود.
وهناك عبارات مثل هذه الكلمات لها قوة التحريك الاجتماعي ويجب أن يكون اهتمام الأديب بالإكثار منها حتى يألفها الجمهور؛ فينصبها أهدافا لكي يصل إليها أو يذكرها ويتحفز بها إلى التجديد والرقي.
اعتبر ما أحاوله أنا من تسمية أعضاء التناسل: أعضاء الخلود البشري وما يحمله هذا التعبير من المعنى السامي للحب.
أو انظر إلى قولنا: «الدولة الإيجابية»؛ أي الدولة التي تعمل للرقي والبناء، ولا تقتصر على أن تكون سلبية؛ لكفالة الأمن العام فقط كما كان الرأي في القرن التاسع عشر، أو انظر إلى قولنا «القحط ثمرة الوفرة»، فإن في هذه العبارة مفتاح الفهم السديد لنظام الإنتاج الحاضر في أوروبا وأمريكا، أو انظر إلى قولنا: «الجوع الكيماوي» حيث يكون الشبع بالكم يحمل الجوع بالكيف كما هي الحال في النقص الفيتاميني ينشأ بين الفقراء بل وأحيانا بين الأغنياء فإن في هذه العبارة ما يبعث على الدراسة للقيم الغذائية.
أو انظر إلى قولنا: «أدب الكفاح وأدب التفرج»، وقيمة هذه العبارات في الأدب وعلاقته بالمجتمع أو انظر إلى عبارة: «البيئة والوراثة في التربية»؛ فإن فيها ما يبعث على التفكير والدراسة سنين عديدة، وقد كان يقال: إن لكل نبي رسالة. وهذا كلام حسن ولكن لم لا يكون لكل «إنسان» رسالة في الخير والشرف والمجد؟
هذه جميعها كلمات بل محركات اجتماعية كل كلمة منها شعار كأنه راية الجهاد للدفاع عن الذكاء والأخلاق وللدعوة إلى الخير والرقي.
الفصل الحادي والعشرون
فن البلاغة
من أسوأ الانحرافات الذهنية في الإنسان أنه يحيل الوسائل إلى غايات، فإن الناس يجمعون المال وسيلة يصلون بها إلى غاية السعادة، وهذا هو الزعم بل الفهم العام، ولكن ما أن يشرع أحدنا في جمع المال حتى ينسى الغاية؛ فيبقى طيلة حياته وهو في هذا الأسر؛ أي يجمع المال وغايته المال لا أكثر، وكأن الحياة قد أصبحت وسيلة للمال وليس المال وسيلة للحياة.
وهذا الانحراف كثيرا ما نجده في شئون أخرى حين يقال: إن الأدب غاية الحياة أو الثقافة أو الفن بل هناك مذاهب تقول: إن الدولة غاية وقبل نحو خمسين سنة شاع مذهب يقول: «الفن للفن» بأن الفن غاية.
والواقع أنه ليس للحياة غاية سوى الحياة وكل ما عدا الحياة إنما هو وسائل للحياة، فاللغة والأدب والفن والبلاغة إنما هي جميعها مسخرة في خدمة الحياة التي لها الاحترام الأول والمكانة المفضلة فنحن نتعلم الفنون ونمارس البلاغة ونعنى بالثقافة؛ كي نصل في النهاية إلى مستوى عال من الحياة، ولذلك لا نحتاج إلى أن نشرح للقارئ أن بلاغة الحياة أهم وأخطر من بلاغة اللغة، وأن أسلوب الحياة أجدر بالأولية والتفضيل في التعليم من أسلوب الكتابة وأن فن الحياة هو أشرف وأجدى الفنون على هذا الكوكب.
وإذا جعلنا الحياة الشريفة السعيدة هدفا نوجه إليه فنوننا وعلومنا وعقائدنا فإننا نستطيع أن ننزع عن هذه جميعها تلك القداسة التي تحول بيننا وبين تنقيحها أو تغييرها، ويعود عندئذ «فن البلاغة » فنا تجريبيا مثل جميع الفنون، ويتغير كما تغيرت، فليس هناك شك في أن التغير أو التنقيح قد عم فنونا كثيرة في عصرنا مثل: الرسم أو النحت أو البناء، ولكن فن البلاغة في اللغة العربية لم يتغير.
فحياتنا العصرية تختلف عن الحياة العربية قبل ألف سنة، فإذا كنا نسلم بأن فن البلاغة يجب أن يكون في خدمة هذه الحياة العصرية فإنه يجب أن يتغير كي يخدمها، فلم يعد مجتمعنا في حاجة إلى البهارج والزخارف البديعية نحطم رءوس أبنائنا بتعلمها أو ممارستها، ولكنا في حاجة إلى أن نجعل البلاغة فنا للتفكير الحسن السديد وللأمة المصرية حق تطوري في هذا التغيير.
ويجب أن نشرح غايتنا من البلاغة الجديدة: (1)
فهي قبل كل شيء التفكير المنطقي السديد الذي يؤمن فيه الخطأ. (2)
تحريك الذكاء وتدريبه بالكلمات. (3)
أن نعرف كيف نستعمل الكلمات للتفكير التوجيهي. (4)
أن نعرف كيف نستعمل الكلمات للتحريك الاجتماعي.
فأما القاعدة الأولى: وهي أن التفكير يجب أن يكون منطقيا فتقضي بدراسة كتاب موجز في المنطق وإذا كان «اللورد هوردر» الطبيب الانجليزي ينصح كليات الطب في بريطانيا بتدريس كتاب «جيفونز» في المنطق في السنة الأولى من الدراسة الطبية فإننا أحوج إلى مثل هذه النصيحة في دراسة اللغة العربية في كلية الأدب أو في دار العلوم، ويجب أن تكون الكلمات موضوعا لتدريب الذكاء اللغوي في التلميذ والطالب، ولن يستطيع مدرس اللغة أن يصل إلى ذلك؛ إلا إذا كان موسوعي المعارف قد درس إحدى اللغات الأوروبية وأتقن علما عصريا.
وإلى هنا الفائدة سلبية، وهي أننا لا نقع في الخطأ والالتباس، ولكن يجب أن نتعلم اللغة للفائدة الإيجابية، وهي الانتفاع بها في إيجاد الكلمات الموطرية التي تحرك الفرد والمجتمع؛ أي: نعرف القيم السيكولوجية للكلمات وما فيها من شحنات عاطفية أو تنبيهات ذهنية، فاللغة علم وفن، وهي علم من حيث إننا يجب أن نعرف كيف ننتقد المعاني وكيف نسبر المعاني في الكلمة، وهي فن من حيث قدرتنا على استعمال الكلمات؛ كي تبعث التحريك الاجتماعي أو التنبيه الذهني أو العاطفي في الفرد أو الجماعة؛ أي أننا نستطيع أن نعبئ الكلمات للإصلاح.
في 1904 كنا قد وصلنا إلى أعمق هوة من الضعف الوطني، وكان يقال لنا إن بلادنا زراعية، وإنها يجب ألا تتجه وجهة صناعية، وصدر في تلك السنة قانون يصف المصانع بأنها: «محلات مضرة بالصحة أو مقلقة للراحة أو خطره.»
وإلى الآن لا يزال هذا القانون قائما، وإلى الآن لا يزال هذا هو وصف المصانع بل كلمة «مصنع» لا ذكر لها في قوانيننا، فإذا كنت مصريا ناهضا قد تأملت الدنيا وعرفت أن الرقي إنما هو صفة الأمم الصناعية وحملتك وطنيتك على أن تنشئ مصنعا في مصر؛ كي تربح منه وتوفر للشبان عملا وللجمهور بضائع رخيصة؛ فاعلم أنك تؤسس محلا «مضرا بالصحة أو مقلقا للراحة أو خطرا» وبعد أن تؤسس هذا المصنع سيأتيك موظفون من وزارتي الداخلية والصحة وكل منهم مزود بعاطفة قد أحدثتها في نفسه هذه الكلمات: «مضر بالصحة مقلق للراحة خطر». فهو ينظر إلى مصنعك وإليك بهذه العاطفة، ويجب ألا تنسى أنه لا يزورك مع ذلك موظف من وزارة التجارة والصناعة.
تأمل أيها القارئ ماذا كان إحساسنا وأية عاطفة كانت تثار في نفوسنا لو أننا أسمينا المستشفى: «محل يقتل فيه الناس أو تقطع أعضائهم أو يجرحون»؟
فهنا مثال للفائدة التي نجنيها من الاستعمال الإيجابي للغة، فإذا شئنا أن نحب الأنكليس فيجب ألا نسميه ثعبانا وإذا شئنا أن نحب المصنع ونحض الناس على اتخاذ الصناعة؛ فيجب أن نختار له اسما إيحائيا مغريا، كأن نقول بدلا من العبارات السابقة: «كل من أسس محلا مفيدا للأمة يزيد ثروتها ويوفر العمل لأبنائها ويرخص البضائع النافعة، إلخ». ألا ترى القوة الموطرية في الكلمات؟ ألا ترى أن هذه الكلمات كانت ألبق وأشكل بوصف المصنع في عصرنا الجديد؟ ألا ترى أننا هنا نجد الخدمة الاجتماعية العظمى من البلاغة الجديدة؟
أجل إن المصانع في مصر يجب أن تعد مقياس الأمة كالمعابد سواء؛ إذ هي التي سوف تنقلنا من الرقود الريفي إلى التحرك المدني فيجب أن تجد في قوانيننا ولغتنا الوصف الإطرائي المغري بتأسيسها.
الفصل الثاني والعشرون
اللغة العصرية
عرف القارئ من مقال الأستاذ أحمد أمين أن معظم الاضطراب في المعاني يرجع إلى أننا أحيانا نستعمل كلمات وعبارات نشأت في بيئة اجتماعية غير بيئتنا، وهي كلمات أو مجازات أو استعارات اشتقت من أساليب التفكير الذي كان متبعا قبل نحو ألف سنة في بغداد مثلا، أو لا يزال يتبع في إقليم عربي آخر له أسلوب تفكيري يخالف أسلوبنا ولو أنه يعيش في عصرنا، وهذا الأسلوب قد حمل السكان هناك على سلوك لغوي يخالف سلوكنا.
ثم قاعدة تاريخية سديدة يجب أن نذكرها على الدوام، وهي: أن طراز الثقافة يصاغ وفق الوسائل التي تستخدم في تحصيل العيش، فوسائل العيش في القاهرة تختلف عما كانت في بغداد قبل ألف سنة، وتختلف عما هي في مراكش أو صنعاء الآن؛ ولذلك تختلف أيضا ثقافتنا واللغة تسير وراء الثقافة، أو هي تعجز عن حمل هذه المعاني؛ فيحتاج المجتمع إلى غيرها؛ إذ لا مفر من أن نربط اللغة بالمجتمع، ونحن نحاول أن نرقى بأمتنا ولكن ما معنى الرقي؟
هذا الرقي: يعني أننا نعيش المعيشة العلمية حيث تستند الحقائق إلى البينات لا إلى العقائد، ولن نستطيع أن نتجاهل الوثبة الجديدة في هذه الدنيا، وهي أنها قد تقلصت فيها المسافات حتى يمكن أن يقال إنها صغرت؛ فصارت قرية واحدة.
فيجب لهذا السبب: (1)
أن نجعل ثقافتنا علمية وأن نجعل لغتنا علمية، ويجب أن نستعمل كلمات العلوم في تعبيرنا في الصحف والكتب والحديث. (2)
وأن نجعل ثقافتنا كوكبية؛ حتى تتسع آفاقنا الذهنية والنفسية، ونمارس بذلك حقنا البشري الأول وهو: أن هذا الكوكب ملكنا ولنا الحق في معالجة شئونه بكلمات كوكبية.
وفي الفصل التالي سنعرف ما هي هذه الكلمات الكوكبية أما هنا فنقتصر على التعبير العلمي؛ أي: استخدام كلمات العلوم في بيئتنا الاجتماعية باعتبارها الكلمات المجازية التي تتفق والمجتمع الذي ننشد، وفيما يلي بعض التعابير التي اشتققتها أنا من اللغة العلمية على سبيل المثال:
التفاعل بين اللغة والمجتمع - كيمياء.
الاستقلال هو بؤرة الاشتعال الوطني في مصر - طبيعيات.
نعيش في عصر متوتر بالمصاعب والمشكلات - سيكولوجية.
اللغة هي الجهاز العصبي للمجتمع - طب.
الحياة تفقد إيقاعها في المرض - موسيقى.
أول ما تجرثمت الفكرة عندي - سيكولوجية.
يجب أن ننظر إلى المستقبل ببصيرة تلسكوبية - فلكيات.
كان عندما يدخل البيت يرصد جوه هل ينذر بالعاصفة؟ - فلكيات.
كان مذهب التطور من أعظم الخمائر الاجتماعية في القرن الماضي - كيمياء.
رجل يمتاز بالبصيرة السيكولوجية - سيكولوجية.
يعاني تخمة ذهنية - طب.
الإيحاء أفعل من الإغراء - سيكولوجية.
التحرش بالغريزة الجنسية في القصص - سيكولوجية.
خوف الغارات قد نفذ إلى جميع مسام المجتمع - طب.
يمشي في تثاقل روماتزمي - طب.
من الحركات المغنطيسية التي تجذب الشبان - طبيعيات.
الطاقة الموطرية في الكلمات - طبيعيات.
يخشى الدنيا ويرى المصباح الأحمر أينما سار - ميكانيات.
الحرب هي قاطرة التاريخ؛ لأنها تعجل التطور - ميكانيات.
الوقت يقف كالخثرة في الدورة الاقتصادية المصرية - طب.
نحن الآن نستعمل القطار والرديوفون والعدسة، ونعرف الجراثيم في الأمراض، وليس في المدينة شيء نألفه مثل الموطر وللمصباح الأحمر في حياتنا المدنية قيمة الحياة والموت فيجب أن نستعمل هذه الكلمات في مجتمعنا كما استعمل العرب الكلمات التي تتصل بحياة الجمل ونبات الصحراء وأعلام الطرق والجبل والسهل والقتال، إلخ.
الفصل الثالث والعشرون
كلمات كوكبية
في هذا العصر الذي نعيش فيه يجري انقلابان من أخطر ما جرى على هذا الكوكب في تاريخه وإذا لم نكن نحن على وجدان بهذين الانقلابين؛ فإن تطورنا يتأخر ونتخلف عن قافلة الحضارة.
