29

هنا دق الجمال على صدره دقة يأس، وقال: ست ساعات! يا سيدي الأمير! إن بين هذه الحلة ونجران مرحلتين كبيرتين لا يقطعهما الركب إذا جد في أقل من يومين متواصلين.

فقال إسحاق: ويحك! ما هذا! فاستمر الجمال يقول: وإذا كان بيننا وبين قيام قافلة مكة يومين فمعنى هذا أن تموت الجمال إعياء.

فانزعج إسحاق ونهض يقول: ويل لك يا عبد السوء! ألم تقل لي هذه حلة الأراك؟

قال: بلى يا سيدي. قال: ألم تقل لي إن حلة الأراك على نصف مرحلة من نجران؟ قال: بلى يا سيدي. فقال إسحاق: فما هذا إذن؟ فقال مقدم الركب: لقد كان مولاي يسألني عن تخوم البلاد ومرابضها، وبين بلدة نجران وتخومها من ناحية جرش مرحلة كبيرة

10

وحلة الأراك على مسيرة ست ساعات من هذه التخوم.

سقط في أيدي الوفد اليهودي، وضاق صدرهم؛ إذ تبينوا أنهم لن يبلغوا نجران في أول الربيع، ولن يدركوا القافلة، وملكهم اليأس من كل جانب، وكاد إسحاق يضرب الرجل بسيفه لقاء ما أنزل به من الهم، ولكنه اكتفى بشتمه، وسبه وطرده من حضرته، وهو محنق مغضب حتى كاد الرجل ينصعق ذعرا.

وجلس إسحاق وصحبه صامتين يفكرون فيما تبينوا ولا يهديهم الفكر إلى سبيل. أيغامرون بأنفسهم في الطريق إلى مكة فيسيرون عيرا تغري قلته أعراب نجد والحجاز بتخطفهم وقتلهم وسلب ما معهم؟ أم ينتظرون قافلة أخرى تخرج من نجران، وهي لا تسير في العادة إلا مرة في الشهر أو الشهرين يضيع على أمراء اليمن في غضونه فرصة العمل لتحقيق أمنيتهم في قيام مملكة أورشليم! أم يرسلون رسولا يستمهل القافلة حتى يبلغوا نجران؛ عداء لا يستقر ولا يتلوم حتى يبلغ ساحة الركب! ولكن أين العداء وهم في حلة من حلل البادية لم يجدوا فيمن مر بهم من أهلها إلا أنقاضا من الناس أكلت الصحراء جسومهم؟ وأين من لا يهاب غوائل الطريق إذا هو سار وحده في تلك المهامه والأحقاف؟ لقد حاولوا أن يغروا الجمالة بوافر الأجر والجزاء إذا قام أحد منهم بهذه المهمة، فأبوا كلهم وذعروا ونكصوا على أعقابهم معتذرين بأن في هذه البادية جنسا من الناس يعرفون بالنسانيس يسيرون على قدم واحدة،

11

ما إن يروا أحدا من غير جنسهم حتى يجتمعوا عليه، ويحملوه إلى غيرانهم في مجاهل الصحراء يرقصون حوله ويعزفون، ثم يلقونه في النار ليشووه ويأكلوه.

نامعلوم صفحہ