مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مناجاة
إلى الرسول الكريم
أربع صفحات متتابعات
الهجرة مولد تاريخ
رسول الله في عرفات
في مجلس رسول الله
على ذكرى المولد النبوي
ذكرى الهجرة
الإسلام
لا غالب إلا الله!
بلال يؤذن
الكعبة
الحج
يوم عرفات
من مؤتة إلى اليرموك
أيام العروبة تبدأ في سورية!
مكانة العرب بين الأمم
وديعة مدينة سالم
لا تحزنن!1
في معترك الخطوب
التأليف والنشر في مصر
زواج أمير عربي من أميرة هندية
على حافة الفجر وشاطئ النيل
وديعة ميافارقين
على قبر الزهاوي1
أوراق1
عبرة الحادثات
لمعات
السوقية في الأدب1
المنصور بن أبي عامر
محيي الدين النووي والسلطان بيبرس
الفريقان المتحاربان في فلسطين
ضربات معول
عمر المختار وأصحابه1
على بحيرة وندرمير
الشاعر المتفائل المتشائم1
عمر في بيت المقدس1
ورد الصباح1
إبرة المغناطيس1
بني قومنا
موقعة عين جالوت1
ثورة على الأخلاق1
سورية1
مصطفى الصادق الرافعي1
مصر والبلاد العربية1
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
عقبة على شاطئ المحيط1
وحي القلم1
المثنى بن حارثة1
ملكة الجمال1
المعتصم بن صمادح1 على فراش الموت
عثمان بن أبي العلاء
مدنية زائفة1
الشعر والشاعر1
لم لا تقول الشعر؟1
أوراق مالية1 في القرن السابع الهجري
قبر مفقود1
جلال الدين منكبرتي1
إسكندر يقتل صديقه1
الغريق1
مدرسة الصحراء1
على شاطئ النيل1
ملك وفيلسوف1
النهضة1
الإخوان1
سعيد بن جبير1
رفائيل1
الربيع1
رثاء ضرس1
الوطن1
بين التصوف والغزل
يا رب رحماك1
رب أعتقني
الحياة1
يا ليل
حلم في يقظة1
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مناجاة
إلى الرسول الكريم
أربع صفحات متتابعات
الهجرة مولد تاريخ
رسول الله في عرفات
في مجلس رسول الله
على ذكرى المولد النبوي
ذكرى الهجرة
الإسلام
لا غالب إلا الله!
بلال يؤذن
الكعبة
الحج
يوم عرفات
من مؤتة إلى اليرموك
أيام العروبة تبدأ في سورية!
مكانة العرب بين الأمم
وديعة مدينة سالم
لا تحزنن!1
في معترك الخطوب
التأليف والنشر في مصر
زواج أمير عربي من أميرة هندية
على حافة الفجر وشاطئ النيل
وديعة ميافارقين
على قبر الزهاوي1
أوراق1
عبرة الحادثات
لمعات
السوقية في الأدب1
المنصور بن أبي عامر
محيي الدين النووي والسلطان بيبرس
الفريقان المتحاربان في فلسطين
ضربات معول
عمر المختار وأصحابه1
على بحيرة وندرمير
الشاعر المتفائل المتشائم1
عمر في بيت المقدس1
ورد الصباح1
إبرة المغناطيس1
بني قومنا
موقعة عين جالوت1
ثورة على الأخلاق1
سورية1
مصطفى الصادق الرافعي1
مصر والبلاد العربية1
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
عقبة على شاطئ المحيط1
وحي القلم1
المثنى بن حارثة1
ملكة الجمال1
المعتصم بن صمادح1 على فراش الموت
عثمان بن أبي العلاء
مدنية زائفة1
الشعر والشاعر1
لم لا تقول الشعر؟1
أوراق مالية1 في القرن السابع الهجري
قبر مفقود1
جلال الدين منكبرتي1
إسكندر يقتل صديقه1
الغريق1
مدرسة الصحراء1
على شاطئ النيل1
ملك وفيلسوف1
النهضة1
الإخوان1
سعيد بن جبير1
رفائيل1
الربيع1
رثاء ضرس1
الوطن1
بين التصوف والغزل
يا رب رحماك1
رب أعتقني
الحياة1
يا ليل
حلم في يقظة1
الأوابد
الأوابد
تأليف
عبد الوهاب عزام
مقدمة الطبعة الأولى
هذه الكلمات أنشأتها في أوقات متباعدة، ومواطن مختلفة، وأحوال شتى، ولكنها كانت كلها وحي العقيدة، واستجابة الوجدان، لم يشبها - بنعمة الله - تكلف ولا تزيد ولا رياء.
وقد وفرت حظها من النزعات الروحية العالية التي تسمو بالإنسان لأهواء التي تتقسمه، والمطامع التي تستعبده، ومن المقاصد الجليلة التي تجمع النفس على خطة من الخير والحق، وتؤلف الناس كلهم على شرعة من الإنصاف والعدل.
وما أحوجنا في عصر سيطرت فيه الآلات والشهوات إلى تحرير النفوس من سلطانها.
ويجد القارئ إلى جانب المقاصد الإنسانية الشاملة، نزعات إسلامية، وأخرى عربية، فلا يحسبن هذا تناقضا في الرأي واضطرابا في الوجدان، إنما هي صور من الجمال والحق والخير ومكارم الأخلاق، تتجلى في الخليقة كلها أحيانا، وتتمثل في تاريخ الإسلام ومآثر العرب أحيانا، ولن ينقص الحق أن تحد زمانه من تاريخ الإنسان، أو مكانه في مواطن البشر، كما لا ينقص النهر الذي يفيض على أقطار شاسعة بالري والخصب أن تبين منبعه، ولا يحد الضياء الذي يغمر العالم أن تعين مصدره.
وقد سميته «الأوابد» لحسباني هذه الأفانين من الكتابة غريبة في موضوعها وأسلوبها؛ ولأنها لبثت حقبة مهملة شتيتة في أوراقي، فكانت في هذين الوصفين كالأوابد من الحيوان التي تعزب عن البشر، وتنفر من الحضر، وتعيش متأبدة في الفيافي. ولا أزعم أنها من أوابد الكلم، وهي التي لا تشاكل جودة، كما يقول الزمخشري.
وبعد، فلا أقول شيئا في طرائق هذه المقالات ومزاياها، ولكن أدع للقارئ رأيه حرا، وحسبي أنها بيان صادق عن عقلي وقلبي، وأني أردت بها الحق والخير، وابتغيت وجه الله، وهو حسبي وكفى.
جمادى الآخرة سنة 1361ه
تموز سنة 1942
مقدمة الطبعة الثانية
الله نستعين، ومنه نستمد نور العقل، وصواب الفكر، وطهارة القلب، ونسأله الهدى إلى العلم، والتسديد إلى الحق، والتوفيق للخير. •••
أما بعد، فهذه «أوابد» من الكلم المنثور، بينها قليل من المنظوم، نشر بعضها قبلا في كتاب «الأوابد» وبعضها لم ينشر.
وكان ينبغي أن تقدم إلى القراء منذ سنين حين نفدت طبعة الأوابد الأولى، ولكن حالت الأسفار والشواغل، كما حالت دون إشرافي على الطبع، ففات الضبط كلمات وددت لو شكلت، فأعفي القارئ من عناء النظر فيها لضبطها.
وإني لشاكر لإخوان حملوا عني تعب المراجعة، واحتملوا عناء التصحيح، وأخص الأخ الأديب الأستاذ مصطفى السقاء.
وقد حالت غيبتي كذلك دون سلك كلمات أخرى في الكتاب، لعلها توضع في الطبعة الآتية مع أمثال تنشأ من بعد.
ولو استقبلت من طبع الكتاب ما استدبرت لحذفت كلمات ثلاثا لا أجدها على شرط الأوابد: كلمة قصيرة ارتجلت على قبر الزهاوي شاعر العراق، وهي أقصر من أن تسلك في الأوابد، والكلمة التي عنوانها «النشر في مصر»، والأخرى التي عنوانها «النهضة»؛ فهما على جودتهما ليستا من جنس الأوابد في موضوعهما.
ومهما يكن فهذه كلمات صادقات أردت بها الحق والخير والصلاح، ولعل القراء يتلقونها بما تلقوا به الطبعة الأولى من قبول وإقبال.
والله نسأل الإخلاص في الفكر والقول والعمل، وحسبنا الله.
عبد الوهاب عزام
أول ذي الحجة 1369ه
13 أيلول/سبتمبر 1950
مناجاة
رب! سبحت لك الخلائق في الأزل، ونطقت بذكرك منذ الخلق الأول، ودارت الأفلاك بحمدك، وسطعت الكواكب بنورك، وسار القمران ثناء عليك، وتعاقب الملوان تقديسا لك، وهبت الرياح بنفحاتك، وتلألأ البرق من سبحاتك، وسار السحاب بقدرتك، وهطل الغيث برحمتك، وتلاطمت البحار في جلالك، واطردت الأنهار من نوالك، والجبال راسيات بأمرك، مائلات لحكمك، والغابات رائعة بجمالك، مورقة بأفضالك، والرياض سطور نظامك الباهر، وإبداعك القادر، والطير ألسنة حمدك وشكرك، ونغمات مزاهرك، وأناشيد مآثرك.
أنت لهذا النظم بيت المطلع
وأنت أنت فيه بيت المقطع
والحيوان الأعجم مسير بإلهامك، شاكر لإنعامك، سائر بهديك، ناطق بذكرك، مسبح بحمدك
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده .
رب! والإنسان صنعك الرائع، وبرهانك القاطع، روح الخليقة المشوق إليك، وبصرها الطامح نحوك. رأى نورك فسار، وبهره جلالك فحار. أنت قصده وإن ضل، وطلبته حيثما حل، يبين عنك قاصدا أو معتسفا، وينطق باسمك صحيحا أو محرفا، وينشد شعرك موزونا أو مضطربا، ومعجما أو معربا:
وألسنة الأكوان إن كنت واعيا
شهود بتوحيدي بحال فصيحة
وإن عبدوا غيري وإن كان قصدهم
سواي وإن لم يظهروا قصد نيتي
1
عبدة الأصنام عبدوك من وراء حجاب، وتوسلوا إليك بالأسباب، والساجدون للنار تهافتوا على ضيائك، وهرعوا إلى ثنائك. قدسوك في إحدى آياتك، وعظموا لك إحدى علاماتك، وعباد الكواكب اهتدوا بالنجوم إليك، فسبحوا لها وإنما ثناؤهم عليك. أنت أنت القصد وإن جاروا، وأنت أنت المعبود وإن حاروا. وكهنة طيبة ومنف أشادوا بذكرك، وجهدوا أن يقدروك حق قدرك، وبابل في زيغها لم تكن إلا بابا لك،
2
ونينوى في وثنيتها كانت معبدك. أقاموا من أجلك التماثيل، ولاح لهم نورك من خلال الأباطيل، واليونان ألهوا آثارك، وأكثروا أسماءك. وما أثينا وزوس وأبولون إلا رموز حكمتك وقدرتك وعلمك وعظمتك. ألفاظ شتى لمعنى موحد، وصور شتى لجوهر فرد، كالماء نبت منه الحلو والمر، والعقيم والمثمر، ودل عليه النجم والشجر، والشوك والزهر.
رب! وهل رتل البراهمة إلا فرقانك، وطلبوا في الكهوف إلا عرفانك؟ وهل انفتحت عن بوذا زهرة الكنج إلا لذكرك؟
3
وهل هجر العالم إلا لوجهك؟ وهل أملى كونفشيوس إلا تعليمك ؟ وهل أراد زردشت إلا ذكرك؟ وهل ضمن كتاب الأبستاق
4
إلا حمدك؟ يزدان وأهرمن رمزا نورك وظلالك،
5
وهدايتك وإضلالك. •••
رب! وموسى إذ لاح له ضياؤك في الغلس، وخلع نعليه في الوادي المقدس، لمع له بصيص في الطور فاهتدى، ودعا الناس إلى الهدى. بنورك ضرب بحر الظلمات فانفلق، ثم بهره جلالك فصعق. وعيسى أمددته بروحك وبرك، وأطلعته على ذرة من مكنون سرك، ومحمد خاتم أنبيائك، وصفي أصفيائك، آنسه ذكرك في الغار، فرأى في الظلمات النهار، فأملى دينك وفرقانك، وأوضح محجتك وبرهانك، وترك على الدهر أثرك الأغر، ودينك الأبر. رب! ومن وراء ذلك سرك المكنون، وحماك المصون.
أنقذنا من الحيرة بهديك، واهدنا إلى جنابك برحمتك. اللهم منك وإليك، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن.
إلى الرسول الكريم
في عيد مولده
مضت عشر وأربعمائة وألف سنة منذ ظهر في الجزيرة العربية نجم الصباح بشيرا بطلوع الشمس، منذ طلع الكوكب المبشر بالغيث في الأرض المجدبة، منذ ولدت الأرض منبع النهر الذي فاض على الناس بالخير والبركة ولا يزال فياضا، منذ سطرت في سجل الأيام بسملة سيرة عظيمة، منذ كتبت على صفحات الزمان فاتحة كتاب دفتاه المشرق والمغرب، وصفحاته تاريخ البشر في أروع وقائعه، منذ خط الله القدير على أرض الجزيرة عنوان أعظم فضل في تاريخ البشر، منذ ولدت الخليقة قانونا من قوانينها في صورة طفل، منذ استهل هذا الطفل الفقير في دار من دور قريش بمكة، منذ ولدت آمنة بنت وهب محمد بن عبد الله.
لم تضرب البشائر لمولده، ولا سارت الأنباء، ولا تطايرت التهاني، ولا اجتمعت المحافل، ولكن الله - سبحانه - كان يعلم ماذا أخرج من غيبه، وماذا وضع على أرضه. كان الله وحده يعلم أن قد ولد الرجل الذي أعده ليعلي التوحيد ويضع الوثنية، ويعز الحق ويذل الباطل، وينصر الخير ويخذل الشر، ويمحو العبودية ويثبت الحرية، ويزلزل الجبارين، ويثبت الضعفاء والمساكين، ويبطل التمييز بين الناس، ويشيع المساواة بينهم، ويحقر الأحساب والأنساب، ويعظم العمل الصالح، ويحطم العصبيات ويدعو إلى الأخوة العامة.
كان الله وحده يعلم أن قد ولد الرجل الذي يخرج الحق من الصوامع والمعابد إلى معارك الحياة، ويقيم البر بألسنة الملوك وأيديهم بعد أن كان تعلة الفقراء والمساكين، ويقف الملوك في صفوف الصلاة بعد أن كانوا في صفوف الآلهة، ويجعل الحياة جهادا دائبا للحق والخير، ولا يضعف ولا يفتر، ويري الناس كيف يجتمع الحق والقوة، ويلتئم الملك والنبوة.
يا رسول الله! أين نحن اليوم من شريعتك؟ وأين مقامنا من دعوتك؟ وأين سيرتنا من سنتك؟
علمت المسلم أن يكون خليفة الله في أرضه، يقوم بالعدل بين خلقه، ويقسم الرزق بين عباده، ويهيمن على قانون الله بين الناس أجمعين، يقودهم إلى الحق طوعا أو كرها، ويسيرهم للخير اختيارا أو اضطرارا.
فأين هو اليوم من هذه الخلافة؟ وأين عقله من هذه السياسة؟ وأين نفسه من هذا السمو؟ وأين قلبه من هذا الطموح؟ وأين عزمه من هذه الهمة؟ وأين يده من هذا السلطان؟
علمت المسلم أن يقوم بالقسط لله، ويجعل العدل بينه وبين الناس، لا يبغي ولا يحتمل البغي، ولا يظلم ولا يستكين للظلم، ولا يبخس الناس أشياءهم، ولا يبخس حق نفسه، ولا يأخذ ما ليس له، ولا يعطي ما ليس لغيره، وتلوت عليهم قول الله:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ،
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .
تلك الدعوة الشاملة، والكلمة الجامعة، تلك سعادة الفرد والجماعة، وثبات القانون والنظام، وقوام المعاملة العادلة والألفة العامة. تلك الدعوة إلى أن يسيطر الحق والعدل، وأن يكون الإنسان لله وللناس أجمعين، لا لنفسه ومنفعته وهواه، وأن يعدل الإنسان في الرضا والغضب، والمنشط والمكره، ومع القريب والبعيد، والعدو والصديق؛ لأنه ينفذ قانون الله، وليس عند الله قريب ولا بعيد، ولا صديق ولا عدو.
يا رسول الله، لو أن الأمم المتناحرة التي عمرت عقولها، وخربت قلوبها، وقويت أيديها وضعفت سرائرها، وأضاءت ظواهرها وطفئت بواطنها ، والتي حدت العدل بمنافعها، وسيرت الحق طوع رضاها وغضبها، وحبها وكرهها، ونفعها وضرها، لو أن هذه الأمم فقهت آيتك وعملت بها، فقام كل زعيم بقسط الله في أرض الله بين عباد الله يستوي في نصفته القريب والأجنبي، والقاصي والداني، ويسكن إلى صدقه ونصحه الناس كافة، لا يغش ولا يخدع، ولا يختل ولا يزور، ولا يعتدي ولا يظلم.
لو أن كل زعيم أخذ بالعدل كل فرد من أمته، وآخذ بالعدل نفسه، وجمع الأمة كلها على العدل؛ لعاشت الأمم مجاهدة في الحياة على شريعة من التناصف جامعة، وخطة من العدل مؤلفة، ولتعاونوا على البر بالإنسان وإسعاد الإنسان، لا على التدمير والتخريب، والقتل والأسر، والغصب والنهب، والاحتكام إلى المهالك، والالتجاء إلى القوة، وويل للمغلوب! ألا إن في العدل سعادة الفرد في نفسه، وسعادة الأمة في جماعتها، وسعادة الإنسانية في أممها.
يا رسول الله، علمت المسلم أن يكون حرا لا يخيفه جبروت، ولا يأسره مطمع، ولا تملكه الأهواء، ولا تعبده الشهوات، يسير في الأرض قانونا لا يقهر، وسنة لا تتغير، يستمتع بما يمتعه به الحق، ثم الفتن والشهوات من بعد أهون من أن تغريه، وأحقر من أن تفتنه.
فما بال المسلمين تتنازعهم الأهواء فيتذبذبون، وتتجاذبهم الشهوات فيتهافتون؟
علمت المسلم أن يكون مالكا قنوعا، مسيطرا مقتصدا، قادرا عفيفا يملك الدنيا ولا تملكه، ويستعبدها ولا تستعبده، ويقدر عليها ولا يهلك فيها.
فما بال هؤلاء المستكلبين تملكهم الأموال، فهم عبيدها، وتفتنهم المناصب، فهم صرعاها؟ قد ملك نفوسهم من الحرص والطمع، والنهم والجشع ما لا تملؤه السماوات والأرض، فذلوا من حيث أرادوا العز، وافتقروا من حيث حاولوا الغنى، وشقوا من حيث توهموا السعادة!
يا رسول الله، علمت المسلم أن يكون عزيزا لا يذل، وأبيا لا يخنع، وموحدا لا يشرك، يعبد الله وحده لا شريك له، والناس من بعد سواسية، ليس بعضهم أرباب بعض، فما بال هؤلاء الأذلاء الخانعين الذين يؤلهون كل قوي، ويخضعون لكل جبار؟
علمت المسلم أن يكون مجاهدا لا يكل، دائبا لا يمل، يمضي في الحياة قدما كالنجم لا يقف دون الغاية، لا تصده مشقة ولا يرده هول، ولا يقعد بهمته عبء، ولا يوهن عزيمته يأس، طماحا هماما غلابا مقداما.
فما بال المسلم يقعد ويحسب أنه يعبد، ويكل ويظن أنه متوكل، وييأس ويتوهم أنه يقنع؟ حرفوا كلماتك، وجهلوا آياتك.
يا رسول الله، علمت المسلم أن يكون على الخطوب جسورا، وفي النوائب صبورا، كأنه في معترك الحياة قدر لا يرتد، وقانون طبيعي لا يتخلف، على شفتيه بسمة الرجاء في ظلام المحن، وفي وجهه طمأنينة الثقة في عواصف الفتن، وفي قلبه الثقة بالله واليقين بالظفر، تنكشف عنه الأحداث كما يقشع السحاب عن النجم، وتنجلي الغمرة عن الدرة، وينحسر الغمد عن السيف، فما بال المسلم اليوم جزوعا يائسا، وخائرا مبلسا؟
يا رسول الله، وقفت في حضرتك ساعة فلا معنى من العلاء والعظمة والحرية والحق والخير والبر والفضيلة إلا نزل على قلبي، ولا شية من الإسفاف والباطل والشر والرذيلة إلا طارت عن نفسي! وستبقى سيرتك نبراسا يعشو إليه الخابط في الظلمات، وهديك منارا يهتدي به الضال في الفلوات، وشرعك علما ينحاز إليه الأخيار، ودعوتك أذانا يصغي إليه الأبرار، ورسالتك رحمة للناس أجمعين.
إن انحرف الناس فما اعوجت سنتك، وإن ضلوا فما طمست شريعتك، وإن حاروا فما خفيت سيرتك، وسيردهم إلى الطريق هديك، وتهديهم إلى الغاية سيرتك، وترشدهم على الأجيال دعوتك.
ولن يزال مولدك هدى للناس وذكرى، وموعظة وعبرة، ودعوة لا تحول، ونورا لا يزول.
يا رسول الله! صلى الله عليك.
أربع صفحات متتابعات
في سيرة رسول الله
1
هذا يوم العشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وقد أخذت مكة صولة الجيش الإسلامي، ودهمها جند التوحيد من أعلاها وأسفلها: خالد بن الوليد، قائد الميمنة، يدخل من الليط أسفل مكة يقود جموعا من غفار وأسلم ومزينة وغيرها، والزبير بن العوام، قائد الميسرة، يدخل من كدى أعلى مكة، وأبو عبيدة بن الجراح، في صف من المسلمين، يدخل من أذاخر بين يدي رسول الله.
وقريش وألفافها حائرة، منها من يعد للقتال، ومنها من يدعو إلى السلم، ومنهم من ترددت به الفجاءة بين القتال والاستسلام، فناوش قليلا ثم سكن.
ورسول الله على راحلته مطأطئا رأسه كأنه ساجد على الرحل تواضعا وشكرا، قد غض بصره عن هذا الجيش الكثيف، وهذا الجند المطيع، وهذه السطوة المحيطة؛ ليفتحه على الحق الذي يدعو إليه، والعدل الذي يقوم به، والسلام الذي يبغيه، والألفة التي يريدها.
هذه هي القرية التي أخرجت الرسول وصحبه قبل ثماني سنين، القرية التي هاجر منها رسول الله وصاحبه يلوذان بالغار؛ ليختفيا عن الأبصار، القرية التي أبت على المسلمين الإقامة فيها والخروج منها، القرية التي آذت محمدا في دينه ونفسه وصحبه عشر سنين، ثم أتبعته العداوة والحرب حيثما كان، وهذه قريش التي سخرت بمحمد ودينه وآذت أصحابه، وعذبت المستضعفين منهم، وألجأتهم أن يهاجروا إلى الحبشة ثم إلى يثرب، ثم حاربتهم في بدر وأحد، وألبت عليهم القبائل في غزوة الأحزاب؛ فأحاطت بالمدينة تبغي استئصال المسلمين، ثم ردت المسلمين عن دخول مكة معتمرين عام الحديبية.
ليس في هذه البقعة جبل ولا شعب ولا واد، ولا طريق إلا شهد بطش الباطل الكثير بالحق القليل، والشرك العاتي بالتوحيد الناشئ، واستهزاء الجهلة الجفاة بالحكماء البررة، وضوضاء اللغو تطغى على ترتيل القرآن، وأصوات السخرية تحيط بتكبير الصلاة.
واليوم قد أخذت سورة الحق تهاويل للباطل، وزلزل الجبابرة لسطوة المستضعفين، وخرت الأصنام بكلمة التوحيد. إنه ليوم جزاء وانتقام وقصاص لمن يريد، وقد قال سعد بن عبادة وهو يحمل راية من رايات المسلمين داخلا إلى مكة: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.»
كلا! كلا! إن محمدا لا ينتقم لنفسه، ولا يقتص لأصحابه، ولكنه رسول توحيد، وداعية ألفة وسلام، فقد لقي الجهل بالحلم، والذنب بالعفو، والإساءة بالإحسان، والبغضاء بالمودة.
رسول الله قائم بباب الكعبة يخطب ليعلم هذه الجاهلية شرائع الدين ومكارم الأخلاق، ويحطم في نفوسها أصنام الجهل والهوى والمعصية، كما أنزل عن الكعبة هذه الأصنام الذليلة، يقول:
يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب.
ويقول: يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ فيقولون: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
2
قبائل هوازن ترتاع لفتح مكة، وتخشى أن يمتد إليها سلطان الإسلام، فتخرج بقضها وقضيضها عامدة لحرب الرسول، وتجتمع بوادي حنين بين مكة والطائف، وتأتي الأنباء رسول الله فيخرج من مكة بعد دخولها بخمسة عشر يوما، ويسير المسلمون للقاء العدو قبل أن يحيط بهم. عشرة آلاف أتوا مع الرسول إلى مكة، وألفان من أهل مكة، يسيرون للقاء هوازن ! ها هو ذا وادي حنين تنحط إليه الجيوش في الغلس مغترة بكثرتها، معتزة بقوتها، والعدو كامن في أحناء الوادي وأحشاء الظلام. يفجأ هذا الحشد العظيم فيضطرب، ويموج بعضه في بعضه، ويأخذ التيار من أراد الهزيمة ومن لم يردها.
وظن الذين لا يعرفون ثبات الإيمان حين يطغى به الكفر، وجلد اليقين حين يحيط به الشك، وعزة الحق حين يثور به الباطل، ظن هؤلاء أنها هزيمة طوت فتح مكة وما قبل فتح مكة من جهاد المسلمين، وحسبوها حروبا تأكل حروبا، وغفلوا عما وراء الحروب من عقائد وأخلاق.
زلزل المسلمون زلزالا شديدا، ولكن القطب لم يزل من مكانه؛ ثبت رسول الله، ونادى العباس أصحاب بيعة الرضوان، فانثالوا إليه بين الجموع كما ينساب الماء القليل بين الصخور والرصف.
وخلق ثبات الإيمان واليقين والحق من هذا التفرق اجتماعا، ومن هذا الاضطراب قرارا، ومن هذا الفر كرا؛ فأخرج من الهزيمة نصرا مؤزرا.
لم يرع رسول الله هذا الفزع، ولم تأخذه هذه الظواهر المائجة، ولكن ثبت ثبات الإيمان، ورسخ رسوخ الحق. وكان في المأزق الشديد يوم حنين كما كان في الموكب العظيم يوم الفتح، واثقا بالله، متوكلا عليه، تجيش النفوس وهو مطمئن، وتموج الجموع وهو ساكن، توقره عظمة لا يهزمها نصر ولا هزيمة، ويقين لا يغيره أمن ولا فزع، ووقار لا تستفزه رغبة ولا رهبة.
3
واجتمع المسلمون بالجعرانة - بئر بين الطائف ومكة - ومعهم من سبي هوازن وإبلها وشائها ألوف كثيرة.
وجاء وفد هوازن يسأل الرسول الكريم أن يرد عليهم أولادهم ونساءهم، وقال رجل من بني سعد، قوم حليمة مرضعة الرسول: «يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك.»
ولو شاء الرسول لجزى هوازن بما صنعوا، وإنهم لأهل للجزاء، ولكنه لقي جهلهم بحلمه، وجرمهم بصفحه، كما فعل بأهل مكة، قال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا.»
فلما اجتمع الناس للصلاة جاء الوفد فتكلموا بما علمهم الرسول، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله. وأبى الأقرع بن حابس زعيم تميم، وعيينة بن حصن زعيم فزارة، والعباس بن مرداس زعيم سليم أن يتركوا غنائمهم، فوعدهم الرسول أن يعوضهم عنها حتى رضوا، ورجعت هوازن بأبنائها ونسائها.
4
وقسم الرسول الغنائم على أصحابها، وزاد فأجزل العطية لجماعة من رؤساء العرب: قرشيين وغير قرشيين ليتألف قلوبهم، ولم يعط أحدا من الأنصار، فعجب الأنصار وتكلموا فيما بينهم، وجاء سعد بن عبادة، سيد الخزرج، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء ... - فأين أنت من ذلك يا سعد؟ - يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. - فاجمع لي قومك في الحظيرة.
اجتمع الأنصار في الحظيرة وهم عماد هذا الإسلام وجنده، اجتمعوا عاتبين على قائدهم العظيم، يرون أنه آثر عليهم جماعة من رؤساء العرب ليس لهم في الإسلام سابقة، ولا في نصرته بلاء، فليت شعري ماذا يقول هذا القائد الكريم، وكيف يرضي خلص جنوده العاتبين؟! استمع: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ - بلى، لله ولرسوله المن والفضل . - ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ - وبماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. - أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ثم لصدقتم: «أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا؛ لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.»
قال الأنصار والدموع تبل لحاهم، وقد غسلت كلمات رسول الله عتبهم، وأيقظت قلوبهم، وزادتهم حبا للرسول وطاعة، وأصابوا فيها ما يحقر كل ما أخذ الناس من مال وما يأخذون، قالوا والدموع تبل لحاهم: رضينا برسول الله قسما وحظا.
الهجرة مولد تاريخ
تعمد الأمم إلى حدث جليل من أحداثها يبرز بين خطوبها، ويثبت على مر الزمان في أنفسها، فتجعله ميقاتا تبتدئ منه حساب الأيام، وعلما تعد من لدنه الشهور والأعوام، وربما يكون موت أحد كبرائها، أو مصيبة من المصائب التي لا تفصل طورا عن طور، ولا تميز عصرا من عصر، ولا تكون حدا بين سيرة وسيرة، ولا برزخا بين فساد وصلاح، أو رشد وغي، أو عزة وذل، أو جهالة ومعرفة، ولا ينبوعا يطرد منه في حياة الأمة نهر، أو ذكرى تفيض منها المواعظ والعبر، أو مبدأ تعطف إليه في الخطوب الذكر.
وخير ما أرخت به أمة حادث يلد لها تاريخا، أو يغير لها وجهة، أو يهديها إلى غاية، ويبقى على مر الزمان خلاقا للعظائم، مدادا بالفضائل، فياضا بالعظات، تنظر إليه الأمة كلما بعد بها المسير لتنظر أين هي من المكانة التي تراد لها، وأين سيرها من الطريق المبينة؟ وأين وجهتها من الغاية المرجوة؟
وقد كان إلهاما ما رآه ثاني الخلفاء الراشدين عمر الملهم المحدث، حين أشار على المسلمين أن يجعلوا الهجرة مبدأ لتاريخهم، وميقاتا لأعمالهم، فما أعرف حدثا ولد تاريخا طويلا ، وخلق عصرا مديدا، واطرد في تاريخ البشر فياضا بالخير مترعا بالحوادث كالهجرة، وما هي إلا سفرة محسوسة قصيرة جعلها الله عنوان أسفار معنوية طويلة في نفوس الأفراد والجماعات والأمم، وما هي إلا نقلة بين بلدين كانت انتقالا من الوثنية إلى التوحيد، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، من الجاهلية إلى الإسلام.
بالهجرة عز الإسلام وانتصرت دعوته، ونفذت شريعته، وتألفت الجماعة الإسلامية الأولى؛ الجماعة التي انتشرت فإذا هي أمة تجمع المشرق والمغرب، وجاهدت فإذا هي ملء الزمان عزما وحزما، وإقداما وصبرا، وثباتا ودأبا، وسيطرت، فإذا دولة تقوم على الأسود والأبيض بشريعة من الحق الشامل والأخوة الجامعة، ثم استقرت وعملت فإذا الحضارة المؤمنة الرفيعة التي تحطم الحدود الفاصلة، وتمحق العصبيات الباطلة، وتسوي بين الناس إخوة عاملين متعاونين، كلهم لآدم، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.
لقد كانت هذه الجماعة الإسلامية القليلة التي أقرتها الهجرة في المدينة كالبذر الطيب يجمعه الزارع الصالح، وينقيه ثم ينثره فيملأ الأرض خصبا وبركة، وكبخار البحر يجمعه السحاب ثم يتفرق به في أرجاء الأرض حياة وطهرا وخصبا ونماء.
فقه هؤلاء الصحب الأجلاء عن رسولهم، ووعي هؤلاء التلاميذ الصالحون عن معلمهم، ثم انتشروا في أرجاء الأرض قوادا فاتحين، وولاة راشدين، وقضاة عادلين، وعلماء هادين، وعبادا خاشعين، فاجتمع السيف والكتاب، والعرش والمحراب، والسلطان والعلم، والقدرة والحلم، وما زال هذا البحر يمد، وما زال هذا النور يشع، وما زال هذا الخير يشيع، وما زال هذا الحق يسيطر، وما زال هذا الدين ينتشر، وما زال هذا العزم يمضي، وما زال هذا الجهاد يدأب، حتى شهد العالم أول مرة أمة واحدة منتشرة بين الصين وبحر الظلمات، فنيت فيها الأجناس، وامحت الألوان، وصبغها لون وضاء من الأخوة والمودة، وتعاونت فيها العقول على فلسفة واحدة، وفقه واحد، وأدب واحد، وتضافرت الأيدي على نسج حضارة واحدة.
كم في تاريخنا من أعمال تمت إلى الهجرة بسبب! وكم فيه من أبطال يربطها بالهجرة نسب!
محمد بن القاسم الثقفي، ثم محمود الغزنوي، وظهير الدين بابر، كانوا في فتح الهند وإقامة الدول فيه من آثار الهجرة، وقتيبة وأسلافه وخلفاؤه في تركستان سهام رمت بها الهجرة فأبعدت المكان والزمان، وعقبة بن نافع على فرسه على شاطئ بحر الظلمات، وطارق بن زياد في الأندلس، وعبد الرحمن الغافقي في بلاط الشهداء، كانوا يطوون الأرض والممالك، وينشرون العدل والأخوة مهاجرين على آثار الهجرة النبوية.
ثم ما وعى التاريخ من سير فقهاء وعلماء، وكتاب وشعراء، ومتكلمين وفلاسفة وصوفية، وما شاد الزمان من مساجد ومدارس وقصور وقناطر، كل ذلك للهجرة أثر فيه وطابع عليه!
كل ذلك كتاب، الإسلام بيانه، والتاريخ برهانه، والهجرة عنوانه.
ولا تزال الهجرة على بعد العهد، وعرامة الزمان، وضراوة الفتن، وضعف المسلمين وتخاذلهم وحيا يملأ النفوس آمالا، والقلوب إيمانا، والأيدي قوة، والعزائم فتوة، ولا تزال نورا في نفس كل مسلم، وحديثا في ضميره، ودعوة في أذنه، وعزة في جوانحه، وسؤددا في همته، لا تزال تدوي في الآذان والصدور، كما لا يزال الأذان الأول يدوي في أرجاء الأرض، لا يفتر ليل نهار، ولا يقر له في ساعات الزمان قرار.
1
ألا إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لا يزال في ازدياد، والنهر الذي أجرته لا يزال في اطراد، والروح الذي نفخته لا يزال قويا، والعزم الذي شحذته لا يزال فتيا، والكتاب الذي كانت عنوانه لم تقرأ صفحاته، ولم تنفد كلماته، وإن في ضمير الدهر لأحداثا كبارا، وإن في ثنايا الغيب لأسرارا وأسرارا.
قد أضاع المسلمون الزمام، ورضوا أن يكون غيرهم الإمام، وفقد كثير من المسلمين عقولهم في هذه الفتن المحيرة، وأضلوا رشدهم في هذه الخطوب المظلمة، وبرقت أبصارهم من هذه الأشعة، وصمت آذانهم في هذه الضوضاء، ورضوا بفضلات الأقوام لعقولهم وقلوبهم وأيديهم وألسنتهم، ولكن لا يزال وحي الإسلام يسمع من وراء الحجب، ونوره ينفذ في ثنايا الظلمات، ولا تزال هذه العقول تعرف غايتها، وهذه الوجوه تقصد قبلتها، ولا تزال هذه الهمم تسمو إلى سمائها، وهذه الأرواح تطمح إلى عليائها، ولا تزال هذه الإبر تعرف قطبها، وتتجه وجهتها.
إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لم يمت، والمجد الذي بدأته لم ينقطع، والجذوة التي أوقدتها لم تنطفئ، ولا يزال في الأرض خصب، وفي النهر ماء، وفي السحب مطر ورعد وبرق.
وإن علينا أن نتذكر فنحسن التذكر، ونعتبر فنجيد الاعتبار، ونخلق من العسر يسرا، ومن النقمة نعمة، ومن الضلال هدى، ومن الضعف قوة، مستبصرين بالوحي الذي لا يفتر، والنور الذي لا يخبو.
من كان يظن أن الأقلام جفت، والصحف طويت، فليصغ ليسمع صرير الأقلام تخط في صفحات التاريخ الإسلامي فصولا جديدة، ومن كان يحسب أن الينبوع نضب، فليمعن النظر ليرى أن الينبوع فياض، وإن حجبته الأدغال، أو تراكمت حوله الرمال، ومن أحس همود الحياة في نفسه، وخمود الهمة في صدره، وضعف الأمل في قلبه، ومرض البيان في لسانه؛ فليرجع إلى الهجرة وآثارها، والإسلام وتاريخه؛ ليغترف من هذا الينبوع، أو يقبس من هذه النار، ويقرأ في هذا الكتاب، ويستمع إلى هذا الخطاب؛ ليرجع إلى نفسه حياتها، وإلى همته وقدتها، وإلى أمله قوته، وإلى لسانه بيانه، وإلى عقله سلطانه.
فإن الإسلام لا يعرف الموت ولا الضعف ولا الذلة ولا اليأس، وإنما هو العيش في عزة وكفاح، أو الجنة تحت ظلال الرماح، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.
رسول الله في عرفات
أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات وينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجبا، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزى ومناة، ولا تسمى الأوثان حتى ود وهبل؟
كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وهذه قريش تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات، فكيف سوت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذه المنازل؟ لست أرى ما يميز قريشا من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة ؟ لا ترى لهم شارة ولا موكبا، ولا تبصر منهم أحدا، ماذا دها العرب فغير سننهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم، ووحد كلمتهم، وأخلص لله دعوتهم! إن هذا لشيء عجاب! كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها، وتنادي ربها، فمن مشيد بالأوثان، ومن مناد: لبيك رب كنانة، أو لبيك رب همدان! فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!
قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، وما عهدنا هذا من قبل!
والشيطان ذليل حسير، قد آوى إلى صخرة على جانب الطريق يرقب الوفود المتآخية، بل الأخوة المجتمعة، ويرى الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: ويلي من محمد، لقد أخلى بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام، ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيدا، ويرتد عنها مخذولا؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره، فيلقى الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأخوة الموحدة حدود الجزيرة، فتدمر منازلي من معابد الوثنية وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة لي تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرفع فيها لواء الباطل فوق كل لواء. ويلي! لقد جاهدت محمدا في داره ثلاثا وعشرين سنة، واستنصرت شياطين الإنس والجن، وحشدت جنود الباطل، وخيل إلي مرارا أني أشرفت على الظفر، فما هذه الجموع التي تسير وراء محمد، وتدعو بدعوة محمد، ويلي! إنه يوم له ما بعده.