الانقلاب الأول:
أن العقل البشري - في أعلى مستواه - قد انتقل إلى التفكير العلمي؛ فصار الإنسان يعالج مشكلاته في السياسة والصحة والاجتماع والاقتصاد بالعلم أو هو يحاول ذلك والأمة التي تمارس العلم ترتقي وتتفوق بل هي تستطيع أن تستخدم الأمة التي لا تمارس العلم كما نستخدم نحن الجاموس أو البقر، ويتضح هذا بنظرة عاجلة للأمم المختلفة على هذا الكوكب.
والانقلاب الثاني:
أن هذا الكوكب يصير رويدا نحو التوحيد وليس هذا ثمرة الإرادة البشرية، ولكنه ثمرة العلم الذي محا المسافات حتى صار الانتقال من القاهرة إلى القطب الشمالي في 1944 يحتاج بالطائرة إلى أقل مما كان يحتاج إليه الانتقال من القاهرة إلى طنطا قبل مائة سنة بوسائل النقل القديمة، ومحو المسافات هذا؛ قد عمل على التقريب الجغرافي والتقريب النفسي معا ولذلك أراني أهتم في الصباح بقراءة الأخبار عن التطورات السياسية أو الاجتماعية في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا، كما صرت ألوك أسماء «سمطس وتشرشل وروزفيلت وستالين وشيانج كاي شيك»، كما ألوك أسماء السياسة في مصر.
التفكير العلمي من ناحية والعقلية الكوكبية من ناحية أخرى؛ كلاهما يؤثر في تطورنا السياسي والاقتصادي، ويجب لذلك أن يؤثر في تطورنا اللغوي.
فالعلم تفكير جديد يحتاج إلى لغة جديدة، وهذا ما حدث في أوروبا، فإن الأوروبيين حين شرعوا يفكرون تفكير المنطق والتجربة، تفكير الذهن واليد؛ أي التفكير العلمي؛ وجدوا أن دقة التعبير تحتاج إلى كلمات جديدة ليست لها أية ملابسات قديمة؛ فاخترعوا هذه الكلمات ليس من لغتهم، بل من لغات قديمة لا يعرفها الجمهور، وبذلك أصبح لكل علم لغته الخاصة التي لا يمكن أن يقال إنها إنجليزية أو فرنسية أو روسية، بل هي لغة العلم، فكلمة «بيولوجية» لا يعرفها رجل الشارع في لندن أو باريس أو نيويورك؛ لأنها كلمة مشتقة من اللاتينية؛ كي تعبر عن معنى لم يكن الجمهور في حاجة إليه قبل مائتي سنة مثلا، وقس على هذا كلمات كثيرة مثل: «المندلية» في الوراثة، «اليوجنية» في إصلاح النسل، «السيمائية» في المنطق اللغوي، الإسبكترسكوب، والتلسكوب، والميكروسكوب، والسييزموجراف، والكارديوجراف، والرديوفون، والتلغراف، الهرمونات من الغدد الفيتامينات ... إلخ.
فجميع هذه الكلمات وآلاف غيرها يعرفها الياباني والإنجليزي والهندوكي والأرجنتيني، ولا يحاول واحد منهم أن يترجمها إلى لغته. أولا: لأنه يحس أنه إذا اختار كلمة من لغته؛ فإنها تحمل معها ملابسات لا يعرف كيف يتخلص منها. وثانيا: لأنه عندئذ ينعزل بكلمة خاصة ليست في لغة هذا العلم التي يعرفها العلميون في الأقطار الأخرى.
فلكل علم لغته التي يجب أن تستعمل في أي مكان على هذا الكوكب، ولا يصح أن تترجم، بل هي لا يمكن أن تترجم؛ إلا مع الضرر بالتفكير العلمي، والعلم شيء جديد في عصرنا فيجب أن نقبل أسلوبه الجديد في التعبير.
وليس شك في أن المصري الذي تجابهه كلمة سيزموجراف أو إسبكترسكوب يضرس كما لو كان يمضغ حامضا؛ لأنه يحس صدمة لغوية تخالف مألوفة ولكن سرعان ما يزول هذا الضرس بالألفة.
وكلمات العلم أجنبية في جميع اللغات، وليس علينا حرج أن تكون كذلك أجنبية في لغتنا بل أن رجال العلم الأوروبيين يأخذون كلمات المتوحشين حين تكون لها دلالة في «الأنثروبولوجية» مثلا كما نرى في كلمتي «طبو» و«طوطم».
والمصري الذي يتخصص في علم ما يحتاج إلى متابعة الدراسة مدى حياته لهذا العلم، ولا غنى عن كلمات هذا العلم التي يستعملها جميع المتخصصين فيه في القارات الخمس، وهو يفكر بهذه الكلمات ومن التكليف المرهق أن نطالبه بترجمة هذه الكلمات إلى لغتنا؛ لأن كل ما نحتاج إليه أن نعرف هذه الكلمات وأن نصوغها في صيغة عربية إذا كنا سنؤلف بها في لغتنا الدارجة، أو لا نصوغها إذا كانت ستبقى مقصورة على المتخصصين.
هذا من حيث كلمات العلوم، ولكن تقلص المسافات؛ قد أحال هذا الكوكب إلى قطر واحد تسكنه أمة واحدة، وهذا يحملنا على أن نتخذ العقلية الكوكبية؛ ولذلك جرت صحفنا على أن تستعمل هذه الكلمات والعبارات الكوكبية:
بروتوكول مناقشات بيزنطية حب أفلاطوني حكومة، بيروقراطية، ديمقراطية، النظام السوفيتي، التلغراف، التليفون، الرديوفون، السينماتوغراف ... إلخ.
ونحن والفرنسيون والألمان والصينيون والأمريكيون سواء في استعمال هذه الكلمات، وسوف تزداد هذه الكلمات في المستقبل بالعشرات بل بالمئات، وهذا تطور حسن؛ لأن هذا الاتجاه مع كلمات العلوم يحدث القرابة الذهنية التي ستؤدي يوما إلى قرابة نفسية، فلا يكون الشعور بالبعد والفرقة والانفصال ثم الانعزال، فالعداء بين الشعوب وكل مصري بار بوطنه، وبهذا الكوكب يجب ألا يعارض هذا الاتجاه؛ لأن المعارضة في حقيقتها تعني عقوقا بحقوق البشر وعرقلة لاتحاد أبناء هذا الكوكب ورقيهم، وباتخاذ هذه الكلمات نقرب من العقلية الكوكبية والثقافة الكوكبية، وربما اللغة الكوكبية.
وعندي أن بعض الميزات لما يقترحه «عبد العزيز فهمي باشا» من اتخاذ الحروف اللاتينية في كتابتنا؛ يعود إلى أن هذه الحروف قد تضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة وتكسبنا عقلية المتمدنين وتنزع منا تلك الخصومة التي تبعثها كلمتا شرق وغرب، وتجعلنا أقرب إلى العقلية الكوكبية واللغة الكوكبية، ولكنني مع ذلك لا أنتقص الفائدة من الخط اللاتيني في التعبير عن كلمات العلوم؛ فإن هذه الكلمات تبدو نابية في الخط العربي كما تغيب أصولها التي اشتقت منها؛ فلا نفهمها عند رؤيتها، وربما كان هذا من أكبر الأسباب للنفور منها، ثم لتخلفنا في العلوم.
وواضح من تاريخ العرب أنهم عربوا في كثير من الأحوال بدلا من أن يترجموا كما نرى في هذه الكلمات: أستاذ، أدب، إقليم، فلسفة، أبريق، قاض، كابوس، قانون، زخرفة، تاريخ، ألماس، جغرافية، أنبيق، زكاة، بستان، برج، تلميذ، جدول، سجل، ترعة، دستور، قنطار، عقار، فدان، سمسار، صراط، صابون، لغة، قفطان، ناموس، رقص، حب، سيماء. إلخ.
فكل هذه الكلمات ومئات غيرها يرجع إلى أصل إغريقي أو أصل لاتيني أو غيرهما، ولم يحاول كتاب العرب ترجمتها وإنما أكسبوها صيغة عربية لا أكثر ولا ينكر أنهم عمدوا إلى الترجمة أحيانا كما فعلوا في كلمات المنطق؛ فإنهم ابتدءوا باصطناع كلمة السلجسة «سبوجيم» ثم تركوها وقالوا القياس.
وكل منا يأسف الآن على تركهم للسلجسة المعربة واتخاذهم كلمة القياس المترجمة؛ لأن كلمة القياس تتحمل طائفة من المعاني التي تربكنا في حين نحتاج إلى الدقة في قواعد المنطق.
وللتعريب فضلا عن قيمته في التقرب من لغة بشرية عامة وفضلا عن قيمته الدراسية في العلوم قيمة ثقافية أخرى؛ لأنه يبصرنا بالتاريخ والتطور الثقافي، فنحن حين نقول: «برلمان» نحس من حروف هذه الكلمة تاريخا عاما للحكم النيابي في العالم وليس في مصر وحدها، ونعرف الأصل لهذا الحكم. وكذلك الحال في أتومبيل وتلفون وبسكلت ومنجة وجوافة وككتوس وقيصر وريشتاج وسوفييت وميكادو إلخ.
ومن مصلحة الثقافة أن تبقى هذه الكلمات على أصولها؛ كي نزداد للتاريخ أي: فهما للدنيا.
الفصل الرابع والعشرون
القدرة على اصطناع الكلمات الأجنبية
قال ه. ج. ولز في كتيبه «العلم والعقل العالمي »:
نستطيع أن نقول: إن كفة الرأي ترجح في ناحية اتخاذ اللغة الإنجليزية أساسا مهما للغة عالمية، ولست أقول هنا: إن اللغة الإنجليزية تصلح لأن تكون أساسا مهما فقط ذلك أن انتشارها في أنحاء العالم في الوقت الحاضر وخلوها من التغيرات الصرفية والارتباكات النحوية وقدرتها على تمثيل الكلمات الأجنبية؛ كل هذا يحسب من محاسنها، ولكن هناك ما هو ضد ذلك، وهو هذا الجمود العتيد جمود الطبقة العالية التي تهاب ولا تقتحم هذا الجمود الذي يتحيز مكانا كبيرا في التقاليد التعليمية البريطانية التي تنزع إلى الكلاسية أو التليدية العميقة التي تعد في روحها انفصالية ترفعية، وهذه النزعة ليست فقط غير مساعدة لانتشار اللغة الإنجليزية، بل هي تعرقل هذا الانتشار عرقلة قوية.
هذه هي كلمة «ولز»، ومنها نفهم أن اللغة الإنجليزية تصح أن تكون أساسا للغة عالمية لجملة ميزات وهي: (1)
أنها انتشرت في عصرنا انتشارا عظيما. (2)
أنها تخلو من القواعد الشاقة في النحو والصرف. (3)
أنها قادرة على تمثيل الكلمات الأجنبية.
ولكن «ولز» يرى أن بين بعض المتعلمين روحا ينزع إلى التليدية أو الكلاسية؛ فيهابون الكلمة الجديدة، ولا يرحبون بالكلمات الأجنبية التي تخصب بها اللغة وتزهر، ونحن في مصر حين نقارن بين العربية كما نتعلمها ونكتبها وبين الإنجليزية؛ نعرف أن نزوعها إلى الكلاسية وكراهتنا للكلمات الأجنبية تزيد ليس مائة مرة بل ألف مرة على ما يشكو «ولز» من الكلاسيين الإنجليز؟ وحسبنا من هذا أن نعرف شيئين: (1)
أن في اللغة الإنجليزية نحو ألف كلمة عربية، وليس في لغتنا نحو عشرين كلمة إنجليزية. (2)
أن الكلاسية التليدية الإنجليزية لا تبلغ جزءا من ألف من الكلاسية العربية والبرهان على هذا أن في «شكسبير» الذي مات قبل نحو 380 سنة تعابير وكلمات لو اجترأ انجليزي على استعمالها؛ لعد حمارا سخيفا مع أننا ننبش عن الكلمات المماتة في لغتنا ونستعملها لأبناء 1953.
والكلاسية في مصر كما نراها في أيامنا ليست لغوية أدبية فقط، بل هي اجتماعية مزاجية ذهنية، فدعاتها مثلا يهتمون كثيرا جدا بالتأليف عن الخوارج في أيام علي بن أبي طالب ويهملون التأليف عن الخوارج على الديمقراطية في أيامنا. وهم يدرسون رجال الأمس «والأمس هنا قبل سنة 1000 ميلادية» ولا يدرسون رجال اليوم، في أخلاقهم شرقيون وفي اقتصادياتهم زراعيون، وهم ينظرون إلى اللغة والأدب العربيين نظرة الراهب إلى الدين، فكما أن هذا ينزوي في صومعته ويقرأ كتبه بعيدا عن معمعة الحياة وكذلك أولئك ينزوون في مكتباتهم ويدرسون الجاحظ، ويحاولون أن يكتبوا مثله أو عنه يكتبون عن الجاحظ بلغة الجاحظ، ويثنون عليه أو ينقدونه بمزاجه وذوقه ومقاييسه.
وهؤلاء الكلاسيون يجهلون أشياء كثيرة عن الدنيا، وأنا أؤكد أنهم سيضحكون مني حين أقول إنهم يجهلون: (1)
إن الدؤدؤ قد انقرض منذ مائة سنة؛ بعبث الصيادين وإن انقراضه خسارة فادحة للبشر جميعهم. (2)
وإن الكيمياء الصناعية قد أوشكت أن تقرر إلغاء زراعة القطن من العالم كله ومن مصر. (3)
وإن مشكلة الهند يجب أن تكون مشكلة كل رجل مثقف على هذا الكوكب. (4)
وإن التكنولوجية تبشرنا بالوقت الذي يكفينا فيه شهر من العمل؛ لكي نعيش 11 شهرا في الراحة؛ أي في التعلم وزيادة الاختبارات والاستمتاعات.
الكلاسيون هم رهبان الأدب العربي، واللهجة اللغوية التي ندونها في الكتابة قد أحدثت لهم لهجة ذهنية في التفكير، فهم جامدون يخافون الدنيا، وهم أيضا - لهذا السبب نفسه - يعرقلون تطورنا الاجتماعي والاقتصادي وتطور اللغة والأدب يكرهون الكلمة الأجنبية؛ فيقولون: سيارة بدلا من أتومبيل، ثم تنتقل هذه الكراهة إلى العالم الخارجي؛ فلا ينبعثون إلى دراسة الصين أو الهند أو ألمانيا ثم تنكمش أذهانهم وتعود الدنيا كلها وقد انحصرت في اهتمامهم بدرس الأدب واللغة العربيين لا أكثر.
