فأما حزمه في الشرطة، فقد قال فيه صاحب «البيان المغرب»:
فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من الكفاة وأولى السياسة ... ولقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو، فكشف الله عنهم - بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه - فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى ارتفع الباس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان، حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر في أيامه جملة.
وأما الغزو فكان قائده المظفر، وبطله المحبب. وسيأتي حديثه.
ما زال ابن أبي عامر يرقى منصبا إلى منصب، ويعلو مجدا إلى مجد كالنسر يعلو مرقبا إلى مرقب حتى يوفى على القنة، فلما توفي الحكم المستنصر وآل الأمر إلى طفله هشام، اجتمع له الأمر كله، وظفر بأعلى مناصب الدولة؛ حجابة الخليفة، ثم وكله إلى ابنه عبد الملك، وجعل له القيادة العليا وسائر مناصبه، وجعل ابنه عبد الرحمن وزيرا، وسما هو إلى السلطان الأعلى وتسمى المنصور، وأمر أن يكتب عنه: «من المنصور بن أبي عامر - وفقه الله»، ثم كتب إليه باسم: «الملك الكريم».
2
ملك ابن أبي عامر الأندلس ستة وعشرين عاما، يدبر شئونها بعدله، ويعمرها ببره، ويجملها بأبنيته، ويضرب أحسن الأمثال في البأس الذي لا يخالطه جور، والعدل الذي لا تشوبه هوادة، والإنصاف الذي لا يميز قريبا من بعيد ، والحكم الذي لا يعرف إلا النصفة والمساواة، والنفاذ على كل الناس في كل الأحوال.
ولم تكن سياسته العادلة الحازمة أعظم من قيادته المظفرة، حتى لقد جاوزت غزواته أقصى غزوات الناصر، وحارب حيث لم يحارب قبله أمير من أمراء الأندلس.
غزا خمسين غزوة، كانت الثامنة والأربعون منها إلى «شنت ياقوب» على البحر في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، ولم يحاولها قبله ملك عربي في الأندلس.
قال صاحب «البيان المغرب»:
ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان.
نامعلوم صفحہ