يسير رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عشرة آلاف من الحجاج إلى عرفة، وهذه قبة ضربت له في نمرة فينزل بها.
زالت الشمس فأمر رسول الله بناقته القصواء فرحلت فركب، حتى أتى بطن الوادي؛ وادي عرنة، فوقف، واجتمع الناس وأصاخوا للخطبة التي لم يخطب رسول الله مثلها في مثل هذا الجمع الحاشد، واستمعوا للوصية العظمى التي يوصي بها الرسول أمته في حجة الوداع، والبلاغ الأكبر يوم الحج الأكبر يؤذن الناس بكمال الدين، وتمام النعمة، وتمكن الإسلام،
1
ووقف ربيعة بن أمية بن خلف على مقربة من الرسول يبلغ الحجيج بصوته الجهير مقال رسول الله.
ألهم الرسول أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأن الدين قد كمل، ونعمة الله قد تمت، فقال: «أيها الناس، اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.»
وعلم رسول الله أن التوحيد الذي جاء به الإسلام كفيل بتوحيد الله على مر الدهور، وأن الكتاب الذي بلغه ضمين أن لا تعبد الأوثان من بعد، وأن العقول التي حررها تستنكف أن ترتكس في أباطيل الجاهلية، فليس يخشى على أمته الشرك، ولكن يخشى أن يستجيبوا للشيطان فيما عدا التوحيد في أمور يحسبونها هينة، وهي عظيمة الأثر في نظام الجماعة وأخلاقها، حرية أن توهي القوة، وتفرق الكلمة، وتحل العقدة الصالحة، وتلكم كل كلمة تؤدي إلى فرقة، وكل فعلة من الظلم والعدوان، أو الرذيلة والمنكر. عرف هذا خاتم النبيين فقال: «إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم.»
ثم وكد الرسول ما بلغه وعلمه ثلاثا وعشرين سنة من حرمة الدماء والأموال والأعراض. وكد ما أبطل به الحروب المتمادية، والغزوات المستمرة، والثارات المستعرة، وما هدم به جاهلية العرب هدما، وردها شرعا من السلام والوئام، وسلطان القانون العام، فقال: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا ... وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية.»
ثم عمد الرسول الذي علم البر بالفقير، وجعل له حقا في مال الغني، وعطف القلوب بعضها على بعض وأشعرها البر والمواساة. عمد إلى هذا الإثم الآثم والجرم المنكر الذي تتبرأ منه الأخلاق والمروءة، هذه الشرعة الدنيئة التي تحكم الغني في رقبة الفقير بدراهم معدودات، وتتغلغل في الأخلاق والأموال تغلغل السوس، فأعاد ما وكده الكتاب والسنة من إبطال الربا، وأعلن أنه سواء منه ما تقدم وما تأخر، قد محقه الله ومحق آثاره، فقال: «وإن كل ربا موضوع، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا. وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.»
ولم ينس النساء وقد أنقذهن من الوأد، وأشركهن في الإرث، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وشرع لهن الشريعة الكافلة سعادتهن وسعادة الأمة. لم ينس النساء في هذا الموقف العظيم الذي يوصي فيه بأصول شريعته، قال:
أما بعد، أيها الناس؛ فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ... واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ... فاعقلوا أيها الناس.
ليت النساء أخذن الحقوق وأدين الواجبات! ليت ثم ليت!
ثم وكد نبي التوحيد والأخوة ما بني عليه شرعه من التراحم والتآخي والمساواة والمواساة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، سواء فيهم الأسود والأبيض، كلهم لآدم، وكلهم عباد الله، وكلهم إخوة في الله، قال الرسول الأكرم: اعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي، فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه ... أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني قد بلغت، واعقلوا. تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس؛ فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت؟
قال الحاضرون: نعم، قال الرسول: اللهم اشهد.
ذلكم ما أوصى به الرسول يوم الحج الأكبر في حجة وداعه، وتلكم حقوق الإنسان دوت بها أرجاء العالم قبل ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. تلكم وصايا الرسول لأمته تدوي بها الأجيال، وتسمعها الآذان، فأين منها الأعمال؟
إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين .
في مجلس رسول الله
ثقة الحر بالحر
دعوة الإسلام تخترق الآفاق، ونور الإسلام يمزق الظلمات، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
ماض في جهاده، دائب على إرشاده، يرى تباشير الصبح في أعقاب الليل، ويبصر بسمة الحق لهزيمة الباطل، ويتلقى وفود الإسلام بعد اثنين وعشرين عاما لقي فيها هو وصحبه ما لقوا من جبروت الشرك، وكبرياء القوة، وعنت الظلم، ولجاجة الباطل، وهجوم الأهوال، وإحاطة المهالك.
وبنو سعد بن بكر في ديارهم شرقي الحجاز إلى الجنوب سمعوا الدعوة الإسلامية، وأحاطت بهم آياتها، وتريثوا حتى لم يبق للريث موضع؛ فأجمعوا أن يتعرفوا كنه هذا الأمر، وفيصل هذه القضية.
هذا رئيسهم ضمام بن ثعلبة يشد رحله إلى المدينة ليلقى صاحب الدعوة ويتبين أمره، وها هو ذا يسير في المدينة يسأل عن الرسول حتى يدخل المسجد راكبا، وينيخ جمله في فنائه، فانظر إليه في صراحة الرجل الحر يتقدم إلى النبي وأصحابه غير متلجلج ولا متردد.
ضمام : «أيكم محمد؟»
الصحابة : «هذا الرجل الأبيض المتكئ.»
ضمام : «ابن عبد المطلب!»
رسول الله : «قد أجبتك.» - إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك. - سل عما بدا لك. - أسألك بربك ورب من قبلك: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ - اللهم نعم. - أنشدك بالله: آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ - اللهم نعم. - أنشدك بالله: آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ - اللهم نعم. - آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
1
لم يطلب ضمام بن ثعلبة معجزة ولا آية ولا برهانا، ولكنه رأى المعجزة والآية والبرهان في ذمة محمد وصدقه، فتقدم جريئا حرا يسأل الرجل الحر الذي وثق به ويناشده الله؛ فلما أجابه آمن به غير متردد ولا مرتاب ولا متريث. سأل الرجل العظيم وناشده بربه فأجابه، وهو أكبر في نفسه وأعظم في رأيه من أن يكذبه أو يخدعه. هل وراء هذا للحر برهان؟ وهل بعد الثقة بيان؟ إن في هذا الحوار لعبرة للأحرار!
على ذكرى المولد النبوي
الذكر العظيمة في تاريخ الأمم نجوم يهتدى بها في ظلمات الأيام، وأعلام يستبين بها الطريق في ضلالات الزمان ، ودعوات إلى الحق والخير تدوي على مر السنين، والزمان بالناس دائر لا يفتر، تعتورهم أحداثه، وتتداولهم غيره، فمن لم يعتصم بسبب من الحق، ويستمسك بعروة من العمل الصالح، ضل وانبهمت عليه السبل، والتبس عليه الحق والباطل، والهدى والضلال، ومن لم يجعل له قدوة من سير العظماء تردد وتحير، والزمان لا ينتظر المترددين الحيارى، أو ضل وهلك، والدهر لا يشفق على الضلال والهلكى.
وإن لنا معشر المسلمين من سيرة رسولنا خاتم النبيين نجوما نيرات، وأعلام واضحات، وأسى تهدي إلى الخير والبر، وإلى التي هي أقوم من أعمال الدنيا والدين. إن لنا من سيرة الرسول الكريم هدى في كل صغيرة وكبيرة من أعمال الفرد والجماعة.
فقد حفظ لنا التاريخ سيرته في بيته ومسجده، وفي سياسة الجماعات، وتربية الأمم، وقيادة الجيوش، وفي الإصلاح بين المتعادين، والقضاء بين المتخاصمين، وفي السفر والحضر، والشدة والرخاء، والحرب والسلم، والغضب والرضا، فما تلقانا حادثة من حوادث الزمان، أو عمل من أعمال الحياة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، إلا وجدنا في سيرة سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد - صلوات الله عليه وسلامه - مثلا عاليا، وأسوة حسنة، ورأيا هاديا، وقضاء فصلا، يهدينا إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. كل فرد منا يجد في سيرة محمد وهديه شفاء دائه، والتحرر من أهوائه، وإصلاح خلقه، وكل فرد منا يجد في سيرة نبيه الجهاد في الحياة، والصبر على لأوائها، والطموح إلى معاليها، والاستكبار عن دناياها، والإباء على كل ضيم، والنفور من كل مذلة.
وكل أمة من أمم المسلمين تدوي فيها ليل نهار الدعوة المحمدية، تدعوها إلى أن تقوم في أرض الله على عباد الله بقانون الله
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .
وكل أمة على هذه الأرض تجد في هدي محمد ما يطب لدائها، ويقيم من عوجها. وهل أودى بالجماعات إلا عصبيات باطلة، وأهواء جامحة، وشهوات مسلطة، واستكبار على الحق، ونفور من العدل؟ هل كب الناس في جهنم إلا ما استعر في قلوبهم من الضغينة، وثار في رءوسهم من الهوى؟ وهل يعرف التاريخ كمحمد رسولا جاء بالشرع الجامع، والأخوة العامة، والعدل الشامل؟ وهل يعرف التاريخ كمحمد هاديا ألف بين منازع النفس على قانون من العفة والعدل، وألف بين الإنسان والإنسان على شريعة من المودة والأخوة، وألف بين الأمة والأمة على منهاج من الحق والبر والعمل الصالح لخير الناس أجمعين؟
من رفع للناس لواء الأخوة لا يفرق بين الأبيض والأسود، ولا يميز بين المشرق والمغرب؟
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . من دعا الناس جميعا إلى التنافس في الخير على اختلاف أديانهم ونحلهم، وأنزل عليه:
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ،
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون .
أين أنتم من هذه الأخوة الجامعة يا ضلال البشر؟ أين أنتم من دعوة الخير العامة يا دعاة الشر؟ أين أنتم من هذه الرحمة يا قساة القلوب؟ أين أنتم من هذا الصلاح يا فساد الشعوب؟
المسلمون أحق باللوم، وأجدر بالتعنيف، فهم أهل هذا الدين وأولى الناس بهديه، وهم هم خذلوه وهجروه، وحفظوا ظاهره وضيعوه
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فإن ترهم اليوم في فرقة وشقاق فبما ضيعوا أخوة الإسلام، وإن ترهم في مذلة وهوان فبما فرطوا في عزة الإسلام، وإن ترهم أتباعا فقد علمهم الإسلام شرعة السيادة فنبذوها، وأعطاهم أزمة القيادة فأضاعوها.
أيها المسلمون، هذه ذكرى نبيكم، وميلاد تاريخكم، ومبدأ مجدكم، ومنشأ سعادتكم، فإن شئتم لأنفسكم السيادة والسعادة؛ فكونوا أهلا لهذا الشرف، كونوا بأخلاقكم وأعمالكم جديرين بأن تسموا أمة محمد، ولا تتخذوا الانتساب إلى محمد هزوا ولعبا، وتحسبوا الإسلام أسماء وأقوالا، فإنما هو الأخلاق والأفعال والجهاد الذي لا يفتر، فمن شاء أن ينتسب إلى محمد فهذه سنته، ومن شاء مجد محمد فهذه طريقته!
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
ذكرى الهجرة
1
يدور الفلك دورانه، ويجري الزمن جريانه، وتكر الحادثات والعبر، وتسير الأمور على قدر، ويطرد نهر الحياة في مجراه بين الأزل والأبد، والناس قوافل مجهودة تضرب في بيداء مجهولة، قد اشتبهت عليهم الأعلام، وانبهمت الغايات، لا يبلغون مدى، ولا يقيمون على منزل إلا ريثما يعدون للمسير، ويتزودون للرحيل، مسير لا يفضي إلى نهاية، ومنازل لا تنتهي إلى غاية. إنما الغاية هذا الدأب المستمر، وهذا الكد المستحر.
والأعوام مراحل في هذا الطريق الأبدي، ومنازل في هذا السفر السرمدي، وقصارى الناس أن يقفوا كل عام وقفة لينظروا إلى الماضي فيقولوا: فعلنا ولم نفعل، ويتطلعوا إلى الآتي فيقولوا: نخاف ونأمل، يحمدون الإنجاح، ويأسون على الإخفاق، ويرجون الخير، ويشفقون من الشر.
وليس الناس سواء في سبيل الزمان، وتيار الحدثان: منهم الضعاف المغلوبون، والعبيد الخانعون الذين تصرفهم الحادثات كما شاءت، ويجري بهم التيار أنى توجه، لا يستطيعون ثباتا ولا دفعا، ولا يملكون ضرا ولا نفعا، كالغثاء يسيل به الماء، إن سئلوا: لم فعلتم؟ قالوا: سلطان الزمان القاهر، وإن قيل: لم لا تفعلون؟ قالوا: العصر القاسر.
ومن الناس الأباة الأحرار، أولو الألباب والعزائم الذين تثبتهم عقولهم وقلوبهم وهممهم، فيقومون المقام الذي يرضون، وينهجون النهج الذين يريدون، يسخرون بالزمان وسلطانه، والعصر وحكمه، يمهدون الطريق للخير، ويسدون الطريق على الشر، ويقفون في مجرى الخطوب كالصخرة في مجرى السيل يجيش الماء حولها ويزبد، ويصدمها فينشق عنها، ويمضي وهي مكانها راسخة، ويثبتون كالسد في النهر يحبس ماءه ويصرفه عن وجهته.
هؤلاء أحرار يعبدون الزمان ولا يعبدهم، ويصرفونه ولا يصرفهم، ويسيطرون على العصور ولا تسيطر عليهم، بل هم يخلقون العصور والأجيال، ويذللون الزمان والمكان، لا يعتلون بسلطان الزمان وحكم العصر، ولكن يحتجون بالحق والخير، شاء الزمان أو أبى، ورضي العصر أم سخط، كأنما إرادتهم وعزائمهم وحي الله وسلطان القدر. لهم كل حين قول سديد، وعمل جديد، وجهاد في الحق، ونصرة للخير. ورب فرد من هؤلاء قد خلق جيلا وأنشأ أمة، وبدل عصرا بعصر، وزمانا بزمان.
2
والمسلمون ما مقامهم اليوم في حكم الزمان، وما شأنهم في مجرى الخطوب؟ إنهم في ذلك فرق شتى: فريق راعته الحادثات، وبهرته النائبات، ودهمه التيار الصاخب، فجرى معه راضيا به أو مقهورا عليه، أو يائسا من مغالبته، أو استهوته الفتن، وسحرته الزخارف، ومال به الهوى، فأعطى العصر عقله وقلبه، واندفع يمرح ويلعب، ويستمتع جهد هواه وشهوته وفتنته. وإن حاججته اعترف بضعفه ويأسه، وخنوعه وذله، أو لقيك بملء هواه وفمه من حجج واهية، وآراء مأفونة، تدل في جملتها وتفصيلها على أنه مغلوب على أمره مسحور، لا يثبته عقل حر، ولا نفس عزيزة، ولا قلب همام.
ومن المسلمين فريق هالهم العصر الجديد، وأخافتهم فتنته، فأرادوا أن ينجوا بأنفسهم ودينهم بأن يجتنبوا هذا التيار، وينتبذوا من هذه الحادثات مكانا قصيا، وأولئك لم يجاهدوا، فلم ينتصروا ولم يهزموا. وإن مد البحر مدة لحقهم، وإن سال السيل بهم مرة جرفهم، بأنهم لم يعدوا للحياة عدتها، ولم يتخذوا للحوادث سلاحها، والأعزل في هذا المعترك مغلوب، والغافل في هذا الخضم غريق.
وفريق آخر من المسلمين لم تجرفهم الحادثات، ولا فروا منها، ولم تفتنهم الفتن، ولا بعدوا عنها، بل هم في مجرى الخطوب ثابتون، وفي معترك الفتن سالمون، عدتهم عقول دراكة لا يشتبه عليها الحق والباطل، ونفوس أبية لا تريم مكانها من العزة والكرامة، وعزائم هي كفاء الخطوب المدلهمة، والجهاد المديد. أولئك وثقوا بعقولهم وهممهم ودينهم وتاريخهم وسننهم، يغالبون الحادثات ويشقون فيها طريقهم إلى غايتهم، ويمكنون لحضارتهم وأخلاقهم في هذه الأرض، لا يخشون قوة ولا يعرفون زمانا قاهرا، ولا عصرا غالبا. قد سموا بأنفسهم فوق الجديد والقديم، والماضي والحاضر، والشرقي والغربي، يأخذون ويتركون مختارين، ويأمرون وينهون على هدى وبصيرة، لا استسلاما للفتنة وخنوعا للزمان، ولا عصبية للقديم وغمطا للجديد.
وهؤلاء الأباة الأحرار والعقلاء الأخيار يجدون في تاريخهم ما يهون عليهم الخطوب، ويذلل لهم الأهوال، ويعصمهم أن يضلوا، ويربأ بهم أن يستكينوا ويذلوا؛ فما تزال تتنزل عليهم من هذا التاريخ العزة والإباء والكرامة، والثبات في الحق، والجهاد في الخير، والتكبر على الأهواء، والتنزه عن الدنايا. ما يزال تاريخ الإسلام يوحي إليهم العظمة بالحق، والسيطرة بالصدق، والصبر لكل نازلة، والظفر بعد الصبر، والعدل بعد الظفر.
ما يزال تاريخ الإسلام يجلو العزائم كلما صدئت عليها المصائب، ويضيء الآمال كلما دجت عليها الكوارث، ويحرر النفوس كلما همت الرغبة والرهبة أن تستذلها. ولولا هذا الوحي المستمر من هذا التاريخ المجيد ما استطاع مسلم أن يثبت في هذه الفتن، ويصبر على هذه المحن، ويرى الصبح في أعقاب هذا الليل، والظفر وراء هذه النكبات.
وإن الهجرة - هجرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة - لميلاد عصر جديد عز فيه الحق وغلب الخير، وسيطرت الحرية، وخلص الإنسان من سلطان الضلال، وتحكم الباطل، وذل العبودية لسادته وأهوائه وشهواته.
إن الهجرة لمبدأ تاريخ عرفت فيه الإنسانية من معاني الحق والخير والحرية ما لم تعرف في غير هذا التاريخ. وما يزال هذا التاريخ علما مرفوعا للفضائل والخيرات تنحاز إليه في عصور الرذيلة والشر، ما يزال علما مرفوعا للأخوة في أزمان يتناحر فيها البشر في كل حين، وتقتتل الأمم في كل بقعة، والمذاهب في كل أمة، والفكر في كل نفس.
فيا أيها المسلمون لا يهولنكم ما يحيط بكم، واتخذوا من الهجرة عيدا يلد في كل نفس معاني من العزة والحرية تثبت بها في هذا الجهاد، ومعاني من الحق والصدق تعيش بها على هذه الأرض، ومعاني من الخير والبر يسعد بها الناس. استوحوا الهجرة كل معنى كريم يؤهل للحياة الكريمة، وكل خلق فاضل ينشئ الأمة الفاضلة، وكل خلق يجعل الإنسان إنسانا حرا، عزيزا، برا، خيرا، لا عبدا ذليلا ولا وحشا مفترسا.
ألا إنكم أولى بالحق والخير، والمجد والكرامة، وأجدر بحمل أمانة الإسلام، وتبليغ رسالة محمد؛ فافعلوا وإلا فلستم أهلا للانتساب إلى الإسلام دين الحق، ومحمد نبي الإنسانية.
الإسلام
بعد 1355 سنة
مضت خمسة وخمسون وثلاثمائة وألف عام منذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة. طوى التاريخ خمسا وخمسين وثلاثمائة وألف مرحلة منذ خرج محمد وأصحابه يحملون دعوة التوحيد والأخوة، وكلمة الحق والعدل والحرية.
ركم الزمان على عام الهجرة ثلاثة عشر قرنا ونصفا، وما زال يخرق الحجب نوره، ويلوح من خلال الأجيال سناه.
مضت أربعة عشر قرنا في جزر التاريخ ومده، وغير الدهر وخطوبه، قامت دول وزالت دول، وقويت أمم وضعفت أمم، وحييت مذاهب وماتت مذاهب، والأرض ترجف باعتراك البشر واحتراب الأديان، وتدوي بالآراء تتصادم، والأفكار تتقاتل، ومن وراء هذا خلق يغلب خلقا، وسنة تميت سنة، وآية تنسخ آية، وأثر يعفي على أثر.
فأين الإسلام اليوم من مبتدئه؟ أين بلغ المسلمون بعد أربعة عشر قرنا؟ قال كاتب أوروبي منذ سنتين: إن دعوة الإسلام قد انتهت، وإن الإسلام وهن ولم تبق فيه قوة تحرك الأمم وتسير الأجيال.
أحق أن الإسلام قد انتهت دعواته، ودرست آياته، ولم تبق إلا أسماء وأوهام، ورسوم وأعلام؟ هل الإسلام اليوم لا تنبض به القلوب، ولا تمضي به العزائم، ولا يقيم المثل العليا للعمل في هذه الحياة؟ أصار الإسلام تاريخا دابرا، وانقلب مجدا ماضيا؟ هل طفئت النار، وأقوت الديار؟
ما هي دعوة الإسلام؟ دعوات ذات شعب تنتظم العقائد والأعمال، وتهيمن على العقل والقلب، وتحيط بالجماعة من أقطارها، وتشمل الأمم جميعها، ولكنها في أصولها ترجع إلى أمرين: التوحيد، توحيد الله وتوحيد النفس، بتخليتها من الأوهام المتنازعة والخرافات المتهافتة، وإقامتها على طريق بينة لا حيرة فيها ولا ضلال، ثم توحيد الأفراد في الجماعة بالعدل الشامل والتسوية التامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، لا عبد ولا حر، ولا سائد ولا مسود، ولا رفيع ولا وضيع، ثم توحيد الجماعات فلا شرقي ولا غربي، ولا عربي ولا عجمي.
والأمر الثاني: العمل الصالح: أن يسير الفرد والجماعة والأمم إلى الخير، أن يجاهدوا لإقامة الحق وهدم الباطل، ونشر العدل ومحو الجور، أن تمتلئ القلوب نارا تحفزها للعمل، ونورا يهديها السبيل، وأن تسمو النفوس عن الصغائر والدنايا، وتطهر من الأحقاد والضغائن، وتتحرر حتى تأبى على القيود، وتتسع على الحدود، وتنطلق في الكمال إلى أبعد غاية.
فهل انتهت هذه الدعوة الإسلامية؟ هل أظلم قلب المسلم؟ هل ذلت نفسه؟ هل ذهب الخنوع بآماله؟ هل رده الدهر إلى الصغار، وأنزله اليأس إلى القرار؟ هي يئس المسلم من السيادة، ورأى أن يسلم قياده؟
كلا، كلا، إن في الإسلام من المثل والأخلاق والفضائل والعزة والإباء والسمو والتاريخ الوضاء ما يملأ المسلمين حياة وآمالا وطموحا واعتزاما. لم تنته دعوة الإسلام ولكنها اليوم تقوى وتعظم، وقد تهيأ الزمان لها، ومهدت الحادثات سبلها. بدأ الإسلام دعوته منذ أربعة عشر قرنا، ولكنها لم تبلغ غايتها، وأجدر بها اليوم أن تبلغها.
ما تزال النفوس الإنسانية طماحة إلى السمو، نزاعة إلى الخير، مفعمة بحب الحق والعدل، تواقة إلى الأخوة والحرية، فلن تقف دعوة الإسلام.
ما يزال المسلم الحق يرى نفسه خليفة الله في الأرض، مكلفا أن يقيم العدل بين الناس، موكلا بنصرة الخير ومحاربة الشر، أنى كان ومتى استطاع. كل الأرض داره، وكل الزمان وقته، فلن تقف دعوة الإسلام.
ما يزال المسلم ينطوي على عزة تقهر الخطوب، وأمل يغلب الزمان، ونفس لا تسف، وقلب لا يذل، وما تزال سيرة محمد في عقله وقلبه، ولا يزال مجد الإسلام ملء جوانحه، ولا تزال كلمة الحق والعدل ملء ضميره، فلن تقف دعوة الإسلام.
إن دعوة الإسلام لا تقف حتى يموت الخلق العلي، والقلب الأبي في نفوس البشر.
وقل للذين يزعمون أنهم حماة الإسلام:
1
ما أذل الإسلام إن ابتغى في غير أولاده حماة! وما أذل المسلمين إن رضوا بغير حماية الله! يا حسرة على الحق إن التمس من الباطل حاميا! ويا خسران العدل إن ابتغى من الظلم واليا! وويل لورثة محمد إن لم تحمهم سيرة محمد وخلفائه ومن أنجبتهم العصور من أئمته وأبطاله!
إن في دين المسلم، وإن في قلب المسلم، وإن في خلق المسلم، ما يربأ به عن كل دنية، ويصمد به إلى كل هول، ويثبته في كل كارثة، ويسمو به إلى مقصد جلل.
أيها الحماة الأبرار! لقد أدرتموها على المسلمين حربا طاحنة في المشرق والمغرب، وغزوتموهم بالسلاح والفتنة والفرية، وكدتم لهم في السر والعلانية، واستبحتم فيهم كل منكر، حتى إذا ظننتم أنهم هانوا وذلوا، ويئسوا وملوا، قلتم: هلم أيها الضعفاء، فنحن الحماة الأقوياء!
أيها الحماة! شد ما قسوتم على المسلمين ثم شد ما رفقتم بهم!
أيها الحماة! لقد تعلمون أن بضعة ألوف من بني الإسلام ثبتوا لكم، وسخروا بقواكم وفنونكم، وأساطيلكم وجيوشكم وطياراتكم أكثر من عشرين عاما، ولم يكن سلاحهم إلا عزة الإسلام ومجد الإسلام.
2
سلاحهم عزيمة الجهاد
وقوتهم ما سلبوا الأعادي
يصابرون الأكبد الصوادي
ويأكلون الجوع في البوادي
قد يئسوا يأسا من الأمداد
إلا ثبات القلب في الجلاد
ونصرة الرحمن للعباد •••
أبت لهم كرامة الإسلام
أبى إباء العرب الكرام
أن يسلموا الأوطان دون الهام
منيتهم مشارع الحمام
فلما تكسر في أيديهم كل سلاح، وأعوزهم كل قوت، وضاق على عزائمهم كل مجال، خرجوا من ديارهم أنفة أن يروا الصغار في الديار، وإباء أن تجمعهم والمذلة أرض، وهم اليوم مشردون في الأقطار، قد نالت الخطوب من أموالهم ونعيمهم ودعتهم وجسومهم، ولم تنل من أنفسهم، فكل منهم علم جهاد، وصحيفة فخار، وسجل مآثر، وشهادة ناطقة بما تتجاهلون من العزة الإسلامية، والأنفة العربية.
ألا إن الإسلام لم تنته دعوته ولم تضعف كلمته، وسيبقى كلمة الله في الأرض، ودعوته إلى الحق، وحجته على الخلق، في أمره بالتوحيد والأخوة والحرية، والعمل في الحياة على أقوم السنن، إلى أكرم الغايات.
ألا إن الإسلام دعوة إلى الحياة لا تموت، ودعوة إلى الحرية لا تستعبد، ودعوة إلى العزة لا تذل، ودعوة إلى العمل لا تفتر.
ألا إن الإسلام دعوة إلى السلام والإخاء، وإلى الصدق والوفاء، فإن دارت به الأكاذيب، واجتمعت عليه الأباطيل، وسيم الهوان، وقوبل بالعدوان، فهو دعوة إلى العزة والإباء، والصبر على اللأواء، والموت في سبيل الحق، والخلود من وراء الموت.
لا غالب إلا الله!
ذهبت البارحة إلى مسرح الحمراء، وقد سمى الأوروبيون كثيرا من ملاهيهم باسم الحمراء بعد أن حرفوه إلى الهمبرا، سألت نفسي في الطريق: كيف حرف الاسم هذا التحريف؟ قالت: إن الزمان ليطمس الأعيان ثم يذهب بالآثار، فما إبقاؤه على الأسماء؟ أشفقت من هذا الحديث أن أتغلغل فيما وراءه من آلام وأحزان فقلت: فيم الفرار من الكد والعناء إلى الملهى إن بدأت حديثه بالمراثي والمصائب؟
أخذت مكاني بين الجالسين، فسرحت طرفي في نسق عربي من البناء والنقش، وإذا منظر يفتح لي من التاريخ فجاجا ملأى بالأهوال والعبر.
لبثت أتأمل البناء متحرزا أن أجتازه إلى ما وراءه من خطوب التاريخ، وما زلت أصوب النظر وأصعده في المسرح حتى جمد البصر على دائرة في ذروته لاحت فيها أحرف عربية ، فكنت وإياها غريبين في هذا الجمع «وكل غريب للغريب نسيب.» بل كنت وإياها نجيين في هذا الحفل لا يفهمها غيري، ولا تأنس من الوجوه الحاشدة بغير وجهي، أجهدت البصر الكليل في قراءة الأحرف فإذا هي: «لا غالب إلا الله.»
يا ويلتاه! شعار بني الأحمر الذي حلوا به قصورهم ومساجدهم، ويل لهذه الكلمة الجليلة الغريبة في هذا الملهى الأعجم؟ قرأت هذا الكلمة فإذا هي عنوان لكتاب من العبر قلبته صفحة صفحة ذاهلا عما حولي، فلم أنتفع بنفسي في مشهد اللهو واللعب، ولم تحس أذني الموسيقى والغناء، أغمضت عيني عن الحاضر لأفتحها على الماضي، وصمت الأذن عن ضوضاء المكان لتصيخ إلى حديث الزمان، وناهيك بجولان الفكر طاويا الأعصار، منتظما البوادي والأمصار، واثبا من غيب التاريخ إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى غيب التاريخ.
شهدت في ساعة جيوش طارق غازية من الزقاق إلى البرتات، وشهدت مصرع عبد الرحمن الغافقي في بلاط الشهداء، وشهدت جلاد الأجيال من المسلمين والأسبان، ورأيت عبد الرحمن الناصر في حربه وسلمه ملء العين جلالا ورهبة، وملء القلب عدلا ورحمة.
ورأيت البطل ابن أبي عامر يحالف الظفر في خمسين غزوة، ويبعد المغار حيث نكصت الهمم والعزائم من قبله، ورأيت دولة الأمويين تزلزل فتتصدع فتنهار، وأبصرت ملوك الطوائف يتنازعون البوار والعار، ويؤدون الجزية إلى ألفونس السادس صاغرين.
ثم سمعت جلبة جيوش المرابطين يقدمها يوسف بن تاشفين، وشهدت موقعة الزلاقة القاهرة، ثم رأيت راية المرابطين تلقف رايات ملوك الطوائف.
وهذه دولة الموحدين، وهذا المنصور يعقوب بن يوسف في موقعة الأرك يحطم جيوش الأسبان بعد الزلاقة بمائة عام، ورأيت موقعة العقاب وقد دارت على المسلمين دوائرها، والناصر بن يعقوب يفر بنفسه بعد أن اقتحمت عليه المنايا دائرة الحراس.
ورأيت غرناطة وحيدة في الجزيرة يتيمة قد ذهبت أترابها، وصارت كما قال طارق يوم الفتح: أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، ولكنها، على العلات، ورثت مجد المسلمين وكبرياءهم، فجالدت الدهر عن نفسها مائتين وخمسين عاما، وحمت حضارة المسلمين على رغم النوائب وكلب الأعداء، ثم رأيت أشراط الساعة: رأيت أبا الحسن وأخاه محمدا يتنازعان السلطان على مرأى من العدو ومسمع، ورأيت أبا عبد الله ينازع أباه الحسن ذلك الملك المائل، والظل الزائل، ورأيت العراك المديد بين أبي عبد الله وعمه الزغل كما تتناطح الخراف في حظيرة القصاب، وتلك جيوش فرديناند وإيزابلا تنيخ على مدينة بعد أخرى، وتدك معقلا بعد آخر.
ومالقة تجاهد الكوارث جهاد المستميت، والزغل يشق الأهوال إليها لينقذها، فيقطع أبو عبد لله طريقه ويرد جنده. مالقة في قبضة العدو وأهلها أسارى يباعون في الأسواق ويتهاداهم الملوك والكبراء، وها هو الزغل يسلم وادي آش إلى العدو على منحة من الأرض والمال، ثم يعيا بأعباء المذلة والهوان فيهاجر إلى المغرب.
ثم شهدت يوم القيامة: الجيوش محيطة بغرناطة وأهلها يغيرون على العدو جهد البطولة والاستبسال والصبر، ثم يغلق عليهم الضعف أبواب المدينة. وهذا شهر ربيع سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وأبو عبد الله يسير إلى فرديناند في كوكبة من الفرسان لا محاربا ولا معاهدا، ولكن ليسلم إليه مفاتيح الحمراء. نظرت الصليب الفضي الكبير يتلألأ على أبراج القلعة، وبكيت مع أبي عبد الله وهو يودع معاهد المجد وملاعب الصبا من الحمراء وجنة العريف، وسمعت أمه عائشة تصرخ في وجهه: «ابك اليوم كالنساء على ملك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال.» فينهل دمعه، وتتصاعد زفراته على الأكمة التي يسميها الأسبان اليوم «آخر زفرات العربي».
وهذا أبو عبد الله، وهو الذي باء بأوقار من العار والذل، تأبى فيه بقية من الشمم العربي أن يقيم على الضيم فيهاجر إلى المغرب، ويرسل إلى سلطان فارس من بني وطاس رسالته الذليلة المسهبة يدفع عن نفسه ما قرف به في عرضه ودينه، ويشكو إلى السلطان حزنه وبثه ويقول:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم
رعيا لما مثله يرعى من الذمم
بك استجرنا، ونعم الجار أنت لمن
جار الزمان عليه جور منتقم
عي رأسي وقلبي بهذه الأحداث الكاربة، والخطوب المتلاحقة، وهالتني هذه المشاهد المفظعة، فخرجت من هذه الغمرة مرتاعا كما يستيقظ النائم عن حلم هائل.
نظرت أمامي فإذا المسرح ، وصعدت بصري فإذا الدائرة: «لا غالب إلا الله!»
بلال يؤذن
كاد الليل ينسلخ عن النهار، وبشرت بالصبح أنفاس الأسحار، والدجى مهود وسنان، يخشى في المشرق ذنب السرحان،
1
والناس هاجدون كأنهم أيقاظ، وكأن آذانهم مصيخة تلقاء المسجد، تتحين دعاء المؤذن، وكأن قلوبهم إبر المغناطيس ترصد قطبها، وتتجه إلى إمامها، والإمام هاجد يرعاه ربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، وملء الأرض والسماء السكينة والسلام.
وسرى في أحشاء الليل سار كطيف الخيال في ظلمات الليال، اتخذ من الليل إهابا، وطوى من الصبح قلبا وجابا «آدم شديد الأدمة، نحيف طوال أجنأ، كثير الشعر، خفيف العارضين، به شمط» تحمل جمته الشمطاء تباشير الصبح الوضاء.
ويرتقي جدار المسجد مقلبا وجهه في السماء ثم ينتفض قائما، فيبعث في حواشي الظلماء صوتا يجلجل في الأرجاء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر! أترى فلول الظلام مذءودة تلوذ بالباطل المنهزم، أم ترى الباطل مذعورا يلتف في تلك الظلم؟ أترى ذلك النور المنبثق من الأفق الشرقي، بسمة الفجر الصادق لهذا الصوت الإلهي؟ أم ترى ذلك النور الوضاء استجابة النهار لهذا النداء؟ ليت شعري أيهما الصباح، وأيهما أذان بلال بن رباح؟
ويمضي بلال يصدع قلب الظلام بشهادتي الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم يحيعل بالصلاة والفلاح، ثم يعيد التكبير في تمديد، فيختم بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
ويحسب بلال أن صوته لم ينفذ إلى القلوب، فلم تتجاف عن مضاجعها الجنوب، فيثوب بالقوم: الصلاة خير من النوم.
يتهلل وجه الرسول
صلى الله عليه وسلم
لصوت الحق مدويا في أعقاب الباطل، يبسم لصوت الحق عاليا طليقا يملأ ما بين الأرض والسماء، والمشرق والمغرب، يبسم حين يسمع دعوة الحق في قلب الجزيرة العربية على لسان عبد حبشي، وهل في شرعة الإسلام عبد وحر؟ وهل في سنة محمد عربي وحبشي؟ وتنبعث في كل أذن من هذا الصوت بشرى، وفي كل قلب من هذا النور إشراق، فيهب الأصحاب من مراقدهم تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم، فتستيقظ كل دار بأهبة الصلاة من الرجال والنساء والولدان.
وينزل بلال فيقف بباب الحجرة النبوية قائلا: «حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول الله.»
ويسفر النهار، وتنثال الجموع إلى المسجد، فانظر من ترى: يخرج نفر إلى المسجد من خوخات في دورهم، فهذا الآدم الربعة عظيم العينين ذو البطن علي بن أبي طالب يخرج من حجرة فاطمة، وهذا الطويل الجسيم الأصلع عمر الفاروق، وهذا الأسمر الرقيق البشرة، ضخم المنكبين، كثير شعر الرأس، عظيم اللحية؛ عثمان ذو النورين، والصديق كان في السنح هذه الليلة، فيقدم مسرعا، فتراه أبيض نحيفا معروق الوجه، غائر العينين، خفيف العارضين أجنأ.
ويقبل من دور بني زهرة بجانب المسجد ثلاثة: أحدهم قصير دحداح ذو هامة عظيمة، شثن الأصابع، كثير الشعر، يخضب بالسواد هو سعد بن مالك بن أبي وقاص، والثاني آدم نحيف قصير له شعر يبلغ ترقوته، يلبس ثوبا ناصع البياض، تضوع منه ريح الطيب، يمشي في وقار وسمت، هو عبد الله بن مسعود، والثالث ضخم طويل شديد الأدمة هو المقداد بن الأسود.
وانظر هذين الرجلين: هذا الطويل الجسيم خالد بن الوليد، وهذا القصير الأبلج الأدعج عمرو بن العاص، وفي أثرهما رجل جميل، عظيم الهامة، مكتحل، يخطر في مشيته، هو معاوية بن أبي سفيان، وبجانبه رجل نحيف طوال معروق الوجه، خفيف اللحية، أجنأ، أثرم الثنيتين، هو أبو عبيدة بن الجراح.
ويقبل من ناحية الحرة الشرقية رجلان: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج. وهذا الرجل الطويل النحيف، كثير الشعر، الذي عليه سيما الحزن هو سلمان الفارسي، ووراءه رجل ربعة أحمر شديد الحمرة، كثير شعر الرأس، يخضب بالحناء هو صهيب الرومي.