ثم يزداد الانزواء الرهباني؛ فيتحدث الأديب التليدي العربي عن العالم العصري كما يتحدث الراهب عن فجور المدنيين الدنيويين ثم بعد ذلك المقاطعة بين العقليتين.
ولست أعني مع ذلك مقاطعة القديم؛ لأني أعرف أن هناك قدماء معاصرين؛ أي أنهم على الرغم من سبقهم لنا بألف أو ألفي سنة كانوا يعالجون شئونا بشرية ما زلنا نعالجها، وكانوا يحاولون رفع الإنسان إلى الإنسانية كما نحاول، وهؤلاء يعاصروننا على الرغم من قدمهم، وهم جديرون بدراستنا واهتمامنا ولكن دون أن نجعل منهم المحور والهدف لثقافتنا.
الفصل الخامس والعشرون
أوجدين والإنجليزية الأساسية
تمتاز اللغة الإنجليزية بميزات عظيمة جعلت لها السبق في ميادين التجارة والصناعة والثقافة، ويبلغ الناطقون بها أكثر من مائتي مليون متعلم، ومن أعظم ميزاتها أن نحوها قليل القواعد حتى ليمكن الاستغناء عنه، وقد قال الفيلسوف «هربرت سبنسر»: إنه لم يتعلم النحو قط وإنه درس وألف في هذه اللغة دون أن يحتاج إلى دراسة النحو، ولا يمكن لعربي أن يقول مثل هذا الكلام عن لغته.
وميزة أخرى في اللغة الإنجليزية أنها غير جنسية، فالأشياء محايدة ليست مذكرة أو مؤنثة، أما نحن فنحتاج إلى أن نعرف «جنسية» الحرب والسلم والأرض والجبل والميناء والكبرياء والروح والبيت إلخ.
ومع هذه السهولة لا يزال المفكرون من الإنجليز يدعون إلى الزيادة في التبسيط، وقد قطعوا بعض المسافة نحو هذا الهدف؛ فأصلحوا الهجاء وألغوا الحروف الصامتة وهم بل وغيرهم من الأمم الأخرى يفكرون في جعل اللغة الإنجليزية لغة كوكبية؛ ولأجل هذه الغاية وضع الأستاذ «أوجدين» ما سماه «الإنجليزية الأساسية»
Basic English .
والأستاذ أوجدين من علماء السيكولوجية، ومن أعظم مؤلفاته كتاب «معنى المعنى» وهو في السيمائية؛ أي علم المنطق اللغوي والإيضاح عن المعاني، وهو علم جديد تجهله اللغة العربية.
ونزعة «اللغة الأساسية» تناقض النزعة العامة في لغتنا، ومن هنا قيمتها لنا؛ لأنها تنبهنا بهذا التناقض فإن الأستاذ «أوجدين» يرى أن الكلمات التي نحتاج إليها محدودة وأنه خير لنا أن نعرف نحو ألف كلمة واضحة المعنى محبوكة من أن نعرف عشرة أضعاف هذا العدد من الكلمات التي يحتمل فيها الشك والالتباس والتي تفسد التفكير وتعطل الذكاء.
ثم هو يرى أن اللغة الإنجليزية جديرة بأن تعم العالم، وقد احتال للوصول إلى هذا الهدف باختيار 946 كلمة يعتقد أنها تكفي للفهم في اللغة الإنجليزية، وهذه الكلمات هي 600 اسم و150 نعتا و18 فعلا و78 ضميرا وظرفا وحرفا، والقارئ يلاحظ قلة الأفعال ولكن أوجدين يستغني عن الأفعال باستعمال الأسماء الكثيرة مع أفعال قليلة فبدلا من أن أقول:
تعالجت من مرض أقول: عملت العلاج بالمنزل.
وقضيت ساعة بالمنزل أقول: «كنت ساعة بالمنزل.»
وسيزورني اليوم محمد أقول: «سيعمل محمد زيارة لي اليوم.»
ولما بلغت العاشرة من العمر أقول: «لما كنت في العاشرة من العمر.»
فيرى القارئ هنا أننا استعملنا فعلي كان وعمل بدلا من أربعة أفعال، ويمكن كذلك أن نستعملها بدلا من مائة فعل؛ لأن الإنسان إما كائن وإما عامل، وفي اللغة الإنجليزية نحو أربعة آلاف فعل ولكن أوجدين استغنى عنها كلها بهذه الأفعال التالية:
جاء، حصل، أعطى، ذهب، حفظ، ترك، صنع، وضع، بدأ، أخذ، كان، عمل، ملك، قال، رأى، أرسل، أراد، ربما، «وهي فعل في الإنجليزية».
وعلى هذا يمكن أن نجعل فعل «ذهب» يؤدي معاني ثلاثين فعلا، فنقول: ذهب في (دخل) وذهب قبلا (سبق)، وذهب من مكان إلى مكان (جول) وذهب إلى الجانب الآخر (عبر) وذهب إلى (زار) إلخ، ثم هو؛ أي «أوجدين» يستغني عن المترادفات أو ما يقاربها، فنحن نقول جلد الحيوان وفرو الثعلب ولحاء الشجرة وغلاف الزهرة وقشرة الثمرة، ولكنه هو يقنع بكلمة «جلد» للجميع؛ فيحقق الاقتصاد اللغوي وهو بعض أهدافه، وهذه الكلمات تحفظ في بضعة أسابيع أو أشهر وليست هذه الكلمات بالطبع هي كل اللغة الإنجليزية، ولكن الأجنبي الذي يعرفها يستطيع التفاهم بها ويستطيع أن يقرأ بعض الكتب التي ألفت بها ثم يرتقي إلى معرفة اللغة الإنجليزية في توسع.
وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات كتاب ألف على مبادئ «اللغة الأساسية» يدعى «نمو العلم» تبلغ صفحاته 372 صفحة متوسطة ومن فصوله: مقاييس القوة الضوء الكهربائي داروين وما بعده المادة العلاقات.
وبعض هذه الفصول يتعمق الفلسفة ولكنه كتب بالإنجليزية الأساسية والقاعدة التي اتبعها أوجدين في اختيار هذه الأصول دون غيرها هي أنه وجد أنها أكثر استعمالا من غيرها في اللغة الإنجليزية، وهو بالطبع لا يقول بالاكتفاء بهذه الكلمات، ولكنه يقول بفائدتها للأجنبي الذي يجد اللغة ميسرة له لا يتغلق عليه فهم كلماتها، فهو يتحدث ويكتب ويقرأ بها ويستطيع بعد ذلك أن يتوسع ويقول أيضا بفائدتها للأطفال الإنجليز المبتدئين؛ لأنهم يستطيعون أن يقرءوا في موضوعات مختلفة دون أن تقف اللغة عائقا في سبيل ثقافتهم تصدهم لأول اختبارهم لها.
وهنا التناقض بين النزعتين: نزعة «أوجدين» في تعميم السهولة مع توخي الدقة في اللغة، ونزعتنا نحن في الإكثار من المترادفات، واستعمال الكلمات القديمة النادرة، حتى إننا نحتاج في كتب الأطفال إلى أن نفسر لهم في الهامش بعض الكلمات، وكأننا بهذا العمل نحاول صدهم عن القراءة، وقد أشرت إلى هذه اللغة الأساسية؛ لأني أرجو أن أرى قيمة هذا المجهود تناقش في لغتنا ويجب أن أعترف أنه على الرغم من جميع الصعوبات التي تعترض التعبير الاقتصادي الصحيح في اللغة العربية؛ قد استطعنا أن نقطع مسافة غير قصيرة نحو هذا الهدف.
والفضل الأول في هذا الميدان يعود إلى الجريدة اليومية التي يضطر كاتبوها إلى الاقتصاد في الكلمات وأحيانا يترجمون التلغراف، وهي بطبيعة الأجور العالية لكلماتها مقتصدة موجزة لا تتحمل المترادفات أو البهارج، وفضل آخر في هذا الميدان أيضا يعود إلى المحاكم التي أجبرت القضاة والمحامين ورجال النيابة على استعمال لغة محبوكة المعاني بعيدة عن الشبهات والشكوك وفضل ثالث يعود إلى نشر القليل من كتب العلوم المادية التي تطالب المؤلف باستعمال كلمات قليلة تمتاز بدقة المعنى.
ولكننا مازلنا في بداية الطريق فإن اقتراح قاسم أمين بإلغاء الإعراب وإسكان أواخر الكلمات؛ لم يلق أية عناية، وكذلك استعمال الأرقام الأوروبية كما يفعل إخواننا المغاربة في مراكش بدلا من الأرقام العربية؛ لا يجد القبول الحسن مع أن الأرقام الأوروبية أكثر أصالة في العربية من أرقامنا الحاضرة، وهي تمتاز بوضوح الصفر. كما تميز تمييزا نيرا بين رقمي 2 و3 اللذين يشتبهان عندما يطبعان بالبنط الصغير.
والآن يجدر بنا أن نتساءل: ما الذي حمل «أوجدين» على التفكير في تأليف كتابه «معنى المعنى» وأيضا على تيسير اللغة الإنجليزية على الأجانب وللمبتدئين بالاقتصار على 946 كلمة؟
الذي حمله على ذلك أنه درس السيكولوجية وعرف منها القيمة الاجتماعية والثقافية للغة الإنجليزية، وجدير بنا أن ندرس لغتنا في ضوء السيكولوجية؛ حتى تجعل التعبير العربي أيضا - كلمة وجملة - وسيلة للخدمة الاجتماعية والثقافية ، وربما يكون أوجدين قد بالغ في الاقتصار على 946 كلمة، ولكن موضوع اهتمامنا هو هذه النزعة التي حملته على اختيار هذه الكلمات التي آثرها على غيرها؛ لتيسير التعليم للغة الإنجليزية في حين نعمل نحن للتعسير.
أليس من المستطاع أن نختار نحو ألف كلمة من اللغة العربية تمتاز بالوضوح والدقة والألفة، فنؤلف بها كتبا للصبيان في المدارس الإلزامية والابتدائية في الجغرافية والتاريخ والحيوان والنبات ومبادئ العلوم، بحيث يدخل الصبي في هذه الميادين فيمرح فيها ويطلب المزيد، وبذلك نبعث فيه الاستطلاع والتشوف ونغنيه عن الدمع الغزير والعرق الوفير؟ بل أليس من المستطاع أن تكتب بعض المجلات والجرائد بما نسميه «العربية الأساسية» لأفراد الشعب الذين لا يعرفون من لغتنا غير ألف أو ألفي كلمة؟
الفصل السادس والعشرون
التفسير الاقتصادي للغة والأدب العربيين
كثير مما سنقول في هذا الفصل قد مر بالقارئ متفرقا، ولكنا سنجمعه هنا لإبراز المعاني في ترسيم هذا الكتاب وإيضاح غايته، فالتفسير الاقتصادي هو الذي يعلل جميع الظواهر الاجتماعية في الأمة بالنظام الاقتصادي الذي يعيش أفرادها وفق مبادئه واجتماعهم يتغير بتغيره أو يركد بركوده، واللغة والأدب كلاهما ظاهرة اجتماعية لا تختلف عن الأخلاق والعقائد.
ففي أمة صناعية مثل: بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ نجد اللغة عصرية والأدب مستقبليا والتفكير علميا، وفي أمة زراعية مثل مصر نجد اللغة والأدب تليديين والتفكير عقديا أو سنيا.
ولننظر النظرة التحليلية في ضوء «التفسير الاقتصادي للتاريخ» للغة والأدب العربيين. (1)
المجتمع العربي الذي ورثنا منه أدبنا ولغتنا الكتابية كان مجتمعا إقطاعيا زراعيا؛ أي كان يعيش أفراده بامتلاك الأرض، وكان في أقله الذي لا يؤبه به تجاريا صناعيا؛ أي أن 90 في المائة من العرب في مصر والعراق وسوريا وأقطار أفريقيا الشمالية كانوا يعيشون بالزراعة، ومن شأن الزراعة الجمود، فنحن نزرع القمح الآن كما كان يزرع قبل ألف أو ألفي سنة؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير العقائد أو الأخلاق أو الكلمات الزراعية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير الأدب في مثل هذا الوسط، بل إن كل محاولة للتغيير كانت تجحد؛ لأنها كانت تناقض الاستقرار الزراعي؛ أي: تناقض العيش.
استقرار في النظام الاقتصادي؛ أدى إلى استقرار «جمود» في النظام اللغوي والأدبي، فقواعد الزراعة التي جرى عليها المجتمع منذ ألف سنة يقابلها قواعد اللغة وأسلوب الأدب منذ ألف سنة والكلاسية؛ أي التليدية التي نعانيها في مصر الآن ليست لهذا السبب مفتعلة بل هي طبيعية؛ لأننا ما زلنا نعيش في الوسط الزراعي إلى حد كبير. (2)
هذا المجتمع العربي أيضا كان مجتمعا دينيا؛ فكان الخليفة في بغداد بمثابة البابا في رومة، ومن غير المعقول أن نطالب أي دين إلهي في العالم بالتغيير، فاستقرار الدين أدى إلى استقرار اللغة؛ أي جمودها، وأصبح رئيس الدولة؛ أي الخليفة يحمي الدين ويحمي الكلاسية؛ أي التليدية في اللغة والعرش ينزع إلى الماضي؛ لأن حقوقه تعود إليه، فهو محافظ وأحيانا جامد؛ أي أن للعرش أصولا اقتصادية سلفية؛ تؤدي إلى مبادئ لغوية وأدبية كلاسية تليدية.
وأذكر هنا «فولتير» يشمئز من ذكر الفأر على المسرح؛ لأنه كان يعيش في ظل العرش الفرنسي بلا دستور وبلا ديمقراطية. وأذكر هنا أيضا لغة الكهنة في المعابد؛ فإن تغيير الكلمة هنا يعادل الكفر.
والآن لماذا لا نرضى بلغتنا العربية، ولماذا يدعو قاسم أمين وعبد العزيز فهمي وأحمد أمين ولطفي السيد وبهي الدين بركات إلى إجراء تغييرات كثيرة أو قليلة في اللغة؟
السبب أن هؤلاء الرجال على وجدان بعصرهم؛ أي بهذا الوسط الصناعي العالمي الذي يغمر الوسط الزراعي ويتسلط عليه كما تتسلط بريطانيا الصناعية وعددها أقل من 50 مليونا على الهند الزراعية وعددها نحو 400 مليون (سنة 1945) وهم على وجدان بالنتائج الاجتماعية لهذا الوسط الصناعي، وهي: الديمقراطية والحرية والاعتماد على المعرفة دون العقيدة، والتوسل بالعلوم إلى الرقي الاقتصادي والأخلاقي والثقافي.
