وتحرك القطار فقال فؤاد: إن شاء الله يا قوية!
ثم أدخل رأسه من النافذة، وارتمى على الأريكة المغبرة، وأخرج منديله فمسح وجهه وخيل إليه أن الجو يتقد حرا.
وقضى يوم سفره مع صورة تعويضة، وهو يعجب كيف لم يدرك من قبل أن الفتى سوف يتزوجها، وجعل يجادل نفسه بما شاء من حجج، ولكنها كانت تدفعها في لجاجة التحدي، وعاد إلى القاهرة شاعرا بأنه فقد خيالا عزيزا.
4
كان حر القاهرة قد هدأ، وصارت الشمس تطلع في الصباح فاترة تلمع ولا تلذع، والهواء يهب في المساء رطبا ويسري رفيقا، والسحب البيضاء تجول في السماء هائمة على رسلها.
وما كان أبدع ليالي القاهرة، إذا سطع البدر على مياه نهر النيل كان النور يتناثر على الموج الفائر، كأنه ينعكس على قطع من عقيق، وكان الماء يهتز في جريته رابيا أحمر اللون زاخرا يملأ العين جلالا ويملأ النفس عرفانا، حقا إن مصر هبة من هذا الأب الجليل، وكان فؤاد يخرج كل يوم في ساعة الأصيل إلى شاطئ النهر فيقضي عنده ساعة طويلة يغرق خواطره في أعماقه، ويطوف بناظره على أمواجه وهو لا يدري سر تلك الهزة التي كانت تشمله، كان يحس في صدره جيشانا يستجيب إلى اصطخاب الأمواج وحيرة تشبه غموض الأعماق، وكانت الحياة تبدو له كأنها لغز تسنح فيه أحيانا سانحة من الهدى توشك أن تبعث إليه شعاعا من إدراك حقائق الوجود، ولكنها كانت لا تلبث أن تختفي عنه كأنها ومضة برق في ظلام، فيرتد إلى حيرته وقلقه متلهفا، على أن تلك الومضة لم تلبث إلا قليلا ثم خلفته وراءها في ظلامه، وكان كلما وقف هناك خطرت له خطرات من ريف النجيلة ومن أيامه فيها وأماسيه في أشهر الصيف، ثم تتمثل له صور من هناك: تعويضة وقوية ورحومة ومبروكة، وكل هؤلاء الذين ملئوا عليه الحياة في تلك الشهور، ثم تتمثل له صورة أبيه محلقة فوق هذا الخلق كله كما يحلق النسر فوق قمم الجبال، لقد عرف أباه قبل ذلك الصيف، ولكنه عرفه في تلك الشهور كما لم يعرفه من قبل، ففتح عينيه عليه آخر الأمر فرآه رجلا وإنسانا كان يعيش في ريف النجيلة البعيد أمة وحده وسط أمة أخرى يعرف أنه غريب عنها، ولكنه كان يمد يده إليها كما يمد السابح الماهر يده إلى الغريق الذي يكافح الموج إلى جانبه، وكان صدى كلماته ما زال يرن في أذنه، إذ قال عمن حوله من المساكين: «قليل من الناس من يعرف هؤلاء».
وكان يسأل نفسه: أهؤلاء مثلنا ولهم مثل غايتنا من الحياة؟ تعويضة! أكانت لها في الحياة غاية أم هي مثل أزهار الصحراء تنمو ثم تصوح وتفنى في صحرائها؟ ولكنه كان يعود إلى نفسه فيسأل: ما غايتنا جميعا من الحياة؟
وكان في حيرته ينظر إلى الماء المضطرب كأنه يستوحيه ويغوص في أعماقه المظلمة لعله يجد فيها ما يهديه.
ورأى يوما في بعض وقفاته عودا ضئيلا تتقاذفه الأمواج على سطح الماء، تعلو به ثم تنحدر، وتتجه به إلى اليمين تارة، ثم تلقيه إلى اليسار، ثم إذا دوامة شديدة تجذب العود إليها فتدور به لحظة ثم تبعث به إلى الأعماق، وكان هذا المنظر يشبه وحيا هبط عليه، فبدا له أن البشر ليسوا في الوجود سوى هنة مثل ذلك العود الضئيل، والقضاء يقذف بهم حيث يريد، فهم يأتون إلى الحياة بغير أن يريدوا حياة، وهم يمضون فيها حتى يخرجوا عنها، سواء طالت أيامهم أو قصرت، فإذا حان ذهابهم عنها ذهبوا كما جاءوا إليها قسرا وأمرا بغير أن تكون لهم إرادة، فأية غاية تكون لهذا البشر فيها؟
أليسوا يطيعون أمر الحياة أو أمر الفناء؟
نامعلوم صفحہ