وانظر بين الجمع طلحة والزبير وأبا موسى الأشعري وأبا أيوب الأنصاري.
ويأتي بنو الصحابة: فهذا الغلام الطويل الأحمر عبد الله بن عمر، وهذا الغلام الطويل الأبيض المشرب بالصفرة، الجسيم الوسيم، الصبيح الوجه عبد الله بن عباس، وهذا الصبي الذي يشبه أبا بكر عبد الله بن الزبير.
ويخرج رسول الله - صلوات الله عليه - فيقيم بلال الصلاة، فيسوي الرسول الصفوف، ويسد الفرج فيها، ويكبر فيكبرون، ويذهب هذا التكبير نغمة متسقة بين ضوضاء العالم وجلبته، ودعوة للحق بين أكاذيبه وأباطيله. يذهب هذا التكبير في الأرجاء طمأنينة لقلوب، ورعدة لقلوب، ورجاء لقوم، وخوفا لآخرين، يبشر الضعفاء والمظلومين بملكوت الله في الأرض، وينذر الجبارين والظالمين بالقصاص العادل. إنما مزق شمل الظالمين هذه الصفوف لا صفوف القتال، وإنما زلزل عروش الجبارين ذلك التكبير لا وقع النبال، ويقرأ الرسول في الركعة الأولى آيات من سورة النور منها:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
ويقرأ في الركعة الثانية آيات من سورة الحج منها:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .
هذه جماعة يمحصها الله ليورثها أرضه، ويعلمها لتقوم بين الناس بعدله. هذا الصف من العباد يجمع خلفاء الأرض وأمراءها وولاتها وقضاتها ومعلميها وقوادها وجندها، تلك الشرذمة من الزهاد ورثة العروش والتيجان عما قليل، يقسم الله رزقه بأيديهم، ويصرف حكمه في الأرض بألسنتهم. جماعة تضمهم جدر المسجد اليوم، ولا يسعهم العالم غدا، جماعة تحويهم أرض ضيقة بين لابتين، ينتشرون بين المشرقين والمغربين، وستجف الأرض بحملاتهم، وتقر بعدلهم، وتضيء بإيمانهم.
قضيت الصلاة وانتشر المصلون. •••
لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، قد فتحت بهذه الجماعة الأقطار، وعمرت بهم الأمصار. هذا عمر في الشام قد أزال عنها سلطان الروم، ثم جاءها ليبرم العهود ، ويتفقد الرعية، وهذا بلال في جيش المجاهدين غازيا، ينظر عمر إلى بلال يود أن يسمع أذانه، ويهاب أن يستمع لمؤذن رسول الله، ويقول الناس لعمر: لو أمرت بلالا أن يؤذن! فيقترح عمر على بلال الأذان، فينهض الشيخ ابن السبعين تحت أعباء السنين، فيدوي في الأرجاء: الله أكبر، الله أكبر.
لقد كان أذان الشام تصديق أذان المدينة، أجل أجل، لقد صدق الله وعده ففتحت الجماعة الصغيرة الممالك، ودوى أذان المدينة في الآفاق.
ولكن انظر إلى عمر، ألا تراه ينشج؟ ألا ترى دموعه تبل لحيته؟ ألا ترى القوم في بكاء ونحيب؟ فما أبكاهم؟ لقد نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض وأغناهم وأعزهم، فما دهاهم؟ وما أبكاهم؟
يبكون إذ رأوا المؤذن ولم يروا الإمام، يبكون إذا سمعوا مؤذن رسول الله، ثم نظروا فلم يجدوا رسول الله.
الكعبة
هذه البنية المكرمة، هذا البيت المعظم، هذه الكعبة المشرفة لا يعرف لها تاريخ البشر مثيلا، بيت فيه أمارة التوحيد الخالص والحنيفية السمحة، خلا من الأوثان والأصنام والصور والزخارف والنقوش، وقام رمزا لتوحيد الله، ولاتحاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. تهفو إليه أفئدة المؤمنين حيثما كانوا، وتخفق له قلوبهم أينما حلوا، وتتوجه إليه قلوبهم أنى توجهوا، فلو أن بيتا صور من سواد العيون أو سويداوات القلوب لكان هذا البيت الكريم. لا تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وآلاف الآلاف من الوجوه والقلوب متوجهة إلى هذا البيت، مرتفعة إلى ربه قراءتهم وتسبيحهم، مرسلة إليه آمالهم وآلامهم، كذلك هو منذ أوحى الله إلى نبيه دينه، ودعا النبي إلى هذا الدين، واستجاب المسلمون لهذه الدعوة، فهل يعرف بيت آخر على هذه الأرض، وعلى طول التاريخ، تطمح إليه الأبصار، وتوجه إليه الأفئدة بضراعتها ودعائها واستغفارها، وبرجائها وأملها في كل زمان وفي كل مكان؟
إن كل مغناطيس على الأرض يتجه إلى القطب أبدا، إن أدرته عنه دار إليه، وإن صرفته جهد طاقتك لم ينصرف عنه، وإن أحطته بآلاف الحجب فهو موصول به نازع إليه، فما أشبه قلوب المسلمين في توجهها إلى الكعبة بالإبر المغناطيسية التي تتجه إلى قطبها ليل نهار على بعد الأقطار، واختلاف الأمصار، وشتان بين القلوب النابضة والإبر الجامدة. •••
وقد جعل الله هذا البيت مثابة للناس وأمنا، حرمه وحرم البلد الذي هو فيه، وحرم أرضا حول هذا البلد، جعلها أمنا للإنسان والحيوان الأعجم والنبات، فزائر هذا البيت في حرمات مضاعفة، وقدسية موكدة، وأمن مظاهر. وقد جعل حول الأرض المحرمة مواقيت يحرم منها القاصد إليها، فيتحرر من اللباس والزينة حتى لا يمتاز قوم من قوم، ولا غني من فقير؛ ليدخل الناس إلى هذا الحرم ثم إلى هذا البيت أمة واحدة تعبد إلها واحدا، اتحدت ظواهرها وبواطنها، وعقائدها وعواطفها، واجتمعت على البر أيديها وألسنتها وقلوبها وأعمالها، وإن في ذلك لآيات.
وتؤم وفود المسلمين هذا البيت الذي اتجهوا إليه على بعد الديار، فيرون قبلتهم عيانا، وبيتهم جهرة، يصلون حوله في كل جهة، قد امحت المسافات والجهات، فهم عند هذا البيت كإبر المغناطيس إذا بلغت قطبها، تدور في كل جهة، لا شمال ولا جنوب ولا شرق ولا غرب. ومن دخل البيت صلى في مكانه إلى كل الجهات؛ إذ بلغ المركز الذي تتجه إليه وجوه المسلمين وقلوبهم في الأقطار كلها، مركز الدائرة التي تجمع المسلمين على العقائد الحقة، والعمل الصالح، والخلق البر، والجهاد لخير الدنيا والآخرة، والأخوة والمودة. إنها الوحدة المحسة، والأخوة المجسمة، والمحبة الممثلة، لا يعرف لها حاضر البشر مثيلا، ولا يذكر لها ماضيهم نظيرا.
ما أبصرت هذه الكعبة الكريمة إلا تخيلت بناء من العقيدة المحكمة، والتوحيد الخالص، وإلا تمثلت أدعية الداعين في المشرق والمغرب، وآهات الضارعين بالليل والنهار تهوي عليها، وتطيف بها في الغدو والآصال والبكر والأسحار، مع أنفاس الطائفين، ومع أشعة الشمس والقمر ونسمات الهواء.
وما طفت حولها إلا تمثلت هذه الدائرة الإسلامية الجامعة تدور حول هذا المركز الحق الذي لا يتبدل ولا يتغير.
وكم عبرة وذكرى في هذه الوجوه الطائفة، بل القلوب الخائفة، بين غني وفقير، وقوي وضعيف، وقادر وعاجز! أغناهم في هذا المقام أفقرهم، وأقواهم أضعفهم، وأقدرهم أعجزهم، بل لا غني ولا فقير، ولا قوي ولا ضعيف، ولا قادر ولا عاجز. إخوة متساوون، وجماعة موحدون، وأفراد على الحق يجتمعون، قد امحت بينهم الفروق، وضلت الأشخاص والأعداد، وبقي الخضوع لله الواحد القهار.
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
الحج
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق .
ما يزال هذا الأذان مدويا في الآفاق، تصيخ إليه الآذان، وتستمع إليه القلوب، فتستجيب له أقطار الأرض باعثة بأفواجها تفيض بهم السبل، ويحملهم البر والبحر والهواء صوب الأرض المقدسة، شطر القطب الذي إليه تتوجه قلوب المسلمين، نحو مركز الدائرة الإسلامية الذي يدور حوله المسلمون وإليه ينتهون. •••
ما يزال هذا الأذان مدويا يجلجل في جوانب الأرض، فتصيخ إليه الآذان والأفئدة، وتستجيب أفواج البشر ميممة أرض الحجاز، وما تزال هذه الدعوة مستجابة تهفو بها أفئدة المسلمين إلى هذه البقعة المباركة من هذه الجزيرة العظيمة جزيرة العرب.
هذه البواخر تمخر في اليم من أرجاء الأرض مشتاقة إلى الحرمين لا تبعد عليها غاية، ولا يثني من عزائمها هول.
وهذه الطائرات في أجواز الفضاء كالطير مسخرات في جو السماء تطير بالشوق والحب إلى مهوى الأفئدة ومطمح الأبصار.
وهذه السيارات تخد البراري والصحاري، تشق سهلها وحزنها، وعامرها وغامرها، وجردها ووعثها، تذلل ما صعب، وتقرب ما بعد. عليها وفود البيت الحرام يجوبون الفلوات، ويحتملون المشقات، ويستسهلون كل صعب إلى مقصدهم العظيم.
ثم هؤلاء المؤمنون الصابرون، أولو القوة والعزم، وأهل الجلد والصبر الذين لا يجدون ما يحملهم فتحملهم عزائمهم، ويحملون أوزارهم وهمومهم
آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ، غير مبالين بالشقة البعيدة، والفيافي القاحلة، هازئين بالجوع والعطش، والحر والبرد، والنصب والجهد. إيمانهم وآمالهم وعزائمهم أوسع من كل صحراء، وأثبت من كل هول، وأحر من كل بيداء محرقة. تراهم في السبل يحملون أزوادهم راجلين بالليل والنهار لا يفكرون في شيء ولا يبالون بشيء إلا المقصد العظيم، والغاية الجليلة التي خرجوا إليها. إنه الإيمان الذي لا يتزعزع، والعزم الذي لا ينثني، والصبر الذي لا يقهر. •••
إن البصر والخيال ليريان هذه القوافل تشق البر والبحر والهواء شهورا متوالية لا تخلو ساعة من ليل أو نهار من قصاد الحجاز، حجاج البيت، وفود الأرض المقدسة يحملهم الشوق على طائرة أو باخرة أو سيارة أو على الأقدام.
يؤم هؤلاء الحجيج على اختلاف أقطارهم وألوانهم الأرض التي نشأ فيها دينهم، وعاش فيها نبيهم، وولد تاريخهم، ويقصدون القبلة التي يتجهون إليها على نأي الدار وبعد المزار، وتخفق لها قلوبهم، وتهفو إليها أفئدتهم.
يدخلون إلى هذه البقاع وقد جمعهم توحيد الإسلام، وربطت بينهم أخوته، وأخلصوا دينهم لله، وتجردوا من أزياء الأوطان وشارات الأقوام، سواء قريبهم وبعيدهم، ومشرقيهم ومغربيهم، وأسودهم وأبيضهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، فإنما هو التوحيد الخالص، والأخوة الجامعة، والقلوب المجتمعة، والمقاصد المتفقة، لا تشغلهم ديار ولا أهل، ولا تفرقهم منازع ولا عصبيات
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
هنا الإسلام الحق الذي وحد الله، وسوى بين خلقه، وآخى بين عباده. إنك لا ترى أجساما، ولكن معاني يجمعها كلها توحيد الله وأخوة المؤمنين.
ولو ترى هذه الوفود طائفين بالكعبة ليل نهار، مصلين حولها صباح مساء، وتخيلت الجماعات الإسلامية من ورائهم متلاحقة متوالية، وقلوبهم ووجوههم إلى هذا البيت؛ لتمثلت الأمة الإسلامية كلها جماعة واحدة قائمة تصلي شطر البيت الحرام، وعرفت جلال هذا الدين، وعظمة هذا الحج، وحكمة هذه القبلة، وتوحد هذه الأمة، وتبينت غفلة المسلم الذي لا يبصر هذه الجماعة، ولا يدرك هذه الأخوة، ولا يقدر هذه الشعيرة، بل غفلة المسلمين جميعا حين لا يبلغون بالحج مقصده، ويسيرون به إلى غايته من التأليف بين المسلمين، والجمع بينهم، والائتمار فيه بما ينفعهم، والتشاور فيما يحزبهم، والعمل لما يسعدهم في دينهم ودنياهم. •••
وتمثلهم وقوفا في عرفات حاسرين خاشعين، ملبين داعين، تكاد تتفق خفقات قلوبهم اتفاق كلماتهم ونياتهم، تتمثل المسلمين كلهم في صعيد، والإسلام جميعه في موقف. قد اجتمعت أوطان المسلمين في هذه البقعة، وحشر تاريخهم في هذه الرقعة؛ أليست هذه الوقفة تجمع أوطان الإسلام جميعها؟ أليس هذا الاجتماع حلقة في سلسلة من التاريخ أولها وقوف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مع أصحابه قبل سبع وستين وثلاثمائة وألف سنة اتصلت بها حلقات لا تنقطع، وعرى لا تنفصم حتى يومنا هذا. هنا الإسلام حاضره وماضيه
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب .
إن هذا الحج لجدير أن يجرد المسلم من عصيانه وأهوائه، ويصفي نفسه، ويطهر قلبه، ثم يربطه صافيا طاهرا بأخواته، ويؤلف بينه وبين غيره في جماعة المسلمين المؤتلفة، وأخوة المؤمنين المحكمة، ولكن هذه الجموع المحتشدة من أقطار الأرض، وهذه الأفواج المجتمعة من آفاق البلاد لا ييسر لها التعارف والتعاون إلا نظام محكم، وخطة جامعة يتسنى بها التزاور والتعارف والاجتماع والتشاور في أمور المسلمين وأحوالهم.
فلا بد أن يعمل المسلمون لهذا، ولا بد أن يتهيأ لخاصتهم الاجتماع بعد الحج؛ لينظروا في أدواء المسلمين، ويطبوا لها، ويتعرفوا الصالح والفاسد من أمورها، فيتوسلوا إلى حفظ ما صلح، وإصلاح ما فسد، ويطلعوا على المسلمين كل عام بالرأي السديد، والدواء الناجع فيما يحزبهم في هذا العالم المضطرب التي تمتحن فيه العقائد والسنن الإسلامية بالآراء الفاتنة، والمذاهب الضالة، والفتنة الفاشية التي لا يثبت لها إلا من ثبته الله بعقل حكيم، وخلق قويم.
إن المسلمين اليوم في غمرة من الفتن المحيطة، والمكايد المحدقة، والأهواء المضللة، فلينظروا لأنفسهم، وليسارعوا إلى العمل لصون عقائد الإسلام وشرائعه وسننه وآدابه.
إن موسم الحج لأجدر المجامع أن ينتفع به المسلمون، وأنجع الوسائل للتشاور فيما يهمهم، والعمل لما ينجيهم؛ فليعملوا ثم ليعملوا، والله يهيئ لهم الرشد، ويهديهم سواء السبيل.
يوم عرفات
أترى الحجيج زرافات يهرعون إلى عرفات، بعثتهم الأرجاء البعيدة إلى ساحة القرب، وأرسلتهم البلاد المختلفة إلى أرض الوحدة؟ قد خلعوا ثيابهم فخلعوا الفرقة والخلاف، وطرحوا كل ما صنعوا لأنفسهم من عظمة وحقارة، وسيادة وعبودية، ونبذوا ما خاط عليهم الزمان من عداوة وبغضاء، ونزعوا ما في صدورهم من غل، وما في نفوسهم من شهوات، والتفوا في ثوب من المساواة واحد، وصيغوا جميعا صوغ إنسان فرد، عبيدا لله وإخوة في الله. هذه الإنسانية في أبهر حقائقها وأخفى أسرارها.
اتحد الفكر في رءوسهم، والشوق في ضمائرهم، تكاد تتفق خفقات قلوبهم، ويتحد تردد أنفاسهم، فهم نغمات موزونة، ولحون منظومة، وقصيدة موحدة الروي، مؤتلفة القري، بل هم واحد ذو أسماء متعددة، أو ظلال لحقيقة واحدة. ليس في أفئدتهم وعقولهم إلا الله الواحد، وليس في نزعاتهم إلا الأخوة الشاملة.
أتسمع التلبية يسيل بها كل واد، وتنزع بها الوهاد، وتدوي بها النجاد، ترفعها الأودية إلى الهضاب، وتسيلها الهضاب إلى الأودية؟ فما الهواء إلا نبرات هذه القلوب، وزفرات هذه الصدور، والأرض راجفة خاشعة كأنما اختلاج الناس على جلدتها، قشعريرتها ورعدتها.
أترى الناس على عرفات ألفاظا كثيرة من أحرف قليلة، أو كلمات عدة ترادفت على معنى واحد، وقد تجلى هنالك الله وحده، فلست ترى هنالك إلا عبده.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. اللهم هذا جنابك الذي يهفو إليه الناس، فيصيح العصاة حتى أبو نواس:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
1
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
لولاك يا ربي هلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
كل نبي وملك
وكل عبد سألك
سبح أو لبى فلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
يا خاطئا ما أغفلك
اعمل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
لبيك ربنا قد تركنا الأقوام والشعوب، ونبذنا الأضغان والحقود، وطرحنا الباطل وزخارفه، والزور ووساوسه، والتكالب على الحطام، والاعتراك على الشهوات والخصام، وتركنا الأنيس يفترس الأنيس، والناس يقودهم إبليس، وجئنا إلى ساحتك بأبصار كليلة تبغي نورها، ونفوس عليلة تطلب برءها، وقلوب صدئة تلتمس جلاءها، وعقول مظلمة ترجو ضياءها، جئنا بأوقار من الذنوب، وأوزار من العيوب، فامحق الأوزار، وأرجعنا من الأطهار. اللهم بصيصا من هداك ينير الظلمات، وقبسا من علمك يكشف الشبهات ، وقطرة من رحمتك تحيي الموات.
اللهم وهذا مقام رسولك الأمين، وهذا صوته المبين، لا يزال يرن في الآفاق ويخترق السبع الطباق: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.» «أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.» «فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.» «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.»
2
اللهم هؤلاء الحجيج عطاش وردوا شرعتك، فانقع غلتهم، وسفر لوحتهم الشمس، ولفحتهم السموم، فهرعوا إلى ظلك فأظلهم، وضلال انبهمت عليهم السبل، فأرهم الطريق لاحبة، والصوى واضحة، وأعداء فألف بين قلوبهم، ومختلفون فوحد كلمتهم، ومتناكرون فعرف بعضهم بعضا.
اللهم هذا تجليك، فماذا تغني الكلم، اللهم قد عي اللسان، ووقف القلم.
من مؤتة إلى اليرموك
1
في العام الثالث بعد الستمائة من الميلاد، وذلكم قبل بعثة رسول الله بست سنين، اشتعلت الحرب بين الروم والفرس. وهي حلقة من سلسلة طويلة من الحروب بدئت منذ ظهور الرومان في غرب آسية، واستمرت بين الرومان والأشكانيين، ثم ورثها الساسانيون والبيزنطيون حتى شغلت من التاريخ سبعة قرون بين الاشتعال والخمود. وهذه الحلقة الأخيرة التي سبقت البعثة واستمرت بعد الهجرة سبع سنين، وقد اهتم بها العرب ونزلت فيها آية من القرآن:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم . انتصر الفرس في عهد كسرى برويز على الروم زهاء عشرين سنة متوالية، فسلبوهم كل ما ملكوا في آسية، وفتحوا بيت المقدس وأخذوا الصليب الكبير ، ثم غلبوهم على مصر، وظهرت جيوش الفرس على أبواب القسطنطينية مرات، وظن الناس أن الروم لا تقوم لهم قائمة.
ثم أجمع الروم أمرهم، وقادهم هرقل من ظفر إلى ظفر خمس سنين أتت على كل ما ناله الفرس في الحروب المتمادية، وخلع كسرى برويز بعد أن أخرجته الهزائم من دار ملكه، ومات ذليلا حزينا وخلفه ابنه قباذ الثاني، فصالح هرقل على أن يرد على الروم كل ما سلبوه في آسية ومصر، وأن يرد الصليب المقدس، وسار هرقل في أعظم مواكبه إلى بيت المقدس ليضع الصليب موضعه في ديسمبر سنة 629م. وبلغ هرقل من العزة والهيبة والصيت ما بلغ.
2
في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، بعد غزوة خيبر بشهرين، وجه رسول الله ثلاثة آلاف من أصحابه إلى الشام، وجعل القيادة لزيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وكان هذا إيذانا ببعد الشقة، وجسامة المطلب، وعظيم الخطر.
لماذا سير الرسول - صلوات الله عليه - جيشا لحرب الروم في أرض بعيدة؟ يقول المؤرخون: إن الغسانيين قتلوا رسوله إلى أمير بصرى، ولكن أحسب الأمر أوسع من هذا، فقد أراد المسلمون أن يرهبوا الطامعين فيهم، ويعرفوا موقف القبائل العربية الضاربة في سلطان الروم: أحرب هم أم سلم؟
سار المسلمون إلى معان، فإذا هرقل الذي حالفه الظفر خمس سنين حتى رد إلى سلطان الروم ما أخذه الفرس، وزلزل سلطان كسرى في ديار كسرى، قد جمع في مآب جموعا حاشدة من الروم والعرب. وتشاور المسلمون وهموا بأن يكتبوا إلى الرسول، ولكن ابن رواحة قال: «يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة.»
التقى الجمعان عند مؤتة، وهي قرية في البلقاء التي تسمى اليوم شرق الأردن إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت، واستعرت الحرب وقاتل زيد بالراية حتى قتل، وتقدم جعفر للشهادة فقاتل حتى نالها، وتلاه ابن رواحة فقتل، فاجتمع الناس على القائد المحنك المظفر خالد بن الوليد، فقاتل كما يقاتل خالد حتى تراجع بالجيش الصغير، فأنقذه من الجموع المطبقة عليه، فعل القائد الحازم لا يهلك جيشه في معركة خاسرة.
3
ثم شغل المسلمون بفتح مكة وما تلاه من الأحداث، وبعد سنة من موقعة مؤتة دعا الرسول إلى غزو الروم «في زمن عسرة من الحر، وجدب من البلاد»، زمن تدعو فيه إلى الحرب ضرورة لا بد منها، وعلم الناس أنهم يدعون لغزو الروم، غزو بني الأصفر، وهم يعلمون من سلطانهم وقوتهم وانتصارهم على الفرس ما يملؤهم هيبة، حتى قال بعض المنافقين: «أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟! والله لكأني بكم غدا مقرنين في الحبال.»
سار الجيش إلى تبوك، وكانت على حدود البلاد الخاضعة لسلطان الروم في الشمال، فأقام بضع عشر ليلة، وصالح الرسول - صلوات الله عليه - أهل دومة الجندل وأيلة وجرباء وأذرح، ورجع المسلمون وقد صالحوا من صالحوا، وأرهبوا القبائل الضاربة في الشمال، وأعلموا الروم أنهم غير عاجزين عن الجمع والسير للقتال. وكانت غزوة ذات أثر في تمكين هيبة المسلمين في القبائل الشمالية، ومحو ما أصاب المجاهدين في مؤتة، والتمهيد لإقامة سلطان الإسلام في تلك الأرجاء.
4
ثم أعد الرسول جيشا للمسير إلى البلقاء حيث تراجع المسلمون في غزوة مؤتة، وجعل عليه أسامة بن زيد أول قائد للمسلمين في تلك الغزوة، وتوفي الرسول واشتعلت الفتنة في الجزيرة، وسأل الناس أبا بكر أن يبقى الجيش ليقي المدينة غارات القبائل المرتدة، ولكن خليفة رسول الله أصر الإصرار كله على أن ينفذ الجيش الذي أعده رسول الله، فسار الجيش إلى حيث أمر الرسول، فغنم وسلم. وذلكم في السنة الحادية عشرة، وهو تدبير عظيم لم يلقه الروم ومن والاهم من العرب بكفايته من الاهتمام والتفكير.
5
وبعد سنة وأشهر من رجوع جيش أسامة، وذلكم أوائل السنة الثالثة عشرة، عزم المسلمون على فتح الشام، وسير أبو بكر جيوشا أربعة لهذا الفتح، وتتابعت الوقائع إلى الموقعة الحاطمة موقعة اليرموك، التي جعلت هرقل يودع الشام وداعا لا لقاء بعده. وقد أدار هذه الموقعة الفاصلة خالد بن الوليد، القائد الذي شهد مؤتة وانحاز بجيشه فخلصه من براثن الموت. ولولا ضيق المجال لفصلت القول، وسردت الحوادث، مبينا عن الصلات الجامعة والقرابة الواشجة بين هذه الأحداث.
تلكم صور متفرقة في كتب التاريخ، شتيتة في رأي مطالعيه، ولكنها في الحق أوجه لحقيقة واحدة، أو أمواج من بحر واحد، أو فصول متتابعة من كتاب، أوجه من هذا اليقين الذي ملأ قلوب العرب المسلمين، وأمواج من هذا الجهاد الذي اعتزمه العرب المسلمون، وفصول من هذا المجد الذي سطر العرب المسلمون قصته؛ أولها خالد ينحاش بجيشه ليقيه غائلة الروم، وآخرها خالد يقدم بجيشه ليمحو سلطان الروم، ويمد سلطان المسلمين على الشام وما وراء الشام، وفي ثناياها حقائق من الأخلاق والسنن والتاريخ، هي التي تجلت سريعا فجمعت في سلطان العرب المشرق والمغرب، و
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب .
أيام العروبة تبدأ في سورية!
سورية الكريمة العزيزة، سورية الجميلة الجليلة، سورية العربية الأبية، سورية الشجاعة الجريئة المجاهدة، تغسل عنها العار، وتستقبل الكرامة، وتبسم للحرية بعد أن طال عبوسها للعبودية، وتطوي صحيفة لعدوها سوداء؛ لتنشر صحيفة لنفسها بيضاء، وتختم جهاد المعتدين لتبدأ جهادا في الحياة السعيدة المجيدة، وتستأنف سيرتها العظيمة لتصل حاضرها الكريم وماضيها الخالد بمستقبلها الوضاء.
دمشق العتيقة الحديثة، دمشق الماضية الحاضرة، التي ثبتت للخطوب ثبات «قاسيون»، وابتسمت للمحن ابتسام مروجها وجنانها:
دمشق! مجتمع الأحداث قد زخرت
فيها كما اندفقت في البحر أنهار
دمشق، قد استدار لها الزمان، ورد عليها الدهر مجدها المنشود، فهي اليوم ظافرة، فرحة، تأسو جراها، وتعد للمستقبل عدتها، قد انجلت عنها الغمرات، كما ينجلي النقع عن البطل المرزأ يعصب جراحه، ولواء النصر في يده:
مرزأ بتلقي الخطب منصلتا
تنشق عنه من الأهوال أجفان
ليت شعري كيف الغوطة والربوة ودمر والهامة، اليوم؟!
أترى أشجارها تتمايل طربا، وأوراقها تصفق فرحا! وكيف قاسيون ذو القمة الجرداء والسفح الأخضر؟
نسر يرى اللوح منه هامة عطلا
لكنه ذنب الطاوس جرار!
كيف هذا النسر اليوم؟! أتراه شمخ برأسه عزة بعد أن رمى عنه آثار المذلة، وحلق على الرياض فرحا في هذا النهار بعد أن وقع كئيبا في ذلك الليل!
وكيف «بردى» ذو الفروع السبعة؟! أهو اليوم جذلان مطرد يصفق ماؤه بنسيم الحرية، وتمحو جريته الظلال البغيضة التي تراءت على صفحته في سنى الاستعباد؟!
وليتني أرى الآن جامع بني أمية، هل نطقت جوانبه تسبيحا وتهليلا؟
وهل تهم قبة النسر بالتحليق كما يحلق الطائر الوحشي قطع الشرك أو انفتح عنه المحبس؟!
1
وكيف أبطال تاريخنا في المدينة وحولها؟! كيف معاوية والوليد؟ وكيف نور الدين وصلاح الدين؟! وكيف الظاهر والعادل؟!
وكيف أبطال الجلاد في عصرنا، الذين نازلوا الباطل المدجج عزلا فزلزلوه حتى هدموه؟!
وليت شعري هل انبعث الأذان من قبر بلال في مقبرة الباب الصغير إيذانا بالفجر من هذا العهد المبارك؟ •••
وحلب الشهباء، مدينة سيف الدولة والمتنبي، حلب التي أمدت الثغور بأبنائها قرونا، ودفعت الروم عن الشام عصورا، كيف جذلها اليوم وأين متنبيها، ينشد قصائد المجد ليرويها الدهر؟
وكيف قلعة حلب اليوم وقد لفظت المذلة، واعتزت بما فيها من آثار المجاهدين الأولين؟
لقد دخلتها أول مرة - قبل خمسة عشر عاما - ورأيت جنود السنغال فيها يخطرون، وينهون ويأمرون، فأنشدت وفي النفس ما فيها من حسرات:
سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزم
فقد رفع اليوم عليها لواء الحرية، ورحض عنها عار العبودية، فحالت بناء جديدا، ومرأى حميدا، وكأن كل شيء فيها قد استحال !
ليت شعري هل نطقت فيها الآثار الصامتة، وضحك على بابها الأسد الباكي؟
2 •••
وليتني اليوم في حمص أقف في روضتها، كما وقفت من قبل أستمد من ضريح خالد بن الوليد كل معنى جليل!
ليتني اليوم على قبر خالد أبشره أن الزمان قد استدار، واستقلت الشام بأبنائها الأحرار!
فليصفق نهر العاصي طربا، وليزهر الديماس فرحا، فقد أقبل الربيع بربيع الحرية الناضر، وعهدها الزاهر:
يا دار هذا أوان السعد فاغتبطي
لا عادك النحس بعد السعد يا دار
وحماة المجاهدة، هل تبدل أنين نعيرها غناء، واستحالت دموعها في البساتين ماء؟! ما أجمل غناء النواعير في حماة اليوم!
قد مضى عهد البكاء، فليدم اللهم هذا الغناء! وكيف أبو الفداء في قبره اليوم؟
يا أبا الفداء، لقد طال الهجود، فقم وأضف إلى تاريخك هذا الفصل الجديد! •••
يا سوريتنا الجميلة الحبيبة، حيا الله فيك كل مدينة وقرية، ونضر كل دارة وبقعة، وحباك السعد مطردا مع الزمان، دائرا مع السنين.
ورحم الله كل مجاهد أمدك بحياته، وسقى ترابك بدمه، وثوى في الأرض كلمة باقية في سطور تاريخك الخالد.
ونضر الله وجوه المجاهدين الأحياء الذين صبروا وصابروا، وبسموا للخطوب السود في الظلام المكفهر، حتى تبلج الصباح:
فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا .
وحيا الله هذا الرئيس الأمين، الطاهر القلب، المبارك الناصية «شكري»، شكر الله مساعيه، وحيا أصحابه الكرام، وحيا كل من شارك في تحرير سورية، بيده أو لسانه.
وبعد: فيا سوريتنا العزيزة، قد رفع الزمان الأعباء عن كواهل الأعداء، فوضعها على كواهل الأبناء، فليحملوا أعباء الواجب؛ وليؤدوا تكاليف المجد، وليبنوا مستقبلهم بأيديهم لأبنائهم، وليعلموا أن حاضر العرب يؤمل فيهم، وماضي العرب ينظر إليهم، ومستقبل العرب ينتظرهم، فليجمعوا القلوب والأيدي، وليحسنوا البناء.
ألا إنه قد فتحت لهم صحائف في التاريخ جديدة، فليجيدوا الكتابة في هذه الصحائف التي تخلد كل شيء؟
إنهم يبنون أجيالا، ويكتبون تاريخا، فلينظروا كيف بناء الأجيال وكتابة التاريخ؟
يا سورية الجميلة، إن أبناءك اليوم في رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .
مكانة العرب بين الأمم
تخلد الأمم على وجه الأرض وتحيا على مر الدهور وتثبت في صفحات التاريخ بأسباب وقوانين، ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المواتية، والقوانين السارية، قوة وضعفا، وإبطاء وإسراعا، وضيقا واتساعا، وهي أسباب متصلة متشابكة، يؤدي بعضها إلى بعض، ويمسك بعضها بعضا، من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس ، وعظم التاريخ على مر الدهور.
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطنا فسيحا وسطا بين المواطن، فياضا بالخيرات، بعيدا من الآفات الطبيعية المدمرة. موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم، ومثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر، بين نجد إيران وجبال طوروس إلى البحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط إفريقية.
وهو موطن شاسع الأرجاء، يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجري فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة والبراري والصحاري والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب، والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية، والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان.
وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها، فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيدا من طرق المهاجرات، فبقي يطبع الأجسام القوية، والطباع السليمة، والفطر الخالصة، ثم يمد بها أجزاء الموطن العربي الكبير، كلما نالت الخطوب من أهلها، أو أترفتهم الحضارة، وما يزال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدورة له، ونبتت على عبريه الزورع والأشجار، وحيت الأمم.
ما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل، فإن بليت الأمم فهذه الأمة لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شموسه وهواؤه وأرضه تنمي الأجسام، وتطبع الأقوام.
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضا، ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها، ومحال أن تعمها كلها الحوادث، إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها، فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها، والعرب من أقوى الأمم أجساما وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء، وعجبا وفخرا. والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه، ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ من مصاهرتها، وقديما أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثا قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان، وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق، قال هذا العربي المجاهد وهو ليس رئيسا ولا زعيما: «وا سوأتا! أأسوى أنا بالرومي؟! إنه لذل عظيم.» بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء، فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد. فبهذا الشعور بالعلا والعظمة يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم، وقديما قال شاعرهم:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما رهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضمانا لما التزم من خراج، وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى، وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها
وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
والمثل أكثر من أن تذكر في هذا المقام، وأبين من أن تبين. إذا حاطت الأمة القوية أنفسها وخصائصها بأخلاق قوية كفلت دفع الخطوب عن حوزتها، ولا سيما الأخلاق الإنسانية العزيزة التي تأبى للأمة أن تخضع فتذل فتفنى، والعربي في جاهليته وإسلامه أبي حر، يأنف أن يستعبد أو يستعبد، وقد أمده الإسلام بفضائل سيرته على وجه الأرض كالنجم: لا يضل ولا يكل، وجعلته قانونا من قوانين الله يسير إلى غايته مسير الشمس والقمر في حبك السماء.
وكلما أخرجت الأمة من عمل أيديها، وأظهرت من نتاج عقولها، ونشرت من ثمرات أخلاقها وآدابها، زادتها صناعاتها وعلومها وآدابها رسوخا على الأرض، وثباتا على مجرى الخطوب.
ولا يعرف التاريخ أمة أثرت على وجه الأرض، وشادت في الآفاق وفي الأنفس أكثر من العرب.
لا يعرف التاريخ أمة حملته أكثر مما حملوا، أو جملته أحسن مما جملوا، أو سيطرت عليه أعظم مما سيطروا، أو سطرت على صفحاته أجل مما سطروا.
فإذا تركنا التاريخ القديم: من معين، وسبأ، وحمير، ومن بابل، وأشور، فهل يحدثنا التاريخ عن أمة طلعت على العالم بمثل ما طلع العرب؟ همة ذللت المشرق والمغرب في سنين، ونية تريد الخير للناس أجمعين، وعدلا يسوي بين الجبارين والمستضعفين، بل يمحو من الأرض كل جبار ومستضعف، ويقف الناس جميعا إخوة على سنن من العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والأخوة الشاملة.
هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات، فإذا معظم العالم المتحضر متعاون على نسج حضارة واحدة عظيمة، كل أمة على قدر مواهبها وقواها، فوصلت ما انقطع من سير الحضارة، وقطعت ما اتصل من سير الجبروت والاستعباد، والشر والفساد، وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصدا إلى إصلاح الناس وعمران الأرض؟ وقد ربط التاريخ ذكرى العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر، وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي.
لا أقول: إن الإسلام صنع العرب، فالإسلام صنع الله، ولكن العرب كانوا أول من حملوا هذه الأمانة فحملوها، ودعوا إلى هذه المعالي ففقهوها، وكلفوا نشرها فنشروها، فكأنما خلقت لهم، أو خلقوا لها، وكانوا أحق بها وأهلها. وللأمم الإسلامية بعد هذا فضل لا ينكر. ثم أدب العرب، هل يعرف العالم أعظم منه سعة رقعة، وطول مدة وجمالا وجلالا؟
وإذا ثبتت الأمم بنيانها على كر العصور بالسير المجيدة، والمثل العالية، فعند العرب سير رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان!
وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب، فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض، والخلود في سجل التاريخ.
وحسب المجادل أن يسير فكره بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات إفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرنا؛ ليرى مجد العرب، ويبصر حجة العرب.
ولا نقول: إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا، ولكنا نقول: إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة. والأمم تدل على فضائلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق. وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطي جماد، والنبات يأخذ قليلا ويعطي قليلا، وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم يصح الاعتبار، ويطرد القياس.
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكينا في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل، وتخلي لها سبيلها في الحياة.
وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعي بين الأمم مشكور، إلا من ضل به الهوى، أو جار به الحسد. وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم، ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق، ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيرا للبشر، وسلامة للناس أجمعين.
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة، أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة، والإحساس المرهف، والإدراك النافذ، لغة كاملة معجبة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس. تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير، ونبضات القلوب ، ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظا غير ما وضعته لشبيهه، إدراكا للفرق الدقيق بينهما.
فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلا كلمة واحدة، وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم، وإذا دلت اللغات على صفات الوجه الإنساني مثلا بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان، وكل صفة في عينه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة. وليس هذا مقام التمثيل والتفصيل.
ثم هذا الإحساس الحاد الدقيق المتمثل في المفردات، يتجلى في التركيب مدهشا، فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم، أو تحس بها الكلمة نفسها؛ لتعطي صوتا مكافئا لهذه المكانة، فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر، وما أرى هذا إلا ضربا من الحياة في الألفاظ والتركيب يبين عن أدق الإحساس وألطفه.
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة مادة وقوالب يستعملها صاحبها حين الحاجة، فيها مادة ووزن، فخذ المادة أو اخلقها أو استعرها من لغة أخرى في قالب من قوالب الأسماء والأفعال، وصورها بالقوالب والأوزان ما تشاء، فلغتنا تدل بالمادة والوزن، وبالصيغة والهيئة، فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا حدت اللغة، واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها.
