عينوا هذا الوفد سرا، وجعلوه تحت إمرة واحد من رجال الحكم النابهين اسمه إسحاق بن مردة، وجعلوا معه رفقة من أمثاله وبعض الأحبار، ولكنهم أذاعوا أنهم راحلون برسالة ولاء مجدد إلى متبوعهم الأعظم، ومولاهم الأكرم كسرى أبرويز ملك ملوك الأرض، وبتهنئة خالصة على فوز جيوشه على عاهل المسيحية، وتطهير أرض المعاد
7
من دين ابن يوسف النجار،
8
على أنهم كانوا يحملون معهم هدايا وتقدمات إلى كسرى وزوجته مارية؛ ليلقوه بها غير ما سبق لهم تقديمه إليه من قبل، ولكنهم لم يشاءوا إعلانها لئلا يغروا بهم الأشرار فموهوا على الناس أمرهم بأن خرجوا من صنعاء في عير قليل العدد، وساروا بغير ما حرس كبير؛ لأنهم كانوا يسيرون في بلاد لهم فيها المكانة العليا، وهي بلاد صنعاء وصعدة وجرش،
9
أما نجران فما بعدها فكانت لبعدها عن مستقر السلطان مما يستوجب أن يسير العير في حمى عير أكبر. فكان مقصدهم أن يسيروا في ركب مكة، ولكنهم ما بلغوا صعدة حتى مرض إسحاق فاضطروا أن يقضوا بها ما كان في نيتهم قضاؤه في نجران قبل رحيل القافلة . فلما أبل عاودوا الرحيل، وواصلوه من بلد إلى بلد في طريق نجران حتى إذا كان اليوم الثاني لإفاضتهم من جرش، وذلك قبل أن ينصرم الشتاء بيوم وليلة - كانوا قد وردوا حلة في الطريق على نهر هناك من الأنهار الكثيرة التي تخترق بلاد اليمن، وتكثر حولها الزروع والأشجار؛ وإذ كانوا يزعمون أن بينها وبين نجران بضع ساعات، حين كانت في الواقع على مسيرة يومين أو حوالي ذلك، آثروا في جهلهم أن ينيخوا في جوارها قبل موعد الإناخة، ويقضوا العصر والليل في حمى أهلها، ويرتاحوا واثقين أنهم بالغوا نجران في ضحى الغد قبل نهوض القافلة بساعات من النهار وساعات طويلة من الليل.
وكان مقدم جمالة الركب يزعم أن بين يومه ويوم نهوض القافلة من نجران ثلاثة أيام أو مثل ذلك؛ لأنه جلس في حظيرة الجمال هو وإخوانه الجمالة وعبيد العير يعدون الأيام والشهور على أصابعهم، وإذ كان غلام الحبر الذي في العير، في نظر نفسه، أحق الناس بأن يصدق؛ لأنه متصل بسيده الذي له التوقيت والتاريخ فقد أقنع مؤتمرهم أن أول أيام الربيع يوم الخميس، أي بعد يومين وليلة وأربع ساعات من حين إناختهم تلك الليلة.
اجتمع جهل الوفد بالطريق إلى جهل الجمالة بالمواعيد، فكان كل منهم في العشي سعيدا بما هو فيه، ولكن حدث أن خطر على بال أحد العبيد الذين وافقوا غلام الحبر من غير علم بالزمن ولا بغير الزمن، أن يسأل سيده في ذلك، لا ليتزكى ولا ليشي بأحد بل شعورا منه بأن هناك شيئا مما كان بين سيده وبينه من الكلفة قد رفعته صحبة الطريق، ولكن سيده كره منه هذا، ونظر إليه شزرا ولم يجبه. فتطوع أحد رجال الوفد وأجاب بالحقيقة في لغة يفهمها العبد فقال له: إذا طلعت شمس الغد يبقى بينك وبين الربيع يوم كامل، أي نهار كامل وليلة واحدة.
ظهرت الدهشة على وجه الرجل، وبدا شيء من القلق في عينيه، وأخذ ينظر إلى زميله المفتي غلام الحبر، وهذا ينظر إليه متوسلا أن يصمت، ولكن مقدم الركب كان قد دخل وسمع بما جرى، وما قيل، فاضطرب وأعلن الأمر لسادته على الفور، واتهم غلام الحبر بخداعه، وأنكر العبد نية الخداع بل أنكر أنه قال شيئا بتاتا إلا ما قال جميع الجمالة، وأراد إسحاق أن يصرف هذه الضوضاء، فقال: لا بأس، لم يصبنا من هذا الخطأ أذى والحمد لله. فليس بيننا وبين نجران إلا نصف نهار، ومن ثم يبقى لكم يوم طويل عريض تقضونه في نجران؛ لتستبضعوا ما تشاءون لرحلتنا في بلاد الوثنية.
نامعلوم صفحہ