وليس من الضروري أن يكون هذا الوسط الصناعي سائدا في مصر؛ لأن هؤلاء المجددين الذين ذكرنا متمدنون، ووسطهم الحقيقي هو هذا العالم كله. فهم يحسون تياراته وينفعلون بنزعاته، وأستطيع أن أقول أنا: إن نزعتي إلى الحضارة الصناعية مع ما يجب أن يرافقها من ثقافة علمية هي التي تدفعني إلى الرغبة في التغيير؛ حتى تلائم ما أنشد من ثقافة علمية.
وأستطيع أن أقول: إن عرقلة الصناعة منذ 1904 حين وصف المصنع بأنه «محل مقلق للراحة إلخ»؛ قد عرقلت اللغة في تطورها، وحالت دون التفكير العلمي، واستبقت الكلاسية؛ أي التليدية في الأدب واللغة، وذلك لأن هذا القانون قد استبقى الزراعة أسلوبا للعيش لأكثرية الأمة؛ فأدى استقرار العيش إلى استقرار الفقر ثم إلى جمود اللغة والأدب، ولولا هذا القانون؛ لتفشت الصناعة واستتبع تفشيها ثقافة علمية تطعم لغتنا بألوف الكلمات الجديدة.
الفصل السابع والعشرون
اللغة العربية في مدارسنا
القراءة أسهل بكثير من الكتابة الإنشائية كما يتضح هذا عندما نحاول أن نكتب بإحدى اللغات الأجنبية التي تعلمناها؛ فإنه يسهل علينا كثيرا أن نقرأ مؤلفاتها، ولكنا حين نكتبها نجد الصعوبات الشاقة في تأليف عباراتها.
ولهذا السبب يجب أن تكون الغاية الأولى من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية الشعبية؛ «أي المدارس التي يجب أن تتناول مائة في المائة من السكان»، هي القراءة دون الكتابة التي يختص بها 50 في المائة من السكان أو أقل، فإن العامل في المصنع أو المزرعة أو الخادم في المنزل أو مثل هؤلاء؛ لا يحتاجون إلى الكتابة إلا قليلا جدا، ولكنهم كي يكونوا متمدنين يحتاجون إلى القراءة كل يوم وحتى عندما يحتاجون إلى الكتابة نرضى لهم ونقنع منهم بما يعبر التعبير الساذج عن أفكارهم.
ولسنا نعني أن هذه الحال سوف تكون دائمة، ولكنا نجد أننا في الوقت الحاضر في فاقة مادية وثقافية تحملنا على القنوع بتعليم القراءة للكافة من السكان، ثم الارتقاء منها إلى تعليم الكتابة الإنشائية للأقلية التي نحتاج إليها في المدارس الثانوية والجامعة.
ولهذا السبب يجب أن نقتصر من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية على تمكين التلميذ من المطالعة والفهم بلا حاجة إلى أية قواعد خاصة بالنحو، وليس عليه من حرج أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام يفهم ما يقرأ. حسبه أن يسكن آخر الكلمات كما نفعل نحن حين نقرأ وبدلا من هذه القواعد النحوية يجب أن يتعلم الصبي أكبر مقدار مستطاع من الكلمات التي ترد في الجريدة والمجلة والمتجر والمصنع والدكان والمنزل؛ ولهذا السبب يجب أن تتوافر لديه كتب المطالعة السهلة التي تغذو ذهنه بالمعارف الطلية عن حياته الاجتماعية والسياسة وعن العلوم والفنون.
أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو ولا نبالي الإعراب الذي أثبت الاختبار أنه لا فائدة منه بتاتا؛ لأننا كلنا - كما قلنا - نقرأ أو نكتب دون أن نحتاج اليه والوقف في أواخر الكلمات؛ أي إسكانها هو الخطة السديدة التي يجب أن تتبع، وعندئذ يتوافر للتلاميذ الوقت لزيادة ما يدخرون من الكلمات، وهنا تدخل البلاغة، ونعني بلاغة المنطق اللغوي؛ للتمييز بين الكلمات من حيث الدقة والاقتصاد في التعبير، وليس من حيث ألاعيب الصغار عن الاستعارات والمجازات كوجه القمر وأنت بحر وعلم من فوقه نار إلخ.
ويجب أن تكون لنا غاية أخلاقية في تعليم اللغة العربية إلى جانب الغاية الثقافية، وهي تعويد التلميذ القراءة حتى تعود حاجة ملحة في نفسه لا يستطيع الاستغناء عنها طيلة عمره؛ ولهذا يجب أن تكون لديه مئات من الكتب التي تبسط له المعارف البشرية في عبارة مقتصدة تفتح له آفاقا جديدة في كل عام من أعوام دراسته فتثير استطلاعه وتحمله على البحث والتساؤل.
ولهذا السبب يجب أن تتناول كتب المطالعة في المدرسة والبيت موضوعات البيولوجية والاجتماع والتراجم والكيمياء والفلكيات والاقتصاد والصناعة، والمألوف في الوقت الحاضر أن تحتوي كتب المطالعة للأقسام الثانوية مقطوعات أدبية من كتب العرب قبل ألف أو خمسمائة سنة، ولكن هذه الكتب لا تثير الاستطلاع ولا تحمل التلميذ على التساؤل والبحث والدراسة الذاتية، ولا تعوده القراءة بعد أن يترك المدرسة بل حتى بعد أن يترك الجامعة؛ ولذلك يجب أن تؤلف الكتب الجديدة في المعارف العصرية التي تستفز التلميذ إلى البحث.
وهنا يجب أن نذكر حادثا له قيمته هنا، فقد حدث أن قصد فوج من طلبة إحدى الجامعات في الولايات المتحدة إلى ألمانيا للتعلم وكان منهم من شاء التخصص في اللغة والأدب، ومن قصد إلى التخصص في العلوم كالكيمياء أو البيولوجية أو الطبيعيات، فبعد عام من الدراسة اتضح أن الذين قضوا عامهم في دراسة اللغة والأدب بالذات؛ لم يحسنوا تعلم هذه اللغة لا كلاما ولا كتابة كما أحسنها أولئك الآخرون الذين قضوا عامهم في دراسة الكيمياء والبيولوجية والطبيعيات وذلك؛ لأن الفريق الأول قضى وقته في دراسة نحو اللغة وبلاغتها في حين أن الآخرين قصدوا إلى مادة علمية درسوها بالألمانية فأتقنوا اللغة عن سبيل دراسة هذه المادة.
ويجب أن نسترشد نحن بهذا المثل في تعليم اللغة العربية فإننا نحسن تعلمها بقراءة الكتب التي تختلف موضوعاتها؛ لأن هذا الاختلاف في الموضوعات يخصب الذهن تفكيرا وفهما كما أنه يوفر للتلميذ مئات الكلمات التي تثير استطلاعه وتفهمه فيستزيد من القراءة ويستنير ويعرف اللغة، بل يعرفها هذه المعرفة المتفاعلة المتجددة مع مجتمعه وعلومه وفنونه، أما إذا قصرناه على دراسة القواعد النحوية والبلاغية وكتب الأدب القديم؛ فإنه يزهد ويقل استطلاعه أو ينعدم؛ لأنه يجد أنه قد تعب في استظهار كلمات لا تتفاعل مع مجتمعه وعلومه وفنونه.
قلنا: إنه يجب أن تكون لنا غاية أخلاقية في تعليم اللغة العربية، هي تعويد التلميذ القراءة بحيث لا يستطيع الكف عنها طيلة حياته، وغاية أخرى نتوخاها هي تكوين شخصيته بالمناقشة والخطابة؛ ولا نعني بالخطابة تلك الحركات المنبرية البهلوانية التي تعتمد على قوة الذراعين والحنجرة أكثر مما تعتمد على الفهم والتمييز، وإنما نعني أن نكثر من الموضوعات التي يطالعها التلاميذ مع المعلم؛ فتنشأ المناقشة المنيرة التي يتعلم منها التلميذ كيف يناقش وينتقد.
إذن يجب على معلم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية والثانوية أن يكون موسوعي المعارف يستطيع الشرح للموضوعات الاجتماعية والبيولوجية والسيكولوجية والتاريخية والفلكية. وعليه أيضا أن يعرف - على الأقل - لغة أجنبية أو لغتين؛ كي يقارن بين العربية وبينهما ويجدد في لغتنا بمقدار انتفاعه من الجديد فيهما وإنه لزهو مضحك أن يعتقد أحدنا أن لغتنا تستطيع أن تعيش مستكفية لا تستمد التعبير الحسن من الإنجليزية أو الفرنسية وأن عليها أن تجتر نفسها دون أن تتزود من المعارف العصرية، وهذا الاعتقاد من أكبر الأسباب للفاقة الثقافية التي نعانيها في وقتنا.
الفصل الثامن والعشرون
الخط اللاتيني
إذا كان الأساتذة والطلبة في كلية الآداب في الجامعة، أو في دار العلوم أو كلية اللغة العربية راضين عن اللغة العربية فرضاؤهم يمكن أن يعلل ويفسر من الناحية الاقتصادية الاجتماعية ولكنه لا يفسر من الناحية الثقافية؛ لأن هذه اللغة لا ترضي رجلا مثقفا في العصر الحاضر؛ إذ هي لا تخدم الأمة ولا ترقيها؛ لأنها تعجز عن نقل نحو مائة علم من العلوم التي تصوغ المستقبل وتكيفه.
وهذا السخط الذي يتولانا؛ كلما فكرنا في حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقي الثقافي تزيد حدته كلما فكرنا وأدى بنا التفكير إلى اليقين بأن إصلاحها مستطاع.
والقلق عام ولكن الجبن عن الابتكار أعم؛ ولذلك قلما نجد الشجاعة للدعوة إلى الإصلاح الجريء إلا في رجال نابهين لا يبالون الجهلة والحمقى مثل: قاسم أمين أو أحمد أمين حين يدعو كلاهما إلى إلغاء الإعراب أو مثل عبد العزيز فهمي حين يدعو إلى الخط اللاتيني، والواقع أن اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة إلى المستقبل، لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التي أغلق عليها هذا الخط أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها، واقتراح عبد العزيز فهمي يحتاج أولا إلى العمل بإلغاء الإعراب الذي تعلمناه ولكن لم نعمل به قط وإلغاؤه يجعل الهجاء العربي في الخط اللاتيني سهلا، ثم هو يغنينا عن وضع الحركات في أعلى وأسفل الكلمة؛ لأن الحركات في الخط اللاتيني حروف تدخل في صلب الكلمة وللنظر في بعض الميزات التي للخط اللاتيني. (1)
فأول ذلك أننا نقترب نحو التوحيد البشري؛ فإن هذا الخط هو وسيلة القراءة والكتابة عند المتمدنين الذين يملكون الصناعة؛ أي العلم والقوة والمستقبل وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب في التجدد كما فعلت تركيا ومن المرجح أن يعم هذا الخط العالم كله قريبا. (2)
حين نصطنع الخط اللاتيني؛ يزول هذا الانفصال النفسي الذي أحدثته هاتان الكلمتان المشئومتان «شرق وغرب» فلا نتعير من أن نعيش المعيشة العصرية ولا بد أن يجر هذا الخط في إثره كثيرا من ضروب الإصلاح الأخرى مثل: المساواة الاقتصادية بين الجنسين، ومثل التفكير العلمي، ومثل العقلية بل النفسية العلمية إلخ. (3)
يمتاز الأوروبيون بقدرتهم على إيجاد المعاني الجديدة؛ بإلصاق مقاطع مشتقة من اللغتين الإغريقية واللاتينية؛ فيخلقون المعنى الجديد من الكلمة القديمة. ونحن ننتفع بهذه المقاطع إذا أخذنا بهذا الخط، ولا يمكن أن نستعمل هذه المقاطع ما دام الخط بالحرف العربي. (4)
والكلمات العلمية التي تقف عقبة شاقة في لغتنا تغدو سهلة الاستعمال بالخط اللاتيني. (5)
ثم يجب ألا ننسى أن الخط اللاتيني لا يكلفنا في تعلمه عشر الوقت الذي نقضيه في تعلم الخط العربي بل ربما أقل. (6)
وعندما نكتب لغتنا بالخط اللاتيني؛ نجد أن تعلم اللغات الأوروبية قد سهل أيضا؛ فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة.
وبالجملة نستطيع أن نقول: إن اتخاذ الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل، ولكن هل العناصر التي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة؟
الفصل التاسع والعشرون
التيسير، التيسير
إذا فرضنا أن صبيين في سن واحدة شرعا يتعلمان، أحدهما الإنجليزية والآخر العربية دون أن يكون لأحدهما معرفة سابقة باللغة التي سيتعلمها؛ فإن الصبي الذي سيتعلم الإنجليزية لا يحتاج لأكثر من ستة أشهر كي يتكلم ويقرأ ويكتب هذه اللغة على طريقة أوجدين أما الصبي الذي سيتعلم العربية فإنه يحتاج إلى ما لا يقل عن أربع سنوات؛ أي أن الوقت الذي يقضيه المتعلم للغة العربية يزيد ثمانية أمثال على ما يقضيه المتعلم للغة الإنجليزية.
ولكي نفهم هذا الفرق؛ يجب أن نذكر بعض العقبات التي سيلاقيها متعلم اللغة العربية ولا يلاقي مثلها متعلم الإنجليزية فأول ذلك أن حروف الكتابة تزيد عندنا على مائة حرف؛ لأن لكل حرف شكلا معينا يتبع موقعه في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها أما في الإنجليزية فالحرف لا يتغير بتغير موقعه في الكلمة.
وفي لغتنا يجب أن نميز الجنس فنعرف أن الكرسي مذكر والحرب مؤنثة . أما الإنجليزية فلغة غير جنسية ، ومتعلم الإنجليزية يعرف أن الواحد مفرد وما زاد عليه فجمع، أما متعلم العربية فيجب أن يعرف أن ما زاد على الواحد قد يكون اثنين فهو ليس مفردا ولا جمعا بل هو صيغة خاصة تحتاج إلى قواعد خاصة، وقد كانت صيغة المثنى قائمة في الإنجليزية ولكنها ألغيت، والصبي الذي يتعلم الإنجليزية يستطيع أن يعبر عن العدد من واحد إلى ألف بسهولة، أما في العربية فالصبي يحتاج إلى شهور لكي يدرس قواعد العدد، وصبياننا في المدارس الثانوية يعدون بالفرنسية والإنجليزية ولا يعرفون كيف يعدون بالعربية؛ للمشقة التي يلاقون في قواعد العدد.