للأسماء أوزان وللأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي، وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية.
قيل: إن لغتنا صعبة بهذه المفردات، وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها، وتعجز طالبها. وهذا حق لا ندفعه، وإن عد عيبا فلا ننكره، ولكنه ليس من نقصان في خلقها، أو اختلال في بنيتها، أو عجز في موادها وأوزانها، ولكن نتيجة التطور الكامل، والنمو التام؛ فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيبا، والكمال يصحبه التركيب والتفصيل، والأشكال والإعضال. اعتبر هذا في النبات والحيوان، في الحيوان ذي الخلية الواحدة والإنسان، ثم انظر المراتب بينهما، واعتبر هذا في البداوة والحضارة، وفي أنواع الحضارات التي تجد النقص بساطة ويسرا، والكمال تركبا وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة حية دقيقة مؤاتية، حية حساسة، موسيقية متلائمة.
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تعي ولم تضق بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة، بل وسعت حضارة القرون المتطاولة، والأمم المختلفة، غير كارهة ولا مكرهة.
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه، وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا كلمات وآيات، وجزيت على هذا خلودا ما خلد في الإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك. وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن وهي ثابتة، ناضرة، رائعة، ثبات قوانين الله، وروعة كواكبه، خمسة عشر قرنا محت لغات، وخلقت لغات، وبدلت لغات، وحرفت لغات، والعربية هي العربية لم تمح ولا تبدل، ولم تغير، وما آية الخلود بعد هذا؟
ولم تبق هذه العربية لغة العرب وحدهم، بل ثقفتها الأمم الأخرى، وأولتها من الحفاوة والعناية أكثر مما أولت لغاتها أحيانا، فصارت لغة العلوم والآداب للعرب وغير العرب حقبا طويلة، ما بين أقصى المغرب وأقصى المشرق.
وقد حوت على مر العصور أدبا لا تحويه لغة أخرى، أدب موطنه ما بين الصين إلى بحر الظلمات، وزمانه أربعة عشر قرنا، ولا نعرف في آداب العالم قديمها وحديثها أدبا اتسعت به المواطن هذا الاتساع، أو امتد به الأعصار هذا الامتداد.
فالعربية بأهلها، وموطنها، وخصائصها، وآدابها، وتاريخها، والعربية بقرآنها خالدة باقية على الخطوب والعصور لغة دين وعلم وأدب وحضارة وإنسانية. فهل تنصرها همم أبنائها؟ وتستجيب لها عزائمهم؟
وديعة مدينة سالم
1
محمد بن أبي عامر، شاب عربي، آباؤه من معافر، وخئولته في تميم، دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلس في جند طارق بن زياد، وارتقت بأسرته الأمور، حتى عدت في أسر الوزارات في الأندلس.
نشأ محمد نجيبا، طموحا، هماما، تبشر مخايله بنباهة شأنه، وتعد همته بعظيم مستقبله، بل تكفل آماله سؤدده، ويضمن عزمه مجده. سهر ليله وهو طالب علم يفكر فيمن يوليه القضاء إذا آل إليه أمر الأندلس. والمرء حيث يضع نفسه.
صار من أعوان قاضي «قرطبة» محمد بن السليم، ثم وكيلا لولي العهد هشام بن الحكم المستنصر، وتداولت كفايته وحزمه المناصب إلى أن ولي شرطة «قرطبة» سنة إحدى وستين وثلاثمائة، فضبط الأمور، وقمع الأشرار، ثم دعاه الغزو فلبى، فاجتمعت له الشرطة وقيادة الجيش.
فأما حزمه في الشرطة، فقد قال فيه صاحب «البيان المغرب»:
فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من الكفاة وأولى السياسة ... ولقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو، فكشف الله عنهم - بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه - فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى ارتفع الباس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان، حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر في أيامه جملة.
وأما الغزو فكان قائده المظفر، وبطله المحبب. وسيأتي حديثه.
ما زال ابن أبي عامر يرقى منصبا إلى منصب، ويعلو مجدا إلى مجد كالنسر يعلو مرقبا إلى مرقب حتى يوفى على القنة، فلما توفي الحكم المستنصر وآل الأمر إلى طفله هشام، اجتمع له الأمر كله، وظفر بأعلى مناصب الدولة؛ حجابة الخليفة، ثم وكله إلى ابنه عبد الملك، وجعل له القيادة العليا وسائر مناصبه، وجعل ابنه عبد الرحمن وزيرا، وسما هو إلى السلطان الأعلى وتسمى المنصور، وأمر أن يكتب عنه: «من المنصور بن أبي عامر - وفقه الله»، ثم كتب إليه باسم: «الملك الكريم».
2
ملك ابن أبي عامر الأندلس ستة وعشرين عاما، يدبر شئونها بعدله، ويعمرها ببره، ويجملها بأبنيته، ويضرب أحسن الأمثال في البأس الذي لا يخالطه جور، والعدل الذي لا تشوبه هوادة، والإنصاف الذي لا يميز قريبا من بعيد ، والحكم الذي لا يعرف إلا النصفة والمساواة، والنفاذ على كل الناس في كل الأحوال.
ولم تكن سياسته العادلة الحازمة أعظم من قيادته المظفرة، حتى لقد جاوزت غزواته أقصى غزوات الناصر، وحارب حيث لم يحارب قبله أمير من أمراء الأندلس.
غزا خمسين غزوة، كانت الثامنة والأربعون منها إلى «شنت ياقوب» على البحر في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، ولم يحاولها قبله ملك عربي في الأندلس.
قال صاحب «البيان المغرب»:
ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان.
3
هذه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، والمنصور بن أبي عامر يعزم على غزو «جليقية» في أقصى الشمال والغرب وهو مريض، ولكنه كما قال أبو الطيب:
وقد علمت خيله أنه
إذا هم - وهو عليل - ركب
وسار من «طليطلة» إلى «قشتيلة»، فأبعد الغارات فيها، ودوخ بلاد «شانجة» زعيم الأمراء المناوئين هناك.
وازداد بالبطل مرضه «فاتخذ له سرير خشب، ودع عليه أعضاءه، وسوى مهاده، متطاول الشكل، يمكنه الاضطجاع عليه متى خارت قواه، وكان يحمل سريره على أعناق الرجال، وسجفه منسدل عليه، وعساكره تحف به وتطيع أمره،
1
وكانت تحمل سريره السودان الرقاصة؛ للين مشيهم. بذلك قطع أربعة عشر يوما حتى وصل إلى مدينة سالم.»
2
المنصور في قصره من «مدينة سالم» قد استولى على الأمد من مجده، وأوفى على الغاية من عمره، ينظر إلى الحوادث الجسام قد اتخذها درجا إلى المعالي، ويتمثل الزمان رخاءه وشدته، وسلمه وحربه، ويرى الأندلس كلها وأصقاعا من المغرب طوع حكمه، وتحت أمره، ويشفق من تبعات هذا التاريخ المتطاول، وأعباء هذا السلطان العظيم، ويرى كل شيء وراءه، ولا يرى أمامه إلا الموت، يقول:
إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما فيهم أسوأ حالا مني. وددت أن أقال زلتي وأنا كبعض هؤلاء السودان الحاملين لسريري.
وأخذ الرجل العظيم يوصي أمراءه وجنوده، وخلا بولده عبد الملك يوصيه ويودعه، ويقبض على يده، وكلما ذهب عنه استرده مستدركا بوصيته، وعبد الملك يبكي، فينكر عليه ذلك ويقول: هذا أول العجز والفشل.
3
أوصى عبد الملك وصية الخبير المحنك الأريب المجرب، وأفرغ في أذنه وقلبه تجاريب عشرات السنين، ولم يترك عظيما من أمور مملكته وأسرته إلا بينه.
ثم أمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر ، ويعود هو إلى «قرطبة» ليتدارك أمور الملك.
4
ابن أبي عامر في «مدينة سالم» في أقصى الجزيرة الأندلسية، كالأسد أبعد في مسراه، والنسر غالى في تحليقه، يختم مجده مجيدا، وينهي جهاده مجاهدا، ويختم قصيدة ظفره ببيت رائع، وسجل مجده بسطر بليغ، قصيدة مطلعها الطموح، ومقطعها الظفر، وسائر أبياتها الهمة التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تنثني، وسجل مقدمته طموح طالب علم في «قرطبة»، وخاتمته ملك حازم، وقائد مظفر، ومجاهد غاز في أقصى الثغور.
ليلة الاثنين لثلاث بقين من رمضان عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة في «مدينة سالم» مات الرجل النابغة، والعبقري الداهية، ودفن في قصره هناك، وكان أوصى أن يدفن حيث يقبض، ولا ينقل تابوته. وأراد أن يجعل قبره في الثغر القصي دعوة إلى الجهاد دائبة، ومثلا في المجد سائرا، وحرزا على الثغور حريزا، ورباطا على الحدود مشهودا!
ليت شعري أين قبر المنصور من قصره من «مدينة سالم»؟ بل ليت شعري أين تاريخ ابن أبي عامر من صدور شبابنا، وكتب مؤرخينا، وأقلام كتابنا، وقصائد شعرائنا؟
يا شعراء العربية، من ينظم القصيدة الرائعة التي عنوانها: «وديعة مدينة سالم»؟!
لا تحزنن!1
هذه أبيات لحافظ الشيرازي الشاعر الفارسي ترجمتها نظما، وحافظت فيها على وزن الأصل وقافيته، لأجعلهما مثلا لما في الشعر الفارسي من أوزان وقواف.
فأما الوزن: فهو الرمل المثمن؛ أي ذو التفعيلات الثمان، والمعروف في العربية أن الرمل لا يزيد على ست تفعيلات.
وأما القافية: فهي المردوفة، والرديف - في العروض الفارسي - كلمة وكلمات تكرر في أواخر الأبيات، فيلتزم قبلها روي يعتمد عليه النظم:
يوسف - المفقود في أوطانه - لا تحزنن
عائد يوما إلى كنعانه، لا تحزنن
بيت الأحزان تراه عن قريب روضة
يضحك الورد على بنيانه، لا تحزنن
رأسك الأشعث يوما سوف يلقى زينة
ويفيق القلب من أحزانه، لا تحزنن
هذه الأفلاك إن دامت على غير المنى
لا يدوم الدهر في حدثانه، لا تحزنن
أيها البلبل يأتيك ربيع ناضر
تستظل الورد في أغصانه، لا تحزنن
لست تدري الغيب في أسراره، لا تيأسن
كم وراء الستر من ألوانه، لا تحزنن
وإذا جزت إلى الكعبة يوما مهمها
فدهاك الشوك من سعدانه، لا تحزنن
ومحيل الحال يدري حالنا بين العدى
والهوى والحب في هجرانه، لا تحزنن
يا فؤادي إن يسل بالكون طوفان الفنا «فلك نوح» لك في طوفانه، لا تحزنن
منزل جد مخوف ومراد شاحط
لم يدم فج على ركبانه، لا تحزنن
حافظ! ما دمت في الفقر وليل حالك
في دعاء الله أو قرآنه، لا تحزنن
في معترك الخطوب
الحوادث في عراك دائم، والتاريخ في سيل مستمر، وإنما تبقى الأمم في معترك الحوادث، وتثبت في سيل التاريخ، بعقل يرشدها، وخلق يثبتها، وعمل تدفع به عن حياتها، وتؤثر به على الأرض آثارها، وتسطر به في التاريخ ذكرها. كم أمة جرفتها الحادثات، وذهب بها الزمان كما يذهب السيل بالغثاء! وكم أمة ثبتت في مجرى الأحداث كالصخور ينشق الماء عنها ويذهب وهي باقية راسخة!
والأرض ترجف اليوم بخطوب جسام، وتزلزل بأهوال لم يشهد التاريخ مثلها، تتصادم فيها الأمم بعددها من العلم والصناعة والخلق المتين، والنظام المحكم، والجد الدائب، تحترب الأمم في معارك على الأرض، وفي الماء والهواء، وتحترب في المدن والقرى، وفي المصانع والدور، ووراء هذا كله تتحارب بعلمها وخلقها. وقد خرت بعض الأمم على قوتها وكثرتها في هذا الجلاد، وثبتت أمم لا تزال تتناحر وتتفانى بكل ما عرف العقل والعلم والصناعة، وبكل ما أدرك الشيطان من وسائل التدمير والتخريب والقتل والفتك، ترسل بنيها إلى الوقائع حطبا لهذا الجحيم، ويصب عليها العذاب من السماء صبا، وكم تحطمت طائرات وسفن، ومدافع ودبابات، وخرت حصون وتهدمت بيوت، ولكن إرادة الإنسان، وعزيمة الإنسان، وعناد الإنسان، لم تتحطم أو تكل.
وقد دلت بعض الأمم في هذه الحرب على أن صبر الإنسان لا يهزم، وخلق الإنسان لا يدمر، فهزئت بالحوادث وهي هائلة، واستخفت بالهزائم وهي ماحقة، واستنارت بالأمل والظلم مطبقة، واستمسكت بالصبر والخطوب مزلزلة، واعتصمت بالعزة والإباء في العواصف الهوجاء، وما زالت حتى أخرجت من الهزيمة نصرا، ومن القلة كثرة، ومن الضعف قوة، وأثبتت للجاحدين أن الله مع الصابرين.
وما تزال الخطوب متصادمة، والأخلاق متلاحمة، والحوادث متلاحقة، عبرة لمن يعتبر، ومثلا لمن يمتثل، وذكرى لمن كان له قلب. ما يزال الزمان يشهد أعظم وقائعه، ويرى أكبر عبره، وينطق بأكبر عظاته، وفي الأمم من اتعظت بنفسها، وفيها من اتعظت بغيرها، وفيها من مرت بها العظات وهي غافلة، وزلزلت الأرض تحتها وهي راقدة، كأن الذي حولها أحلام هائلة.
وهذه الأمم المتناحرة المتفانية تلقي عينا على الحاضر، وأخرى على المستقبل تدبر هذه الواقعات المدمرة، وتعد لما بعد الحرب الخطط المعمرة، وتقبس من هذه النار الحاطمة؛ لتنير المستقبل المرجو، ولا يذهلها يومها - وهو مذهل - عن غدها، ولا يشغلها حاضرها - وهو شاغل - عن مستقبلها، ولا ينسيها العالم الشقي صورة العالم السعيد الذي تنشده. •••
ونحن - والحمد لله - في عافية مما ابتلي به غيرنا، نسمع ضوضاء المعارك وأنباءها، وتحيط بنا خططها وآثارها، ولا ندفع في مضايقها، ولا نصلى بنارها، ولا نحمل مصائبها. نحمد الله على هذا، فهل نحمده كذلك على أننا في عافية من عناء التفكير والتدبير والتشاور والقطع برأي في حاضرنا ومستقبلنا؟! وفي عافية من أن نشارك العاملين للمستقبل برأي نشير به، أو خطة نضعها، أو مطلب نصر عليه؟! لعلنا أوفر أمم العالم نصيبا من الفراغ في هذا الوقت، فلماذا لا نكون مثلهم تفكيرا في المستقبل، وشغلا بالحاضر؟ لماذا لا نأتمر بيننا، وندبر الرأي فيما عسى أن نلقى بعد الحرب من مشاكل ومصاعب. إننا ننتظر القضاء؛ قضاء الناس لا قضاء الله! وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي. وقد رضينا أن نصدق قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب كعب
ولا يستأمرون وهم شهود
أقول: نحن، وأريد الأمة العربية كلها، نحن لا نلقى الحوادث بعدتها وكفايتها من التفكير والحزم وجمع الكلمة. لا يجتمع أهل المملكة الواحدة على رأي جامع، وخطة عامة تلتقي عندها مطالبهم أو أمانيهم، ولا يسارع أهل الأقطار كلها إلى البت برأي فاصل فيما يحزبهم من أمور الحاضر، وما يهمهم من قضايا المستقبل، وحسبي مثل واحد من أمثال.
تشعر البلاد العربية بحاجتها إلى التعاون والتقارب، والسير على خطة واحدة في الأمور التي تعمها، وقد أوحى إليها هذا الشعور معرفتها أنها على اختلاف الأقطار أمة واحدة، يؤلف بينها ما يؤلف بين الأمم الواحدة على هذه الأرض، والحقائق الماثلة تصدق هذا، والتاريخ يؤيده، والضرورات والحاجات تدعو إليه. وقد فكر قادة الرأي في الأقطار العربية في أن يحققوا هذه الأماني، فيوحدوا بين العرب ويجمعوهم على نظام واحد، أو نظم متقاربة في أمورهم المشتركة.
ولا ننكر أن الإنكليز نبهونا إلى هذا مرة بعد مرة، وقد مضت سنوات وأوشكت الحرب أن تنتهي، فماذا فعلنا؟ لا أدري! إن الأمر فيما أرى أوضح من أن تضطرب فيه الآراء، وأيسر من أن تقعد دونه الهمم، والزمان ضنين بفرصه، والحوادث لا تعرف الهوادة. إننا لا نصطنع أشياء، ولا نلفق أمورا تصادم الحقائق أو تخالف الرغبات، ولكنا نعالج حقائق ماثلة معترفا بها، نريد أن ننظمها وننتفع بها. ومن تنصره الحقائق وتواتيه الرغبات لا يجد عسرا فيما يحاول.
لو اجتمع ممثلو البلاد العربية الرسميون، أو أتيح للقادة غير الحكوميين أن يجتمعوا، ثم وضع هؤلاء أو هؤلاء خطة، وجعلوا للعرب ميثاقا لا يقبل جدلا ولا ردا، لو فعل هذا للقينا الحادثات بما تطلبه، وأعطينا الفرص ما تستحقه، ولأخذنا السبيل على القال والقيل، ولاسترحنا من الرجم بالظنون والأقوال.
إن لنا الثقة كل الثقة بمن تصدوا لهذا الأمر، واضطلعوا بهذا العبء، واحتملوا مختارين هذه التبعة العظيمة في الوقت الحرج، ورأوا في أنفسهم الكفاية لحمل هذه الأمانة التي تسألهم عنها الأجيال الحاضرة والآتية، ولكنا نسألهم سؤال الحريص على طلبته، ونستعجلهم استعجال القلق على أمنيته.
إنه لا يجدر بنا أن ننام والحوادث يقظى، ونبطئ والخطوب تسرع، ولا نلقى الحادثات بعدتها من التدبر والعزم، وجمع الكلمة، وإجماع الرأي، وسرعة الفصل.
التأليف والنشر في مصر
حدثني بعض الأصدقاء أن أحد أصحاب المعالي ووزراء الدولة في الحكومة القائمة، دعا إليه جماعة من الكتاب، وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين، ووعد في هذا وعودا حسنة إلخ.
وهذا رأي محمود نرجو أن يتلوه العمل، فيؤتي ثمراته بعد حين، وهذه فرصة أنتهزها للتنبيه إلى أمر طالما أهم المفكرين من قراء العربية في الشرق والغرب، وطالما ترددت منه الشكوى، وأخذت به مصر قبل الأقطار الأخرى، ذلكم أمر النشر، نشر الكتب القديمة والحديثة التي مات مؤلفوها، فهو أمر تتحكم فيه الفوضى، يستطيع الواحد من تجار الكتب أن يعمد إلى كتاب من الأمهات في الأدب أو في التاريخ أو غيرهما، ويعهد به إلى من يصححه ويقدمه للطبع، وحسب هذا المصحح أن يستطيع قراءة الكتاب قراءة يتصرف فيها خياله وحظه القليل من العلم، ونشاطه الذي تحده المكافأة القليلة التي ينالها من الناشر، ووجدانه الذي لا يحفل بالأمانة العلمية كثيرا.
وأحيانا يتصدى لنشر الكتب بعض العارفين بأساليب النشر الحديثة، فيعهد في تصحيحه إلى بعض الأسماء النابهة، ويتخذ من وسائل الترويج ما يشاء له طمعه في الربح والصيت، فيستبشر الأدباء ويرجون خيرا، ويتربصون على قلق حتى يظهر الكتاب، فيكبوا على قراءته، فإذا الأمر لا يعدو ما ألفوه من طرق النشر التي لا تصوب غلطا، ولا تزيل شكا، ولا تنال طمأنينة القارئ. لا يعوز الباحث أن يتابع الأدلة من الكتب المشوهة، أو الكتب التي بذل في تصحيحها جهد قليل قصر بها دون الغاية.
نشر بعض الناشرين كتابا قديما في الفرق الإسلامية، فمر على أغلاطه لم يعرض لها، وحرف بعض عبارات ظنها غلطا وهي صواب، وحسبي أن أذكر من فعلاته هذه الواحدة:
ذكر المؤلف رجلا فنسبه إلى قبيلة، وقال: إنه «من ثور همدان»؛ أي قبيلة ثور إحدى قبائل همدان، لا قبيلة ثور الأخرى إحدى قبائل مضر، فحرف الناشر الكلمة إلى «ثغور همذان»، وامتن على القراء في الحاشية بأنه أدرك الحق في هذه الجملة المحرفة!
وأذكر أن ناشرا عمد إلى ترجمة كتاب «كلستان» للشيخ سعدي الشيرازي، الشاعر الفارسي العظيم، فطبعه وكتب على صفحة العنوان: «كتاب جلستان، بقلم العلامة جلستان الفارسي».
وليس العهد بعيدا بكتاب «معجم الأدباء» وما أهمل من غلطاته، وحرف من عباراته، وزيد عليه من شرح يتجلى فيه الخطأ والفضول، وقد أخرج للناس في موكب من التشهير والترويج، وهو في الحق حري أن يكون عيبا لمن أخرجه، وعارا على وزارة المعارف التي احتملت التبعة فيه، فكتبت على صفحة العنوان: «راجعته وزارة المعارف».
وكنت كتبت خمس مقالات في نقض الجزأين الأول والثاني، ثم وعدت القارئ أن أعود إلى النقض بعد أن تطبع الأجزاء الأخرى؛ لأبين أهي خير من هذين الجزأين أم مثلهما؟! ولعلي أفي للقراء بهذا الوعد بعد هذا المطال الطويل.
بل كتب الأدب التي بأيدي الطلاب في مدارس الوزارة فيها كثير من الغلط، وإذا وقع الغلط والتحريف في مثل هذه الكتب، فماذا يرجى من الكتب السوقية التي يتولى نشرها تجار أكبر هممهم النفقة القليلة والربح الكثير؟
كان أسلافنا يكتبون الكتب بأيديهم، إذ لم يكن عندهم من وسائل الطبع والتصوير ما عندنا، فكان عليهم أن يصححوا كل نسخة من كل كتاب، وقد اضطلعوا بهذا العمل الفادح جهد طاقتهم، وبذلوا فيه من فكرهم وعافيتهم ونومهم وراحتهم ما تشهد به آثارهم وأخبارهم!
كان المتأدب منهم يقرأ الكتاب على أديب ثقة، ويكتب عليه أنه قرأه على فلان، ويغلب أن يكون الشيخ الذي قرئ عليه الكتاب قد قرأه على آخر، وهكذا حتى تنتهي القراءة إلى المؤلف أو الشاعر أو الكاتب ويكتب هذا السند المتصل على الكتاب، فيعلم قارئه أن بيده كتابا عمدة يطمئن إليه، بل فعلوا هذا في الدواوين المتواترة التي يتداولها الحفظ والنسخ كل حين، كديوان المتنبي. وعندنا اليوم نسخ منه تحمل سندها من أبي الطيب إلى سبعة قرون أو أكثر من بعده.
وهذا العكبري
1
شارح الديوان في القرن السابع لم يجز لنفسه أن يشرحه حتى قرأه على شيخين من شيوخ الأدب: مكي بن ريان بالموصل، وعبد المنعم بن صباح التيمي بمصر.
وقد وضع أسلافنا أصولا اصطلحوا عليها وسموها «أصول السماع»، بينوا فيها كيف يتثبت راوي الخبر أو راوي الكتاب حتى يتحرز عن الغلط جهده.
ومن عجيب ما يروى في هذا ما حدثني به بعض الثقات، أن القاضي عياضا ذكر في كتابه «الإلماع في أصول السماع»، أن أبا علي القالي صاحب الأمالي أعار الحكم المستنصر الأموي خليفة الأندلس كتابا من كتبه، وطالت غيبة الكتاب عنه، فلما رد إليه أبطل الرواية به وقال: لا آمن أن يكون قد أصابه تحريف وهو في يد غيري.
ذلكم جهد السلف ودأبهم في التثبت، على ما حملهم هذا من عناء ونصب، فكيف وقد تيسر طبع الكتب بما خلقت المدنية الحاضرة من وسائل، كيف نتهاون في التصحيح والتحقيق، فنخرج كتبا تنوء بأغلاطها؟ إن ناشر الكتاب اليوم يكفيه أن يصحح نسخة واحدة لتصح له آلاف النسخ، فيتواتر الكتاب، ويؤمن عليه الغلط والتحريف والزيادة والنقص من بعد. ليت شعري بأي عذر نعتذر، وبأي تعلة نتعلل؟ لا عذر، ولكنه التهاون والكسل، أو القصور والجهل! وفيها خيار لمتخير.
فالذي نرجوه أن تؤلف الحكومة أو تكل إلى الجامعة تأليف جماعة لمراقبة النشر، وبخاصة نشر الكتب القديمة، فلا يؤذن لناشر أن ينشر كتابا حتى تستوثق هذه الجماعة أن القائمين على تصحيح الكتاب أهل لتصحيحه وإخراجه على حال يسكن إليها أولو العلم والأدب، ولهم في لجنة التأليف والترجمة والنشر أسوة حسنة، ومثال صالح.
ذلكم أقرب إلى التحقيق، وأبعد من الفوضى، وذلكم أجدر بنا وأولى بسمعتنا، وأحفظ لتاريخنا وآدابنا، فإن توهم متوهم أن الخطب في هذا أمر يوكل إلى الزمن إصلاحه، ولا يحتاج إلى عناية الأمة والحكومة، فليسأل الباحثين من علمائنا وأدبائنا؛ ليشكوا إليه ما قاسوا من الكتب المحرفة والنصوص المضللة، وإنا لراجون أن تبادر الحكومة إلى تبشير الأدباء بما تعتزم في هذا الأمر العظيم، ثم تتبع البشرى العمل، والوعد الإنجاز.
زواج أمير عربي من أميرة هندية
1
ماذا يخط القلم في هذا الفرح المتلألئ، والسرور المزدهر، والقلوب الخافقة، والأيدي الصافقة، والزينات الساحرة، والأضواء الباهرة؟
ماذا يخط القلم في أمة - بل أمم - خفقت قلوبها حبا، وانطلقت ألسنتها دعاء، وتوجهت إلى هذا الوجه الأغر، والطلعة المباركة، إلى الملك الشاب الصالح، جلالة الملك «فاروق»؟!
ماذا يخط القلم، إلا أن يشارك العيون متعتها، والنفوس بهجتها، والقلوب أدعيتها، فيجول في مجال واسع من الفرح الحاضر، أو يقلب صفحات التاريخ عن صفحة من الجمال والسرور لألاءة، أو يطمح في المستقبل إلى حقب من المجد وضاءة، تظللها السعادة واليسر، والصفاء والبشر.
قلبت صفحات التاريخ، فعبرت من عرس إلى عرس، حتى وقفت على عرس كان في الهند في القرن الثامن الهجري، ورأيت من غرابته وطرافته ما يؤهله لأن يعرض على قراء «الرسالة» في هذا الأسبوع المبارك.
2
كان السلطان محمد بن غياث الدين تغلق شاه يملك «دهلي» وما يتصل بها، وبلاد «الدكن»
1
في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري «725-752ه»، وكان ملكا ذكيا سخيا، عظيم البطش، جبار السطوة!
وكان يحتفي بالغرباء الوافدين عليه، ولا سيما العزب، وخاصة من انتمى منهم إلى بيت النبوة، كان يبذل لهم من ماله، ويوطئ لهم من كنفه، ويبلغ من إكرامهم وإجلالهم ما يملأ النفس عجبا!
3
وكان آل ربيعة من طيء أمراء على قبيل عظيم من العرب في أطراف الشام في عهد الدولة الأيوبية ودولة المماليك ... كان ملوك مصر يستنجدونهم في اللزبات، ويفوضون إليهم الرياسة على القبائل، ويبالغون في إكرامهم إذا وفدوا عليهم، وقد قدم منهم: فرج بن حية على المعز «أيبك»، فأنزله بدار الضيافة أياما، وأنفق على ضيافته وهداياه ستة وثلاثين ألف دينار! وكان من أمرائهم في القرن السابع والثامن آل مهنى بن عيسى، «وكلهم رؤساء أكابر، وسادات العرب ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم، إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري»
2
4
قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مهنى على السلطان محمد، فأكرم وفادته، وأنزله بقصر في «دهلى» يسمى «كشك لعل»؛ أي القصر الأحمر، وجزل له العطايا، وأكثر الهدايا، ثم زوجه أخته الأميرة فيروز.
وكان الرحالة ابن بطوطة إذ ذاك مقيما بدهلي في كنف هذا السلطان، فشهد العروس العظيم، وتولى بعض شئونه، ووصف زفاف الأمير سيف الله والأميرة فيروز. فانظر كيف وصف:
ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا، عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها «الملك فتح الله »، وعينني لملازمة الأمير غدا، والكون معه في تلك الأيام، فأتى «الملك فتح الله» بالصيوانات، فظلل بها المشورين
3
بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جدا، وفرش ذلك بالفرش الحسان.
وأتى شمس الدين التبريزي، أمير المطربين، ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان.
وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية والتنبول داران،
4
وذبحت الأنعام والطيور، وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوما، ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلا ونهارا.
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين
5
من دار السلطان ليلا إلى هذا القصر، فزينه وفرشنه بأحسن الفرش، واستحضر سيف الدين، وكان عربيا غريبا لا قرابة له، فحففن به، وأجلسنه على مرتبة معينة له. وكان السلطان قد أمر أن تكون أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته، وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله، ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن، وانصرفن إلى قصر الزفاف، وأقام هو مع خواص أصحابه.
وعين السلطان جماعة من الأمراء تكون من جهته «الأمير»، وجماعة يكونون من جهة الزوجة، وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعة، فلا يدخلون إلا أن يغلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم آلاف الدنانير إن لم يقدروا عليهم.
ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر، وبشاشية مثل ذلك، ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة، وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل: ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدرجهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه.
ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل منهم عصا قد أعدها، وصفوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين، وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره، وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه، فأبى ذلك، وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر، فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه.
وأتى باب الصرف، ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة، فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية، وصرعوا كل من عارضهم فغلبوهم، ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات - وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله - ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج، مرصع بالجواهر، والمشور ملآن بالنساء والمطربات، وقد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن واقفات على قدم إجلالا له وتعظيما، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم
6
عند أول درجة منه، وقامت العروس حتى صعد، فأعطته التانبول بيدها، فأخذه وجلس تحت التي وقفت بها. ونثرت دنانير الذهب على رءوس الحاضرين من أصحابه ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ، والأطبال والأبواق والأنقار تضرب خارج الباب.
ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه، فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط، ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه، وجعلت العروس في محفة، وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره، والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النساء ماشيات، وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم، ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته، حتى أوصلوها إلى قصره.
ولما كان من الغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم، وأعطى السلطان كل واحد منهم فرسا مسرجا ملجما وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر، وكذلك لأهل الطرب - وعادتهم ببلاد الهند ألا يعطوا أحدا شيئا لأهل الطرب، إنما يعطيهم صاحب العرس - وأطعم الناس جميعا ذلك اليوم، وانفض العرس.
وأمر السلطان أن يعطى للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكنباية ونهر والة، وجعل فتح الله المذكور نائبا عنه عليها، وعظمه تعظيما شديدا. ا.ه.
على حافة الفجر وشاطئ النيل
الليل قد مضت ساعاته، ودارت دورتها نجومه، بين بعيد عن القطب قد غرب أو كاد، وقريب منه تزاور عن الأفق الغربي شطر الشمال والشرق. هذه بنات نعش الصغرى طائرات صوب الشرق، والفرقدان يتطلعان إلى أشعة اليوم الوليد وراء الأفق:
فاسأل الفرقدين عمن أحسا
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد
وبنات نعش الكبرى كادت تلامس الأفق، وكأنها جواد محضر على حافة الأفق يبغي مستقره قبل الصبح.
وها هي الثريا جاوزت جوز السماء، نازعة إلى أفقها البعيد في المغرب، تذكر بقول ذي الرمة:
وردن اعتسافا والثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق
1
ووراء الثريا الدبران يحث قلاصه؛ ليدرك خطيبته بهذا الصداق، لم ييأس منها على طول إعراضها، ولم يمل على تمادي المسير.
2
وهناك المجرة نهر السماء الذي لا يسبر لجه، ولا يدرك غوره، بل نهر الزمان يسيل بالعصور والدهور، يحسر الفكر على شاطئه، ويعيا الوهم دون منبعه وغايته، عالم وراء العالم، وفلك فوق الفلك. وصور أخرى رائعة هائلة تتجلى بها السماء في هذا الصفاء.
يرقى الفكر إلى هذه المشاهد العلوية، فيوغل فيها ثم يوغل حتى ينبهر، فيهوي حسيرا مرتاعا كشيطان الرجم يلتمس مكانه على الأرض، يهول الفكر هذا العظم الذي لا يحد، والجلال الذي لا ينتهي، والغور الذي لا يبلغ، والحجاب الذي لا يخترق، ويفزعه جو تتحطم فيه الأجنحة، ومدى يعيا الطيران في أوله، فيفر من هذه السعة الهائلة التي يفنى فيها المكان إلى الأرض، ثم إلى مكانه الصغير منها، ويعتصم من هذا الكون الفسيح الذي يتيه فيه الزمان إلى الزمن، ثم إلى ساعة منه، يحتمي بهذه الحدود، ويأنس بهذه القيود.
ثم تطمح النفس الإنسانية، بل الشعلة الإلهية إلى العلاء طموح النسر إلى متقلبه من جو السماء، فتقطع قيدا بعد قيد، وتجتاز حدا بعد حد، وتخرج من دائرة بعد دائرة، فإذا هذا الجسم المحدود، والعقل المكدود هاجم فيما وراء الحدود، يحاول الأمر الذي لا ينتهي، والعلم الذي لا ينال.
ثم يعيا وينبهر، فيهبط إلى أرضه ومكانه، ووقته وزمانه، ولكن بصره إلى السماء، وهمته إلى العلاء، وطموحه إلى الإدراك، في الأفلاك وما وراء الأفلاك، وهكذا يعلو ويسفل ، ويقدم ويحجم، وينزع ويرجع، حائرا بين كونه المحدود، وطوقه المجهود، وبين طموحه الذي يأبى القيود، مترددا بين عالمه الأصغر والعالم الأكبر، بين نفسه الصغرى والحقيقة الكبرى، بل بين الإنسان والله.
أفزعني هذا المراد، وهالني هذا الجهاد، فأويت إلى الحد بعد الحد، والستر من وراء الستر، حتى أمنت على نفسي في موقفي الضيق، على هذه البقعة الصغيرة، فوق هذه الأرض المحدودة، فنزلت من الحقائق الواسعة إلى الدوائر الضيقة، من الوجود المطلق إلى الوجود المقيد، وما زلت أجتاز أجناسا إلى أجناس، وأنواعا إلى أنواع، فإذا أنا مطل من داري على شاطئ النيل، في ليلة من ليالي رمضان وقت السحر.
وأشفقت أن ترفعني صور النجوم في الماء إلى حقائقها في السماء، وأن يسلمني نهر النيل إلى نهر المجرة، وأن تردني إلى حيث فررت، هذه الصلات الوثيقات بين الصغير والكبير، والمطلق والمقيد، وبين الذرة والشمس، فألححت على الفكر أن يحبس، في هذا المشهد المحدود، وألزمت العقل الإخلاد إلى هذه الأرض.
ثم كدت أسير مع النيل إلى منتهاه فيصلني بالأبد، أو أرجع معه إلى منبعه، فيسلمني إلى الأزل، فحبست عياني على ما أمامي، وفكري في مرآي، كما يحبس الطائر الوحشي في قفص، ويلهى بالحب عن أطباق الجو. •••
رأيت النيل رهوا تتراءى في صفحته مصابيح ساكنة خافتة مطلة من شاطئ الجيزة، ورأيت الزرع نائما تمسحه نسمات الفجر رفيقة مشفقة، كأنها أم توقظ طفلها، وآنسني الليل الساجي، والمنظر الصامت، والمشهد المصغي، والطبيعة النائمة، بل الخليقة الحالمة، لا أسمع ركزا إلا صيحات متفرقة من ديكة متباعدة، كأنها قبل صيحاتها للفجر نغمات متقطعة يمهد بها الموسيقي لألحانه المتصلة، وإلا نقيق ضفادع قليلة مشتتة، وإلا صرير الجنادب بين الزروع موحدا متصلا خافتا، لا يقطع الفكر، بل يسايره مطردا كأنه مرور الزمان.
ثم انغل الفكر في الناس، فإذا هم بين يقظان انطوت على البر جوانحه، وعمر بالخير قلبه، ونطق به لسانه، يسبح الله، ويفكر لخير نفسه وخير الناس في مثواه، وآخر يقظ يقظة الصل، ينساب في مجاثم الظلام إلى الآثام، وإذا هم بين نائم يستجم بالرقاد؛ ليستأنف الجهاد، ونائم أنامته البطالة، وأماتته التخمة، لا يفتقده نائما عمل ولا أمل، ولا تحمد يقظته حركة ولا سكون.
وإذا هم بين حالم سودت أعماله أحلامه، ينشره النهار للضر، ويطويه الليل للشر، ويسلمه النهار الأثيم إلى الحلم الأثيم، وآخر أضاءت رؤياه نيته، وازدهرت بالحلم الطيب طويته، فهو خير اليقظة والنوم، طاهر الحقائق والرؤى، وضروب أخرى من البشر طاف بها الخيال، واسع المجال، ثم انثنى قلقا مضطربا.
وكاد يخل هذا التفكير المتنافر بهذا المشهد المتآلف، ويقطع الهم المضطرم هذا النغم المنسجم، فعدت إلى النيل أطالعه، والزرع أراقبه، والخليقة آنس بها، وأسكن إليها، وأتغلغل فيها وأناجيها.
ودوت الأرجاء بالصياح، من ديكة الصباح، وانبجست النواحي بالأذان، يتجاوب في القلوب والآذان، وسرت في الخليقة قشعريرة هزت يقظانها وهاجعها، وأنعشت حيها وهامدها، وتوهمت أشعة الفجر الخفية، تخالط هذه الأصوات الندية، بل خلت الأشعة استحالت أصواتا، أو الأصوات تحولت أشعة.
