واليوم يا صديقي ماتت زوجتي، ومات الأمل، ومات الوهم وطالعتني الحقيقة بلا خداع ولا كذب ولا وهم.
لقد أسرفت في الإنفاق، وما أقل ما أنفقت في سبيل هذه الأيام التي تخليت فيها عن الحقيقة وعن العلم وفرغت إلى هذا الأمل الذي أنشأته وذلك الوهم الذي أحببته.
أتسخر مني؟ اسخر ما شاءت لك السخرية، أما أنا فأقسم لك، أقسم بها، لو عادت الأيام إلى الوراء لفعلت ما فعلته ثانية وثالثة وألفا، أيها الصديق لقد كرهت الحياة وأحببت الوهم فمن لي بهذا الوهم، من لي به؟!
أخلفت الموعد
دق جرس التليفون في منزل الأديب الكبير الأستاذ شريف لطفي، ورفع الأستاذ سماعة التليفون فبلغ سمعه صوت ناعم حلو: من؟ الأستاذ شريف؟ - أنا هو. - صباح الخير يا أستاذ. - صباح الخير. - أنا يا أستاذ إحدى المعجبات بكتابتك، وأتمنى أن أراك، أرجوك أن تحدد لي موعدا.
وارتبك الأستاذ بعض الحين، فهذه أول مرة تكلمه فيها سيدة على غير معرفة، وكاد يغيب في طوايا ذكريات سعيدة لولا إحساسه أن هناك من ينتظر رده فسارع يقول: متى تريدين الموعد؟ - الآن، في هذه اللحظة إن أمكن. - الآن! في هذه اللحظة؟ - يا أستاذ أنا أكلمك بعد تردد طويل، كنت أخاف أن أضايقك ورددت نفسي عن تليفونك أياما بلغت شهورا، وأخيرا جمعت جرأة لا أعرف من أين حصلت عليها لعلها من كتابك الأخير، واستطعت أن أكلمك، وأريد أن ... - أنت غير محتاجة إلى هذا الاعتذار الطويل يا ... - منى، اسمي منى. - يا آنسة؟ - نعم، آنسة منى إذا شئت، وما أحب إلا أن تقول منى، منى بغير شيء قبلها ولا بعدها.
وخفق قلب شريف خفقا عنيفا وهو يقول: طيب يا منى، أراك الآن ولكن أين أنت؟ - أنا في الجيزة. - طيب أنا سأنتظرك في جروبي. - متشكرة يا أستاذ، متشكرة جدا يا أستاذ.
ووضعت منى السماعة وظل الأستاذ لحظات ممسكا بالسماعة، ثم قفز إلى ذهنه خاطر أرسله يقول: «يا منى، يا منى» ولكن هيهات فقد انقطع الخط وانتهى الأمر. فوضع شريف السماعة وهو حائر! كيف سيعرفها أو كيف ستعرفه؟ وهما لم يلتقيا، أتراه صديق يمزح معه؟! ولكن لا، فما عوده الأصدقاء هذا المزاح، وإن مكانته لا تسمح بمثل هذه الصغائر، على أية حال ماذا عليه لو ذهب إلى جروبي وجلس إلى إحدى موائده فطالما جلس إلى موائده، فإنه هناك وفي جروبي بالذات يستطيع أن يستعيد الذكريات، وسمع الأستاذ نفسه تضحك منه ضحكة ساخرة هازئة، ذكريات؟ أي ذكريات يا أستاذ؟ وهل لك ذكريات؟ لقد قطعتها حياة خالية بلا حياة فيها ولا ذكريات، أي ذكريات، يا أستاذ؟!
وغضب الأستاذ من نفسه وزجرها في عنف، وحاول أن يجيب ولكنه وجد نفسه وجها لوجه أمام كرسي جروبي، وقد وقف الخادم أمامه يبدو عليه أنه ينتظر أمره، ويفرض عليه في الوقت ذاته أن يطلب شيئا، وانصرف الخادم وخلا الأستاذ إلى نفسه.
أليس لنا ذكريات أيتها النفس، كم أنت خبيثة تنكرين الماضي وتتنكرين للأيام الخوالي، أما تذكرين أيام الهوى؟! أيام أن كنت خالية إلا من الحب، فارغة إلا من الأمل، خفيفة إلا من الأحلام.
نامعلوم صفحہ