والصبي في الإنجليزية يجد قاعدة واحدة للجمع مع شواذ قليلة جدا لا يؤبه بها أما في العربية فعندنا من جمع التكسير قواعد لا تحصى، بل يكاد أن تكون لكل كلمة قاعدة والمعرفة التامة لجمع التكسير تحتاج إلى العمر كله ولو كان مائة سنة.
وكل كلمة إنجليزية آخرها سكون، ولكن الإعراب في لغتنا هو لعبة بهلوانية للذهن واللسان ولن نحسنها إلا بعد أن نربي عضلات قوية تستجيب بسرعة، وكثيرا ما رأينا أن القارئ الذي يلتفت إلى الإعراب لا يفهم ما يقرأ وهو يعرب.
ومشكلة الهمزة في لغتنا ليس لها نظير في اللغة الإنجليزية، كما أننا يجب أن نعرف الفرق بين الألف المقصورة والألف الممدودة، والمتعلم للإنجليزية لا يجد مثل هذه المشقات وأكثر من ذلك حركات الحروف في الكلمة الواحدة التي ربما تتألف من ثلاثة حروف ولكن يمكن أن تنطق على اثني عشر شكلا مختلفا، وهذا الاختلاف يحتاج مثل جمع التكسير إلى العمر كله - ولو كان مائة سنة - كي نحفظ لكل كلمة شكلها أما الذي يتعلم الإنجليزية فلا يحتاج إلى هذا؛ لأن الحركات قد صارت حرفا في صلب الكلمة.
وهناك قواعد أخرى للمترفين في اللغة كالتنوين والتصغير يحتاج الذي يتعلم العربية إلى شهور لدرسهما أما متعلم الإنجليزية فلا يحتاج إلى شيء من هذا.
ثم يجب ألا ننسى بعد كل هذه المصاعب أن الصبي الذي يتعلم الإنجليزية سيجد أن ما تعلمه يخدمه في الكلام والكتابة، ولكن الصبي الذي تعلم العربية يحتاج إلى أن يعرف اللغة الدارجة للكلام ثم اللغة الفصحى للكتابة، وهذا مجهود آخر، والذي نلاحظه في مصر أن الذي يلتفت إلى اللغة العربية ويستوفي قواعدها دراسة يحتاج إلى العمر كله فلا يجد الوقت لأية دراسة أخرى إلى جانب اللغة.
وليست اللغة سوى وسيلة للفهم والدرس فإذا كانت تحتاج إلى السنوات الطويلة لدراستها؛ فإن هذه السنوات محسوبة علينا، وهي مقتطعة من الوقت الذي كان يمكن أن نرصده لدراسة الجغرافية أو التاريخ أو الأدب أو الجيولوجية أو الفلكيات أو الطبيعيات أو الكيمياء، إلخ، وذلك المسكين الذي يقضي عمره في دراسة اللغة دون غيرها إنما هو بمثابة ذلك الذي يكد طيلة عمره لشراء آلة للغزل أو النسج حتى إذا اشتراها لم يغزل ولم ينسج؛ لأن اللغة آلة ولا يمكن أن نفرح باقتناء الآلة ما لم نستخدمها.
وإذن يجب أن تكون الغاية من دراسة اللغة؛ التعبير عن الجيولوجية والفلكيات والطبيعيات والكيمياء، أما إذا كانت دراستها لا تؤدي هذه الغاية فهي عقيمة، وهي لن تؤديها ما دامت كثيرة القواعد والشذوذات، وما دامت تحتاج إلى السنين الطويلة والجهد العظيم لدراستها؛ لأن هذه السنين الطويلة وهذا الجهد العظيم يجب أن ننفقهما في دراسة هذا الكوكب: ناسه وحيوانه ونباته ومواده وحضارته وعلومه وآدابه ومستقبله.
وإذا كان «أوجدين» قد احتاج إلى 18 فعلا فقط لكي يصل إلى التعبير عن الحاجات المألوفة في اللغة الإنجليزية؛ فإننا يجب ألا نفخر بأن عندنا عشرة آلاف فعل؛ لأن هذه الكثرة ليست وفرة الثراء وإنما هي زحمة واختلاط.
وإذن يجب أن نتجه نحو التيسير لا التعسير في تعليم اللغة العربية، نقنع بأقل ما يمكن من القواعد ونرفض كل ما يمكن من الشذوذات، ونختار من هذه الألوف من الكلمات نحو ألف كلمة للتعبير الدقيق في العلم والأدب والفلسفة، ونؤلف بهذه الكلمات كتبا لصبياننا في المدارس الابتدائية والثانوية، ثم نرتقي من هذه الكلمات إلى غيرها، ولكن مع الحرص على أن نتجنب الكلمات السائبة التي يغمض معناها لأنها تضلل بدلا من أن ترشد.
وربما يكون من الحسن أن نميز بين القارئ والكاتب في تعلم اللغة العربية. فإذا كانت الغاية من التعلم هي القراءة فقط فإننا نستطيع أن نصل إلى ذلك بلا قواعد نحوية، وجمهور الأمة يقرأ ولا يكتب، ثم نقصر تعلم القواعد بعد التيسير على الذين سيكتبونها وليس لهذا التمييز شبيه في لغات العالم المتمدن ولكن لغتنا شاذة في صعوبتها وتحتاج إلى إجراء شاذ.
الفصل الثلاثون
ثقافة إقطاعية وأدب إقطاعي
يمكن أن نقول إن النظام الإقطاعي هو نظام الزراعة القديمة، حين كان المالك أميرا أو نبيلا أو ثريا له المقام الفعلي للأمير أو النبيل.
فقد كان للأمير الحق في أن يربط فلاحيه بأرضه فإذا فر أحدهم استعاده وعاقبه، وكان الخليفة أو الملك يقطع الأمير أو النبيل أرضا قد تبلغ مساحتها ألف فدان ويلحق بهذه الأرض عمالها.
وظني أن هذا النظام كان سائدا في أوروبا والشرق على السواء في القرون المظلمة «بين سنة 500 وسنة 1000 للميلاد»، ثم بدأ ينهار رويدا رويدا، وكانت روسيا في القرن الماضي آخر من ألغاه.
وظني أيضا أنه كان على أثقله وأظلمه في أوروبا مدة القرون الوسطى أكثر مما كان في أمم الشرق العربي إلى أن تولى الأتراك الحكم، فصار في أمم الشرق العربي أسوأ وأثقل ظلما مما كان في أوروبا.
وكلمة إقطاع تسمى في أوروبا حين نعني النظام «فيوداليتيه» وهذه الكلمة مشتقة من «فيودوم» اللاتينية بمعنى الماشية أو الملك، وكلمة فدان عندنا تعني الماشية أو الملك، ويستطيع أي قارئ عربي أن يجد هذا المعنى في أي معجم عربي، أما معنى المساحة الذي ننسبه إلى هذه الكلمة فليس له أساس في الأصل اللاتيني، ومعنى هذا أن نظام الإقطاع قد ساد في مصر قبل دخول العرب، ولكني أظن أن العرب قد خففوه ثم عاد بقوته في الظلم أيام الأتراك والمماليك.
وكانت ثقافة هذا النظام في الشرق العربي تشبه ثقافته في أوروبا أيام القرون الوسطى؛ أي كانت ثقافة إقطاعية.
الثقافة الإقطاعية هي ثقافة الاستقرار والركود والسكون ، وليست ثقافة الحركة والنهضة والتغير والتطور.
الثقافة الإقطاعية سواء في أوروبا أو في الشرق العربي أيام القرون الوسطى هي تأليف الكتب في العقائد الدينية والمناقشات الدينية، ثم درس القدماء مثل الإغريق والاستعانة بأساليبهم الجدلية لتأييد الدين، ومثال ذلك أن ابن رشد على الرغم من نوازعه التجديدية يقول عن أرسطو طاليس إنه أعظم عقل ظهر في الدنيا.
وكذلك البرلمان الفرنسي في القرن السادس عشر قد سن قانونا لمعاقبة كل من ينتقد أرسطو طاليس بالحبس، واحترام القدماء بأشخاصهم وعقائدهم هذا هو المبدأ الأول في الثقافة الإقطاعية، وليس لنا أن نستغرب ذلك؛ فإن نظام الامتلاك الإقطاعي واستبعاد الفلاحين إنما ينهضان على التقاليد والتاريخ وكلاهما قديم؛ ولذلك يتساوق تفكير الكتاب والأدباء مع الحال الاجتماعية القائمة.
واحترام اللغة القديمة واحترام التقاليد القديمة وعبادة السلف الصالح وكل ما يتصل بهذه الاتجاهات؛ تنبني منه الثقافة الإقطاعية، وهي - بالضرورة - يجب أن تكون ثقافة راكدة لا تنطوي على معنى الارتقاء أو التطور؛ لأن فيهما معنى التغيير للمجتمع هذا التغيير الذي لم يكن من المستطاع التفكير فيه.
وإذا كنا نجد تفكيرا ارتقائيا في ابن حزم أو ابن خلدون أو ابن رشد أو ابن ميمون أو غيرهم؛ فإنه مما لا شك فيه أنهم كانوا متأثرين بوسط آخر غير الوسط الإقطاعي الزراعي، فإن أبناء ابن ميمون مثلا كانوا يقومون بالتجارة ما بين الهند والأندلس؛ أي أن عقليتهم كانت تجارية.
أما حين يكون الوسط إقطاعيا فإن من المحال - أو يكاد يكون من المحال - أن يظهر أديب يفكر في المستقبل أو الارتقاء والتطور اللذين لا يدخلان في ضمير الكاتب أو الشاعر أو الأديب إلا في وسط تجاري أو وسط صناعي.
وقد أنجبت الأوساط التجارية عند العرب والأوروبيين بعض الكتاب المبتكرين ولكن في قلة غمرتها الأخلاق والأساليب الفكرية الإقطاعية. •••
حين يتغير الوسط الاجتماعي الاقتصادي؛ بأن تنتقل الأمة مثلا من إنتاج المواد الخام الزراعية - كما كنا نفعل إلى وقت قريب - إلى انتاج المصنوعات والأخذ بالتجارة؛ تتغير أيضا الثقافة من احترام القدماء في الأدب والتزام اللغة القديمة ومدح الملوك والأثرياء والأعيان بالخرافات والتهالك على الألقاب إلى أدب جديد يدخل الشعب بل المرأة أيضا في حسابه؛ لأن الشعب يبقى منسيا طوال الإنتاج الزراعي الإقطاعي ولكنه يظهر في نظام الصناعة والتجارة هذا النظام الذي يدفع المرأة أيضا إلى العمل والإنتاج في المصنع والمتجر ويحررها.
وهذا الأدب الجديد يشرع في التساؤل عن قيمة التسليم المطلق بحكمة القدماء وأساليبهم في العيش بل فلسفة العيش، ثم يشرع في النظر إلى المستقبل؛ لأن الابتكار المطرد في الصناعة يبعث في نفس الأديب إحساس الابتكار أيضا والإيمان بأن الارتقاء ممكن ولكن عندما يتغير نظام الزراعة الإقطاعي يبقى التفكير الإقطاعي جملة سنوات قبل أن يتغير، وهذه هي حالنا الآن.
فنحن قد شرعنا في تغيير أسلوبنا في العيش شرعنا فقط ونحاول أن ننتقل من الزراعة إلى الصناعة ولكن كتابنا وشعراءنا وأدباءنا لا يزالون يتعلقون بالقيم الإقطاعية: احترام القدماء بأشخاصهم وعقائدهم.
وعندما أجد في مصر كاتبا يكره الشبان ويصفهم بالنزق؛ لأنهم يجرءون على استعمال حريتهم، أو لأنهم يهملون عادات القدماء أو حين يخشى المستقبل كما يخشى حرية المرأة والمساواة بين الجنسين عندما أجده على هذا الحال أسأل: هل هو نشأ في الريف حيث الوسط الإقطاعي؟ هل هو يملك عزبة ويعيش منها؟ هل هو من الوارثين لأرض زراعية؟ والأغلب أني أجده كذلك؛ أي أجد أنه نشأ في وسط حضارة زراعية إقطاعية قد تخلق بأخلاقها وأخذ بقيمها، فهو يحب الشعر في مدح الملوك بل هو لا يخجل إذا كان شاعرا مثل: «علي الجارم» من أن يؤلف قصيدة يزعم فيها أن الجمل قد خرج من المجزر ناجيا بنفسه مستغيثا بفاروق في قصر عابدين!
وهو يتعلق بالأساليب القديمة عندما يكتب، وهو يؤلف عن القدماء بل هو يدخل في مناقشتهم بشأن العقائد، كما لو كان يعيش في عصرهم، ثم هو يسب الشبان ويستصغر شأن المرأة، بل يحتقرها، وأخيرا يحتقر المستقبل ويقول بالعودة إلى أساليب العيش في الماضي، وعندنا أدباء، أو بالأحرى كتاب على هذه الحال قد تغيرت حضارتنا التي يعيشون فيها إنتاجا واستهلاكا ولكن عقولهم لم تتغير إذ هي تحيا على الثقافة القديمة والقيم القديمة؛ ولذلك كثيرا ما أشتبك في مناقشة مع أحد هؤلاء الكتاب، فيعمد من فوره إلى أساليب القدماء ويجادلني بكلمات الدين حتى لقد وصفني أحدهم بأني «غير عربي»؛ أي أني قبطي، أي مسيحي.
وهذا هو بلا شك أسلوب القدامى حين كانت العقائد الدينية كل الثقافة. ولا ثقافة غيرها، وهذا الالتجاء إلى سلاح الدين يتساوق مع سائر مبادئه في الثقافة الإقطاعية، إذ هو يكره حرية المرأة، ويكره حرية الشبان، ويكره المستقبل حتى ليستصغر شئون العلم، أليس العلم للمستقبل؟
الجمود الحاضر في اللغة العربية من حيث الكراهة للكلمات العلمية، وكراهة استعمالها بأسمائها التي سماها بها مخترعو الآلات أو مكتشفو العناصر والأشياء، ثم بعد ذلك كراهة أي تغير في كتابة حروفنا الناقصة التي لا تخدمنا الخدمة اللازمة في عصرنا؛ هذا الجمود هو أحد صفات الثقافة الزراعية الإقطاعية الراكدة.