استحال العالم كله معبدا، وبدا كل شيء راكعا أو ساجدا، فهذه الأضواء، وهذه النسائم، وهذه المياه، وهذه الزروع، والديكة المؤذنة، والجنادب الصارة، كلها في خشوع وقنوت، وتسبيح وتهليل، والنجوم الغاربة على الأفق ساجدة، والسماء المحدودبة الخاشعة، لجلال الخالق راكعة، سمعت من الخليقة ومن قلبي ومن لساني الآية الكريمة، تفسيرا لما أرى وأسمع وأتوهم:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
لم أجد غيري خاليا من الصلاة، ولم أر سواي شذوذا في هذا النغم، فرددت نظرات في العالمين، ثم أسرعت لأكون من الساجدين.
وديعة ميافارقين
1
سيف الدولة علي بن حمدان، أمير حلب والعواصم، يخط بسيفه مملكة في ثغور الروم، ويقزها على الزلازل، ويثبتها على الأهوال، ويمكنها في مضطرب الأمواج، ومدارج السيول.
لبث الرجل عشرين عاما يغزو الروم، ويدفع غزواتهم، ويجاهد وحده هذا العدو الذي جاهده العرب وجاهدهم، منذ زال سلطان الروم عن الشام. لا تفتر همة علي بن حمدان، ولا يكل عزمه، ولا تفل شباته، وجيوش الروم وأتباعهم تطغى على البلاد العربية ، موجة بعد موجة، فتتكسر على هذه الصخور من الشجاعة والعزم، والجهاد والصبر، ويسيل السيل بعد السيل، فيصده هذا السد الذي مكنته شجاعة سيف الدولة وجنده القليل، وكم نكبت جيوش سيف الدولة فما وهن ولا استكان، ولا ساير الزمان، ولا أخلد إلى السلامة، ولا آثر العافية! ولكن الحوادث انجلت عن هذا الوجه الوضاء بساما للخطوب، وهذه العزة القعساء راسية على الأهوال:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
وبنو بويه في بغداد، والإخشيديون ثم الفاطميون في مصر بمعزل عن هذه الحوادث، أسلموا الأمير الحمداني لهذا الجلاد الدائب، والعراك المتواصل:
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل؟
قعد الناس كلهم عن مساعي
ك وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
2
هذه سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والسيف العربي الذي قارع الروم عشرين عاما لم يفل، والعزم الذي استكبر على الغير حقبة طويلة لم يضعف، ولكن سيف الدولة مريض، عرضت علة لجسده، وكبرت عن العلل روحه، وقد حاصر الروم طرسوس، واستغاث أهلها الأمير العليل، فلم يقعد به مرضه، ولا بعث للعدو قائدا غيره، بل ركب في الجيش المرزأ بالسيوف المفللة يجيب الصريخ، ويغيث أهل الثغور:
وغر الدمستق قول العدا
ة: إن عليا ثقيل وصب
وقد علمت خيله أنه
إذا هم - وهو عليل - ركب
وخاف الروم لقاء الأمير الذي عرفوه، وقتال الجيش الذي خبروه، فتركوا طرسوس وقفلوا إلى ديارهم، وانفرجت الغمة عن طرسوس وما يليها.
سبقت إليهم مناياهم
ومنفعة الغوث قبل العطب
فخروا لخالقهم سجدا
ولو لم تغث سجدوا للصلب
وكم ذدت عنهم ردى بالردى
وكشفت من كرب بالكرب
وبقي الأمير العليل يستقل بأعباء الجهاد، ويحمي وحده الثغور.
أرى المسلمين مع المشركي
ن إما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب
قليل الرقاد كثير التعب
علي بن حمدان مريض، يحارب عدوا شديدا ، ويلقى خطوبا سودا، ولكن على الأسد أن يحمي غيله، والفحل يحمي شوله معقولا. يمضي الرجل في جلاده على العلات، وعلى رغم العلل والحادثات، وأمراء العرب والمسلمين من خلفه كما قال أبو الطيب لهذا الأمير العظيم:
ألهى الممالك عن فخر قفلت به
شرب المدامة والأوتار والنغم
3
في شهر صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة في مدينة حلب يمرض ابن حمدان البطل مرضه الأخير، وينظر وراءه إلى ثلاث وعشرين سنة من المجد والكد، ويتمثل الخيل المغيرة والنقع المثار، والسيوف المتضاربة، والرماح المتطاعنة، والكر والفر، والهزيمة والظفر، ويتذكر من ثبت ومن فر، ومن وفى ومن غدر، كما يتمثل الشعراء أمامه يسجلون وقائعه، ويخلدون مآثره، والعلماء والأدباء يأتونه من كل صوب، ينشرون العلم في كنفه، ويحتمون من الحوادث في جانبه، وتمر بخياله الحوادث حلوها ومرها، والأيام خيرها وشرها، فيبسم بسمة الرجل أدى واجبه، ووفى بعهده، وترك وراءه صيتا بعيدا، وذكرا حميدا.
وهذه الساعة الثالثة من يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، والأمير العظيم على فراش الموت يود لو جمع تاريخه في كتاب، وأحصيت وقائعه في سجل يأخذه بيده في ساعته الأخيرة؛ ليلقى ربه بما قدمت يداه في سبيل الله! بل يود لو صورت الخطوب، ومثلت الحوادث، وطوي التاريخ في صورة مجسمة ليصحبه في قبره، ويؤنسه في وحشته، ويمضي معه حجة ناطقة، وشهادة ناصعة، وكيف تصور الخطوب، وتمثل الحوادث، ويطوى التاريخ مجسدا؟!
يقول سيف الدولة: هاتوا اللبنة، قد نفضت دروعي بعد الوقائع ، وجمعت ما عليها من الغبار، وصنعت من الغبار لبنة. علي بهذه اللبنة لأراها، فإذا مت فضعوها في لحدي تحت خدي.
1
ونقلت جثة الأمير الكبير، ولبنة الرجل المجاهد إلى ميافارقين، فدفنا في التربة التي دفن فيها سيف الدولة والدته.
فيا ليت شعري أين في ميافارقين قبر سيف الدولة؟ وأين من تربتها تلك اللبنة؛ تلك الهمة المجسمة، والمجد المجسد؟!
أين تلك اللبنة التي يشاد عليها صرح من المجد منيف، ويبنى بها ملك من العزة شامخ، تلك الحجة التي لم يدل بمثلها بطل ، ولا ظفر بنظيرها مجاهد؟!
لقد صور سيف الدولة من غبار الوقائع لبنة، فليصور كتابنا وشعراؤنا هذه اللبنة جهادا وعزما، وعزة ومجدا، وليجعلوها في المفاخر مثلا سائرا، وفي الأدب نثرا بليغا، وشعرا رائعا؛
2
ليقرءوا فيها شعر أبي الطيب في سيف الدولة، أو فلينشدوا فيها شعرا أروع من شعر أبي الطيب، فما أنفد شاعرنا مجد أميرنا وإن قال:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف
ظ كلانا رب المعاني الدقاق
على قبر الزهاوي1
بعد أن ووري في التراب شيخ الشعراء وفقيد العرب، وقف على قبره الدكتور عبد الوهاب عزام، فنثر عليه هذه الزهرات:
اليوم يقع هذا النسر بعد طول تحليقه!
اليوم يصمت هذا البلبل بعد طول تغريده!
اليوم يظفر هذا الجواد بالجمام!
اليوم يستريح هذا الفارس من الآلام!
اليوم تسكن هذه النفس الثائرة!
اليوم يرقد الزهاوي في قبره!
كل نفس ذائقة الموت، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإنما الخالد من خلدته آثاره، وسيبقى شعر الزهاوي مدويا بعد مماته، كما كان مدويا في حياته؛ ليبعث العزائم الراقدة، ويشعل النفوس الخامدة. ستتلقى مصر والبلاد العربية نعي الزهاوي كما تلقى العراق والعربية نعي شوقي، فتتجاوب بلاد العرب بالرثاء، وتتبادل العزاء، ونسأل الله أن يعوضها في شاعر العربية خيرا.
أيها الشاعر العظيم، ستذهب وذكراك بيننا خالدة!
أجميل لا تبعد فذكرك خالد
الذكر للإنسان عمر ثان!
أوراق1
شرعت منذ ساعتين أقلب أوراقي في خزانة كتبي وأرتبها، وأمزق ما لا أحتاج إليه. وأنا وأمثالي من الأوراق في جهاد دائم، إن أغضيت قليلا تراكمت على المكتب والكراسي، وكان منظرها هما، والتفكير فيها ألما، ونغصت علينا العمل، فلا بد أن يتعهد الإنسان أوراقه بين الحين والحين، وإلا غلبته وتراكمت حوله تراكم الهموم.
وفي طبعي إلف يدعوني إلى الاحتفاظ بأوراق لا غناء فيها، وكلما طال عليها الزمن، وبعد العهد بما فيها، زادت قربا إلى نفسي، وحبا إلى قلبي، وعزت على عزة الذكر القديمة، والحوادث التي تؤرخ الحياة الماضية.
وقد عثرت - وأنا ماض في نقد الأوراق وتمزيق بعضها، وقد غلبني التعب والملل، فهان علي تمزيق أوراق ضننت بها زمنا طويلا - على ظرف فيه وريقات شتى، فجلست بها أقلبها، وأتسلى بذكرياتها، فإذا هذه الوريقات تمثل تقلب الإنسان في هذه الدنيا بين أعمال مختلفة، وشواغل شتى إن جمع بعضها إلى بعض كانت مفارقات مضحكة، أو عظات مبكية.
هذه الوريقات في هذا الظرف الصغير ترجع إلى سفري في تركيا قبل تسع سنوات، فهذه أثبات فيها كتب تركية في موضوعات شتى، ومعها بيان أثمانها. بين هذه الكتب نسخة عربية مخطوطة من «أمثال الميداني»، ونسخة جليلة من «كتاب المثنوي» - أغلب الظن أنها كانت في يد العالم الشاعر والصوفي العظيم الشيخ عبد الرحمن الجامي - ذكرتني هذه الورقة بمجالس لي عند الوراقين في «حي بايزيد» من أحياء إسطنبول، وهو أحب أحيائها إلى نفسي.
وورقة أخرى فيها أسماء أربع عشرة من خزائن الكتب في هذه المدينة العظيمة «إسطنبول»، وقد دخلتها كلها، ونعمت بالقراءة والبحث عن الكتب القيمة فيها.
وأوراق أخرى من هذا الضرب الذي شغلنا في السفر والحضر، واليقظة والنوم.
وورقة فيها قطع من الشعر التركي خطها أديب عالم تركي ظفرت بصحبته في تلك الرحلة هو المرحوم «فريد بك». وكان - رحمه الله - متشائما كثير السخرية.
ومن هذه الأبيات، وأحسبها من نظمه:
كجدى دنيادن آداملق دوره سي
اعتماد إيت كل بو قول راجحه
شمدي حيوانقلده درفيض ورواج
روح إنسانيته الفاتحة
وترجمتها: مضى من الدنيا دور الإنسانية، اعتمد على هذا القول الراجح، والحيوانية الآن في فيض ورواج، فلروح الإنسانية الفاتحة.
وبعدها ورقة فيها بيان بكتب مخطوطة قديمة محلاة رأيتها عند واحد من ولاة الترك السابقين، ورأيت كيف يعتز بها ولسان حاله يقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم عامر
كرائم من رب بهن ضنين!
ثم ورقة تذكر بزيارتي بيت الشعب في «أنقرة»، وما لقيت هناك من رجال وآراء، وتحف وآثار.
وبطاقة فيها ذكر كتب وآثار رأيتها في «مدينة قونية»، حينما زرت ضريح جلال الدين الرومي، ودار المولوية التي صيرت اليوم متحفا. وكم لي في دار المولوية من وقفات وعظات! وكم لها في النفس من ذكريات!
وصورة صغيرة لرجل كريم رافقته في طريقي من «إسكيشهر» إلى «قونية»، وسايرته في قونية ساعات، فحفظ الود، وأهدى إلي صورته، وعلى ظهرها كلمة تعرب عن أخوته وصداقته، وتاريخها: 13 أيلول سنة 1937، وقد افترقنا ولم يعلم أحدنا عن صاحبه من بعد شيئا، ورحم الله حافظا الشيرازي، يقول:
اغتنم الصحبة، فإننا حين نفترق من هذا المنزل ذي الطريقين لا نستطيع أن نلتقي أبدا!
وكل منازل الحياة ذات طريقين، بل طرق، إن افترقت بالمجتمعين لم يكونوا من اللقاء على يقين.
وبيدي الآن صفحة كتبت بخط نسخي جميل وباللغة التركية، وهي رسالة من أحد أدباء الترك إلى آخر يعرب عن تحسره على الشاعر الكبير الصديق المرحوم محمود عاكف. ولست أتذكر الآن المنشئ ولا الكاتب.
وهي صحيفة جديرة أن تترجم إلى العربية وتنشر تجديدا لذكرى شاعر الإسلام عاكف، الذي سعدنا بصحبته في مصر سنين.
وهاتان ورقتان نشرتهما، فإذا أبيات لي في وصف دمشق، إحدى ذكرياتها مسطورة بالرصاص، وللمداد فيها إصلاح وتغيير كالتمثال، ولا يزال يعمل في جوانبه إزميل النحات، وأول الأبيات:
دمشق يا قرة العيون
وبسمة القلب والجبين
لله يوم خلست فيه
ساعا من الدهر ذي الشجون
دخلت خلف العصور دارا
عاد بها غابر السنين
رأيت تاريخنا تجلى
يفيض بالشعر والفنون ... إلخ.
وهي أبيات كثيرة، وصفت فيها دارا قديمة من دور دمشق ذات الحدائق والنوافير، والنقوش والزخارف التي تمثل تاريخنا يوم كنا نبني بأيدينا وعقولنا لأنفسنا، قبل أن نسلب الاستقلال في كل شيء، ونعني بالتقليد في كل شيء! وآخر الأبيات:
خرجت منها، يقول قلبي
للرجل: بالله أنظريني
ومن الأوراق كتاب من «النادي العربي بدمشق» يتضمن شكري على محاضرة ألقيتها فيه، موضوعها: النهضة العربية.
وأوراق غير هذه، فيها حساب الفنادق، وما لي وللحساب؟! •••
هذا ظرف صغير نشرت منه هذه الذكر كلها، وقد مضت عليها تسع سنين، وكأنما وقعت أمس.
وكل حياتنا ملأى بالوقائع والفكر والعبر، ولكنها تمر سريعة مر الزمان، وينحى عليها الزمان المحاء بالمحو والنسيان، فهل من مدكر؟! •••
أثارت هذه الوريقات ذكريات في نفسي تتصل بها ذكريات، وكشف النسيان عن حوادث عفى الزمان على آثارها، فسارعت بكتابة هذه الكلمة قبل أن يمحو الزمان الذكر، ويفجع بعد العين بالأثر!
عبرة الحادثات
المدنية الأوروبية - على خيراتها - وما أجدت على الناس من علمها ورفاهيتها: مدنية مادية، دعائمها المعادن والأحجار، يصاغ قلبها من الذهب والحديد وأشباههما، ويغذى بالفحم والنفط وأخواتهما، وتدور بها دواليب المصانع والمغازل والمناسج.
قد استحكمت فيها الآلات، وأتقنت الصناعات، حتى أغنت عن الإنسان أدواتها، ونافسه عتادها، فثارت العداوة بين الآلات وصانعيها، وعمالها ومالكيها، وقد أوحى ذلك إلى بعض الأمريكيين فاخترعوا إنسانا آليا يخدم خدمة الإنسان، ويتحرك حركاته. وهل الإنسان في المصانع إلا آلة سريعة العطب؟!
طبع إنسان هذا العصر آليا دائرا لا يألف الاستقرار، ولا يعرف السلام، ولا تتمكن في قلبه المحبة، ولا تستقر في سريرته الشفقة.
واستكلبت هذه الآلات على غذائها، وتنافست في أقواتها، وأحس كل أنها القوة لا العدل، والغلبة لا الإنصاف، فنفخوا في الأمم روح العصبية وغرور العنجهية، وزعم كل قبيل أن أوله خير الأولين، وأنه سيد الحاضرين، وأن بنيه سادة الآتين، وأن الأرض كلها له، وأن الويل لمن جادله، ثم ما شئت من أناشيد مثيرة، وتربية هائجة، وإيقاظ الوحشية في النفوس، وإشعال البغضاء في الأفئدة، حتى صار الناس - على رغم العلم والفلسفة، وعلى ما قربت بينهم الوسائل الحديثة - أميل إلى الحرب والجلاد، وأحب للتخريب والتدمير من أناسي القرون الخالية!
فبينا تراهم في ظاهر من السلام والوئام يتغنون بحضارتهم، ويعكفون على دراستهم، ويتكلمون في العدل والحرية والأخوة؛ إذ تحكهم التجارب قدح الزناد، فإذا النار تحت الرماد، تغلب عليهم الطباع الحربية، وتسيطر عليهم الحياة الآلية، فإذا الأمم كلها جنود ومصانع للسلاح والمدمرات، وإذا الأوروبي كالذئب الذي لبس جلد الشاة ثم خلعه.
ومهما يكن حظ القوم من العدل والنصفة، ونصيبهم من المودة والألفة، فذلك فيما يشجر بينهم من خلاف، فأما أهل الشرق سكان آسية وإفريقية من الأمم الملونة، فليس لهم في العدل حماية، ولا في القانون نصفة
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل .
وما يزال صدى الأحداث يدوي في آذاننا، وحسبك حروب طرابلس والبلقان والريف؛ فإن ساغ لأوروبي أن يطمئن إلى عدل أوروبة وإنصافها وقوانينها وجماعة أممها، فليس للشرقي أن يسكن إلى ذلك! فهو مال مباح، ودم مهدر. •••
وتلك أمة ينفخ قادتها فيها الغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها، وورمت أنوفها، ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عاما حتى دوخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا، ولا تسد مطامعنا.
ونظروا فإذا في إفريقية دولة واحدة مستقلة حفظ عليها استقلالها من دون أمم إفريقية. إنها دولة نصرانية، لم يستبح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها - على نصرانيتها - أمة سوداء، ضعيفة، تسكن أرضا واسعة، صاح زعيمهم: هلم إلى الحبشة، فانبرت العقول تخترع الأوهام والتعلات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل، وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حينا، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حينا، وسار الشر إلى الحبشة في جيوشه ومفترياته.
ويشفق بعض الدول من هذه الغارات، ويخاف عقباها، فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي، وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطالية.
تهيب مصر بجيشها، فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل، وتدعو بنيها، فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، لم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح: أنفس عزيزة، وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها، وتعد للخطوب عدتها: لا تراعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني.
ولو ترك لنا من قبل، أن نعبئ جيوشنا، ونعد سلاحنا؛ لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأنى يعز من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:
ودرى من أعزه الدفع عنه
فيهما أنه العزيز الذليل
هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يجلب لها خيرا ولا شرا:
رب عيش أخف منه الحمام!
ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهمائهم وقادتهم أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبروا الموعظة، وينتفعوا بها، ومهما تنجل عنه السحب المكفهرة، وتنكشف عنه الحادثات المنذرة؛ فليعملوا برأي واحد، ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة، حتى لا يقفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى
إن في ذلك لذكرى .
لمعات
إلى الفيلسوف الشاعر محمد إقبال
جوابا لكتابيه «أسرار خودي» و«رموزبي خودي»:
1
للصوفية فلسفة عالية في العالم والإنسان والخالق، ولهم آراء حكيمة في الأخلاق والاجتماع، وقد صاغوا كثيرا من آرائهم في صور شعرية جميلة، تجلى فيها القلب الإنساني في أرقى مداركه، وأصفى منازعه، وصور فيها خفايا النفس الإنسانية.
وفي العربية كثير من الشعر الصوفي مفرق في الكتب، وفيها دواوين خصت بهذا الضرب من الشعر، أسيرها ذكرا ديوان ابن الفارض، ودواوين ابن عربي، وديوان النابلسي.
ولشعراء الفارسية المقام الأسمى في الشعر الصوفي، وقد حاكاهم فيه شعراء التركية والأردية، وأعظم شعراء الفارسية في هذا مجد الدين سنائي، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وهو زعيم شعراء الصوفية وفلاسفتهم جميعا.
2
وكأن الله - سبحانه - أراد أن يبعث مولانا جلال الدين في هذا العصر، مزودا فلسفته وعلومه إلى فلسفة الصوفية وصفاء نفوسهم، فبعثه في صورة شاعر الإسلام وفيلسوفه: محمد إقبال الهندي.
ولإقبال منظومات كثيرة معظمها بالفارسية، وبعضها بالأردية، وقد ضمنها من الفلسفة والتصوف والأخلاق والاجتماع والسياسة ونقد المدنية ما يملأ القارئ إعجابا. والرجل حر يكره التقليد، ويحذر منه، فعقله وقلبه ظاهران في كل ما يكتب.
ومن منظوماته كتابان سماهما: «أسرار خودي» و«رموزبي خودي»؛ أي أسرار الذاتية، ورموز اللا ذاتية. ومدار البحث في الأول أن العالم قائم على «الذاتية»، وأن حياة الإنسان بإبراز ما أودع فطرته من المواهب، وتقوية نفسه، ومدار البحث في الكتاب الثاني بيان ائتلاف الأفراد في الجماعة، وما تقوى به الجماعات. وقد شرح ذلك شرحا مبينا، وضرب الأمثال، واستشهد التاريخ، وسما إلى الدرجة العليا في الشعر.
وقد ترجمت في مجلة «الرسالة» صفحات من الكتابين، ومن ديوانه «بيام مشرق» الذي جعله الشاعر جوابا للشاعر الألماني جوته.
3
وقد بدا لي أن أنشر في الرسالة منظومة أهديها إلى إقبال، وأجعلها صدى لكتابيه المذكورين آنفا.
وأريد مع هذا أن أنهج بها في العربية نهجا جديدا، وأجعلها مثلا للمعاني السامية التي يتناولها الشعر إذا أطلق من عقاله، وحرر من الموضوعات الضيقة التي اعتادها جمهور الشعراء، ولا سيما المعاني التي تكثر في أشعار الصوفية العظام، ثم أريد أن أجعلها مثالا للقافية المزدوجة التي قصرها شعراء العربية على الرجز المشطور، كما قصروا الرجز على نظم العلوم كالألفية والجوهر المكنون والتاريخ، كمنظومة ابن عبد ربه في أمراء بني أمية، والقصص ككتاب كليلة ودمنة، والصادح والباغم. وينبغي أن يسري هذا الضرب من التقفية إلى أبحر الشعر الأخرى، حين تعالج الموضوعات الواسعة، فهذا الذي سنى لشعراء الفارسية وغيرهم أن ينظموا عشرات الآلاف من الأبيات في قصة واحدة أو كتاب واحد.
وقد اخترت وزن الرمل ليسره وخفته، واقتداء بجمال الدين في المثنوي، ومحمد إقبال في بعض كتبه، ولا سيما «أسرار خودري» و«رموزبي خودري».
4
ثم التفعيلة الثالثة في الرمل تأتي تامة «فاعلاتن»، ومقطوعة «فاعلات»، ومحذوفة «فاعلا»، والقافية المزدوجة تجعل كل شطرين متفقين في الروي منفصلين ببعض الانفصال عن غيرهما.
فينبغي أن يسوغ الجمع في المنظومة الواحدة بين أبيات على فاعلاتن، وأخرى على فاعلات أو فاعلا تيسيرا للناظم، ولكن الجمع بين فاعلا وفاعلات حسن لا عيب فيه؛ لأن الحرف الأخير في فاعلات لا يتأتى إلا بعد مد. وبهذا المد يتم الوزن، فيأتي الحرف بعد المد نهاية للصوت، فلا يشعر المنشد باختلاف النغمة بين فاعلا وفاعلات، مثال هذا: البيتان الآتيان:
رب معنى في ضمير يكتم
ليس في الناس عليه محرم
وقلوب رمسها هذي الصدور
أتراني مسمعا من في القبور؟
البيت الأول بني على فاعلا، والثاني على فاعلات، لكن الراء في كلمتي الصدور والقبور واقعتان بعد مد، فتأتيان في نهاية الصوت كأنهما لا تحسبان في وزن البيت، وليس الأمر كذلك في الجمع بين فاعلاتن وغيرها؛ ففي البيتين الآتيين:
كان لي الليل مدادا فنفد
وطغى قلبي بمد بعد مد
جاشت الظلماء موجا بعد موج
وغزاني الوجد فوجا بعد فوج
إذا سكنت الجيم في موج وفوج يبنى البيت على فاعلات، فتجده قريبا جدا مما قبله، وإذا حركت الجيم يبنى على فاعلاتن، فيبعد عما قبله بعض البعد، فينبغي أن يجتهد الناظم ألا يجمع بين فاعلا أو فاعلات وبين فاعلاتن في منظومة واحدة؛ رعاية لانسجام النغمات.
وإني أدعو أدباء العربية إلى العناية بهذا المثال الذي أقدمه في المعاني والقوافي ليقبلوه على بينة، أو يردوه بالحجة. والله ولي التيسير.
أيها الليل، إليك المفزع
كم حنت منك علينا أضلع!
كم خفينا في غيابات الدجى
وملأنا الليل هما وشجا!
كم ألفت الليل أما حانيه
وكرهت النجم عينا رانيه!
كم ألفت الليل وحشا راقبا
في شعاع الصبح سهما صائبا!
كم بثثت الليل سرا كتما
فوعاه الليل عني ألما؟
كانت الظلماء لوحا للألم
خطت الآهات فيه كالقلم!
كان لي الليل مدادا فنفد
وطغى قلبي بمد بعد مد
جاشت الظلماء موجا بعد موج
وغزاني الوجد فوجا بعد فوج
فنيت هذي، وهذا زاخر
وانجلت هذي، وهذا غامر
خلتني في الليل جمرا سعرا
ونجوم الليل منه شررا
إرة قد وقدت في أضلعي
1
وسحاب هاطل من أدمعي •••
كنت سطرا لم يفسره أحد
خطه في غيبه الله الصمد
في ضميري كل معنى منبهم
حرت في الإعراب عنه بالكلم
قد ثوى العالم في قلبي وما
خط شيء فيه إلا الحرف «ما»
2
جل قلبي أن أراه جام جم
3
صور الأقطار فيه تنتظم
إنما الأقطار في قلبي العميد
أحرف أوحت إلى معنى بعيد
رب معنى في ضمير يكتم
ليس في الناس عليه محرم
4
وقلوب رمسها هذي الصدور
أتراني مسمعا من في القبور؟
5
أنا في الناس فصيح أعجم
ناطق فيهم كأني أبكم!
صمت الآذان عن هذا البيان
ضاع في ضوضائهم هذا الأذان!
كيف يجدي القوم هذا النغم
وعلى الآذان ران الصمم؟
كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟
قلبه رخو خلي من شرر
إن خفق القلب قدح مجهد
بعضه يورى، وبعض يصلد
كيف يجدي النفخ في هذا الرماد
طفئ الجمر ولم تور الزناد؟!
5
6
يخرق الليل شعاع يخفق
ثم يلتف عليه الغسق
كمنار البحر يخفى ويلوح
فيه بين الغيب والومض وضوح
أو يراع الليل يخفى وينير
فهو سطر من غياب وحضور
7
تارة يبدو طريقا لحبا
قامت الظلماء فيه نصبا
أو بيانا من بياض وسواد
كبياض الطرس يعلوه المداد
كل لون فيه حرف مفصح
ألفت منه سطور وضح
وأراه تارة خطأ أحم
وكأن الضوء تفصيل الظلم
فهو سطر من ظلام أرقط
أعجمت معناه تلك النقط
كل لون فيه حرف أعجم
وحوى الأحرف سطر مظلم
8 •••
يا لبينى أوقدي، طال المدى
أوقدي عل على النار هدى
9
أوقدي يا لبن قد حار الدليل
أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكي جمرها
عل هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما
أرشدي هذا الفراش الهائما
حبذا النار بليل توقد
حبذا المؤنس هذا الموقد
حبذا عندك هذا النزل
لو حدانا في سفار منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريق
إنما النيران أعلام الطريق
قد ترحلنا من الفج العميق
لا نبالي بقريب أو سحيق
رن في آفاقنا هذا النداء
فأممنا البيت يحدونا الرجاء
10
قد غنينا عن مبيت ومقيل
وعن الأمواه والظل الظليل
وعن الرغبة والخوف سوى
خلع النعلان في وادي طوى
11
نحن لا نرضى بنار الغسق
نحن لا نرضى بنور الشفق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاح
لا ولا نرضى تباشير الصباح
نحن لا نرضى نجوما لامعه
إنما نبغي ذكاء طالعه
قد رحلنا بالجوى والحرق
وغنينا عن رسم الأينق
أين منا طائرات سبق
جمع الغرب لها والشرق
نحن ركب في جواه موضع
لم يسعه في جواه موضع
كل حر ضاق عنه الموطن
وانطوى دون مناه الزمن
كل طيار على متن الفكر
وعلى متن هيام لا يقر
طائر منه يغار الملك
طائر من تحته ذا الفلك
بارق في اللوح لا ينطفئ
كل غايات لديه مبدأ
زودينا بهيام ووجيب
زودي يا لبن من هذا اللهيب
6
12
جال في الظلماء نورا من نغم
مزقت منه دياجير الظلم
أشعاع فيه صوت صائح
أم كلام منه نور لائح؟
أذن الركب لهذا المنشد
أطرب الناشد صوت المنشد
13
سال في القلب مسيل المطر
ينبت الروح بسهب مقفر
أو خرير الماء من نبع زلال
بشر الغارق في بحر الرمال
رن في نفسي رنين الجرس
صاح في أذني فقيد مبلس
طوت البيداء عنه السابله
وهداه الصوت شطر القافله
سبق القلب إليه الأذنا
كبلال لصلاة أذنا
دار قلبي شطر هذا المطرب
دورة الإبرة شطر القطب
غنني يا منيتي لحن النشور
ابركي يا ناقتي، تم السرور
عدت يا عيدي إلينا، مرحبا
نعم ما روحت يا ريح الصبا
14 •••
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟
ومن الهاتف بالقلب الكسير؟
ومن المسعد في هذي الهموم؟
ومن البارق في هذي الغيوم؟
ومن الهابط في نور السما
هاديا في الأرض جيلا مظلما؟
ومن الهادي إلى أرض الحبيب
يعرف النهج وقد حار اللبيب؟
ومن السائق شطر الحرم
وإلى الأصنام سير الأمم؟
ومن القارئ في بيت الصنم
سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحر الذي قد حطما
في قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود؟
ومن القاطع أغلال العبيد؟
ومن الباعث في ميت الأمم
ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغرة في هذا السواد
بص كالجمرة في هذا الرماد
جرف الناس أتي مزبد
ضل فيه المقتدى والمرشد
وطغى اللج عليه والتطم
فرسا كالصخر في هذا الخضم
عارض الموج على أغماره
وطوى اللج على تياره
سبح اللج وبالشط استقر
داعيا والناس غرقى في النهر
يجرف التيار جسما جامدا
تقذف اللجة قلبا خامدا
إن عزم الحر بحر مزبد
جائش في الدهر لا يتئد
هذه الأقدار في تسيارها
همم الأحرار في أسفارها
15
ومن الشاعر يذكي القافيه
فهي نور وهي نار حاميه؟
تقشعر الأرض من أوزانه
ويهيم النجم من ألحانه
وكأن الدهر صوت كتبا
قد حكاه الشعر صوتا مطربا
16
هو بالأشعار بحر فائض
وهو للأزمان قلب نابض
حدثته الأرض عن أخبارها
وحبته الزهر من أسرارها
هو بالأمس خبير بغد
وهو اليوم نجي الأبد
كشف الله عن الغيب له
فلسان الغيب يملي قوله
عرف الشرق وراد المغربا
فانجلى السر له ما كذبا
فرأى العلم سبيلا للردى
إذا رأى القلب خليا من هدى •••
صوت «إقبال» على شط المزار
أسمع اليقظان في هذي الديار
السوقية في الأدب1
قرأت مقال الأستاذ الزيات الذي عنوانه: «دفاع عن البلاغة»، فوقع في نفسي على القبول والاستحسان، وألفيته ترجمانا عن معان ترددت في نفسي، ورددها لساني، وذكرني بحديث تحدثت به في دمشق في دار الأستاذ الصديق العلامة محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي.
أذكر أني جلست والأستاذ مرة، فأخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وأفضنا في أمور شتى، حتى دفعنا في الكلام عن الأدب، وما عرض له من آفات، وما حاق به من مساوئ الاتجار، ومسايرة الآلات الحديثة عجلة واندفاعا، ومن تملق الجمهور بالإسفاف إليه، والتيسير عليه، وإمتاعه وتلهيته بما يلائم القراءة العجلى، والنظرة السريعة. وقد أجملت هذا كله في كلمة فقلت: «قد غلبت السوقية على الأدب.» قال الأستاذ: أصبت المحز بهذه الكلمة، وأحسنت التعبير عما يسميه الفرنسيون:
Mercantalisme .
وبيان هذا أن الآلات الحديثة يسرت الصناعة وعممتها وزوقتها، ولبست الجيد الثمين والرديء الرخيص في بعض المظاهر، فطمح كل في اقتناء الأمتعة التي كان لا يطمع فيها إلا الأغنياء، وطمع الفقراء في منافسة الأثرياء بأمتعة تقارب أمتعتهم أو تشبهها شكلا ولونا، وقابل الصناع والتجار هذا الطموح وذاك الطمع بما يسده من بضاعة مزيفة خداعة، وكسدت الصناعات اليدوية الجيدة التي تكلف الصانع عمل الأشهر أو السنين، وأعرض الناس عنها مشفقين من تكاليفها، فمن لم يملك ثمن الحرير الطبيعي، أو لم تسخ يده به، عمد إلى الحرير الصناعي، ومن لم يستطع اقتناء الذهب، اقتنى المذهب أو المموه، ومن لم يتسع ماله لاشتراء الماس، اشترى ما يشبه الماس، وهلم جرا.
فشاع بين الناس الصناعي إلى جانب الطبيعي، والمقلد إلى جانب الأصلي، والسوقي إلى جانب المستصنع، والزيوف إلى جانب الجود، والبهرج بجانب الصحيح.
والعلم على هذا القياس، فقد تولت الحكومات التعليم فيما تولت، فحددت زمانه ومكانه، وموضوعه ودرجاته، وخطت الخطط لتعميمه، وجعلت له شهادات تشهد لصاحبها بالعلم، وعلى من لا يحملها بالجهل، وحشر إلى دور العلم الراغب والكاره، والأهل وغير الأهل، ووجه الأحداث الوجهة التي يريدها العرف أو النظام أو الضرورة، لا التي تميل إليها نفسه، وتختارها مواهبه، وجرف التيار الناس، فصارت المدارس مصانع تصنع التلاميذ على قوالب متماثلة أو متشابهة، أو مطابع تخرج آلاف النسخ من كتاب واحد، وتقدم أصحاب الشهادات إلى الأعمال، كما تعرض السلع في الأسواق.
قال بعض السامعين: أليس نشر العلم وتعميمه خيرا للناس؟ قلت: لا ريب أنه خير، ولكن معه شرا هو الذي حدثتك عنه، ولست أبغي الآن أن أفيض في هذا الداء وأدويته، ولكن ساقنا إليه الحديث في الأدب.
قال أحد الأصحاب: وهو الحديث الذي بدأناه ثم حدنا عنه، فلم نعد إليه.
قلت: والأدب على هذا النسق: الجرائد والمجلات والكتب شاعت وانتشرت، وصار الكاتب بهذه الوسائل الحديثة السريعة يعرض على الناس ما يكتب، وكأنه ماثل أمامهم يحدثهم به أو يخطب فيهم، فهو يسايرهم مسايرة المحدث أو الخطيب، ويلقاهم كل يوم على صفحات الصحف، يلتمس رأيهم فيما كتب، ويتعرف موقعه من نفوسهم، وكلما أرضى الكاتب جمهرة القراء سمع ثناءهم عليه، وإكبارهم إياه، فحرص على هذا الرضاء، رغبة في علو المكانة وبعد الصيت، واضطر إلى أن يسف إليهم، دون أن يرفعهم إليه، وأن يجاريهم، دون أن يصدهم عما يشتهون، وأن يلاينهم، دون أن يحملهم على ما يكرهون، أو يكبحهم عما يهوون، وأن يلهيهم ويضحكهم، لا يشق عليهم ولا يسومهم عناء، فكأن الكاتب تاجر، وكأن كتابته سلع في الأسواق أيضا، والتاجر يلتمس لكل سوق ما يروج فيها، والرديء الرائج خير له من الجيد الكاسد!
ووراء هذا أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع يبغون الربح في تجارتهم، والربح على قدر إقبال الجمهور على ما يخرجون، وإقبال الجمهور على قدر هواه ومتعته ولهوه؛ فالكاتب الذي يرضي الجمهور ويمتعه ويلهيه أقرب إلى أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع، يبذلون له المال، ويسارعون إلى نشر ما يريد، على حين يجفون الكاتب المبدع الذي يحمل الناس على المكره، ويقودهم على الطريقة التي فيها صلاحهم، وإن نفروا عنها نفور المريض من الأدوية الكريهة.
قال صاحبي الملول: وما وراء هذا؟ قلت: وراءه ما زعمته أول الحديث من غلبة السوقية في الأدب؛ فقد صار بضاعة في السوق، أو تلهية في الملاهي، أروجها أقربها إلى عقول الناس وطباعهم وإن تفهت وحقرت، وانتهت بهم إلى المهالك، وأكسدها ما علا عن إدراك العامة وأشباه العامة، وما اقتضى فهمه عقلا وعلما، وضاق عن الجمهور، ووسع الخاصة وحدهم، فمن شاء مالا ورواجا وصيتا ومكانة عند العديد الأكثر؛ فليطلع على الناس كل يوم بقصة أو نادرة أو ملهاة مما يقرأ في القطار والترام وحين انتظارهما، وليتجنب الموضوعات التي تحوج القارئ إلى الجد والكد، والألفاظ التي تحتاج إلى علم باللغة واسع، والأساليب التي تقتضي التمهل والتأمل لإدراك ما فيها من جودة وبراعة وجمال.
ومن ابتغى إصلاح الجمهور وتهذيبه وتعليمه، وشاء الخير العام للناس، ورغب في الحقيقة والجمال، لا يبال أين يقعان من نفوس الدهماء، فلا يتعجلن المكانة والصيت والمال، وليكتب ابتغاء مرضاة الله، وليدع إلى الخطة الرشيدة، وليسم إلى مستوى الحق والخير والجمال، وليبلغ ما يوحي إليه ربه، ويهدي إليه قلبه. وإن طمع في المكانة وحسن الأحدوثة؛ فليعلم أنه منته إليهما لا محالة، ولن يضيع الخير والحق والإجادة والإتقان على مر الزمان، ولن يذهب العرف بين الله والناس.
فإن سأل سائل: أتريد الناس كلهم على قراءة الأدب الرفيع والفلسفة العالية؟ قلت: لا، لا، بل أريد ألا تتحكم السوقية في الأفكار والأقلام، وألا يطغى الرواج على الجودة، أريد أن يؤدي الكاتب أمانته، ويبين عقيدته، غير حاسب حساب السوق، وليكن بعد هذا في الكتابة ما يلائم العامة وما يلائم الخاصة، وما يجمع بينهما. أريد أن يعلو الكاتب ما مكنه طبعه، وأن يدق ما شاء له فنه، لا يعنيه إلا أن يؤدي واجبه على الوجه الأكمل.
