عصری بلاغت اور عربی زبان
البلاغة العصرية واللغة العربية
اصناف
والحيوان لعجزه عن اختراع اللغة لا يختزن تفكيره ولا ينتفع لهذا السبب بتفكير آبائه أو زملائه، ولكن اللغة عندنا جعلت الزمن تاريخيا والفضاء جغرافيا، فالكلب الذي يعيش في القاهرة يعرف الشارع الذي به منزله وبضعة شوارع أخرى، ولكن الصبي يعرف «جغرافية» القاهرة ومكانها في القطر ومن النيل، بل مكانها على كوكبنا فالفضاء عنده جغرافي بفضل هذه الكلمات: القاهرة، النيل، مصر، البحر المتوسط، أفريقيا، آسيا، إلخ.
وخيال الصبي لهذا السبب يتسع وتفكيره يمهر بهذه الكلمات التي ورثها من المجتمع الذي يعيش فيه، وكذلك الشأن في الزمن، فإن وقت الكلب هو ساعته أو يومه أما نحن فلنا أمس وغد، ولنا سنين ماضية وسنين قادمة ولذلك لنا تاريخ، ولولا الكلمات التي جعلت الزمن تاريخيا، والفضاء جغرافيا لما استطعنا أن نفكر ونختزن اختباراتنا، فضلا عن اختبار معاصرينا وأسلافنا؛ أي لما كان لنا ثقافة، والحيوان ينتفع باختباراته الشخصية التي مرت به في حياته ولكنا نحن، بفضل اللغة، ننتفع باختبارات غيرنا في العصور الماضية والعصر الحاضر.
وتفكيرنا يمتاز عن تفكير الحيوان بالذكاء؛ لسبب عظيم يتصل بالأسباب التي سبق فذكرناها، نعني أننا نفكر بالكلمات، وصحيح أننا نستطيع التفكير الساذج البدائي بلا كلمات، كما يحدث في الأحلام، ولكن التفكير الذي تتداخل فيه العوامل وتنبسط ساحته؛ يحتاج إلى كلمات، ويكاد يكون من المستحيل أن نفكر بذكاء أو منطق في أي موضوع بلا كلمات.
وليس بعيدا أن يكون التفكير في صميمه كلمات غير منطوقة، كما يقول «واطسون»، واعتقادي أننا ننسى اختباراتنا في السنتين الأوليين من أعمارنا؛ لأننا لم نربط هذه الاختبارات بكلمات تجعل التفكير فيها ممكنا؛ لأنها لم تنقش في الذاكرة بكلمات.
وكثير من التفكير الحسن - بل أحيانا من العبقرية - يعود إلى أن اللغة التي نستعمل كلماتها قد بلغت من الرقي درجة عالية؛ لأن الكلمات في هذه اللغة تحمل المعاني الأنيقة الدقيقة التي لا توجد في كلمات لغة أخرى مختلفة من لغات أفريقيا السوداء. فلو أن «جيته» ولد في قبيلة أفريقية؛ لما استطاع أن ينتج الثمرات الزكية التي نقطفها من مؤلفاته؛ لأن اللغة القبلية لم تكن عندئذ لتسعفه بالكلمات التي تؤدي معانيه، بل كانت تبقى هذه المعاني أجنة، تؤلمه بالمخاض ولا تجد المخرج من ذهنه، أو تخرج جهيضة.
ولكي نفكر التفكير الحسن، نحتاج إلى اللغة الحسنة؛ نعني: اللغة الدقيقة التي تؤدي معنى معينا، ولا تتجاوزه إلى هوامش المعنى، وكذلك يجب أن تكون أنيقة، لا تستطيع وصف الألوان الأصيلة كالأبيض والأسود فقط، بل تستطيع أن تنقل إلينا الظلال والأصباغ التي بينهما فليس من البلاغة أن نقول: إن الأخضر يطلق على الأسود، كما تقول معاجمنا، بل يجب أن نميز لونا من آخر تمييزا صارما، وكذلك يجب أن نضع الكلمات التي تعين الألوان الخفية بينهما، ويجب أن تكون لنا بلاغة عصرية لا تقتصر على مخاطبة العواطف بل تخاطب العقل، ويجب أن تكون غايتها الأولى الفهم، وما دام الأمر كذلك فإن المنطق هو: الأساس الأول لأية بلاغة يراد بها التعبير السديد.
ولكي تفهم الفهم الدقيق الأنيق - باعتبارنا متمدنين - يجب ألا نقنع بالمعنى الغامض المسيب، بل يجب أن نعرف الجو السيكلوجي الذي تعيش فيه كلماتنا، وهل هي تؤدي الغاية الأولى من وجودها، وهي: التفكير الحسن؛ أي الفهم، أم لا؟
الفصل الثاني
حين تربي الذئبة الإنسان
كثيرا ما كنا نسمع عن أطفال بشريين يعيشون مع الحيوان، وينشئون النشأة الحيوانية، وكنا نحمل هذه القصص على أنها نوع من الاختراع الذي لا يصدق، ولكن الواقع يثبت أن هناك أطفالا خطفتهم الحيوانات وقامت بتربيتهم؛ فنشأ هؤلاء الأطفال وعاشوا في الغابات.
نامعلوم صفحہ