إنهم يكرهون المستقبل، ويكرهون الشبان، ويكرهون المرأة، ويكرهون العلم، ويكرهون العقل، ويكرهون التطور، ويؤثرون على كل ذلك العقيدة.
إنهم عبء علينا، وحجر طاحون معلق بأعناقنا يعوق حركتنا الارتقائية. •••
اعتبر مثلا مسألة الحروف العربية والحروف اللاتينية.
فنحن حين انتقلنا من البيئة الريفية إلى سكن المدن وركوب الترام والقطار والأتومبيل بل الطائرة؛ احتجنا إلى أن نبذل نشاطا أكثر، كما احتجنا إلى أن نتخفف من الملابس فاتخذنا البنطلون؛ لأنه يزيد حرية الحركة في الساقين وتركنا الجلابيب والقفاطين التي كنا نلبسها في القرية، ولا تنس أيها القارئ المشابهة بين جلابيبنا وقفاطيننا السابقة وبين ملابس النساء، فإنها جميعها فضفافه توحي بالراحة والدعة ولا توحي بالنشاط والحركة، أليس الجلباب أليق للنوم والركود منه للسعي والتنقل؟
ثم أن للجلباب في المصنع خطره، وهو أحيانا خطر حتى حين نركب الترام؛ لأن قماشه الفضفاض يمكن أن يتعلق بأي شيء وأن يدوسه آخر؛ فنجد الخطر ونحن لذلك - أو أكثرنا - نسلم بأفضلية البذلة الأوروبية على جلابيبنا وقفاطيننا؛ لأننا نعيش في المدن وليس في القرى.
وكذلك الشأن في الحروف اللاتينية؛ فإنها اللباس العصري للأفكار العصرية؛ أي للأفكار العلمية، ذلك أن الكلمة العلمية تشتق من أصول وتركب من مقاطع تدل على معناها لأول نظرة، كما أن النطق بحروفها اللاتينية لا يتميز؛ لأن هناك ستة حروف للعلة تضبط النطق.
وكما أن عندنا ناسا لا يزالون يتعلقون بالملابس الشرقية الفضفاضة؛ لأنهم يحبون حياة الدعة ولا يحتاجون إلى نشاط؛ كذلك عندنا ناس يكرهون الحروف اللاتينية؛ لأنهم لم يقرءوا كتابا واحدا في حياتهم؛ فلا يفهمون معنى الدقة العلمية في التعبير، وهؤلاء أيضا عبء علينا وحجر طاحون معلق بأعناق ارتقائنا.
الفصل الحادي والثلاثون
حاجتنا الحتمية إلى الحروف اللاتينية
عشت حتى رأيت نجاح الدعوة التي قمت بها منذ أكثر من ثلاثين سنة، حين قلت - وأعدت القول إلى حد الهوس - بأن الأمم المتمدنة لا تتفوق على الأمم الشرقية إلا بالصناعة وبالصناعة فقط، وأن كل ما نجد عندها من أخلاق عقلية وحريات للرجل والمرأة، وعلوم وفنون، كل هذا إنما يرجع إلى أثر الصناعة، وأن أمة صناعية لا يزيد عدد أفرادها على مليون واحد تستطيع أن تكتسح أو إذا شاءت أن تستعبد أمة زراعية عددها عشرون أو ثلاثون مليونا.
إني أكتب هذه الكلمات والشعب يكتتب في مصنع الصلب، أتدري ما هو الصلب؟ هو: المدافع والطائرات والدبابات للقوة، وهو آلات الزراعة والري والحصاد، وهو آلات الإنتاج التي ستخرج لنا الأقمشة والأحذية، وستصنع لنا حديد البناء وقاطرات السكك الحديدية والسيارات، وهو القوة في الحرب، كما هو الحضارة في السلم، هو التمدن؛ لأنه سيكسبنا أخلاق المتمدنين، أخلاق العلم، أخلاق العقل.
وهو الذي سينزعنا من الأخلاق الزراعية الإقطاعية، أخلاق العقائد والتقاليد والنظر إلى الخلف والماضي إلى النظر إلى الأمام ومستقبل الصناعة حضارة ترافقها ثقافة، وثقافة الصناعة هي العلم الذي يغذيها ويدعمها ويكشف لها ويخترع.
الصناعة أسلوب للعيش والإنتاج والارتزاق والثقافة.
هي الكتب والمعارف العلمية التي تبعث على إتقان الصناعة والاختراع فيها، وإذن نحن في حاجة - بل حاجة ملحة - إلى ثقافة علمية.
ويبدو لي أني سأقضي سائر عمري في المستقبل في الدعوة إلى العلم، كما قضيت عمري الماضي في الدعوة إلى الصناعة .
ونحن في مصر نحيا في حلكة من الجهل، لا يكاد ينفذ إليها شعاع من العلم، هذا العلم الذي تؤلف عنه ألوف الكتب وتصدر في شرحه ألوف المجلات في جميع عواصم أوروبا وأمريكا، بل لقد شرعت عواصم الهند والصين ومن قبل ذلك اليابان في التنوير بل في التثقيف العلمي، ولأننا نجهل العلم نجد ناسا فارغين يتحدثون عن الأدب كما لو كان شعوذة ولهوا بل إن منهم من يجد العلم في تصغير محطة إلى محيططة وقلب الواو ياء ووصف الخادمة بأنها خادم فقط بلا تاء، وكأن هذه الشعوذة هي رسالة حياتهم في هذه المدنية، أما صنع طائرة تستولي على السماء أو الاستعداد لغزو القمر أو إطالة عمر الإنسان إلى مائتي سنة أو إلغاء حرارة الصيف وبرودة الشتاء من المدن، أو زراعة البحار أو صنع اللحم من الخشب؛ كل هذا عندهم هراء صبيان، إنما الجد الخطير في حياتنا أن نعرف أن تصغير محطة هو محيططة.
إن أوروبا في نهضة علمية منذ 500 سنة، ولن ننتظر 500 سنة حتى نبلغ مكانتها؛ ولذلك يجب أن نجري بدلا من أن نمشي، بل أن نثب بدلا من أن نجري.
ولكن هل نستطيع أن ندرس العلوم في لغتنا بحيث تسير الثقافة العلمية جنبا لجنب مع الصناعة أو الحضارة العلمية؟
أجل نستطيع أن ندرس العلوم في لغتنا، ولكن ليس مع الحروف العربية الحاضرة؛ لسبب واحد هو: أن العلوم الأوروبية والأمريكية - وليس في العالم غيرها - تعتمد في تكوين كلماتها التي تعبر عن معانيها العلمية على الاشتقاق اللاتيني في الأكثر، والإغريقي في الأقل.
فتكوين الكلمة بالاعتماد على أصل مشتق من هاتين اللغتين ينير المتعلم ويجعل الفهم ممكننا، وأيضا سهلا؛ لأن النظرة الأولى للكلمة توضح وتشير.
وهناك بالطبع اتجاه إلى ترجمة الكلمات العلمية بكلمات عربية، وهذا مجهود ضائع، وهو كمن يحاول عبور الأقيانوس بالسباحة، فإننا نستطيع أن نسبح على شاطئ الأقيانوس الأطلنطي ولكننا لن نستطيع السباحة من الشاطئ الأفريقي إلى الشاطئ الأمريكي، وهذا شأننا في الكلمات العلمية؛ فإن هناك نحو خمسين ألف أو ستين ألف كلمة لا يمكن بتاتا أن نقوم بترجمتها؛ أي إيجاد أو اختراع كلمات عربية تدل على معانيها بل إني أتهم من يحاول هذه الترجمة بأنه يعمل من حيث لا يدري على تأخير نهضتنا العلمية.
وهذا هو ما يفعله المجتمع اللغوي.
ألم ينشأ المجمع اللغوي في عصرنا الزراعي الإقطاعي؟
قد نقول: ولم لا تنقل الكلمات العلمية كما هي في اللغات الأوروبية، فنقول مثلا: بنسلين وزولوجيه وأكسيد الكربون إلخ؟
والجواب: إننا نفعل ذلك الآن ولكن مع الخيبة والفشل؛ ذلك لأننا لم ندرس اشتقاقات الكلمات، وحتى حين ندرسها لا نستطيع أن نتعرف عليها في هجاء الحروف العربية؛ ذلك لأن حروف العلة عندنا ثلاثة في حين هي ستة عند الأوروبيين؛ ولذلك لا نخطئ النطق عندما نرى الكلمة العلمية في حروف أوروبية، ولكننا نخطئها حين نقرأها في حروف عربية؛ ولذلك لا نفهم اشتقاقاتها عندما نقرأها في لغتنا.
واتخاذ الحروف اللاتينية ييسر لنا درس اللغات الأوروبية التي ينطق بها قرابة ألف مليون إنسان؛ وبذلك تنبسط لنا آفاق رحبة من الثقافة التي نجهلها، وليس علينا عار في ذلك؛ فإن مصر اتخذت قبل ألفي سنة الحروف الإغريقية بدلا من الحروف الهيروغليفية وأوروبا اتخذت الأرقام العربية بدلا من الأرقام اللاتينية والعرب اتخذوا الأرقام الهندية بدلا من الأرقام العربية وهي ما يسميها الأوروبيون الآن «عربية».
والعلوم تحتاج إلى الدقة وقبل كل شيء الدقة.
ولغتنا بنقص حروف العلة وأيضا خلوها من الزوائد والأصول المشتقة من اللغتين اللاتينية والإغريقية لا يمكنها أن تفي بحاجاتنا في التعبير العلمي.
إننا بالصناعة قد شرعنا في أن نحيا حياة عصرية بدلا من الحياة التقليدية التي كنا وما نزال نحيا فيها؛ ولذلك نحتاج إلى ثقافة عملية تؤيد وتدعم حياتنا الجديدة، حياة المجتمع العلمي والبيت العلمي والنقل العلمي والمنطق العلمي واللغة العلمية، إننا سننهض بالصناعة إلى مستوى الحضارة العصرية.
ولكن الصناعة ستبقى أجنبية عنا، لا نفهم رطانتها؛ ما دمنا لا نؤلف إلى جنبها ثقافة علمية تساوقها وتسايرها وتدفعها، ولن يمكن التأليف العلمي باللغة العربية بحروفها الحاضرة.
ثقوا أن هذا محال، ومن يقل غير ذلك إما أنه ضال وإما أنه مضلل، اسألوا كلية الطب، اسألوا كلية الهندسة، اسألوا كلية الزراعة، اسألوا كليات العلوم جميعها؛ إنها جميعا تدرس علومها باللغة الإنجليزية لماذا؟ لأن لغتنا العربية بوضعها الحاضر واعتمادها على الحروف العربية لا يمكنها أن تؤدي هذه الخدمة، وما دمنا على هذه الحال فلن تكون في بلادنا نهضة علمية، ثم لن ترتقي الصناعة وتغدو شعبية وإنما تكون هذه النهضة حين نتخذ الحروف اللاتينية؛ أي لن تستعرب العلوم؛ إلا إذا استلتن الهجاء العربي، وأرجو ألا يشهر أحد في وجهي سلاح الدين؛ فإن المسلمين في 1945 يبلغون 300 مليون لا يكتب اللغة العربية منهم سوى 60 مليونا، ثم إن الهجاء في اللغة التركية المسلمة لاتيني.
الفصل الثاني والثلاثون
المؤلفون المصريون يؤلفون بالإنجليزية
قبل نحو خمسين سنة دعت الحكومة الإيطالية إسماعيل «سري باشا» والد «حسين سري للسفر» إلى إيطاليا لمعاينة نهر «إلبو»؛ وذلك كي يكتب تقريرا عن الممكنات المائية لهذا النهر وطرق الري التي يستطيع هذا المهندس المصري العظيم أن يشير بها على الحكومة الإيطالية؛ حتى تزرع وتفلح أرضها وتستغل نهرها.
وسافر هذا المهندس المصري، وبقي نحو عام يدرس هذا النهر ثم ألف كتابا علميا عن الزراعة والري لوادي «إلبو»، ويمكن للمستطلعين أن يسألوا ابنه عن هذا الكتاب أو يبحثوا عنه في المكتبات ولكن بأي لغة ألف «إسماعيل سري» هذا الكتاب؟ باللغة الإنجليزية.
هنا رجل مصري على كفاءة علمية عظيمة تدعوه دولة أجنبية؛ كي تستشيره في تعمير بلادها، فيؤدي المهمة على الوجه الكامل ولكن ليس بلغة بلاده وإنما بلغة أجنبية، الكفاءة موجودة ولكن اللغة العربية بسبب هجائها الحاضر ليست كفئا للتعبير، وهذه حال رجال العلم جميعهم في مصر.
هذه هي حال المؤلفين المصريين الأطباء والزراعيين والبيولوجيين والجيولوجيين وغيرهم، فقد رأيت لهم مؤلفات غاية في الدقة العلمية مع الإحاطة والإيجاز أو البسط والتوضيح بالرسم وبالصورة، ولكنها كلها بالإنجليزية.
إننا لا ننكر قدر العلميين في مصر، ولكننا نشكو فقر اللغة بل ماذا أقول؟
لا ليست اللغة العربية فقيرة في التعبير وإنما حروفها هي التي تعجز برسمها الحاضر عن التعبير؛ ذلك أن حروف العلة فيها ثلاثة فقط في حين هي في اللغة الأوروبية ستة، ثم لأن حروفنا ليست لاتينية، فإن الكلمة العلمية يستغلق علينا فهمها حتى حين نكتبها كما هي غير مترجمة بالحروف العربية، ثم فوق ذلك جاء مجمع اللغة العربية فجعل الطين وحلا؛ بأن عارض التعريب وأصر على ترجمة الكلمات العلمية؛ أي اختراع كلمات عربية تؤدي معاني المكتشفات والمخترعات الأوروبية.
ومن هنا هذا العجز البالغ، العجز الخطر في التأليف العلمي في بلادنا.
نحن في نهضة كبيرة أو صغيرة في كل شيء إلا في العلم؛ لأن مجمع اللغة العربية يقاطع الكلمات العلمية، ويصر على الترجمة دون التعريب وأيضا يعارض في جعل الهجاء العربي بالحروف اللاتينية، إن قلبي يبكي لهذه الحال.