وكذلك أريد أن ينزل الكاتب الآخر كما يريد طبعه، وأن يسهل ويدنو كما يشاء فنه، لكل وجهة، ولكل مجال، ولكل قراء. وإذا صدق كل كاتب نفسه، وأخلص لعمله ، فرقت الكتاب المعارف والطبائع، فعلا جماعة وهبط آخرون، وبعد كاتب وقرب آخر، وكانت ضروب الكتابة معبرة عن ثقافة الأمة وأذواقها، ملاقية أصناف الناس بما يسد حاجاتهم، ووجد الناس الصعب والسهل، والبعيد والداني، والغالي والرخيص كلا في بيئته وفي مظانه.
لا أدعو إلى أن يصير الأدباء فنا واحدا في البيان، وأسلوبا عاليا في الكتابة، ولكن أخشى أن تذهب السرعة بالإتقان، وتطغى التجارة على الإحسان، ويمتحن الكتاب حتى يروا حسنا ما ليس بالحسن، ويجرفهم السيل فيتجهوا حيث يريد الناس لا حيث يريدون، وينتقل الزمام من يد القائد إلى يد المقود، ويسير الإمام خلف المأموم، فتنبهم الغايات، وتلتبس الطرق، وتشتبه الأعلام. وما ظنك بجماعة تسير على غير سبيل إلى غير غاية؟!
المنصور بن أبي عامر
مفخرة من مفاخر التاريخ العربي، ومثل من الهمة الطامحة، والنفس الهمامة، والعزم الذي لا يفل.
1
ينتسب إلى قبيلة معافر إحدى قبائل اليمن. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلس
1
في جند طارق بن زياد، وأقام بعد الفتح في الجزيرة الخضراء، فكان له ولبنيه شأن. واتصل أبو عامر جد المنصور بالخلفاء في قرطبة، وعدت أسرة أبي عامر في أسر الوزراء. وكان أبو حفص والد المنصور متألها زاهدا، شغل بالحديث عن خدمة الخلفاء، ومات قافلا من الحج، فدفن بمدينة طرابلس.
وأم المنصور من أسرة تميمية؛ أسرة بني برطال. ويقول القسطلي في المنصور:
تلاقت عليه من تميم ويعرب
شموس تلالا في العلا وبدور
من الحميريين الذين أكفهم
سحائب تهمى بالندى وبحور
2
ونشأ محمد «المنصور» نجيبا، طماحا، عظيم الهمة، كبير القلب، أثر عنه أيام طلبه العلم بقرطبة نوادر تنبئ باعتداده بنفسه، واستشرافه للمعالي، يقول محمد بن إسحاق التميمي:
كان محمد بن أبي عامر نازلا عندي في حجرة فوق بيتي، فدخلت عليه في بعض الليالي في آخر الليل، فوجدته قاعدا على الحال التي تركته عليها أول الليل حين فصلت عنه، فقلت له: ما أراك نمت الليلة! قال: لا، فقلت: ما أسهرك؟ قال: فكرة عجيبة، قلت: فبماذا كنت تفكر؟ قال: فكرت إذا أفضي إلي الأمر ومات محمد بن بشير القاضي، بمن أستبدله، ومن الذي يقوم مقامه؟ فجلت الأندلس كلها بخاطري فلم أجد إلا رجلا واحدا، فقلت: لعله محمد بن السليم، قال: هو والله، لشد ما اتفق خاطري وخاطرك.
وكذلك رشحته للمعالي نفسه العظيمة، وآماله الكبيرة. والمرء حيث يضع نفسه.
صار محمد من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم تقلب في القضاء، وجعل وكيلا لعبد الرحمن بن الخليفة المستنصر وأمه، ولما مات عبد الرحمن جعل وكيلا لأخيه هشام، ورتب له خمسة عشر دينارا كل شهر.
وعرف الخليفة قدر الرجل، فكان يندبه فيما يعضل من الأمور، ثم ولاه الشرطة الوسطى، ولم يأل ابن أبي عامر جهدا في التقرب من هشام وأمه صبح، وكانت ذات مكانة عند الخليفة.
وعهد الخليفة إلى ابنه هشام، فحرص ابن أبي عامر على أن يحتفظ لهشام بولاية العهد، ثم الخلافة بعد أبيه، على كثرة ما اجتهد الصقالبة في تولية المغيرة بن عبد الرحمن الناصر عم هشام.
وتولى قيادة الجيش إلى غزوة نكص عنها كبراء الدولة، ورجع منها مظفرا، فزاد هيبة ومكانة، ثم ولي شرطة قرطبة، فسيطرت على المدينة هيبته وعدله، فأمن الأخيار، وسكن الأشرار.
يقول صاحب البيان المغرب:
فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو، فكشف الله عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه، فستر باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى ارتفع البأس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من رجال السلطان، حتى لقد عثر على ابن له، فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر جملة.
ولما رجع من غزاته الثالثة ظافرا، رفعه الخليفة إلى الوزارة، وجعل راتبه ثمانين دينارا، وهو راتب الحجابة، ثم شارك أبا جعفر الحاجب، ثم استبد بالحجابة عام سبعة وستين وثلاثمائة، فقد بلغ أرفع مناصب الدولة.
3
سيطر ابن أبي عامر سبعة وعشرين عاما على الأندلس كلها، فصرف أمورها في الحرب والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا في يد عبد الرحمن الناصر، ويد المنصور بن أبي عامر، فأما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه، ومضاؤه وإقدامه، وأما ابن أبي عامر فقد رفعه إلى السلطان نفس طماحة، وعزيمة ماضية، وخلق مرير، ولم تكن هيبته في نفس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو، وانتدب للجهاد، فغزا خمسين غزوة في شمال الأندلس لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ شنت ياقوب في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي.
لقد صدق صاحب البيان حين قال:
ثم انفرد بنفسه، وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه، فانقاد له وساعده، فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده، وتمكن جنوده: سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان.
4
وكان المنصور عادلا شديدا في الحق، لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة.
جاء إلى مجلسه رجل فناداه: يا ناصر الحق، لي مظلمة عند هذا الفتى. وأشار إلى أحد فتيانه، وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت، قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية! وقال للفتى: انزل صاغرا، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ فيه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق.
ولما عاد الرجل المتظلم إلى المنصور يشكره، قال له:
قد انتصفت أنت، فاذهب لسبيلك، وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي.
وعاقب الفتى وعزله.
ما ثبت سلطان هذا الرجل الطماح المتسلط المقدام إلا بهذا العماد من العدل والإنصاف، وإيثار الحق على نفسه وخاصته.
وكان له فصاد، فاحتاج له يوما، فقيل له: إنه في حبس القاضي؛ لحيف كان منه على امرأته. فأمر المنصور بإخراجه مع رقيب من رقباء السجن ليفصده ثم يعود إلى محبسه. وشكا الرجل إلى المنصور ما ناله من القاضي، فقال: يا محمد، إنه القاضي، وهو في عدله، ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع عنه، عد إلى محبسك أو اعترف بالحق؛ فإنه هو الذي يطلقك.
فمن يسأل عن ملك العرب والمسلمين كيف ثبت هذه الحقب الطويلة على أعاصير الخطوب؟ ففي هذا وأمثاله جواب!
5
وكان على كثرة مشاغله ذا عناية بالأدب والعلم، يجتمع العلماء والأدباء كل أسبوع ويتناظرون في حضرته، ويمدحه الشعراء.
وكان - رحمه الله - دينا متألها ورعا، كتب بيده مصحفا كان يحمله في أسفاره، وجمع ما علق بثيابه من غبار الحرب وأوصى أن يجعل في حنوطه إذا مات، كما فعل أمير العرب ابن حمدان من قبله: صنع من غبار الوقائع لبنة لتوضع في قبره تحت رأسه، واتخذ المنصور كفنه من مال موروث من أبيه، ومن غزل بناته اتقاء للشبهة، وتورعا أن يكون في أكفانه مال يرتاب فيه!
6
توفي المنصور سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة غازيا بمدينة سالم، في أقصى الثغور الأندلسية، ففرح أعداؤه بموته، وصوروا جنازته، ولا تزال صور الجنازة في متاحف أوروبة.
رحم الله المنصور بن أبي عامر؛ إن في سيرته لقدوة حسنة لكل طامح يسمو إلى الدرجات العلى في المنصب والدين والخلق.
رحم الله المنصور؛ إن في سيرته لحجة يوم نفاخر بتاريخ العرب والإسلام.
محيي الدين النووي والسلطان بيبرس
كان شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى النووي، من أعلام العلماء في القرن السابع الهجري، ذا مكانة عالية بين علماء الفقه والحديث، وكان له في التقوى والورع والزهد سيرة محمودة، وفي نصرة الحق وتأييده مواقف مشهودة.
ولا بأس أن نثبت هنا بعض سجعات ابن السبكي: «كان يحيى - رحمه الله - سيدا وحصورا، وليثا على نفسه هصورا، وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا إذا صير ربع دينه معمورا، له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة. هذا مع التفنن في أصناف العلوم متون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة، وتصوفا إلى غير ذلك.»
ولست أبغي هنا ترجمة النووي، ولكن أذكر وقعة كانت بينه وبين الظاهر بيبرس. وهي واحدة لها أمثال في سيرة الشيخ، ولها نظائر كثيرة في تاريخ الإسلام:
كان بيبرس ملكا مجاهدا، أبلى في قتال التتار والصليبيين بلاء عظيما، وقد انتظمت شجاعته وعزيمته مع شجاعة أسلافه وأخلافه من الأيوبيين والمماليك، فكانت سطرا من الجهاد والجلاد وقى البلاد المصرية مصائب الغزاة، وخيب دونها آمال الصليبيين مائتي سنة، وكذلك كانت همته وإقدامه هو وجنوده في مصر والشام كالطود، ارتد عنه سيل التتار بعد أن جرف البلاد الإسلامية من سمرقند وخوارزم إلى حلب ودمشق، فعلموا جنود هلاكو في «موقعة عين جالوت» وما بعدها، أن مصر أبعد من أن يطمعوا فيها، وأن الشام أعز من أن يسيطروا عليه.
وكان بيبرس في جهاده المستمر وحربه المتمادية يتوسل إلى المال يستعين به على جهاده، وكان الشيخ النووي يكتب إليه ناصحا كلما رأى في عمل السلطان شدة، أو جورا، أو مخالفة للشرع، لا يني في هذا ولا يداهن، ولا تأخذه رغبة ولا رهبة.
كتب مرة إلى السلطان هو وبعض العلماء يطلبون رفع بعض المكوس، ويوصون بالعدل والشفقة، فكان في الجواب إنكار وتوبيخ وتهديد، فكتب الشيخ النووي يجادل فيما تضمنه جواب السلطان، ويقول:
وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة العلماء، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين في الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان؛ فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى:
إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ،
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد . وقد أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن نقول الحق حيثما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم.
ولما ذهب السلطان إلى الشام لمحاربة التتار، أراد أن يأخذ مالا من الرعية يستظهر به على العدو، واستفتى العلماء فأفتوه، ثم سأل الشيخ النووي أن يشارك العلماء في الفتوى، فلما حضر الشيخ قال السلطان: اكتب خطك مع الفقهاء، فامتنع، قال السلطان: لماذا لا تكتب؟ قال الشيخ:
أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم من الله عليك وجعلك ملكا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية.
قال الظاهر للشيخ: اخرج من بلدي. يعني دمشق.
قال الشيخ: السمع والطاعة. وخرج إلى نوى.
فأنكر الفقهاء أن يخرج مثل النووي من المدينة، وسألوا السلطان أن يرجعه، فأمر السلطان بإرجاعه، فأبى الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر بها.
لست أدري أكان السلطان محقا في فرض ما فرض من المال أم لا، ولست - لذلك - أعرف أكان الشيخ محقا في جبه السلطان بما جبهه به، ولكن لا ريب عندي أن السلطان أحسن حين التمس فتوى العلماء قبل أن يجمع المال، وأن الشيخ أدى واجبه حين صارح السلطان بما يعتقد، ولم يأخذه في الحق خوف ولا طمع، وأن محيي الدين النووي قد فقه أحسن الفقه ما على العلماء من النصيحة لأولي الأمر، والجهر بالحق في غير مداهنة ولا خوف.
رحم الله النووي، لقد كان من علماء المسلمين، ولله تاريخ المسلمين كم فيه من أمثال محيي الدين!
الفريقان المتحاربان في فلسطين
الحق والباطل
يحترب في فلسطين فريقان: فريق العرب يذود عن ذماره، ويدفع عن حقه، ويدعو إلى النصفة والعدل، وإلى أن يعيش هو وخصمه أمة واحدة في بلد واحد، لكل حقه، وعلى كل واجبه.
وفريق آخر من شذاذ الآفاق، وخبث الأقطار، يلجون على العرب ديارهم، بأيديهم المال والسلاح، وما أورثهم تاريخهم والعيش الذليل في أوروبا من ختل وغدر، يظنون أنهم صاروا أمة لأن باطلا يجمعهم، وعدوانا يربط بينهم. وكل فرقة منهم تنمى إلى أمة، وكل جماعة تنتسب إلى بلد، وكل فرد يحمل سحنة تنافر سحنة أخيه، ولا تشبهها إلا في سمات اللعنة فيها، ومياسم الخزي عليها.
ويقول هؤلاء الأرذلون: لا نرضى نصفة معكم، ولا مساواة بكم، ولكنا نريد وطنا ودولة، وأنف الحق راغم، ودعوة العدل صاغرة، وإن لنا قوة من سلاحنا، ومالنا، وحيلنا، وغدرنا، وخيانتنا، ولنا أعوان في أوروبا وأمريكة يسحرون بالمال، ويسخرون بكل الوسائل رؤساء الدول، وأئمة الساسة، وأصحاب الصحف، وبيدهم المصارف ودور السنيما وكل وسائل النشر والتضليل؛ فيأيها العرب المساكين، أفسحوا المجال لدولة إسرائيل!
ويقول العرب: لا لا، بل
تعالوا إلى كلمة سواء ، نسويكم - أيها الطراء المتطفلون - بأهل البلاد الذين أقرهم التاريخ فيها، لا يعرفون غيرها وطنا، ولا يتخذون غيرها دارا، فهلموا إلى الدولة الواحدة، والشريعة العادلة، والتآخي والتناصف!
فتقول هذه الوجوه الملعونة، وهذه الفئات الطريدة: لا لا، إن أرضكم لنا، ودياركم لدولتنا، فانزلوا على حكمنا صاغرين!
ويحمى العربي، وهو سمح لا خنوع، وجواد لا جبان، وحليم لا ذليل، ويستنصر حقه، ويتوكل على ربه، ويستمد سجاياه وشيمه، وأخلاقه ومكارمه، ثم يستوحي تاريخه، ويحشد مآثره؛ فيستبق إليه من أحداث تاريخه ومآثر أمته ما يثبته في المحنة، ويوقره في الشدة، وينثال إليه من عز ماضيه ومجد سلفه ما يهون عليه كل خطب، ويقحمه كل هول.
ويصول عليه عدوان اليهود ومن ورائه مدد من قوى أوروبا وأمريكة، وتدور به خدع المخادعين، وتهاويل المهولين، وهو العربي الذي يعرف نفسه ويعرفه التاريخ، ويهزأ بالشدائد إذا جد الجد، ويحقر الأهوال إذا اشتد البأس:
فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها: من تحت أخمصك الحشر!
إن العربي يعرف ما في أيدي أعدائه، وأعوان أعدائه من مكر، وما لديهم من مال وسلاح، وما عندهم من علم وفن، ولكنه يعرف كذلك ما له من حق، وما عنده من كرامة، وما فيه من إباء، وما يمده به تاريخه من ثبات في الأزمات، وصبر في الخطوب، فيقدم على الأهوال ذاكرا قول سلفه:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ويتقدم، فيزيده الهول مضاء والنار صفاء، منشدا:
فإن تكن الأيام فينا تبدلت
بنعمي وبؤسي والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا تستطيع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا
فصحت لنا الأعراض والناس هزل
حسب الصهيونيون أن الأمم مال وربا، وأشكال وألوان، وهياكل وجدران، وبغي وعدوان، وغفلوا عن حقيقة الإنسان. الإنسان الكريم نفس كريمة، وقلب شجاع، وخلق أبي، وما وراء ذلك صور وزخارف، وخدع وأباطيل، تذوب إذا وقدت النار، وتبوخ إذا حمي الوطيس.
ألا ساء فأل الأوغاد وخاب ظنهم حين زينت لهم أموالهم وزخارفهم أنهم للعرب أكفاء وأنداد، فلتبطل دعواهم الوقائع، ولتكذب ظنونهم المعارك.
ألا إنه إن تحدى باطل الصهيونيين حق العرب، وجرؤ شذاذ الآفاق على خير الأمم، ولم يلقوا كفاء بغيهم من ردع، وجزاء عدوانهم من خزي:
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفسي جدي إن دهرك هازل
أيها العرب الأباة، إنه يوم له ما بعده، فاصدعوا الأهوال بقلوب متفقة، وأيد مجتمعة، وامضوا إلى الغاية التي هي بكم أجدر، وبتاريخكم أليق، إنكم تقاتلون حيث قاتل آباؤكم في اليرموك وأجنادين وحطين، وقد حطموا الباطل في كبريائه، وردوا البغي في غلوائه، فزلزلوا بهؤلاء البغاة الديار، وردوا جند الصهيونيين بالخزي والدمار، واتركوها على التاريخ مأثرة إلى مآثر آبائكم، وسجلوها على الأيام مفخرة إلى مفاخر أسلافكم
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين .
الكرم واللؤم
1
ما ينقم اليهود من العرب إلا أنهم حموهم، وأحسنوا إليهم، وفسحوا لهم في ديار العرب يعيشون أحرارا، ويغشون معابدهم كما يشاءون، ويتولون أمورهم الدينية دون حرج .
فتح العرب فلسطين، والروم يسيطرون عليها، والأمكنة التي يقدسها اليهود، والتي يعادون العرب من أجلها اليوم مزابل عفى عليها الزمان والهوان، فطهر العرب هذه الأمكنة، وجعلوها مساجد تعظيما لها، واتباعا لأمر الإسلام الذي يعترف بما في الأديان السابقة من حقائق ويعظمها، ويبين أنه الدين العام الجامع، الذي يجمع كل ما أوحاه الله إلى رسله في العصور كلها، والأقطار جميعها، بعد أن ينفي عنها تحريف المبطلين، ويخلصها مما علق بها من خرافات الجاهلين.
وعاش اليهود في كنف العرب أحرارا في فلسطين وغير فلسطين، وتبحبحوا في الأقطار العربية خاصة، والإسلامية عامة، وساروا سيرتهم في عبادة المال، والتوسل إليه بكل الوسائل، فوجدوا مرتعا خصبا، ومتقلبا فسيحا.
وقد بلغوا في أقطار العرب مناصب علية، وكان لجماعات منهم شأن عظيم في الدولة الفاطمية في مصر، والدولة الإيلخانية في العراق، ودول العرب في الأندلس وغيرها. •••
ثم ضرب الدهر ضربانه، ودار الفلك دورانه، وجاء اليهود إلى فلسطين يزحمون أصدقاءهم في ديارهم، ويستعينون على حماتهم بالأمم التي كرهتهم وأذلتهم وشردتهم، ففقدوا بأعمالهم صداقة العرب، ولم يكن لليهود صديق سواهم في هذا العالم.
وينسى اليهود تاريخهم وتاريخ العرب كله، ويرمون العرب بكل ما علمتهم أوروبا من عدوان، وبكل ما في سجاياهم وتاريخهم من ختل وعداوة للبشر جميعا، إلا من كان يهوديا، وقالوا بزعمهم: هذه بلادنا ومواطننا، نحن أولى بها، قد عشنا فيها زمنا، وسيطرنا عليها حقبة، ولسنا نبالي أن يكون العرب استوطنوها بعدنا، وعاشوا فيها أكثر مما عشنا، وسيطروا عليها أطول مما سيطرنا، ودافعوا عنها ونحن مشردون في أقطار الأرض، وهم اليوم فيها يعمرونها، ويقلبون في أرجائها، ويحفظون فيها آثارهم ومآثرهم، وفي جوانبها قبور آبائهم الذين استشهدوا فيها، ودفعوا عنها جبروت الروم، وجالدوا من أجلها الصليبيين مائتي سنة!
يقول اليهود: لا نعرف التاريخ، ولا نذكر فضل العرب؛ فإنا قوم لا نزن الأمور إلا بالمال والمنفعة، ولا نقدر الأشياء إلا بفائدتنا وشهوتنا، وإن نال غيرنا ضر؛ فهذا الضرر هوانا وبغيتنا، وبه جذلنا وغبطتنا، فإننا نعمل لأنفسنا، ونبغض البشر أجمعين، سواء منهم من أساء إلينا - كأهل أوروبا - ومن أحسن إلينا كالعرب، ولكننا نستعين بجماعة على أخرى، ونتمنى أن يهلكوا جميعا! •••
لليهود ماض في فلسطين، وللعرب ماض وحاضر، لليهود فيها تاريخ انقطع منذ عشرات القرون، وللعرب تاريخ موصول منذ عشرات القرون.
لليهود في فلسطين تاريخ ذليل مشرد، انقطع بجلائهم عنها، ويأسهم منها، وللعرب تاريخ مجيد عزيز، دافع عنها في غير يأس، واستقر بها في غير ذلة.
لليهود في فلسطين أحجار مهدومة يبكون عليها، هي بقايا الأحداث، وفضلات العصور، وللعرب آثار قائمة مشيدة، تصل تاريخهم، وتشهد بمآثرهم، وتكذب دعوى اليهود في كل بقعة.
لليهود في فلسطين صفحات في الكتب، وللعرب صفحات خالدات في أوديتها، وجبالها، ومدنها، وقراها.
ولو لم يكن للعرب في فلسطين إلا أنهم دافعوا الصليبيين فيها، وحولها أكثر من مائتي عام، حتى أجلوهم عنها، وأقروا مجدهم وتاريخهم فيها، لكان هذا كفيلا لم بحقهم فيها أبد الدهر! •••
حق العرب في فلسطين يقاتل باطل اليهود، وإحسان العرب يقاتل كفران اليهود، وكرم العرب يلاقي لؤم اليهود.
يتقاتل في فلسطين الحق والباطل، والخير والشر، والمروءة والنذالة، والأخلاق الإنسانية العالية، والطبائع الحيوانية الدنيئة، والتاريخ العزيز القائم، والتاريخ الذليل الميت!
وإن عدل الله - سبحانه - وإن كرامة الإنسان، وإن أخلاق البشر، وسنن الخليقة لتأبى أن يغلب جند الباطل جند الحق، والفئة اللئيمة الفئة الكريمة، وأعوان الشر أعوان الخير، وحزب الشيطان حزب الله
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون .
ضربات معول
1
في العام الخامس من الهجرة تألب الشرك على التوحيد، وائتمر الباطل بالحق، وكاد الشر للخير. تقاسم رءوس الضلالة ليغزن «المدينة»، وليقتلن هذه الجماعة الناشئة، وليبطلن تلك الدعوة الجديدة.
مشى يهود «خيبر» إلى قادة قريش، وحرضوا القبائل الضاربة غربي «نجد» وشرقي «خيبر»؛ قبائل غطفان، فاجتمعت كلمة هؤلاء وهؤلاء على غزو «المدينة» والبطش بالمسلمين.
ورأى المسلمون أنهم لا قبل لهم بهذه الأحزاب، لا يستطيعون دفع قريش وغطفان وألفافهما، لا قبل لهم بهذه الجموع الحاشدة من قيس عيلان وقريش ومن انحاز إليهم. هذه الجموع التي قال فيها حيي بن أخطب، أحد زعماء اليهود الذين ألبوا الناس على المسلمين، حين جاء إلى كعب بن أسد القرظي، رئيس بني قريظة - وهم بقية اليهود في «المدينة» - فقال له يحرضه على نقض عهد المسلمين: «ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.»
أهم المسلمين هؤلاء الأعداء، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق يصد الجيوش عن المدينة، فخط رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في موضع المخافة من المدينة، وذلكم في شماليها، من حيث يطمع العدو في دخولها. وأما الجوانب الأخرى فكانت ممتنعة على الغزاة بجبالها ونخيلها. خط الرسول الخندق من أجم الشيخين إلى المذاد،
1
وقطعه بين الصحابة أربعين ذراعا، لكل عشرة رجال، وجد المسلمون ليفرغوا من الخندق قبل أن يدهمهم العدو، والرسول يشرف عليهم، يشاركهم أحيانا في عملهم وارتجازهم.
2
وبينما عشرة من الصحب يحفرون قسمهم من الخندق إذ لقوا صخرة قاسية أثرت في معاولهم، ولم تؤثر فيها المعاول، وكرهوا أن يعدلوا عنها فيحيدوا عما خطه الرسول لهم، فقالوا لسلمان الفارسي، أحد هؤلاء العشرة: اصعد فانظر ماذا يأمر رسول الله؟ فرقي سلمان فقال:
يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بيضاء عن الخندق مروة فكسرت حديدنا، وشقت علينا، حتى ما نحيك فيها قليلا أو كثيرا، فمرنا فيها بأمرك؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.
قال راوي القصة عمرو بن عوف المزني:
فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق، ورقينا نحن التسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها،
2
حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله تكبير فتح وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله الثانية، فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها، وبرقت برقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله وكبر المسلمون.
ثم أخذ بيده سلمان فرقي، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيته قط! فالتفت رسول الله إلى القوم فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبر فنكبر، ولا نرى شيئا غير ذلك.
3
قال رسول الله: أما الأولى فقد أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، والثانية أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، والثالثة أضاءت لي منها قصور صنعاء؛
4
فأبشروا يبلغهم النصر! وأبشروا يبلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر.
3
إن هذا لشيء عجاب: جماعة قليلة لم تستطع الدفع بأيديها وأسلحتها فاعتصمت بالخندق تتقي به عدوا أكثر عددا، وأعظم عدة، جماعة قليلة جاهدة يدهمها عدو حاقد محنق قد صمم على أن يستأصلها، وليس لهذه الجماعة ردء على الأرض ولا مدد، وهي تكدح لحفر الخندق، وتكل أيديها، فينزل قائدها يعينها ويواسيها، على حين أحاط بها الخوف
وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا .
وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب، ما أعظمها دعوى! وما أعجبها أمنية!
كذلك قال الذين رأوا عددا قليلا من الناس يحفر أرضا ليتقي عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معان كثيرة.
قالوا: «ألا تعجبون؟ يحدثكم ويمنيكم، ويعدكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من «يثرب» قصور «الحيرة» و«مدائن كسرى»، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا.»
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
أجل، من ير هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة، يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها عن التحدث بالفتح؛ فتح المشرق والمغرب
إنها لإحدى الكبر !
4
لا لا، لم تكن في المدينة جماعة قليلة، ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع الشر ، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقاتل الخور، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدى الشك، كانت معان تقاتل معاني، وما ضر المعنى الظافر في سنة الله قلة أنصاره على الأرض، ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرة سواده في الناس.
وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشا وغطفان ويهود وحدهم، بل كانوا يحادون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن في خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها.
لقد كان هذا الخندق فاصلا بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقا وليدا، وتاريخا جديدا، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيرون في مواكب للجهالة والإثم، والعدوان والظلم، ويحوطون أوثانا من الحجر، أو أصناما من البشر.
وما كان العرب إلا العدو الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها، فائتمر بها، وعزم ليأخذن عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقن جمعها، ويبددن نظامها، ويبطلن دعوتها. وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب حربا على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها.
وما كان العرب المشركون في حرب العرب المسلمين وأعدائهم إلا حدا بين عصر وعصر، وفاصلا بين تاريخ وتاريخ.
ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود - وهم طلائع جيش الأرض كلها - لم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معان أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة. دع للعدد القليل وللعدد الكثير، وانظر هذه المعاني تتقاتل تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك، فانظر لأي هؤلاء العاقبة!
وهل كان المعول في يد رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدمغ ما يصده.
كانت هذه الضربات رموزا لما وراءها من جهاد وجلاد، وكان هذا الضوء بيانا لما يتصل به من هدى، وكانت يمين الرسول العزم المصمم، وكان كل خير وحق وفضيلة في النفس التي تبطش بهذه اليد.
كانت هذه المعاني كالشرارة الصغيرة تؤجج ما شاء الله من نار ونور، والآحاد في الأعداد تستوعب كل ما يدركه العد، وكالفكرة الأولى تفتح للعقل طريقا مديدا، ومذهبا جديدا، وكحروف الهجاء تنتظم لغات العالم، وكقرص الشمس يغمر العالمين نورا.
كذلك سخر الذين سمعوا قصة «محمد» ومعوله، وعرفوا حديث القائد المحصور يبشر بفتح العالم! ولكن كثيرا من هؤلاء الساخرين عاشوا حتى سمعوا صدى هذه الضربات في «اليرموك» و«القادسية»، وما تلاهما شرقا وغربا، وأبصروا برقها يصعق «يزدجرد» و«هرقل» وجنودهما، وكل جند للباطل على ظهر الأرض.
ورأوا المعاني التي مثلتها هذه الضربات، وقد صارت بالباطل غير رفيقة، وزلزلت الظلم غير مشفقة، وانتشرت في المشرق والمغرب كالسحاب مجلجلا، مضيئا، صاعقا، ممطرا منبتا.
عاش الساخرون عشر سنين، فرأوا جزيرة العرب تدين لصاحب المعول، ورأوا فارس والروم تخر لضرباته، والمشرق والمغرب يستضيء بهذه البرقات، وعلموا يقينا أن محمدا صدقهم حينما وعدهم فتح العالم وهو قائم في الخندق يحطم بمعوله الصخرة التي أعيت على أصحابه.
عمر المختار وأصحابه1
في كل فج عزمهم سيار
إلى الردى تهافتوا وطاروا
في حومة الموت لهم أوطار
جماعة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
يصول فيهم بطل مغوار
شيخ المنايا عمر المختار
تأبى لهم كرامة الإسلام
يأبى إباء العرب الكرام
أن يسلموا الأوطان دون الهام
منيتهم مشارع الحمام
بين ربا برقة والوديان
وفي الدحال وعلى الرعان
وفي شعاب الأرض والمحاني
فلوا جيوش الظلم والعدوان
ومزقوا كتائب الطليان
ووسموا معاطس الزمان
وأنفوا مواطن الهوان
تأبى لهم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
سلاحهم عزيمة الجهاد
وقوتهم ما سلبوا الأعادي
يصابرون الأكبد الصوادي
ويأكلون الجوع في البوادي
قد يئسوا يأسا من الأمداد
إلا ثبات القلب في الجلاد
ونصرة الرحمن للعباد
تأبى لهم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
أولئك العرب بني الحتوف
بقية الأرزاء والسيوف
قد ثبتوا في المأزق المخوف
بكل قلب بالردى هتوف
آبى الدنايا ثائر عيوف
قد انتموا لشمم الأنوف
تأبى لهم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
نبئت أن القوم عاودوا الجلد
فقتلوا رهن الحبالة الأسد
ليهنهم ليهنهم عار الأبد
يا عمر المختار ليثا يفتقد
يا خالدا قرين خالد يعد
للموت قد حملتم هذا الكبد
لو شئتموا لكان عنه ملتحد
أبت لكم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
قد رعتهم في حومة النزال
وجئت بالممكن والمحال
حتى رأوا قتلك في الأغلال
مأثرة تليق بالرجال
فلتهنهم شجاعة الأبطال
ولتهنهم مفخرة الأجيال
بطولة تنوء بالجبال
أبت لكم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
يا قومنا وكم مضت لكم عبر
يعرف فيها أمره من اعتبر!
العربي عندهم دم هدر
إسلامه جناية لا تغتفر
شهادة الفاروق نلت يا عمر
للحر موت واحد فيه الظفر
والذل موت كل يوم مدخر
أبت لكم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
يا قومنا فاستمعوا الأمثالا
يبعثها الدهر لكم أرسالا
عدوكم لا يفهم الأقوالا
حتى يكون المدفع القوالا
فأقدموا لا ترهبوا الأهوالا
وزلزلوا السهول والجبالا
لا تحملوا من ذلهم أغلالا
أبت لكم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
عبد الكريم قد مضى وحيدا
2
يجر في محبسه الحديدا
والأطرش الضرغام يغشى البيدا
3
قد ضربت صحراؤه سدودا
وعمر مضى لكم شهيدا
فامضوا إلى المجد أباة صيدا
لا تخنعوا بين الورى عبيدا
أبت لكم كرامة الإسلام ... ... ... ... ...
لا تيأسوا فما يدوم الضر
ليل من الخطوب يكفهر
والصبح في أعقابه يفتر
معترك أرجاؤه تغبر
والنصر من ورائه يخضر
هيا إلى العلياء لا تفروا
العيش عبد والحمام حر
على بحيرة وندرمير
الآن أيتها البحيرة أجلس على شاطئك وحيدا لأبعث في ثناياك خيالا مع الأخيلة التي تمر عليك ليلا ونهارا، وليت ضوضاء الناس تتركني لنفسي، لأحدثك حديث القلب، وأبثك ما في الضمير. أنت مائجة بين جبالك المخضرة، وضفافك النضرة، قد أقام الربيع عليك أعراسه، وأمر الشباب عليك أنفاسه، فإذا أنت مرآة تطالعها كل ناضرة من الزهر، ومائسة من الشجر، وكل جميلة من البشر؛ فخبريني - والشتاء يقترب - كم أقام الشتاء مأتمه على ضفافك، وأمات كل حياة حولك!
كم ضربك القر فسكنت! وكم أمضك الزمهرير فجمدت! كذلك أنت أيتها البحيرة الجميلة في نعمائك وبأسائك، وبين ربيعك وشتائك، منذ انبجس بك العهد المجهول، إلى أن يغيض بك الزمان المظلم.
حدثيني أيتها البحيرة: كم طوت أحشاؤك أخيلة على أخيلة، كما تمحو الفكرة الفكرة في رأس الفيلسوف القلق؟ أو كما خط في القرطاس سطر على السطر! كم شهدت صفحتك من جذلان ومحزون، وممتع بالحياة ومغبون، كم شهدت من قلب للقاء الحبيب خفاق، وآخر يمزقه الفراق! وكم رأيت إنسانا كالعصفور متزينا يملأ الهواء بالأصداء، وآخر واجما يطالع فيك صورة السماء! برحت به الحقائق، فأوى إلى الخيال، ورأى الحياة ضلالا في ضلال.
ليت شعري لو تفتحت صفحاتك عما حوت، ونشرت سريرتك ما طوت، أتكونين على صغرك تاريخ الطبيعة والإنسان في السراء والضراء، والبؤسى والنعماء، والنضرة والذبول، والمرح والكآبة؟ كذلك تمر أشباحنا سراعا على مسرح الحياة، تضطرب ظلالها على الأرض، ويردد صداها الهواء، ثم يزول الخيال ويفنى الصدى.
ولكنك أيتها البحيرة أبقى على الزمن، وأثبت على المحن، فاضحكي من الإنسان أو فابكي عليه، ومهما تسخري أو ترثي فاحفظي في صدرك، مع الظلال المتراكمة المتزاحمة المتماحية، صورة فتى ركب الزورق على صفحتك وحيدا، وخطا على ضفافك فريدا، وأطال الفكر في أرجائك، وقلب الطرف في أرضك وسمائك، ولو شاء لأطال في وصفك، وأسهب في شرحك، فأضحك وأبكى، ونظم من أمواجك أنغام الموسيقى الإنسانية التي لا يفتأ الزمن يعزف بها، وصور في صفحتك صورا شتى من النعم والمحن.
هكذا يتحدث إليك هذا الإنسان الفرح الحزين، الناعم البائس، فليت شعري هل ترينه مرة أخرى؟ سيفارقك عما قليل، فاحفظي ذكراه أو فانسي؛ فإنه لا محالة زائل عن صفحات الحياة كلها، ومن مكنون صدرك.
الشاعر المتفائل المتشائم1
إلى بثينة
إما تجلى الظلام عن غرة الفجر، وتكشف الغسق عن وجه الظلام، فتنفس الصبح، واستيقظت الحياة، وضربت الأشعة في الأرجاء، فانبعثت من مراقدها الأحياء، كما تسطع أشعة الكهربا، فتخلق عالما من السيمياء.
2
وإما زحزح ستار المشرق عن الشمس تنازع الأفق عن نفسها، وتحاول السير إلى أوجها؛ فهلم يا بنيتي العزيزة، اصحبيني إلى البرية أنسج لك حديثا من السعادة، وأقرأ لك كتابا من الغبطة، وأشدو لك بقصائد الخليقة البهيجة، تضمنت ألفاظها ومعانيها الفرح ظاهرا وخفيا، والنعيم مخيلا ومرئيا، ونطقت أوزانها وقوافيها بموسيقى الحياة تردد الآفاق أصداءها، ويدوي الفضاء بأنغامها.
فإذا رأيتني متهللا ضاحكا مازحا فكها، فاصحبيني يا بنية واغتبطي، واستزيدي واطربي، واسترسلي في حديثك وضحكك، ومرحك ولعبك، وسليني ما شئت عن الجمال والحب يتجليان في كل خلق، والنضرة والنعيم ينطق بهما كل شيء، وسليني عن محاسن الناس، صدقهم ووفائهم، وتعاونهم ومواساتهم، فستسمعين عن ملائكة تمشي على الأرض، وأبرار تسعد بهم الحياة.
وحذار يا بنيتي ثم حذار أن تذكريني التعس والشقاء، والنضب والعناء، والشر وفاعليه، والإثم ومقترفيه؛ فإني أشفق عليك أن تهب العاصفة، ويموج القلب، ويتجهم الوجه، فتريني نادبا راثيا، ساخطا زاريا، يرد عليك العالم نسجا أسود حاكته المصائب والآلام، وطرزته الأوجاع والأسقام. إني أخاف عليك أن يثور بي الغم، فلا أحدث إلا عن مأساة مكانها الأرض والسماء، وستورها الصباح والمساء، وسطورها الدموع والدماء، وأشخاصها كل من نسل آدم وحواء.
أخاف أن تريني شاعرا يجيد الأنين والشكوى، ولا يعرف الصبر والسلوى، يعرض عليك قصيدة محبوكة الطرفين بالغم، باكية الأوزان حزينة النغم، تنوح قوافيها، ويولول رويها، ليس في تفاعيلها إلا الأنات، ولا في مصاريعها إلا الزفرات، أشفق عليك يا بنيتي ألا أريك في وميض البرق إلا سواد السحاب، ولا في تلألؤ النجوم إلا رجمة الشهاب، وأن أنشد مع المعري:
إن دنياك من نهار وليل
وهي في ذاك حية عرماء
3
لا أرى في الورد إلا الشوك، ولا في النبات إلا الحنظل، ولا في الميلاد إلا الموت، ولا في الإدراك إلا الفوت.
