وأمعنت نفس الأستاذ في الإساءة إليه، وراحت تجيبه في سخرية، متى؟ متى يا أستاذ كان لي حب، أو أمل، أو أحلام؟ فإني والله منذ عرفتك خالية بلا حب، فارغة بلا أمل، خفيفة بلا أحلام، وها أنا ذا اليوم بلا ذكريات، أستاذ أتراك تريد أن تضحك مني أيضا كما تضحك من قرائك، فتؤلف قصة تجعل من نفسك بطلها، وتريدني أن أصدق ما تقول؟
وأجاب الأستاذ في غير احتفاء بهذه السخرية؛ فقد غمرته الذكريات فهو منها في طوفان.
أما تذكرين، أما تذكرين؟
وقالت النفس، لا، لا أذكر. ولكن الذكريات راحت تنهال في خاطر شريف كجدول مزدحم الأمواج.
كان إذ ذاك صبيا مشرفا على الشباب، ملهوفا إلى الغد، لا أمس له ولا حاضر، وإنما عيناه شاخصتان إلى المستقبل يرقبه من خلال الغيب عجلان، يود لو أن الأيام تقاصرت، ولو أن الليالي انحسرت، يحب الشمس المشرقة ثم ما يلبث أن يكرهها ويرى فيها قديما لا بد أن يزول لتأتي الشمس الجديدة شمس الغد شمس الشباب.
كذلك كان شريف، وكانت بثينة هي الجارة، فتاة في ربيع العمر من الشباب على وجهها حمرة الفرح، وعلى صدرها استكبار الواثق المزهو، ولف الشباب عودها فهي عود مورق تعرف الأوراق أين تنبت فيه، وكيف تنبت؟! غضة كالغصن الجديد مشرقة كالزهرة، حلوة فتانة، تنظر إلى الغد بعين وسنانة حالمة وتلتذ كل لحظة تعيشها وتعتصر كل لذة في هذه اللحظة، وتنبت لنفسها ذكريات من الأمس ولا ذكريات لها ولا أمس، ولكنه الشباب يحب الماضي والحاضر والمستقبل.
كانت بثينة أكبر من شريف فلم تجد بأسا أن يجلس إليها وأن تجلس إليه ولم يجد أهلها ولا أهله في ذلك بأسا، وانعقدت بينهما صداقة كان هو فرحا بها، وكانت هي فرحة به أيضا، وكانت بثينة تحب الأدب والأدباء، وكانت تخص أديبا معينا بحبها، وكانت تقرأ على شريف لهذا الكاتب بالذات فتكثر القراءة وكان هو يقبل على ما تقرأ في تكاسل وعزوف، ومرت الأيام ولم تلحظ بثينة أن الأيام مرت وأنها أطلعت في وجه شريف الغض شعيرات تتلوى، وأنها جعلته يشتري الكتب لكاتبها المفضل إن أصدر جديدا، أو لغيره إن لم يصدر هو.
أحب شريف الفتاة، وأحب الأدب في غمرة حبه الأصيل، وأحست الفتاة بحبه للأدب ولم تحس حبه لها.
ومضت الأيام حتى كان يوم فوجئ فيه شريف ببثينة تتزوج، وكان زوجها هو كاتبها المفضل.
ومنذ ذلك اليوم ولا أمل له في حياته إلا أن يصبح كاتبا مثل زوج بثينة، وإلا لن يجد زوجة تعجب به كما أعجبت بثينة بكاتبها.
نامعلوم صفحہ