عندنا الرجال، عندنا الكفاءة، عندنا الحاجة إلى التأليف، ولكننا لا نعرف كيف نكتب سطرا واحدا من الطب وغير الطب باللغة العربية.
إن أبناءنا ينشئون غير علميين، وهذا المجتمع العلمي وهذه الأخلاق العلمية وهذا الطب العلمي وهذه الهندسة العلمية وهذه الزراعة العلمية كل هذا لن يتحقق؛ لأننا نعجز عن تأليف الكتب العلمية عنها بلغتنا كما هي بحروفها الحاضرة.
وخطر هذا واضح بارز بل فاضح.
ذلك أنه تجاورنا أمة علمية قد أنشأت مجتمعا علميا، وهي تطمع وتطمح وتنشد آفاقا في المستقبل، وتحسب أننا في خطر؛ إذا لم نهيئ للعلم جميع أسبابه.
وأعظم أسبابه هو اللغة وقد قيدنا لغتنا بحروف تمنعها هي من التعبير العلمي؛ أي تمنعنا نحن من الرقي. •••
عندما نتخذ الحروف اللاتينية ننتقل نحو ألف سنة إلى الأمام؛ ذلك أننا نستطيع أن نترجم بمتوسط كتاب في العلوم كل يوم، فلا تمضي علينا سنتان حتى نكون قد عبرنا الجسر بين القرون المتوسطة والعصر الحديث.
ونترجم للشعب الكتب التي تجعله يكف عن الإيمان بالخرافات والغيبيات والتي تجعله ينشد المعيشة العلمية في المجتمع العلمي.
ونترجم للفنيين؛ حتى يتعلم أبناؤنا بلغتنا العربية - أجل - ونكذب فرية «دنلوب» التي افتراها على لغتنا حين قال: «إن لغتنا لا تصلح لتدريس العلوم العصرية.»
ما أهنأك يا دنلوب وأنت في قبرك تضحك منا؛ لأننا حاربناك كي تجعل التدريس للعوم باللغة العربية، ولكن ها نحن بعد موتك بثلاثين سنة (في 1945) وبعد استقلالنا ما زلنا نعجز عن التعليم باللغة العربية.
ما أهنأك. وما أتعسنا. •••
أكتب هذا وأمامي مجلد من المجلدات التي ينفق عليها مجمع اللغة العربية ألوف الجنيهات من أموال الدولة في اختراع الكلمات العربية للمكتشفات والمخترعات الأوروبية.
أجل ما أتعسنا وما أهنأك يا دنلوب.
أوروبا تخترع وتكتشف وتفتح أبواب المستقبل للإنسان ونحن ماذا نفعل؟
نضع أسماء لما اخترعته أوروبا وما اكتشفته «يا للحسرة»!
ما أحقرنا.
اقرأ أيها القارئ هذه الكلمات التالية التي اخترعها مجمع اللغة العربية في الطب والبيولوجية، وبعد ذلك اعذر أطبائنا؛ لأنهم يعجزون عن التأليف باللغة العربية.
الخباط، الصفر، الصفاق، القمع، الرنح، الوتير، المنذنبة.
هذا جزء من ألف مما يجب على المؤلفين في الطب أو البيولوجية باللغة العربية أن يحفظوه عن ظهر قلب ويؤلفوا به، أما الكلمات العلمية الأصلية، لغة الطب والبيولوجية العالمية؛ فيجب أن نقاطعها وننساها، ألسنا من أبناء الأرض وهم من أبناء المريخ؟
مرة أخرى ما أحقرنا!
ما هي اللغة؟
هي أداة اجتماعية مثل سائر الأدوات الاجتماعية.
هي وسيلة التفاهم إلى أعلى بين أبناء الشعب.
هي وسيلة المعرفة والمعرفة قوة كما هي فهم.
الأوروبيون يفهمون الدنيا أكثر مما نفهمها الآن؛ لأن معارفهم العلمية تزيد ألف ضعف على معارفنا العلمية، نحن قرويون بالمقارنة إليهم.
ليست اللغة قدسا من الأقداس؛ إذا كان لهذه الكلمات معنى.
إنما هي أدوات تبلى فنستبدل بها غيرها، وهي أسلوب في التعبير؛ أي التفكير يحتاج من وقت لآخر إلى التمهيد والتنقيح والتغيير.
ثم بعد ذلك علينا ألا ننسى أن اللغة إنتاج مثل سائر أنواع الإنتاج في الأمة، فكما نحب أن نزيد إنتاجنا في أقمشة القطن وكما نحب أن نجود في متانة هذه الأقمشة وجمالها كذلك يجب أن ننتج كل عام بل كل يوم إنتاجا لغويا يهيئ لنا التعبير الصحيح؛ كي نفكر التفكير الصحيح والتفكير العلمي هو أدق أنواع التفكير في أيامنا؛ لذلك يجب أن نكافح كل من يصدنا عن العلم أو كل من يقيم العوائق في درسه، يجب أن نؤثر ابن رشد على الغزالي.
إن «ابن رشد» يدرس ويناقش إلى الآن في جامعات أوروبا؛ لأنه دعا إلى العقل والفلسفة، أما الغزالي الذي جحد الفلسفة ودعا إلى منع تعليم الجغرافيا فلا يعرفه أحد في أوروبا في أيامنا.
لقد صعقت عندما قرأت في صفحة 28 من كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالي هذه الكلمات:
فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الأديان تخميني لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه ... فهذه آفة عظيمة؛ لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم.
أي علوم؟
يريد الغزالي أني يزجرنا عن دراسة الرياضيات التي أثمرت علم الذرة، وقد نجح؛ فقد انزجرنا وعرف الأوروبيون الذرة التي لا نعرفها، ومجمع اللغة العربية لا يصرح بضرورة زجرنا عن الرياضيات أو سائر العلوم لكنه وضع من عقبات التأليف ما جعل العلميين الأكفاء في مصر ينزجرون.
فهل نبقى منزجرين؟ •••
كي نجعل العلوم مصرية كي نجعلها عربية نحتاج إلى شيئين:
الأول:
ألا نخترع أسماء للكلمات العلمية، بل ندخل الأسماء في لغتنا كما هي، فنقول الأتومبيل بدلا من السيارة.
والثاني:
أن نكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
فأما الكلمات العلمية فمكانها من الثقافة البشرية عالمية فكلمات: ميكروب وبكتريا، وأسفلت، وأكسوجين، وبترول، وفيتامين، وهورمون، ودينصور، وسيلاكانت، ودفتريا ونحوها؛ تعد عالمية؛ لأن جميع المثقفين يعرفونها بهذه الأسماء ولا يترجمونها إلى لغاتهم؛ أي أن هذه الكلمات ليست إنجليزية أو يابانية أو صينية أو ألمانية أو روسية، وإنما هي كلمات علمية، اتفق العلميون في جميع الأمم المتمدنة على أن يبقوها كما هي ولا يترجموها إلى لغاتهم، ويجب علينا أن نقتدي بهم.
وهذا هو عكس ما يفعله مجمع اللغة العربية في مصر؛ فإنه يخترع كلمات عربية لهذه الكلمات العلمية كأن العالم كله على وفاق إلا نحن، فإننا ننشق عليه ونجعل للعلم لغة غير لغته في جميع الأقطار.
أما الحروف اللاتينية فضرورة حتمية للغتنا؛ لأنها بحروف العلة الزائدة فيها تجعل النطق للكلمات صحيحا؛ إذ هي ستة حروف بينما هي ثلاثة فقط في الحروف العربية، ولذلك نجد أن كلمة «ملك» العربية يمكن أن ننطقها بحيث تعني: ستة أو سبعة معان، بينما هي بالحروف اللاتينية يمكن ضبطها؛ فلا تعني غير معنى واحد.
ولكن التعبير العلمي وهو تعبير المستقبل ينهض فوق ذلك على تأليف الكلمات من أصول وزوائد لاتينية أو إغريقية يدل تركيبها على المعنى المقصود من الكلمة؛ ولذلك نحن نفهم الكلمة العلمية عندما نقرأها بالحروف اللاتينية، ذلك أننا ننطقها النطق السليم ونفهم مقاطعها الأصلية في اللغتين الإغريقية واللاتينية، وهذا محال في الحروف العربية الحاضرة، والفهم هو الغاية الأولى والأخيرة من اللغة. فيجب ألا نتخذ أسلوبا في الكتابة يؤدي إلى تعطيل الفهم أو تعويقه. •••
وأخيرا أناشد الأطباء والمهندسين والبيولوجيين والجيولوجيين والذريين والزولجيين والبوتانيين؛ أن ينطقوا بالحق وأن يقولوا لنا كلمة الحق، وهو أنهم يعرفون علومهم هذه ويمارسون فنونها ولكنهم يعجزون عن التأليف بها في اللغة العربية لسببين:
الأول:
أنهم لا يستطيعون ترجمة الكلمات العلمية.
والثاني:
أنهم لا يجدون أن الحروف العربية تكفي للتعبير السليم عما يرغبون في كتابته.
إن عمري يقارب الآن السبعين، وأنا رجل مشغوف بالعلم مقدر له منذ شبابي. ومع ذلك أعترف بأن جميع قراءاتي أو دراساتي كانت في الأنثروبولوجية والجيولوجية والتطور والسيكلوجية والفلكيات وغيرها؛ كانت كلها بلا استثناء باللغتين الإنجليزية والفرنسية ولم أعثر قط في الخمسين سنة الماضية على كتاب واحد - واحد فقط - باللغة العربية في هذه العلوم.
فإلى متى نبقى على هذه الحال؟ وإلى متى يحرم أبناء مصر وأبناء الأمم العربية الأخرى من هذه العلوم التي يعرفها أبناء أوروبا وأمريكا وعن قريب أبناء آسيا؟
لماذا نبقى في الجهل نتعصب للحروف العربية بلا تعقل وبلا تبصر؟
لماذا نشهد على أنفسنا بأن ما قاله «دنلوب» عن لغتنا كان صحيحا؟
لماذا لا نجرؤ ونقدم على اصطناع الحروف اللاتينية؛ فنقتني بذلك ثقافة علمية ترفعنا باتساع آفاقها إلى مصاف الأمم العصرية فكرا ومادة؟
الفصل الثالث والثلاثون
الكلمات اللاتينية والإغريقية في لغتنا
وقفت ذات مرة عند كلمتين كثيرا ما تردان على أقلام الكتاب هما: «الصيد والقنص»، وتساءلت كيف يكون معنى الفعل «قنص» صاد؟ إذ لا يصح أن نقول إننا خرجنا للصيد والصيد؛ لأن هذا القول ينزل إلى درجة الجهل التي يبلغها الكاتب العامي في أيامنا حين يقول إننا على «أهبة الاستعداد»، والأهبة هي الاستعداد، وأتأهب تعني: أستعد.
ولم أقف طويلا فإني أدرت الكلمتين على لساني وفي عقلي، فوجدت أن صحتهما هي «الصيد بالقنص»؛ أي الصيد بالكلب والكلب في اللاتينية وفي لغة الدولة الرومانية هو «كنس» ولكن جهل اللغويين العرب باللغات الأجنبية ورطهم في هذا الخطأ.
وكنت في بعض أبحاثي أقلب المعجم الإنجليزي عن أصل كلمة «أوركسترا»؛ أي الفرقة الموسيقية التي تعزف بالتوافق بين الآلات؛ فوجدت أن المعنى الحديث مصطنع، وأن الأصل في كلمة «أوركس» هي الرقص وهذا الأصل إغريقي لاتيني، ففعل رقص ليس عربيا بل لاتينيا.
وكثيرا ما استوقفتني هذه الكلمات، وهي في الأغلب فنية أدبية وحملتني على التفكير في الأصل لهذه العلاقة بين العرب وبين الإغريق والرومان، واعتقادي أن انتقال الثقافة الإغريقية من الإسكندرية إلى الشرق العربي؛ هو حقيقة تاريخية، ثم اتصال الإمارات العربية في حوران والعراق بالدولة الرومانية الغربية ثم الشرقية عقب المسيحية؛ هو حقيقة أخرى لا يمكن إنكارها، حتى صار العرب يصطنعون مئات الكلمات الإغريقية واللاتينية والكلمات اللاتينية - في ريفنا وقرانا - مألوفة مثل: فدان وجرن وماجور وجليد والكلمة العامية «قلقيلة».
فالفدان مشتق من فيودوم؛ أي الماشية أو الملك في اللغة اللاتينية وفي معاجمنا لا يزال معناه الثور أو الأرض ومن هذه الكلمة اشتق المعنى الإقطاعي «فيودال».
أما الجرن الذي ندرس عليه حبوبنا فهو «جران» اللاتينية بمعنى «الحبوب».
أما «الماجور» فهو الكبير؛ أي الماعون الكبير للعجن في اللاتينية.
وكلمة «الجليد» تحمل لفظها ومعناها في اللاتينية كما هي في العربية.
أما «القلقيلة» فهو «الحجر» في اللاتينية.
لنعد إلى الكلمات الفنية والأدبية، فإن كلمة لغة عندما نتأمل اشتقاقها العربي نجد أنه لا يتلاءم مع المعنى؛ إذ ليست هي من اللغو وإنما هي كلمة «لوغوس» (والسين زائدة) في اللاتينية بمعنى الكلمة. «والقرطاس» لاتينية واشتقاقاتها كثيرة في اللغات الأوروبية، وظني أن «كراس وكراسة» محرفان عنها وكلها بمعنى «الورق».
وكذلك «القلم» فهو كلمة لاتينية ما زلنا نجدها في قولهم عن زلة القلم «أبسيس كلموس».
وانظر إلى كلمة «زخرفة» وهي تزيين الجدران بالرسوم فإنها «زوجراف»؛ أي رسم الحيوان.
ولا نذكر هنا كلمات الفلسفة والسفسطة والجغرافيا والتاريخ؛ فإنها جميعها لاتينية إغريقية وكلمة «أرخ» الذي اشتققنا منها تاريخ، تعني: القديم.
ومن كلمات البناء: البرج والبلاط والقرميد والإفريز، وكذلك كلمة قرية، فإنها لاتينية وقد وجدنا لها صيغة وهي «كورة»، ولكننا خصصنا هذه الثانية للإقليم.
وكذلك كلمة عقار، فإنها هي نفسها «أكر» الإنجليزية الحاضرة التي تعود إلى أصل لاتيني بمعنى الأرض.