كذلك يا بنيتي خلق أبوك قيثارة تسر وتشجي، وتضحك وتبكي، وكذلك صب في قلبه مرارة البحار، وعذوبة الأنهار، ليس بينهما برزخ. وهو الصخرة تقدح الشرر، وتنبثق عن الينبوع السلسبيل.
إما رأيتني يا بنية واجما مكتئبا، فلا تعنفي علي، فتنكئي جرح الفؤاد، ويفيض عليك بالحزن كل واد، ولكن اصبري للعاصفة حتى تمر، وللنار حتى تهمد، فإن أشفقت على أبيك أن يملكه الحزن، ويزلزله العذاب؛ فسارعي إلى بيانك
piano ، واختاري أسعد الأغاني، ثم تلطفي في العزف، وأرسلي صوتك خافتا كالبعيد من الصدى، وابعثي إلي النغمات كأنفاس الصبا، حتى تمسح على جبيني الملتهب، وتخفف من الحزن الثائر، وترفه عن القلب المائج، حتى إذا انبسطت الأسارير، وتهلل الوجه النضير، فانشطي بصوتك، واشتدي على بيانك.
ثم اختلسي النظرات إلي، فإذا أيقنت أن أشعة السرور بددت ظلام الحزن، وأن قد أديل من ليل اليأس لصبح الأمل، فأسمعيني ضحكك، ثم سارعي إلى أبيك فعانقيه، وساقطي على جبهته قبلاتك تساقط الندى في أعقاب الظلام، ثم حدثيني أحدثك بما يطربك.
وهكذا يا بنيتي الحبيبة علي أن أسعدك في ساعات عديدة، وعليك أن تفرجي عني دقائق معدودة، عليك أن تزحزحي عني ظلام الهموم، وعلي أن أخط لك من السعادة هالة لا يقوى عليها جون الغمام، ولا يذهب ببهائها حلك الأيام، عليك أن تفتحي للبلبل قفصه، وعليك أن يملأ لك الدنيا غناء وتطريبا، وشدوا وترجيعا، عليك أن تدليه على مفتاح الموسيقى، ثم تستمعي لعزفه، وأن تقدمي له طاقة من الورد، ثم تنصتي إلى وصفه.
عليه أن يعرض عليك جنة عرضها الأرض والسماوات، وعليك أن تعطيه مفتاحها إذا أذهلته عنه الحادثات، وأن تشيري إلى الباب إذا أضلته عنه الغير، وغشى على عينه سواد الفكر. عليك أن تمكنيني من القلم، وعلي أن أسطر لك قصيدة سعيدة النغم، وأنظم لك عقدا يتلألأ على صدرك، ويسطع في أيامك، عقدا مثل أبيك من ينظمه، ومثلك من يحمله.
وبعد فيا بثينة، قد وقف القلم، وغام الحزن على وجه أبيك، فليتك هنا لتنقذيه مما به.
عمر في بيت المقدس1
1
هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انسابت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس، وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين، وأبو عبيدة بن الجراح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم.
عزم أهل البيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس: في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر ، عمر الذي ملأت سيرته الآفاق، وسكنت إلى عدله النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون.
وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم، خرج يغذ السير إلى الشام؛ ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين.
ويمضي في طريقه حتى يبلغ أيلة،
2
وينتظر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته، يحيط به جنده ورجاله. والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين، أو شهده من بعد في حل أو ترحال، تخيل عمر قادما في موكب كموكب هرقل، أو موكب دونه، ولكنه موكب ملك أو أمير.
لما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق، وتبعه غلامه، فنزل فمشى قليلا، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه.
وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة، فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء، فتحول إلى رحل غلامه.
فلما تلقاه أوائل الناس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم «يعني نفسه». وذهبوا أمامهم، فجازوه، حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها، وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه،
3
واجتمع الناس إلى رجل جسيم أصلع أشقر، شديد الحمرة، كثير السبلة
4
في أطرافها صهبة، وفي عارضيه خفة؛ رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع، والشدة في الحق، والرأفة بالضعفاء. رأوا ملكا في زي ناسك، وراعي أمة في صورة راعي ثلة،
5
رأوا إنسانا لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها، ولا يصيب فيه الجبروت باطلا من أباطيله.
اجتمع الأساقفة والرهبان يرون رجلا في يده الدنيا، ولكنها ليست في قلبه، يملكها ولا تملكه، ويصرفها ولا تصرفه، ويستعبدها ولا تستعبده، وليس شيئا أن تكون زاهدا في صومعة، ولكن العظمة كلها أن تكون زاهدا والدنيا تحت قدميك. «ودفع عمر قميصا له كرابيس،
6
قد انجاب مؤخره عن قعدته من طول السير، إلى الأسقف، وقال: اغسل هذا وارقعه. فانطلق الأسقف بالقميص ورقعه، وخاط له آخر، فراح به إلى عمر، فقال: ما هذا؟ قال الأسقف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك مني. فنظر إليه عمر ومسحه، ثم لبس قميصه، ورد عليه ذلك القميص وقال: هذا أنشفهما للعرق.»
2
وسار عمر حتى نزل الجابية
7
في وسط الشام التي غلب عليها هرقل، ولكنه دخل الجابية كما دخل أيلة: «قدم على جمل أورق، تصطفق رجلاه بين شعبتي رحله، بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني
8
ذو صوف، هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، وحقيبة ممزقة، أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص كرابيس.»
9
وجاءه رجل من اليهود، وكان اليهود يرقبون روح الله بأيدي العرب، ويدعون الله أن يفرج كربهم، ويذهب عنهم جبروت الروم بأيدي المسلمين، قال اليهودي: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
وأقبل وفد بيت المقدس إلى الجابية، فصالحوا، وكتب لهم عهد شهد فيه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان، وأعطوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وألا يكره أحد على الدين، أو يضار في شيء.
وأزمع أمير المؤمنين المسير إلى بيت المقدس، فإذا فرسه يتوجى،
10
فأتى ببرذون فركبه، ومشى البرذون مشيته، فأسرع وهز راكبه، فرأى عمر فيها خيلاء، فنزل وضرب وجهه وقال: لا أعلم الله من علمك. هذا من الخيلاء.
3
دخل عمر بيت المقدس لا مدمرا مخربا كما دخلها بختنصر، ولا مضطهدا أهلها كما دخلها الرومان من قبل، ولا مزهوا بفتحه كما دخلها هرقل قبل عشر سنين، بعد أن غلب الفرس على الشام، ولكنه دخل رافعا لواء التوحيد والعدل، والأخوة العامة، والمرحمة الشاملة.
دخل المدينة فسار إلى المسجد ليلا، ومضى إلى محراب داود، فصلى فيه، وطلع الفجر بعد قليل، ودوى الأذان في أرجاء المدينة المقدسة لأول مرة؛ صيحة الحق في أعقاب الباطل المهزوم، ترفعها تباشير الصبح في أخريات الظلام، وشهد الله لقد كانت فاتحة الخير والسلم والكرامة للبيت المقدس ومن فيه.
وقرأ عمر في الركعة الأولى سورة «ص»، وسجد حين قرأ آية السجدة:
وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ، ثم قرأ في الركعة الثانية أول سورة الإسراء «سورة بني إسرائيل»، وفيه وصف ما أصابهم على يد البابليين.
ثم تقدم إلى الكناسة؛ الكناسة التي تراكمت على البيت حين أخرب وهجر، والتي عجز اليهود أنفسهم عن إزالتها حين ملكوا أمر البيت.
تقدم إلى الذلة المكدسة على الحرم، تقدم عمر ليزيلها عن البيت، كما أزال عن أهله الظلم والقسوة، تقدم أمير المؤمنين وجثا، وقال: أيها الناس، اصنعوا كما أصنع. وحثا في فرج من فروج قبائه. وإنما فعل عمر ما فعل تكريما للبيت، وتطهيرا وإيذانا بهذا العهد؛ عهد الطهارة والكرامة.
وسمع عمر التكبير فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره، فقال: علي به، فأتي به فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل، فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا، فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس،
11
فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت الروم عليهم إلى أن وليت،
12
فبعث الله نبيا على الكناسة، فقال: أبشري أوري شلم، عليك الفاروق، ينقيك مما فيك. أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم.
لقد لبث اليهود خمسمائة سنة ينتظرون أن تطلع شمس الإسلام ويأتي الفاروق، ليحثو التراب في قبائه، ويأمر الناس بتطهير البيت المقدس، وما فقدوا رعاية الإسلام من بعدها إلا تسعين عاما غلب فيها أهل الصليب، فأصاب البيت المقدس ما أصابه، حتى استرجعه رجل من رجال المسلمين، ملك، يتشبه بعمر بن الخطاب في الإشادة بعدل الإسلام، ومرحمة الإسلام. رحم الله صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ولكن بني إسرائيل حين رأوا الزمان ينيخ على المسلمين بكلكله، لم يأتوا عونا للعرب والمسلمين، ولم يذكروا فضل الإسلام، ولا حفظوا يد عمر، ولا اعترفوا برعاية المسلمين وحمايتهم إياهم ثلاثة عشر قرنا، بل جاءوا يجزون الحسنة بالسيئة، ويعينون الخطوب على الذين دفعوا عنهم الخطوب، ويناصرون الأعداء على الذين أنقذوهم من الأعداء، ويمالئون الذين دفنوا بيت المقدس على الذين رفعوا عنه التراب والرجس والهوان.
وليت شعري ماذا ينقمون من المسلمين والعرب
يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ؟
ورد الصباح1
تنفس الصبح في غسق الليل، ولاحت غرته في هدوء السحر، والنور يسيل من ربا المشرق قليلا قليلا، ويولد اليوم الجديد.
رب فأضئ عقلي بالهدى، ورغب نفسي في الحق والخير، واملأ قلبي بالأمل، وقو يدي على العمل. اشرح صدري، واشدد أزري، واشحذ عزمي لليوم الجديد.
رب قد طويت من عمري صفحات، ونشرت اليوم صفحة، فاجعل صفحتي هذه أوعى للخير، وأخلى من الشر، وزينها بالحق، وبرئها من الباطل، واجعل فاتحتها وخاتمتها الإخلاص لك، والعمل لوجهك. •••
رب إن عقلي يخدع بالوهم، ويقنع بالظن، ويلبس الحق بالباطل؛ اللهم فاهدني وثبتني، وأرشدني وعلمني، واجعل البرهان الواضح حجتي، والحق البين عقيدتي، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت علام الغيوب.
رب إن قلبي يشوبه الهوى، ويستهويه الباطل، فخلص اللهم قلبي من الأهواء، واملأه بحب الحق، إنك أنت الحق المبين!
رب وإن نفسي تنزع إلى أن تتزيد فيما لها، وتبخس ما لغيرها، وتحمد بما لم تفعل، وتغمط غيرها ما فعل، اللهم فأشرب قلبي العدل فيما بيني وبين نفسي، وفيما بيني وبين الناس، واجعل حق غيري أحب إلي من باطلي، ورضاك آثر عندي من كل شيء!
رب إن الناس يركنون إلى الدعة، ويعذرون في الواجب، فاجعلني دائبا على العمل لا أمل، قواما بالواجب لا أعتل.
رب إن الناس ينزعون إلى الظلم، ويجنحون إلى المحاباة، ويرضون أنفسهم بباطل يزينونه، وحق ينكرونه، اللهم فبغض إلي الظلم والمحاباة وهوى النفس، واجعل العدل والحق ملء نفسي وقلبي وقولي وعملي.
رب وإن نفسي تنزع إلى إرضاء الأقوياء، والاستهانة بالضعفاء؛ اللهم فاجعل الناس سواسية عندي، واجعلني حربا على الأقوياء المبطلين، نصيرا للضعفاء المحقين، لا تطبيني في حق رغبة ولا رهبة، ولا يأخذني في الصدق خوف ولا رجاء.
اللهم إن الناس استهوتهم الشهوات، وعبدتهم المطامع، تضلهم الكبرياء ، فيصدفون عن الحق، وتضرعهم الذلة، فيخنعون للباطل؛ فاجعلني اللهم متواضعا لا تزهوني نخوة، وقويا لا تأسرني شهوة، وحرا لا يعبدني مطمع، واملأ قلبي كبرا على الصغائر، وأنفة من الدنايا.
اللهم إن القلوب قست، والنفوس أجدبت، والوجوه وقحت؛ فاملأ قلبي رحمة لكل إنسان، ونفسي شفقة على كل حيوان، وأدبني بأدبك، واجعل فكري وقولي وفعلي برا ورحمة وإحسانا.
اللهم واجعلني في الحق جريئا لا أخاف، ومقداما لا أحجم، ومحاربا لا أجبن، عدوا للباطل جريئا عليه، محبا للحق خاضعا له.
اللهم اجعل لي من ذكرك قربا وأنسا، ورجاء وثباتا.
اللهم إني أستقبل يومي مؤمنا بك، متوكلا عليك، مخلصا لك، مجاهدا فيك، راغبا إليك، مستمدا منك.
فأضئ عقلي بالهدى، واملأ قلبي بالأمل، ورغب نفسي في الحق والخير، واشرح صدري، واشدد أزري، واشحذ عزمي لليوم الجديد.
سبحانك لا إله إلا أنت الحق المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إبرة المغناطيس1
جلست إلى مكتبي البارحة، فوقع بصري على «بيت الإبرة»، فانفتحت أمامي سبل من الفكر لا تحدها غاية، وإني حين أحاول أن أقيد هذه الفكر على القرطاس لمحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفكر التي تطوي الأجيال في لمحات، وتجمع السماء والأرض في طرفة عين.
قلت: ما أعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ، تنتحي الشمال مهما أدرتها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه، ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها في المسافات، فهي مولية وجهها شطره، محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه، ولا تشرك في هواه، ليت شعري أأهدى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة؟ أجل، إنها لتهدي الإنسان في البر والبحر، والسفر والحضر.
أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرني أن في صدر الإنسان إبرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبدا، لا يصدها عنه تطاول الأمد، وبعد المدى.
ألم تهد هذه الإبرة الأمم في ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات، ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل إليها؟ كم عبدت الإنسان شهواته! وأضلته عن الخير مطامعه! فما زالت هذه الإبرة تضطرب في صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق.
كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق في جوانحه حتى عرف إلى الحب والمودة السبيل، واستقام على النهج لا يميل!
وكم غلا الإنسان في ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك في أضلاعه حتى أشعرته نفسها، ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل من الإنصاف رشيدة!
وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء، فندم على ما قدم، واغتبط بما أقدم!
وكم أجرم الإنسان، فوخزته فأفاق، فكأنما صور خلقا آخر ينفر من الإجرام، ويركن إلى السكينة والسلام!
وكم سفلت بالإنسان سجاياه، فعملت في صدره، حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء!
وكم وقفت بالإنسان همته، فدفعته هذه الإبرة العجيبة، فمضى قدما إلى العمل، وهمزته فدأب لا يعرف الكلل!
وكم أظلم على الإنسان طريقه، وعميت عليه أرجاؤه، وأطبقت عليه سحائب سوداء، وأحاطت به ظلمات لا شية فيها من الضياء، فنظر إليها، فإذا هي إلى الغاية دليل، وإذا هي في الظلمات قد استقامت على السبيل!
وكم جارت بالإنسان آراء مضلة، وأفكار غائلة، وأقوال ساحرة، فلما هلك أو كاد، ودارت به الحيرة والإلحاد، أحس اضطرابها في نفسه فسكن، فتهافتت الآراء، وتهاترت الأقوال، وثاب إليه هداه، فوجد أمامه الله! •••
إيه أيتها الإبرة الهادية! ضل الإنسان في صباه وهرمه، وجهله وعلمه، وسعادته وشقائه، ووحدته واجتماعه، وحله وترحاله، لولا هداية الله فيك، وبصيص من نوره في نواحيك، وصلة به لا تنقطع، وشعور به لا يضل، وجذوة من حبه لا تخمد.
وأما الذين أضلتهم الأهواء، فعميت عليهم الأنباء، وتخطفتهم في الحياة المآرب، فتذبذبوا بين شتى المذاهب، وشرق بهم مطمع، وغرب مطمع، وتلونت لهم غيلان من الآمال والأعمال، والذين فقدوا أنفسهم وهم لا يشعرون، وضل سعيهم وهو يحسبون أنهم مهتدون، والذين يلبسون كل يوم زيا، ويبدلون كل حين رأيا، ويلبسون لكل دولة وجها، ولكل سلطان زيا، ويتخذون لكل ساعة لسانا، ولكل فرصة وجدانا، فأولئك أغفلوا النظر إليك، فحرموا الاهتداء بك، أولئك في إبرتهم خلل قد عرض، أو أولئك في قلوبهم مرض.
بني قومنا
في أربعين الملك الشهيد غازي
1
أيها السادة!
أقوم بينكم مبلغا رسالة الجامعة المصرية، مديرها وأساتذتها وطلابها، المصريين والعراقيين وغيرهم. هذه الجامعة التي شجاها ما شجا معاهد العلم بالعراق من هذا الخطب الجلل، والرزء العميم.
تشارك جامعة فؤاد الأول معاهد العلم العراقية أحزانها، وتحتمل معها آلامها، وتناشدها أن تعزي معها الأمم العربية كلها، وتثبتها في مصابها، فإن العلم الذي يهدي الأمم طريقها، وينير لها في ظلماتها حري أن يثبتها في خطوبها، ويعصمها في محنها.
يا إخوتنا، لا أبغي إثارة الشجن، فما أيسر إثارة الأشجان والمصيبة فادحة، والقلوب دامية، ولا أريد استدرار الدمع، فما أهون استدرار الدمع والرزء جليل، والنفوس باكية، ولكن أريد أن أعرب لكم باسم الجامعة المصرية أننا معكم في السراء والضراء، وشركاؤكم في الشدة والرخاء، وأننا وإياكم متعاونون على العمل للمجد، وعلى احتمال النوائب.
إن هذا الخطب لم يخصكم، ولا نزل بساحتكم وحدكم، ولكنه خطب العرب على اختلاف ديارهم ومذاهبهم، من شرقي دجلة إلى بحر الظلمات، وخطب المسلمين على اختلاف أجناسهم وأقطارهم. إنه رزء العرب وقد استقاموا على طريقتهم، وأقسموا ليبلغن غايتهم، ورفعوا الراية، ومضوا إلى الغاية، رزؤهم في أحد قادتهم، في ملك عربي شاب طموح، استوى على عرش المنصور، مبشرا بعهد الرشيد والمأمون.
إنه رزء العرب والمسلمين في ملك هاشمي من أبناء فاطمة، قامت لمصرعه القيامة في مكة والمدينة، وفي بغداد دار العباسيين، ودمشق دار الأمويين، والقاهرة دار الفاطميين، وبلاد العرب والمسلمين جميعا.
إنه لخطب عظيم، ولكنه ليس أعظم من عزائم هذه الأمة، ولا أكبر من كبريائها، ولا أشد من أخلاقها، ونحن بنو الشدائد، ألفتنا وألفناها، وعركتنا وعركناها.
يا بني قومنا، إن للأمم في معترك الحياة نعمى وبؤسى، وفرحا وترحا، ورخاء وشدة، والزمان قلب، تدور غيره بالخير والشر، والأمم العظيمة الحازمة تأخذ عدتها من مسراتها وأحزانها، ولا تفيت فرصة من لذة أو ألم، وفرح أو غم، ولا تمر بحادثة إلا تدبرت في أمرها، وأخذت لحاضرها، وتزودت لمستقبلها، وتأهبت لأحداث الزمان والحدثان، بل الأمم في أحزانها أقرب إلى الوقار والجد، وأدنى إلى التآخي والإيثار والتفدية، وأجدر بإدراك الحقائق والاعتبار بالوقائع، وجمع الكلمة، وإرهاف العزيمة، فإن الأحزان تجلو النفوس وتنبهها، وترقق الأكباد، وتذهب بالأحقاد.
يا بني أبينا وأمنا، كانت وفاة الغازي - رحمة الله عليه - قدرا لا حيلة فيه، ورزءا لا قدرة عليه، ولو كانت نائبة تجدي فيها النجدة، وتغني الهمة، وتنفع الشجاعة والتفدية، لوجد أبو فيصل منا جميعا نفوسا تفديه، وقلوبا تستميت دونه، وعزائم ترد الخطب صاغرا، وجلادا يرجع الموت خزيان ناظرا، ولكنه قدر من وراء الأسماع والأبصار، والجنود والأنصار.
فلتفزع الأمة العربية إلى عقلها وخلقها، وإبائها وصبرها، وثباتها وجلدها.
ولتنظر إلى تاريخها تستمد منه الصبر على المصيبة، والاستكبار على الجزع، والإباء على كل خطب، والثبات لكل هول.
ليكن من اجتماعنا على مصيبة الغازي اجتماع كلمتنا، واستحكام أخوتنا، لتكن من هذه المصيبة الجامعة أخوة جامعة، وكلمة جامعة. •••
أيها الإخوان، مضى فيصل الأول بعد أن أدى أمانته، ولحق به غازي وهو يسير للمجد سيرته، وقد أورث الله فيصلا الثاني جهاد جده، وطموح أبيه. وإن لنا فيه لعزاء، وإن لنا فيه لخلفا، فلتحطه النفوس، ولترعه الأفئدة، ولتجتمع حوله الأفكار والآمال، والعزائم والأعمال، وكل ما في العراق وما في العرب من ود ووفاء، وإخلاص وبر وكرم، حتى يترعرع ملكا كريما في رعاية الله، وحضانة أمته ووفائها وإخلاصها، ترجو فيه العراق والعرب جميعا كوكبا تأوى إليه كواكبه، وسيدا قئولا فعولا لما سن السادة الكرام من آبائه.
وإن في حكمة أهل العراق ووفائهم، وإن في هممهم وعزائمهم لضمانا للمستقبل الوضاء، والمجد الباسم، بعد هذه الخطوب المكفهرة، والوقائع العابسة.
بني قومنا تقسو الخطوب وتربد
ويشرق في أعقابها الصبر والمجد
وإن ظلام الليل يتلوه صبحه
وبعد غروب النجم إشراقه يبدو
وبعد محاق البدر نور هلاله
وبعد طلوع النحس يرتقب السعد
وبين ظلام النقع نصر منور
لمن صابر الأهوال والبأس محتد
وعند اسوداد الغيم غيث ورحمة
يقهقه في حافاتها البرق والرعد
وبعد بكاء السحب خصب ونضرة
تضاحك من أزهارها الغور والنجد
ومن بعد غيض الماء فيض لدجلة
ومن بعد جزر الشط ينتظر المد
2
وفي كل خطب للفراتين دعوة
إلى المجد في أعقابها النصر والحمد
فلا تحزنوا وارموا الخطوب بعزمة
يذل لها الخطب العصي ويرتد
وسيروا إلى العلياء من حول فيصل
وأنتم له حصن وأنتم له جند
موقعة عين جالوت1
1
كان عام ثماني عشرة وستمائة فاتحة شر مستطير في بلاد المسلمين، سالت فيه جيوش جنكيز من هضاب الصين، تغرق كل شيء، وتجرف كل شيء. طغت على التركستان، فجرفت عرش ملوك خوارزم، ودارت بالمدن العظيمة تخريبا وتدميرا، وبسكانها تقتيلا وتشريدا، وفر محمد خوارزمشاه وكان كما قال مسلم بن الوليد:
وطار في إثر من طار الفرار به
خوف يعارضه في كل أخدود
وورث ابنه جلال الدين ملكا في أيدي التتار، ومجدا بين الحديد والنار، فصبر وصابر، وجاهد ما بين نهر السند إلى حدود العراق، يحاول جهده أن يلم الشمل، ويرأب الصدع، ويخلق من الفرقة اجتماعا، ومن الضعف قوة، ومن الذعر ثباتا، ومن اليأس رجاء، حتى اغتالته المنون بعد أن أعجزتها مصاولته، وختلته بعد أن أعيتها مجاهرته.
وانتشر الرعب، وعم الفزع، ولم يثبت للتتار جيش ولا حصن في شرقي البلاد الإسلامية.
وما لي أكلف نفسي الوصف ولا أستمع لابن الأثير - وقد عاش على شاطئ هذا الطوفان وأحس لفح هذه النار - يصف هذه الوقائع: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ أن خلق الله - سبحانه وتعالي - آدم إلى الآن، لم يبتل بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ... إلخ.
2
مات جنكيز خان سنة أربع وعشرين وستمائة، بعد أن قسم بين أولاده ما فتح من الأرض وما لم يفتح، وامتد الفتح في آسيا وأوروبا، وكانت غير شتى، حتى أرسل منكوقا آن، حفيد جنكيز، أخاه هلاكو سنة إحدى وخمسين ليفتح حصون الإسماعيلية، ثم يفتح بغداد، فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى عام ثلاثة وخمسين، واستولى على أكثر قلاع الإسماعيلية.
ثم جاءت الطامة الكبرى، فاستولى على بغداد، ومحا الخلافة العباسية في تاسع المحرم سنة ست وخمسين وستمائة.
لقد طوى آباؤه الممالك الإسلامية إلى العراق، ثم أصاب هو المسلمين في الصميم إذ أخذ بغداد التي لبثت مقر الخلافة، وقبلة المسلمين في العلم والحضارة أكثر من خمسة قرون.
ماذا يصد هلاكو عما يشاء؟ من ذا يقف للجيوش التي لبثت ثلاثين سنة تسير من ظفر إلى ظفر، ومن مملكة فتحها إلى مملكة قدر لها أن تفتحها؟ إن آسيا ما بين قراقروم
2
وبغداد في قبضة أبناء جنكيز، وإن أوروبا الشرقية إلى البحر الأدرياتي قد عنت لأمرهم. ليس على هلاكو إلا أن يسير الجيوش فتطوى الأرض، ويثير الحروب فتخر الممالك، ويوعد الملوك فيخذلها جندها، وينزل بالمدن فتسلمها أسوارها، عزمة واحدة تسخر له الشام، وأخرى تقهر له مصر، ثم عزمات تبلغ به بحر الظلمات.
3
سار التتار إلى الشام، فلم تستطع لهم حلب دفعا، وهؤلاء المعتصمون بقلعتها لن يجديهم الاعتصام، ولا مناص لهم من الاستسلام بعد شهرين، وسارع أهل حماة إلى حلب، فأعطوا هلاكو مفاتيح المدينة، ثم لم تلبث للقوم مدينة بين حلب وغزة.
وأما أمراء الشام من بني أيوب، فمنهم من انحاز إلى التتر مؤثرا العافية، ومنهم من لجأ إلى مصر مستنجدا، والملك الناصر أكبر هؤلاء، ترددت به الحيرة بين حدود مصر والشام، ثم لم يستطع إلا السير إلى هلاكو.
4
وأبت مصر التي تجاهد الصليبيين منذ مائة وستين عاما أن تذل للتتر، فجمعت ما فيها من إيمان وقوة، وخرجت في رمضان سنة ثمان وخمسين، وصمدت للقوم، فالتقى الجمعان على عين جالوت في فلسطين.
فأما التتر فلم يعرفوا في الحرب إلا الانتصار منذ سال سيلهم على البلاد الإسلامية قبل ثلاثين سنة. ماذا يخشون من جيش مصر وقد مزقوا للمسلمين جيشا بعد آخر، ولم تصدهم البسالة والاستقتال دون غاية؟
وأما جيش مصر الذي جمع المصريين وعرب البادية من مصر والشام، فقد أيقن أنها الموقعة الفاصلة، وأن هزيمة في عين جالوت تفتح طريق العدو إلى مصر فالمغرب، فصمموا أن ينتصروا. وكثيرا ما تلد العزائم الظفر!
ولم يزلزل عزائمهم أن رأوا بعض أمراء المسلمين في صفوف العدو، ذلك الأمير الشقي المتسمي الملك السعيد.
التقى الجمعان يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة، واحتدم القتال، وصبر المسلمون ثم صبروا، ولقوا من حملات التتار ما يوهن العزائم، فلم يهنوا. إلى من يكلون الدفاع عن الإسلام والمجد إن لم يستميتوا في عين جالوت؟
كتبغا قائد التتر قتيل، وابنه أسير، وجنده مصرعون في حومة القتال، وبقايا السيوف منهم عائذون برءوس الجبال.
يومئذ علم المسلمون أنه يستطاع هزم التتر، فلم يثبت القوم في بقعة من بقاع الشام، وأسرعوا راجعين إلى الشرق.
جمع التتر شملهم، وأعدوا للحرب عددهم، ثم رجعوا فاستولوا على حلب بعد شهرين من موقعة عين جالوت، ولكن عين جالوت قد فصلت في القضية من قبل، وعلمت المسلمين أن الأمل والعزم والإقدام تغلب كل عدو، ولو كان التتر جنود هلاكو حفيد جنكيز.
اجتمع المسلمون على حمص، وسار التتر إليهم. فليشهد القارئ قبل المعركة جمعا من أنجاد العرب يسيرون إلى حومة الوغى.
يقول الشيخ شهاب الدين الحلبي: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار جالسا على سطح باب الإصطبل السلطاني بدمشق، إذ أقبل آل مرا
3
زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة، والجياد المطهمة، وعليهم الكزغندات
4
الحمر، والأطلس المعدني، والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض، كأنهم صقور على صقور، وأمامهم العبيد تميل على الركائب، ويرقصون بتراقص المهارى، وبين أيديهم الجنائب، ومن ورائهم الظعائن والحمول، ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية، طائرة السمعة، سافرة من الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة
ليالي لاقينا جذام وحميرا
ولكن لقينا عصبة تغلبية
يقودون جردا للمنية ضمرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
ببعض تأبى النبع أن يتكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
ودارت الحرب عند حمص يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة، فلا تسألني كيف كانت عاقبتها، فهي العاقبة التي بشرت بها موقعة عين جالوت من قبل: فارق التتار الشام إلى غير رجعة.
ثورة على الأخلاق1
يا أخي صاحب الرسالة، أبلغ أخي محمودا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني: «قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل، فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام، وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلا من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها، فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي، ثم أبن لي رأيك من بعد.
دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك، فصلى ثم دعا فقال: «اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا.» فضحك - صلوات الله عليه - وقال: «لقد حجرت واسعا يا أعرابي.» وكذلك أنت يا أخي قد حجرت واسعا حين خيل إليك أن دائرة عملك - التي وسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة - هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله، وإن شئت أن تقول: إني لم أحجر واسعا ولكني وسعت محجرا، فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة.
أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه، وطمأنينة، ما في هذا ريب، وأن الرجل الحر الأبي الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم، والثراء العريض، ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحر الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة، وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعد نفسه أسدا قويا مهيبا قد ربض حجره من معترك الذئاب، ومهترش الكلاب.
إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة: أسبيله الخلق القويم، أم العمل الذميم؟ وإني أعجل لك الجواب في قضية نتفق عليها، لنفرغ لما بعدها، فأقول: حق أن الرجل التقي الأبي لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقا واحدة هي التي يسنها الحق والشرف والإباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقا شتى من التلصص والكذب، والتزوير والخداع، والنفاق والملق، والذلة والشره، والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبيل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون، ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتل، فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع: كثيرا ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع، وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكبه السبل التي جعلتها سنن الجماعة وسائل إلى الثروة والجاه، فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في أخذ الأهبة، وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجد الفجار، فلا جرم يخفق أولئك وينجح هؤلاء؛ فإن للحياة قوانين، وللمعايش سننا، والقرآن الكريم يقول:
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ، ويقول:
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ، ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة، وتسلح بالخلق الطيب، فلن يكون هذا الخلق سببا إلى إخفاقه، وسبيلا إلى خيبته أبدا. ربما تعتل الجماعة فينتصر المبطل، ويخذل المحق ، ويفتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكون شرعة في الأرض، ولا سنة من سنن الله.
ثم علة الجماعة لا تدوم، وليست الجماعات كلها عليلة، وما تزال الجماعات منذ ألفها الله وعلمها، وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن، أيدا لأنصار الحق، وعونا لأهل الفضيلة، وخذلانا لجند الباطل والرذيلة. ما زال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته، ويصدق وعده أنجح عملا وأكثر مالا من الضائع الكذاب سيئ المعاملة، وما زال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة، والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالردئ، والغالي بالرخيص، ما زال هذا التاجر أربح متجرا، وأملأ يدا، وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاش، الشره المخادع، أترى في هذا ريبا؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء، واسأل من تشاء، ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض، فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدق مالك الأرض فيما أنفق وما جنى، ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه؛ ليؤدي الأجرة في حينها، لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين، وأظفر بما يريد.
لا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة، موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن استقرض أقرض، وإن استعار أعير، له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار، ربما يتجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد، ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين، سل يا أخي الناس في كل قبيل، وطالع التاريخ في كل جيل.
على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسد الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل بر أمين صادق، وأمة يجد المخادعون فيها طريقا، ولكنها وعرة، ومذهبا ولكنه ضيق، ورواجا ولكنه قليل، وأخرى يتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجار، ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سننا، وتشرع في المخازي شرعا، تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وترد الأبرار الصادقين خائبين أينما توجهوا، مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين، فإذا أرادت الأمة أن تجعل الفساد سنة، فموتها دون غايتها، وزوالها قبل استقرار سنتها.
أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبسا، وملأ عليك العالم حزنا، وملأك على العالم سخطا، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة، فرأيت جماعة من خفاف الأحلام، صغار النفوس، شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا، فلما ملأت نفسك أسفا، وانقلب أملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطا متشائما، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، ووصمتها بهذه الوصمة.
إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضا لما وصفت، ذلك بأن الرزق فيها لا ينال إلا بالسعي والكد، والجهد والدأب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة، ولكن الرزق فيها يقسم بأيد قليلة، ويصرف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعم حتى يبلغ أمده. وكثيرا ما تفيل الآراء، وتطيش الأيدي بأهواء الساسة، ومنازع التحزب، على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون قاعدة العمل، وسنة الجزاء.
ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربى في عبوديتهم، وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه، وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذلك التوكل إلا احتقارا للكرامة، وازدراء بالخلق الفاضل، ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال، لم تهذبنا التجارب، ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسن السنن القويمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين.
فإن رأيت جورا في الدواوين، وظلما بين الموظفين، فهي علة زائلة، فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه، واعلم أن الظفر للحق، والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة، والهزيمة للرذيلة، وأنها للغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين. والسلام عليكم ورحمة الله.»
معدة قرقرت ثم استقرت
2
يا أخي صاحب الرسالة: «أما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه أشد إساءة، وأعظم جناية؛ صورته لي غاضبا للأخلاق، راثيا للفضيلة، ثائرا على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم، يشتط في غضبته، ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبي بر أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد، ولا يرضى بأمد، ثم صورته قنوعا مستسلما، فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهادا في غير عدو، لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت، وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.
وأما أنت يا أخي الزيات، فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو صاحب وحيه، قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول: أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه، فلما تبين أنه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفاع، وفي المعارك لا يثبت للمصاع، وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، وأشد هيبة في صدور خصومك، فقلت: «على أن مجلسنا كان حافلا بغير محمود، من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك.»
وأكبر ظني أن هؤلاء «رجال العلم والدين والأدب» شركوا محمودا في المائدة، وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس، وقد قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود، وتثير سخط هؤلاء، ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطيشهم في الصحاف يدا، ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق، فحرموا الطعام، فكانت ثورتهم على الأخلاق.
وبعد، فموضع الخلاف بيننا في هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم، وضربت مثلا الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين، ثم قلت: ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أقرض، وإن استعار أعير إلخ ، فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قصاراها هذا النجاح الحقير، ويقولون: إن الذين ضربتهم مثلا من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يوما من رجال المال والأعمال كفلان وفلان. وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضربا من النجاح دون ضرب، ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلا
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، ولا أتم الآية إشفاقا على أصحابك، إني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في أغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح، في كل طرائق الحياة، إن أخفق حينا نجح أحيانا ، وإن أكدى مرة أورى مرارا، فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك أقرب إلى النجح، وأظفر بالطلبة في أكثر الأحوال من أندادهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته، فإن قصروا في الأهبة، وتوانوا في اتخاذ العدة، فماذا يجديهم الخلق وحده؟
إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها، التبس الأمر على كثير من الناس، فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة، فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر، وأحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال، فيجور بكم المنطق، فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة، وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم؛ أهم من أصحاب المال؟
وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلا واحدة، وللأشرار سبلا شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بأن تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب، فقلت: إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعا إلى رأي محمود، ثم قلت: «وما دام جوهر الرأي واحدا، فالسبيل القاصدة أن نطلب لهذه الحال بما يوائم طموح الناس، وكرامة الأخلاق، وسلامة المجتمع.» ثم قلت: «إنه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة، وذلك خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق. وهذا على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.»
وجوابي أنه ليس في كلامي نزوع إلى رأي محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها، وأما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق، فأنا لم أعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله، لم أجادل عن خلق بعينه، ولم أقل: إن خلقا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت: إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم، لا تكون سبلا إلى الخيبة والحرمان، وإن أردت أن تعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغيير، ولكن لا إخال إعادة النظر ستغير تغييرا ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير، ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل الصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة، فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.
وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقا تجعلها مثلا لما تريد تغييره، ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر، وليست من قواعد الأخلاق، فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب، ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب، فإن كانت ضعفا في الهمة، وعجزا عن الإدراك، فهي رذيلة، وكذلك الزهد، وأما التوكل فإن يكن استكانة للحادثات، وخضوعا لكل ما هو آت، فما يرضاه إنسان، وإن كان ثقة بالنفس وانطلاقا في سبل الحياة، لا ترده دون غايته المشاق والأهوال، فما أحوج الناس إليه!
يا أخي: قد أساء العجز والذل تأويل هذه الأمور، وأنت تعرف أن المثل الأعلى للرجل المسلم أن يكون طماحا إلى أبعد غاية، واثقا بنفسه إلى غير نهاية، حرا لا يقر بعبودية، أبيا لا يقيم على دنية، يرى نفسه قائما في هذا العالم بالقسط، قد وكل الله إليه تصريف الأمور، وتقسيم الأرزاق، والهيمنة على الأخلاق. وأين هذا مما فهمه الناس من التواضع والتوكل؟!
وأما الربا فلا يتسع المقام للكلام فيه، وحسبك هذه الثورات الثائرة حوله، والمعارك الهائجة فيه بين البلشفية والرأسمالية.
وأما قياس الأخلاق بالنفع والضر، فقد ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، ولكن مذهبا ينتهي إلى منفعة الجماعة وضررها، لا منفعة الفرد وضرره. ولن تقوم لأمة قائمة إن جعلت مقياس أخلاقها نزوات كل إنسان، ونزعات كل فرد.