ولكن ربما يزيد استغرابنا عندما نجد أن هناك كلمات أصيلة في القضاء والشرع تعود إلى أصل لاتيني إغريقي مثل: «الزكاة» أي: العشر «ذكات» ومثل «الميراث المشتق» من الأصل «إرث» وهي الكلمة الإغريقية «إريس» ومثل «القسطاس»؛ أي العدل، وهي بلفظها ومعناها في اللاتينية، ومثل «القاضي» كذلك إذ هي لفظا ومعنى لاتينية، وكذلك القانون.
وكنت أقرأ سورة «والنجم إذا هوى» فوجدت أن تفسير «سدرة المنتهى» لا يتفق مع المعاني التي تنطوي عليها هذه السورة الخاصة بالنجوم؛ إذ يقال في الكتب العربية إن «سدرة» هي شجرة، ولكن ليس هناك شك في أن «سدرة المنتهى» هي «النجم الأخير» وهو في اللاتينية «سيديرا أولتيما».
هذه الكلمات ومئات غيرها هي رواسب الدولة الرومانية في الأقطار العربية، ولا عجب أن كلمة «فدان» لا تزال تحمل معناها الروماني القديم، وأنها هي الأصل في المعنى الإقطاعي للنظام الاجتماعي الذي كان يعيش في القرون المظلمة.
وكثير ممن يتحمسون لما يزعمون أنه تقاليد «شرقية» أو عربية يجهلون ذلك جهلا محزنا ويعارضون في تطورنا معارضة مؤذية؛ لأنهم إنما يتحمسون لأحافير رومانية قد تحجرت في بلادنا بعد أن تخلص منها أبناء الرومان؛ أي الإيطاليون.
ويحسن هنا أن أضع الأصول الإغريقية واللاتينية التي ذكرتها:
قنص
كلب
Canis
رقص
رقص
Orchestre
أحب
أحب
agappo
فدان
ملك أو ماشية
Feudum
جرن
حبوب
Grain
ماجور
ماعون كبير
Major
قلقيلة
حجر
Calcule
جليد
ثلج
Gelid
لغة
كلمة
Logos
قرطاس
ورق
Cartas
قلم
قلم
Calamus
زخرفة
رسم الحيوان
zoograph
فلسفة
فلسفة
سفسطة
سفسطة
Sophism
تاريخ
قديم
Arch
البرج
البرج
Bourg
البلاط
بلاط
إفريز
إفريز
Freize
قرميد
صلصال
Ceramic
عقار
أرض
Acre
زكاة
عشر
Decat
إرث
إرث
Hergs «الهاء صامتة»
قسطاس
عدل
Justice
قاض
قاض
Judge
قانون
قانون
Canon
سدرة المنتهى
النجم الأخير
Sidera ultima
سيف
Sif
بركان
Volcano
قرية
Cure
موسيقا
Muse
قصر
Castle
هذا قليل بل قليل جدا من مئات الكلمات الإغريقية واللاتينية التي دخلت لغتنا، وبقيت على أصلها لم تترجم ولم يخترع العرب كلمات عربية تؤدي معانيها، وهذا هو ما يجب أن نفعل بكلمات العلم.
الفصل الرابع والثلاثون
نحو التوحيد
عندما نسبر الأعماق التي تنشأ في ظلامها هذه النزعات العجيبة نحو كراهة الحضارة العصرية وما يتبع ذلك من كراهة الكلمات الأوروبية، ثم أخيرا هذا التشبث بعادات ذهنية واجتماعية شرقية، مثل المحافظة على عادات الزواج والطلاق، بل المحافظة على الملابس الفضفاضة، عندما نسبر هذه الأعماق؛ نجد أنها كلها ترسو على مراس من البغض للاستعمار الأوروبي.
هذه الإحساسات والنزعات يجب أن تجد منا الثناء لهذا السبب؛ فإن هذا الاستعمار بقي نحو مائتي سنة وهو يحطم الشعوب العربية وينهب ثرواتها ويفسد أخلاقها، ويسلط عليها أوغادها، وهو يوشك على الخروج من أرضها ولكن بعد أن أفشى المرض والفقر والجهل في شعوبها، ثم الاستبداد والفساد في زعمائها.
نحن معذورون فيما نحس من بغض للحضارة الأوروبية الزاحفة، ولذلك عندما نقاطع هذه الحضارة، وعندما نتشبث بالموقف السلبي منها؛ نرفض حتى كلماتها وحروفها إنما نصدر في كل ذلك عن إحساس بكرامتنا التي ديست بأقدام الاستعماريين، وكأننا في هذا الموقف رهبان نرفض الدنيا؛ لأننا لا نطيقها ونعتكف قانعين بالجوع والحرمان أو ما يقاربهما من الزهد، ولكن هذه الدنيا للمتعلقين وليست للعاطفيين.
فإن الحضارة العصرية: هي حضارة العلم والصناعة والرخاء والثراء والصحة والثقافة، وأخيرا هي حضارة المستقبل الاشتراكي للإنسان هذا المستقبل الذي يومئ إلى الخير والبر والمساواة والسلم.
فيجب أن نتعقل وأن نذكر أن الاستعمار كان حقبة محتومة في تاريخ الإنسانية لم يكن مفر منها، وهو إذا كان قد قسا وتوحش في معاملتنا فإن قسوته وتوحشه لم يكونا أقل أو أرفق في معاملته للملايين من العمال في أوروبا نفسها.
ثم نحن بين اختيارين: (1)
إما أن نهلك ونباد كما باد الدينصور إذا التزمنا عاداتنا الذهنية والاجتماعية والثقافية لا نغيرها. (2)
وإما أن نعين لشعبنا وسائر العرب آفاق التطور البشرية التي يتطلعون إليها وينشدونها ويهيئون لها، فنبقى ونحيا.
ووسيلة البقاء والحياة في عصرنا هي العلم والصناعة، ولا سبيل إلى الصناعة بغير العلم ولا سبيل إلى العلم بغير الحروف اللاتينية.
نحتاج إلى ثقافة علمية تعم الشعب؛ حتى يترك غيبياته وينزل على قوانين المادة في الزراعة والصحة والصناعة وحتى تعمه العقلية العلمية؛ فيحل مشكلات الزواج والطلاق والعائلة والجريمة والتربية والسياسة بأساليب العلم، وليس وفقا وخضوعا للتقاليد والعقائد.
وهذه النزعة العلمية في الشعب هي التي تحفز على التخصص العلمي وعلى مكافأة العلميين والاستماع لهم في نصائحهم وتوصياتهم بشأن الارتقاء المادي لبلادنا وهو؛ أي هذا الارتقاء المادي أساس الارتقاء الاجتماعي والثقافي والفني.
والحروف اللاتينية هي وسيلة العلم ولا وسيلة غيرها؛ لأن حضارة أوروبا هي الحضارة العلمية التي تربط الحاضر بالمستقبل في حين أن حضارتنا في مصر تربط الحاضر بالماضي وتشبثنا بحضارتنا هو عناد لا أكثر وهو عناد قد أومأنا إلى أسبابه ويجب أن نكف عنه.
لقد مضى علينا ثلاثون سنة بل أكثر (في 1945) ونحن في استقلال ثقافي ومع ذلك لم نتجه الوجهة العلمية؛ لأن حروف لغتنا العربية لا تلائم العلم؛ إذ إن كلمات العلوم تؤلف من كلمات لاتينية أو إغريقية لن نعرف كيف ننطق بها حروفنا العربية الحاضرة؛ ولذلك لن نعرف معانيها.
وبرهان الضرر العظيم الذي يعود علينا من التزام الحروف العربية هو أن العلميين الجامعيين من الأساتذة لا يزالون يؤلفون كتبهم ويلقون محاضراتهم باللغة الإنجليزية دون اللغة العربية.
ثم يجب ألا ننسى المعنى الإنساني السامي في اتخاذ الحروف اللاتينية، معنى الانضمام في الثقافة إلى ألف مليون إنسان متمدن نحيل الانفصال بيننا وبينهم إلى اتصال والخلاف إلى وفاق، وفي كل هذا سلم وحب وإنسانية.
الفصل الخامس والثلاثون
تلخيص
سبق أن قلت: إن الذي بعثني على تأليف هذه الرسالة أو هذا الكتاب هو مقال نشره «الأستاذ أحمد أمين» في مجلة الثقافة بشأن ما يطرأ على الكلمات من تغيير؛ لاختلاف الزمان أو المكان الذي تستعمل فيه. وأرجو من القارئ أن يعرف أن ما كتبته هو بمثابة التعقيب أو الشرح «الذي قد لا يرضاه أحمد أمين» لهذا المقال، وغايتي - قبل كل شيء - المناقشة؛ حتى نصل إلى تمحيص جديد لمعاني الكلمات، واستخدام هذه الكلمات في بلاغة جديدة للفهم السديد.
ومع أن ما سبق إنما هو تلخيص فإني أعتقد أن القارئ يحتاج هنا إلى تلخيص التلخيص؛ حتى تبرز الأعلام المهمة لهذا الموضوع: (1)
يجب أن نكبر من شأن لغتنا العربية، وأن نوليها أعظم اهتمامنا؛ لأنها وسيلة التفكير ولا يمكن التفكير الحسن بلا لغة حسنة. (2)
كان فن البلاغة العربية - ولا يزال إلى الآن - فن التعبير عن العاطفة والانفعال، ونحن لا نفكر حين ننفعل أو نستسلم للعاطفة أو التفكير الحسن؛ ولذلك فإن هذا الفن لا يخدم التفكير العلمي والفلسفي. (3)
المجتمع الحسن: هو الذي يقوم على العقل وحل المشكلات بالمنطق، فنحن في حاجة إلى بلاغة جديدة تؤدي إلى دقة الفهم العلمي؛ لإيجاد مجتمع علمي، بلاغة تميز بين الكلمة الذاتية وبين الكلمة الموضوعية. (4)
اللغة: هي تراث قديم تحمل كلماتها معاني الحياة الذاتية «الحياة من الحيا والروح من الريح»، أو تحمل معاني السحر «علا نجمه وأفل نجمه»، بل هي حافلة بأحافير ورواسب يجب أن نتوقى استعمالها إذا شئنا التفكير السديد. (5)
كان المجتمع العربي القديم يستند إلى العقائد والتقاليد، وكان مجتمعا حربيا يحتاج إلى لغة العواطف والانفعالات التي تحرك الإرادة؛ ولذلك أصبحت بلاغته كذلك، وهي لهذا السبب صغيرة القيمة في خدمة مجتمعنا الذي نحاول أن نجعله يسير على مبادئ المنطق والعقل والعلم. (6)
داء الأدب واللغة عندنا هو الكلاسية؛ أي التليدية، وهي تؤدي عندنا إلى محاولة استرداد الأمس بالتعبير والتفكير. (7)
المبالغة في هذه الكلاسية؛ تؤدي إلى تحجر اللغة كأنها لغة الكهنة في المعابد؛ فتقطع الصلة بينها وبين المجتمع. (8)
في لغتنا كلمات تحمل شحنات عاطفية سيئة؛ تؤدي إلى ارتكاب الجرائم «الدم والعرض» في الصعيد أو إلى كراهة بعضنا بعضا (كافر نجس) والكلمات الجنسية التي تؤدي إلى خيالات الحشاشين، وعلينا أن نقي عقولنا من هذه الكلمات. (9)
للكلمة إيحاء اجتماعي للخير أو الشر، فيجب أن نستغل اللغة؛ للتوجيه الحسن للأمة والفرد والبلاغة القديمة بلاغة العاطفة والانفعال مفيدة هنا للتوجيه الاجتماعي الحسن، ولكن مع الحذر العظيم من الدعاية السيئة. (10)
لن نستطيع الانتفاع بذكائنا؛ إلا إذا كانت اللغة ذكية أيضا؛ أي تؤدي المعاني الدقيقة في العلوم والفلسفات، ومن هنا ضرورة العناية بتمحيص المعاني حتى نمنع الالتباس؛ ولهذا تجب مقاطعة المترادفات والمتشابهات، مثل: (بلدة للمدينة وبلد للقطر). (11)
الكلمات الحسنة في اللغة الحسنة تبني الأخلاق حتى ليصح أن تعد الكلمة شعارا ننضوي إليه، كما لو كان راية في جهاد، وعندنا من كلمات المروءة والشهامة والبر والحرية وأمثالها ما نبني به المجتمع الحسن. (12)
علينا أن نزيد في لغتنا مثل هذه الكلمات بحيث تخدم تطورنا العصري؛ فنؤلف الكلمات التي توحي بالرقي وزيادة الصحة والسعادة والنور والثقافة. (13)
البلاغة الجديدة: هي بلاغة المنطق الذي يرشدنا إلى توقي الخطأ. والتفكير السديد: هو التفكير العلمي الموضوعي الذي يقوم على التجربة، واللغة الحسنة هي التي تؤدي المعنى في دقة هندسية ووضوح إقليدي. (14)
نشأت في عصرنا الحديث لغتان جديدتان: إحداهما لغة العلوم؛ فيجب أن نأخذ كلماتها جميعها بلا ترجمة ولغة كوكبية أخرى ينطق بها كل متمدن في الدنيا مثل: التليفون والتلغراف وسينماتوغراف والرديوفون، فيجب ألا نقاطعها؛ لأنها لغة كوكبية جديدة لا تملكها أمة دون أخرى. (15)
كل إنسان متمدن يجب أن يتعلم ثلاث لغات: لغته الأصلية التي تعلمها من أمه، ولغة العلوم التي تكتب بها البيولوجية واليوجنية والفسيولوجية والكيمياء إلخ ولغة هذا الكوكب - كما ترى في كلمات كوكبية تنشرها الجرائد والكتب. (16)
يجب أن نستبصر بحركة الأستاذ «أوجدين» في الإيجاز والتبسيط، باختيار الكلمات التي لا تتحمل الشكوك في معانيها، وأن نيسر تعليم اللغة العربية للعربي وللأجنبي. (17)
لغتنا العربية كثيرة القواعد والشذوذات والكلمات المترادفة أو المشتبهة، وهي تحتاج من الوقت لتعلمها نحو ثمانية أو عشرة أمثال الوقت الذي تحتاجه اللغة الإنجليزية، فيجب أن نتجه نحو تيسيرها؛ بالإقلال من القواعد والشذوذات بل ومن الكلمات. (18)
اتخاذ الخط اللاتيني يحمل الأمة إلى الأمام مئات السنين، ويكسبها عقلية المتمدنين، ويجعل دراسة العلوم سهلة. وهي خطوة نحو الاتحاد البشري.
نامعلوم صفحہ