وبعد، فيا صديقي، أراني حدت عن الموضوع الأول استطرادا معك، فأرجع إلى محمود أحمده على ثورته مخطئا، وأذمه على هدوئه مصيبا، فقد تمثل لي في الأولى حرا ثائرا يريد أن يقلب نظام الأخلاق في الأمة، وتمثل لي في الثانية تكلة نكسا مبطانا، لم يدع على المائدة فتاتا، ولم تدع فيه المائدة بقية لهمة أو عزيمة أو ثورة. فرحمه الله جوعان ثائرا، وأخزاه الله شبعان خائرا!»
سورية1
سورية الجميلة ذات الخمائل الوارفة، والجنات الناضرة، والمياه الثارة! سورية أنس الفؤاد، وقرة العين.
سورية الكادحة التي يجهد أهلها في السهل والجبل، يخرجون بالماء القليل شتى الثمرات، وينبتون به يانع الجنات، سورية بردى والعاصي.
سورية الصابرة التي وفرت الأيام نصيبها من النكبات والأزمات، المجاهدة التي تجادل عن نفسها، وتجاهد عن شرفها، دفاع البطل الأصيد الأعزل، يمضي بجنانه ويده، يشق الأهوال إلى غايته، ويحطم الخطوب إلى طلبته، مجاهدا مثابرا، مرزأ صابرا.
سورية التي لم تجف فيها دماء الشهداء، ولم تنقطع سلسلة النوائب.
سورية التي تفيض بالذكر المجيدة، والسير الخالدة، وتمت بالرحم الواشجة، والقربى الواصلة، والجوار والذمام.
سورية الجميلة الحبيبة، الكادحة المجاهدة الصابرة، فجأها السيل كقطع الليل، ودهمها القضاء من السماء، فاستحالت جبالها أنهارا، وسهولها بحارا. طغى السيل بالناس والدواب، وجرف القرى والضياع، وذهب بالزروع والثمار.
فهذه جثث الغرقى منثورة في السهول، وأنقاض الدور تسيل بها الأودية، وتحت الماء والطين عتاد البائسين وذخيرة المساكين، وما أبقت الأزمات من ثياب وأقوات. فانظر إلى الشمل المبدد، والأمل المخيب، والهلع والفزع، والفاقة والجزع! انظر العيون الباكية، والدموع الجارية، والنظرات الجازعة، والخدود الضارعة، والعقول الذاهلة، والقلوب الحائرة، واستمع زفرات الأحياء على الأموات، وبكاء الأولاد أو نحيب الآباء والأمهات. استمع فكم أنة كليم، وآهة يتيم!
إن الشاعر المحزون الواله ليخيل إليه أن مجرى السيل خليق أن يكون مجرى الدمع، ويذكر قولي أبي العلاء:
ليت دموعي بمنى سيلت
ليشرب الحجاج من زمزمين
لك الله يا سورية! تركتك منذ قليل تعانين ما تعانين، وارتقبت أن تتطاير الأخبار بما نؤمل من انتعاشك، وما نرجو من نهوضك، فما راعنا إلا نبأ السيول الجارفة المدمرة، ولكن في صبرك وجهادك عزاء، وكل غمرة إلى انجلاء، وإن وراء هذا الظلام فجرا، وإن مع العسر يسرا. •••
هذه سورية في نكبتها، فمن ندعو لنجدتها؟ إن ندع العرب فأهل النجدة وأولو الحمية، وحفظة الجوار، ورعاة الذمار، في قلوبهم الراحمة لهؤلاء المنكوبين رجاء، وفي قرابتهم العاطفة عزاء، وفي أيديهم السخية ما يخفف البلاء، وهم للبائس خير وزر، وللاجئ أمنع عصر.
وإن ندع المسلمين والنصارى، فالدين يأمرهم بالتراحم، ويحفزهم إلى المؤاساة، وإن لإخوانهم فيهم لنصراء رحماء، يجيبون دعوة المضطر، ويمسحون دمعة المحزون، ويفرجون كربة المكروب. إن عليهم أن يمسحوا على هذه القلوب الدامية، ويرفقوا بهذه الأكباد الواهية.
بل أدعو البشر أجمعين، والإنسانية كلها، دعوة عامة شاملة، وأستنجد القلوب الرحيمة، لا أستثني أحدا، أن تمد الأيدي الآسية إلى هذه الألوف التي يعوزها القوت واللباس والمأوى.
يا معشر الكتاب والشعراء، كيف تقسو في هذه المحنة القلوب، وتجمد في هذه الكارثة الدموع، ويصمت في هذه الفاجعة البيان، ويخذل القلم واللسان؟
إن ما بين دمشق إلى المعرة للسيل غارات، وللدمار آيات، وللشعر مقالا، وللبيان مجالا.
دمشق العظيمة تستغيث، والمعرة الخالدة تستنجد، فيا أدباء العربية والإسلام، أحيوا الهمم، واشحذوا العزائم، ويا أحباء أبي العلاء، هذا شيخ المعرة في بيانه، يستنجدكم لجيرانه، يقول:
كيف لا يشرك المضيقين في النع
مة قوم عليهم النعماء؟!
ويقول:
من حاول الحزم في إسداء عارفة
فليلقها عند أهل الحاجة الشكر
ومن بغى الأجر محضا فليناد لها
برا فقيرا وإن لاقاه بالنكر
فالقوا بمعروفكم هؤلاء الأبرار الشاكرين تجمعوا الحزم والخير في مكرمة، ولا تحقروا ما تسعفون به وإن قل ، واستمعوا إليه يقول:
إذا طرق المسكين بابك فاحبه
قليلا ولو مقدار حبة خردل
ولا تحتقر شيئا تساعفه به
فرب حصاة أيدت ظهر مجدل
مصطفى الصادق الرافعي1
«قال قائل: مات سنائي!
إن موت هذا العظيم ليس خطبا أمما، لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطا كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض، إنما كان كنزا من الذهب في هذا التراب، لا يزن العالمين بمثقال ذرة.
لقد رمى القالب الترابي إلى التراب، وحمل الروح والعقل إلى السماوات.»
2 •••
ذكرت هذه الأبيات، أبيات جلال الدين الرومي، حينما قرأت نعي الرافعي. وا عجبا! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أأطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياء؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إن شاء صور أحزانه مواسم، وإن شاء رد أعياده مآتم؟
أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟
كلا، كلا، إن مولد الحر في الدنيا قليل، وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله، فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت.
إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء، فلا يزال وضاء هاديا، أو كما يولد النهر في سفح الجبل، فلا يفتأ جاريا ساقيا، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر، ثم لا تموت أبدا.
إن الحر الكريم فطرة صافية تستمد من الله، فلا يحول عنها نوره، ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل، فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع، وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان . إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وإن حد الناس مكانهم حد هو مكانه، فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل إليهم الباطل حقا والحق باطلا، وقف هو هازئا أبيا يستوحي ربه، ويستفتي قلبه، وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتمسح بهم كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم، البحر الخضم:
يظل كالطود يجري حوله نهر
من الخطوب له بالناس طغيان
فأنت مآرب أهل الذل قمته
فما يذلله نيل وحرمان
إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية مقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام، وهل التاريخ كما قالوا إلا إعاة وتكرار؟! •••
ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيبا، ومن النور الإلهي قلبا، ومن الفيض الإلهي ينبوعا، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي للظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال، ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.
كان الرافعي نورا وسلاما، ومحبة ووئاما، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته، وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور نارا تلظى، والسلم حربا تهيج، والحب بغضا ثائرا، والرحمة شدة حاطمة.
لبثت سنين طوالا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجبا، ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤيته حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان، ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثا، كانت أخراها في دار هذه اللجنة، بعد أن كتبت مقالي عن كتابه وحي القلم، فعانقني وما توهمت أنه عناق الوداع، ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد، وفرقة الدهر. رحم الله مصطفى الصادق، وجزاه عن لغته وقومه ودينه خير الجزاء، لا جرم سيحفظ ذكره بيان القرآن، وتاريخ العرب والإسلام.
شباب أم أماني ؟
3
يا زهرة في ضفاف الماء ناضرة
يهتز فيها جمال جد مفتون
وللنسيم على أوراقها عبث
ينشر الحسن فيه كل مكنون
تطالع الماء تبغي فيه صورتها
تردها الريح عنه رد مغبون
وينفذ الدهر فيها حكمه فإذا
شتى الوريقات بين الماء والطين
أين الشباب الذي راقت نضارته
ورفرفت فوقه أحلام مجنون؟
أنضرة الزهر لم تثبت لناظرها
أم صورة الماء بين الحين والحين؟
أروع الأشياء
4
أتذكرين يوم جئت حيرى
سائلة: ما أروع الأشياء؟
أتذكرين حيرتي وأني
طوفت في الأرض وفي السماء؟
ثم انثنيت واللسان عي
يعثر بين العجز والحياء؟ •••
أتذكرين بعد ذاك يوما
أسلمك الحزن إلى البكاء
ترقرقت فيه الدموع تترى
لألاءة في خدك الوضاء
هذي الدموع، لا عراك حزن
أوحت لقلبي أصدق الإيحاء:
أروع شيء في الورى دموع
في مقلة الحزينة الحسناء
مصر والبلاد العربية1
بين مصر والبلاد العربية كل ما يؤلف بين الأقوام من وشائج القربى والتاريخ، وكل ما يحكم القرابة من عقائد وعواطف، وآلام وآمال، وكل ما يؤكد الأخوة من حقائق ومنافع. والكلام في هذا تبيين ما لا يعوزه البيان.
يذهب المصري إلى أحد الأقطار العربية فكأنما برح بقعة في مصر إلى أخرى، يرى وجوها يعرفها ولا تنكره، ويسمع من أحاديث الماضي والحاضر ما يسمعه في بلاده، ويحدث عن الهموم والمطامح التي تنطوي عليها نفسه ويخفق بها قلبه. حيثما توجه وجد أهلا بأهل، وإخوانا بإخوان، وأبصر من ذكر التاريخ، ومشاهد الحاضر، وخطط المستقبل ما يوحي إليه أنه في وطنه وبين قومه، وكأنه لا يذهب إلى هذه البلاد إلا ليرى بعينيه ما حدثه به التاريخ، وأحكمته في نفسه النشأة والتعليم.
ذهبت مرات إلى فلسطين والشام والعراق، فكان يخيل إلي أينما سرت أني لا أخطو إلا على صفحات من التاريخ المجيد، ولا أرفع بصري إلا على عنوان من عناوينه، في صورة مسجد أو مدرسة، أو قبة حنت على عظيم من أسلافنا أبطال الإسلام والعربية، وطوفت في العراق مدنه وقراه، وحضره وباديته، فكانت بغداد عندي القاهرة، بل أجل ذكرا، وكانت الكوفة والبصرة والموصل أعظم أثرا في نفسي من طنطا والمنصورة وأسيوط، وكانت مضارب شمر وبني تميم أذهب بي في التاريخ من مضارب القبائل المصرية، وأما دمشق الجميلة الجليلة، فما دخلتها إلا ازدحمت علي أحداث التاريخ، ودفعتني مواكبه، فسارعت إلى الجامع الأموي أنشد قول شوقي:
هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان
ولست بدعا في هذا، فما أحسب مصريا ذهب إلى هذه البلاد إلا شعر بما أشعر به. •••
وليس الأمر بيننا تشابك أرحام واتصال أوطان فحسب، ولكنه الحب المؤكد والود الصريح ينطق على ألسنة القوم، ويتجلى في أساريرهم، ويبين في أعمالهم، ويشهد به اهتمام القوم بكل صغيرة وكبيرة في مصر، وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد. وكثيرا ما ترى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها، وإذا تحدث هؤلاء الإخوة الكرام عن مصر أشادوا بذكرها، وأكبروا حضارتها، وأعظموا مآثرها على العربية والإسلام، معترفين مغتبطين، لا جاحدين ولا كارهين، وعدوا مجدها مجدهم، وعزها عزهم، وفخروا بها كما يفخرون ببلادهم. •••
وتطلع البلاد العربية إلى مصر، وإنزالها هذه المنزلة أجدى الوسائل إلى التقريب بينها، وتوحيد سننها في التربية والتعليم، والتأليف بين أبنائها، ولم يأل إخواننا جهدا في التودد والتقرب، فماذا يجب على مصر؟
ليست مصر أقل شعورا بإسلامها وعربيتها، ولا أضعف تقديرا للوشائج التي تحكم بهذه البلاد أواصرها، والمصالح التي توثق بها علائقها، ولكن التاريخ السياسي في العصر الأخير فرق بين هموم مصر وهموم أخواتها، وشغلها بغير الذي شغلوا به، فلما أفاقت قليلا إلى نفسها وموقفها بين الأقطار والأمم، لم يلحقها شك فيما بينها وبين أخواتها من أواصر وعرى لا تقوى الحادثات على فصمها، وكلما خف عنها عبء المصائب ازدادت شعورا وبصرا بمكانتها بين أخواتها، وما يجب عليها لهم.
إن على مصر أن ترعى القرابة، وتجزي الود بالود، وعليها أن تضطلع بالتبعات التي تحملها إياها ثقة البلاد العربية بها، وإقامتها مصر مقام الأخ الأكبر.
أسمع أحيانا بعض المتحدثين بهذا يقولون: إن على مصر أن تستغل هذه الثقة. وحاشا لله أن يكون الأمر استغلالا أو اتجارا، إنما هو أخوة ومودة، وتبعات وواجبات، وتعاون على الوقوف في معترك الحياة، وتآزر على بلوغ الغاية التي تلتقي عندها مقاصدها جميعا. يجب على مصر أن تصلح نفسها، وتكمل حضارتها، وتعمل على ما يوافق مكانتها، وتسن السنن الصالحة لنفسها وغيرها. يجب عليها أن تشارك في السراء والضراء، ولا تقف بمعزل في مصائب البلاد العربية ومسراتها، بل تشارك جهد اليد واللسان والقلب، وعليها ألا تألو جهدا في إمداد من يستمدها، وبذل ما تسأل من معونة في العلم والأدب وغيرهما، موحية إلى كل مصري يذهب إلى البلاد العربية، أنه يذهب ليؤدي واجبا، ويعاون أخا، وأن واجبه حيثما كان من هذه البلاد كواجبه في مصر، وأن مقصده الأول أن يبذل من قواه على قدر طاقته، لا يبغي جزاء ولا شكورا، وإن لم يقصر إخواننا في الجزاء والشكر.
ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا، فلا ريب أن فيها من الآداب والأخلاق والصناعات ما يجدي علينا أن نتلقاه عنها، ونحتذيها فيه.
بالمودة والتآخي والتعاون، وشعور كل جماعة بمكانها من الجماعات الأخرى، وإدراكها ما لها وما عليها في الجماعة الكبيرة الشاملة، يتهيأ للبلاد العربية، ما بين بحر الظلمات ونهر دجلة، ما تطمح إليه من مجد وسعادة، وما يكافئ تاريخها من حضارة، حتى تؤدي نصيبها من الخير للجماعة البشرية كلها. وما أعظم ما ينتظر المجد من العرب! وما أعظم ما تؤمل الإنسانية فيهم!
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
يروي بعض الصوفية أن الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - كان إذا قفل من غزاة قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» ويقولون: إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء، وخوض المعامع، وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها، وإعدادها للرقابة على أعمالها، والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة، واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم ، وتحتمل كل ما يحملها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق، وحتى يجتمع الناس على شرع لا تفرقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء، ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة، ويسعدها في معايشها.
صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدو جهاد بين، لا تقعد عنه الأنفس العزيزة، ولا تختلف فيه الكلمة، تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد لعدو مرئي في معترك محدود، ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها خفي المسالك، غامض الجوانب، تعترك به النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.
فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها، أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أملت، أو بعض ما أملت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر؛ الجهاد الذي يعنى بأحوال الأمة، ما ظهر منها وما بطن؛ ليربيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردها جماعة صالحة متآخية تجمعها المودة، ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة، وعزائم مجتمعة، وآراء متناصرة.
الجهاد الذي يعنى بالجهلاء فيعلمهم، وبالمرضى فيأسوهم، وبالبائسين من الزراع والصناع فيأخذ بأيديهم إلى العيشة الراضية، ويقارب بين طبقات الأمة، حتى يجمع شملها الخير العام، والمصلحة الشاملة، الجهاد الذي يهيئ للأمة ولاة ينشرون السلام والأمان، ويقومون بين الناس بالقسط في كل كبيرة وصغيرة، حتى تعم النصفة القوي والضعيف، والنصير والمخالف، والمحب والمبغض.
وتقوم للأمة حكومة يحمل كل واحد فيها قانونا في الخلق يكفل ألا يحيد قيد شعرة عن القانون الذي في الورق، ويتنزل فيها المثل الصالح من الرؤساء إلى من دونهم، حتى يشعر كل عامل أنه يتلقى العدل ممن فوقه، لوحيه إلى من دونه، وأنه حين يعدل لا يتبرع ولا يمن على أحد، وإنما هو الحق والواجب لا محيد عنهما، ولا مفر منهما، ولا يسع الأمر غيرهما.
وحتى لا يقضى في أمر إلا بما كان يقضي به عمر بن الخطاب لو عرض هذا الأمر عليه، لا محاباة ولا حيف، ولا هوادة ولا ضعف، حتى يؤخذ الحق له، وحتى يكون العامل الصغير في أقصى الأرض نائلا حقه، آمنا عليه، كالحاكم الكبير في دواوين القاهرة، وحتى ييأس أكبر الموظفين، وأقرب المقربين من المحاباة، يأس أصغرهم وأبعدهم، لكل حقه، وعلى كل واجبه، وفوق الناس جميعا قانون الأمة وعدل الله.
الجهاد الأكبر الذي يذهب بهذه المساوئ البادية في أنفسنا وأجسامنا، وأزيائنا وطرقنا، وأنديتنا ودواويننا ودورنا، والذي يأخذ الأمة بيد رحيمة حازمة، ويوفي بها على النجاة غير مبالية بصيحات المرضى الذين يكرهون الدواء، والمفسدين الذين ينفرون من الإصلاح إلخ إلخ.
لست أقول: إن أمتنا ابتليت بالشر والفساد بين الأمم، ولكنني أريد لها أن تكون
خير أمة أخرجت للناس ، وأن تصير مضرب المثل بين الأمم في أخلاق أفرادها، ونظم جماعاتها، وسعادة أولادها.
سيقول الضعفاء: هذا مطلب عسير، وأنا أقول: إنما تطمح عزائمنا إلى المطالب العسيرة، وإنما يكافئ هممنا المقاصد البعيدة، وسيقول الذين في قلوبهم زيغ: هذا هذيان، وينسون أن هذا الهذيان تنطق به القوانين كلها، فإن لم يكن عملنا مصدقا قوانيننا، فما جدوى هذه القوانين؟ ليس في الأمر عسر، وليس في الأمر هذيان، ولكنه حق يسير إذا برئت النفوس من يأسها، وخرست الألسن عن هذيانها. وحسبنا أن يقوم على رأس الأمة «عمر» واحد يضرب المثل، ولا يتهاون في إنفاذه، ويقتدي به الناس كلهم، رغبة ورهبة يقتدون به، ويحاول كل منهم أن يجعل نفسه عمر آخر.
إن نفوس هذه الأمة معمورة بالخير، وإنما أضر بنا أن رفعت في كنف العدو رايات للشر، انحاز إليها كل شرير، وأشفق منها كل خير، فازداد المسيئون إساءة، وضعفت نوازع الإحسان في نفوس المحسنين. فاليوم نريد أن نرفع في هذا البلد للخير رايات، ويهاب بما في الأمة من أخلاق؛ ليزداد المحسن إحسانا، ويكف المسيء عن إساءته، فإذا الناس أعوان على الخير، أنصار له، فرحون به، مغتبطون سعداء.
ذلكم الجهاد الأكبر، الذي تضطلع به هذه الأمة الكريمة، وتهديها إليها حكومتها الرشيدة، مؤيدة موفقة مسددة، إن شاء الله.
عقبة على شاطئ المحيط1
1
من القوم أوغلوا في البيداء يجوبون سيناء، قد أغذوا السير وأقلوا المير؟
2
من القوم تسبح بهم الجمال في لجج الرمال، وتغوص منهم الأشباح والظلال في غمرات الآل،
3
ترفعهم الوهاد إلى الهضاب، وتسيل بهم الهضاب إلى الوهاد، لا يألون تأويبا وإدلاجا،
4
ولا يشكون نصبا ولا كلالا؟
من القوم ترمي عزائمهم الغايات، وتطوي هممهم المسافات، سيان عندهم البعيد والقريب، والعسير واليسير؟
من القوم تضيء بالإيمان قلوبهم، وتقر على اليقين نفوسهم، حداؤهم القرآن، وغناؤهم الأذان، رحالهم معابد، ومنازلهم
5
مساجد، قد شروا لله أنفسهم، وأرخصوا في مرضاته أرواحهم، ورضوا بما قسم لهم، وقد سايروا الشمس مغربين، لا تحويهم البلدان، ولا تستردهم الأوطان، كأنهم نجوم في حبك الأرض، تسير بقدر إلى قدر.
العرب المسلمون يقودهم عمرو، يتوجهون تلقاء مصر، رموا الباطل في جانب، وساروا إليه في جانب، وصرعوه في ميدان، وهرعوا إلى ميدان. هدموا سلطان الروم في الشام، وصمدوا لسلطان الروم في مصر وإفريقية.
بالأمس زحموا الصرح فانهار، ونفخوا زخرف قيصر فطار، وأشاروا إلى الصنم فسجد، وخلى جبروته إلى الأبد. وضعوا سلطان هرقل، ورفعوا سلطان الله، وأقاموا الحرية في مصارع العبودية، وشادوا العدل على مقاتل الجور.
واليوم يتبعون الباطل المهزوم، ويشردون الزور المزءود. إنهم يؤمون مصر، ومصر أكرم على الله من أن تكون مباءة الباطل، ومثوى الجبروت. إنهم يسرعون إلى مصر، فعفاء على الروم وسلطانهم. ويل للباطل يدمغه الحق، والظلم يزلزله العدل، والاستعباد تثور به الحرية، ويل للروم يسير إليهم العرب.
2
أترى البحر المائج، واللج الهائج، أترى السفن على الثبج
6
راجفة، والجموع فوقها واجفة؟ أترى الموج يتلاطم، والسفين يتصادم، والجيوش ملتحمة، والخناجر والسيوف مختصمة؟ أترى جندا يلوذون من حر الضراب إلى برد الماء، ومن ذل الإسار إلى عار الفرار، وجندا ثبته اليقين فثبت، وآثر الموت على الحياة فظفر؟
وا عجبا، قد أصبح فرسان الصحراء أبطال الدأماء، وصار حداة الإبل أمراء السفن، جاوزوا الكثبان البيض إلى اللجج الخضر، فاتخذوا السفين جيادا، والبحر مرادا. وهل الإبل إلا سفن الصحراء، وهل السفن إلا أفراس الماء؟ ما استبدل هؤلاء إلا سفينة بسفينة، وفرسا بفرس.
وإنها، على ذلك، لإحدى العبر: أبناء البادية ينازلون الروم في الأساطيل، معاوية وابن أبي سرح يقاتلان قسطنطين بن هرقل وقد جاءهم في ستمائة سفينة تحمل جند الروم، وتاريخ الروم، وثارات الروم! وأعجب العجب أن يغلب الأسطول الرضيع الأسطول الكهل، وأن يغلب ابن أبي سفيان ابن هرقل، وأن يغلب العرب الروم في بحر الروم.
7
3
ما جزيرة العرب وفارس والشام ومصر، وما الهند والصين، والمشرق والمغرب في همة هذه الشمس الوهاجة، وعزيمة تلك الكواكب السيارة؟ قد استقر سلطان القوم في مصر فلم يقنعوا، وها هم قد غزوا برقة ورجعوا، أتحسب الأمد تطاول عليهم، والشقة بعدت بهم، فملوا أو خاروا؟
تلبث قليلا ثم انظر جيش العبادلة
8
يزحف إلى إفريقية، فيظفر ثم يصالح، وما وراء الحرب والسلم إلا المسير لإعلاء كلمة الله، وبلوغ الغاية مما أرادوا في سبيل الله.
ويقف القوم سنين، وما هو إلا الجمام للمسير، والتحفز للوثوب، والإعداد للجهاد، والتريث للتثبت، وعما قليل يطوون المغرب، لا تعوقهم الفيافي المترامية، ولا تصدهم الجيوش الجرارة. تنظر الغد، فما بلغ القوم الأمل الموعود، ولا قاربوا الغاية المقدورة.
4
عشرة آلاف تطوي الأوطان والقطان في سبيلها، وتطأ الأهوال والأبطال إلى غايتها! عشرة آلاف، وفي الناس واحد كألف.
تجمعت في فؤاده همم
ملء فؤاد الزمان إحداها
عشرة آلاف قائدهم عقبة بن نافع، عزموا ألا ينثنوا، وصمموا ألا يهزموا، وآلوا ألا يرجعوا ما اتسع الفتح لعزائمهم، وامتدت الأرض لأقدامهم.
ها هو ذا عقبة يبني مدينة القيروان، فعل الغازي المعمر، والفاتح المقيم، وسيجعلها مبدأ السير، وأول الفتح، وكأنهم ما قطعوا المهامه إليها، ولا ساروا عن ديارهم قبلها.
في كل فج عزمهم سيار
إلى الوغى تهافتوا وطاروا
جماعة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
أرض الله، وعباد الله: أينما توجهوا فهي أرضهم، وحيثما حلوا فهي ديارهم، لا بعد عندهم ولا قرب، ولا شرق ولا غرب
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله .
ولكن عشرات الألوف من الروم والإفريقيين قد ساروا إليهم. لقد أعد الروم لهم وأزمعوا أن يحطموهم، فوا رحمتاه للأنجاد القليلين، والغرباء النازحين!
كلا، لا خوف ولا حزن، ولا قلة ولا كثرة، انظرهم يديرونها على عدوهم حربا طاحنة، ويلجئون الروم وأعوانهم من لظى النار إلى سلاسل الإسار، انظر إلى ألوف من الروم مصفدين.
أترى الكثرة أغنت، أم ترى القلة قلت؟ ذلك آخر عهد الروم بإفريقية.
5
أين الجنود البواسل والعباد الغزاة، والبداة الذي خرجوا ينشدون الحق، ويردون الجبارين إلى العدل؟ إنهم ليسوا في برقة ولا إفريقية، ها هم أولاء في أقصى المغرب، هم اليوم في طنجة، بل هم في السوس، لقد انتهوا إلى الساحل، لقد انتهت الأرض! وا أسفا للجواد المتمطر لا يجد مجالا، والعزم المحضر لا يجد مضطربا. قد بلغوا البحر فكيف المسير؟ وفتحوا ما بين المدينة المنورة وبحر الظلمات، فأنى الفتح؟
انظر عقبة تضيق بعزمه الأرض، وتصغر في عينه الأقطار، فيدفع جواده في البحر ويصيح:
والله لو علمت وراءه أرضا لسرت غازيا في سبيل الله.
9
وحي القلم1
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
1
أنا معجب بالرافعي منذ قرأت له، وأحذر أن يغطي الإعجاب على بصري، وتكل عين الرضا عن العيوب، وقد اتهمت نفسي لتكافئ التهمة الإعجاب، ويعادل الحب الارتياب.
الرافعي نسيج وحده، تقرأ له فتشعر أنك في اختراعه وتصويره وبيانه وتفكيره، لا يذكرك بأحد، ولا يذكرك به أحد. وحسب الكاتب أن يكون كونا مستقلا يستملي الضمير، ويبدع في التصوير. وكثير من الكتاب قوالب تختلف أحجامها وأشكالها، ولكنها صور مستعارة لا تفتأ تستعير مادة عملها.
بين شعراء الفرس شاعر تسمى «خلاق المعاني»، والرافعي في وحي القلم جدير بهذا اللقب. وما أعسر الخلق هنا، وما أصعب الإبداع! يعمد إلى الحدث الصغير ذي المعنى المحدود، فيحطم حدوده، ويصله بالبشرية كلها، أو يشيعه في العالم كله، ويصوره صورا تلقى القارئ بجدتها وروعتها، والكاتب الملهم يرى الخليقة أسبابا متصلة، ومعاني متجاوبة، وصورا متجاذبة، فما يبصر ذرة إلا رأى وراءها الفلك، ولا يقابل شعاعا إلا جذبه إلى الشمس، وكأن كل شيء في الوجود عين تطل على العالم غير المحدود، تنثال عليه الفكر، وتتزاحم أمامه الصور؛ فيكون همه أن يشق طريقه بين المعاني المتزاحمة، ويجد سبيله بين الطرق المتشعبة، وأن يطرد المعاني التي لا يريدها عن المعاني التي يقصدها، فهو من الخصب في نصب؛ نصب الكاتب المقلد من الإجداب والإجبال.
العالم أمام الرافعي كتاب مفتوح، يدرك فيه جمال الحروف، وحسن السطور، ثم ينفذ إلى ما لا ينتهي من المعاني. وما يزال يعرض المعنى الواحد في صور رائعة، حتى يدع القارئ معجبا حيران، قد اجتمعت على القراءة خفقات قلبه، ونظرات عينه ، وأسارير وجهه، فلو أن الرافعي صور هذه الخفقات، وبين هذه النظرات والقسمات؛ لاسترد البيان الذي أفاضه على قارئه.
والرافعي يغرب أحيانا، أو يدق فينبهم معناه. وفي هذا ثورة بعض الأدباء عليه، ولكن الذي آمن بقدرته فيما وضح واستبان من كلامه يؤمن أنه حين يغمض يتحيل لمعنى دقيق خفي لم ترضه الألفاظ، ولم يذلله الكتاب، أو يتلطف لفكر نفور آبد ليختله. وكثيرا ما يخيل إلي وأنا أقرأ آبدات الرافعي، أني أتبع بصري طائرا يرتفع في اللوح، ثم يرتفع حتى تضمره السحب فلا تراه العين، ولكنها تعرف أنه في جو السماء، فإن قيل: إن هذا حكم الإعجاب والرضا قلت: فإني أتهم نفسي فلا أدفع عن هذه الأوابد، ولكن وحي القلم بريء من الغموض والانبهام، وإنما أكتب اليوم عن وحي القلم.
2
هذا الكاتب النابغة نزاع إلى الجمال، طماح إلى الفضيلة، مولع بكل خلق كريم، فلا يعالج أمرا إلا حلق به إلى الجمال، والرأفة، والرحمة، والإحسان، والحرية، والإقدام، وهلم جرا.
وقلبه فياض بالإيمان والطهر، فإذا كتب في الدين وما يتصل به ارتقى إلى حيث تنقطع المطامع. اقرأ مقاله: «سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم». إنها تملأ القارئ إعجابا، وتسمو به حتى يحسب نفسه ملكا محلقا يرى مآثم الناس ومصائبهم من حيث لا تتعلق به ولا تستهويه، ولا يوفق لهذا البيان إلا مسلم ملهم كالرافعي، يكتب في حقيقة علوية كالنفس المحمدية، ثم اقرأ في مقاله: «الله أكبر» وصف المسجد ونشيد الملائكة. لقد قرأت فكانت تنبعث التكبيرة من قرارة نفسي، فأمسكها مؤثرا الاستماع إلى هذا التكبير الذي يدوي به المسجد، فلما انتهى المقال لم أملك أن رفعت صوتي بآخر كلمة منه: «الله أكبر».
هذه النزعات العلوية، والسمو الروحي يتجلى في مقالاته: الإشراق الإلهي، فلسفة الإسلام، حقيقة المسلم، وحي الهجرة، فوق الآدمية، درس من النبوة، شهر للثورة، ثبات الأخلاق.
والرافعي كاتب الإسلام والعروبة يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب، فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجبا: كيف ولدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل. اقرأ «زوجة إمام» و«السمكة»، واقرأ «يا شباب العرب»، و«يأيها المسلمون».
وهذا الكاتب السماوي أبرع الناس تحليقا بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعا به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني والهوى الشيطاني، فترى القارئ مدعوا إلى السماء، ومطرودا عن الأرض، طائرا إلى الخير، نافرا عن الشر.
وإذا وصف صاحبنا الجمال بث في العالم معانيه، ونفض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقا جديدا: يخلق من الشعاع شمسا، ومن القطرة نهرا، ومن الوردة حديقة، ثم يغرد فلا يدرى: أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد، ولا يدري القارئ: أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟ وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية تسلط على الصفحة الجامدة السوداء، فتردها كلاما وأنغاما وألحانا. اقرأ «عرش الورد» تر كيف جعل ابنته على عرشها مركزا يحيط بها الجمال فلكا دائرا.
3
ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين! ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جمادا يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. يأخذ الحادثة الصغيرة ينطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه، حتى يقيم بها للإنسانية عرسا أو مأتما. اقرأ «أحلام الشارع» تسمع أنات البشرية، وتر عبراتها، وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج، وماء العيون، ونار الزفرات، وحز الحسرات، وواد الفاقة والذلة، ثم تسمع لغة الإنسانية على لسان ما سنت من قوانين.
والعجب أنك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. اقرأ «عربة اللقطاء» تر أنه صاغ من أساريرهم حروفا للهجاء تسع كل معنى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء، وتقرأ «لحوم البحر» فتستمع إلى الشيطان والملك كل ينشد أناشيده، ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة، ولعنة للرذيلة، وهو قادر على تسخير الشيطان لبيانه؛ فقد أعطي في البيان ملك سليمان.
وإذا وعظ «الصادق» نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويرا لا يدع له أن يختار إلا الأولى، وأن يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها على حقائقها، نافيا عنها تلبيس إبليس، وإلى القلب ينفخ فيه العظمة، ويبث فيه الفضيلة والطهارة، والطموح إلى كل خير، والنفور من كل شر. اقرأ له «وحي القبور».
4
وهذه المقاصد الجليلة، والنزعات السامية تخالطها دعابة رقيقة وسخرية نافذة، ترى الكاتب يرتفع فوق العالم، ثم يسخر مما عبد الناس من أباطيل وأهواء، فإذا التماثيل التي يسجدون لها تهاويل، وإذا الهول الذي يفزعون منه تهويل، وإذا العظمة والكبرياء والسلطان والجاه والغنى وكل ما عده الاجتماع عظمة لقوم وحقارة لآخرين أضاحيك يخلقها الجهل، ويهدمها العقل، ويقدسها الإنسان حيوانا، ويحطمها الإنسان إنسانا. وأعوذ بالله من الرافعي إذا انطلق ساخرا، يرسل بيانه طعنات دراكا وهو يضحك ضحك البرق في السحاب الراعد، أو لمع السيف في يد الضارب. •••
وبعد، فهذا وصف الروض في كلمات لو كانت أزهارا ما مثلته، ونعت البحر في سطور لو كانت أمواجا ما صورته، فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله، فهما ما خطه الرافعي، فإن شئت فقل : جنات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل: إنه العالم في سطور قد انتظم، ووحي إلهي سماه الرافعي «وحي القلم». ذلك الفضل من الله.
المثنى بن حارثة1
على ذكر «نادي المثنى» ببغداد
1
كانت قبائل ربيعة ضاربة شرقي نجد، موغلة إلى الشمال حتى أعالي الفرات، وكانت الوقائع تثور بينهم وبين الفرس في الحين بعد الحين، فكانوا أجرأ العرب على فارس، وكان العرب يسمون فارس «الأسد»، فسموا ربيعة: «ربيعة الأسد».
وكان بنو شيبان من هامات ربيعة في الجاهلية، وهم كانوا أبطال «ذي قار»، وامتد بهم المجد في الإسلام، فكان منهم بيوتات لها في الحرب والمكارم مآثر، يقول أبو تمام:
أولاك بنو الإفضال لولا فعالهم
درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد
وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنه
به أعربت عن ذات أنفسها العرب
هو المشهد الفرد الذي ما نجا به
لكسرى بن كسرى لا سنام ولا صلب
2
وقد امتدت أحقاد ذي قار بين الفرس وبني شيبان خاصة، وقبائل بكر عامة، حتى كان بنو شيبان طلائع الفتح الإسلامي في العراق.
لما عم الإسلام الجزيرة وتوطد سلطانه سمع أبو بكر بوقائع سيد من شيبان في سواد العراق فقال: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟
قال قيس بن عاصم المنقري: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، هذا المثنى، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
ثم قدم المثنى على أبي بكر يسأله أن يؤمره على قومه، ففعل، وكان المثنى من قبل على قومه أميرا، وبقي من بعد أميرا يستعينه أمراء المسلمين إذا حضروا، ويستخلفونه إذا غابوا، حتى مات بين مآثر مشكورة، ومناقب محمودة، وقد صدق عمر حين سماه: «مؤمر نفسه».
ولما اشتدت الحرب في العراق، بعث المثنى أخاه مسعودا إلى الخليفة يستمده، فأرسل خالد بن الوليد إلى العراق، فلما نزل خالد النباج، كتب إلى المثنى وهو معسكر بخفان ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته، قال الطبري : «فانغض إليه جوادا حتى لحق به.» فانظر إلى الرجولة كيف تسارع إلى الطاعة.
ولما توجه خالد إلى الشام، استبد المثنى بإمرة العراق، وكان بطل موقعة بابل، وفيها قتل الفيل الذي أفزع خيل المسلمين.
قال الفرزدق يعدد بيوتات بكر:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة
ببابل إذ في فارس ملك بابل
ثم سار المثنى إلى أبي بكر ليخبره بجلية الأمر في العراق، فوافاه مريضا قد أشفى، فأوصى أبو بكر عمر، قال: «فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى.»
سار الناس إلى العراق وأميرهم أبو عبيد الثقفي، فلما كانت موقعة الجسر التي زلزل فيها المسلمون، وقطع جسر الفرات وراءهم، فتهافتوا في الماء، وقف المثنى في أنجاد من العرب ينادي: «أيها الناس، إنا دونكم، فاعبروا على هينتكم، ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم في ذلك الجانب.»
وحمى المثنى الناس حتى عبروا، ثم خلق المثنى من الفلول المهزومة يوم الجسر نصرا باهرا في موقعة البويب، برأيه وسياسته وشجاعته، واحتسب فيها أخاه مسعودا، ثم تكاثر الفرس عليه، فكتب إلى عمر، فأمره أن يتنحى بالناس حتى يأتيه أمره، ثم أرسل عمر سعد بن أبي وقاص في حشد عظيم، وانحاز المثنى إلى ذي قار، وقدم سعد إلى زرود ينتظر المثنى، ولكن الأسد المرزأ، والمسعر المجرب، انتفضت به جراحات يوم الجسر، فبينما سعد يرجو مقدمه جاءته وصيته تحملها امرأته سلمى وأخوه المعنى.
عمل سعد بوصية المثنى، وأمر أخاه المعنى مكانه، ثم تزوج سلمى، وقد شهدت وقعة القادسية، فلما حمي الوطيس، واستكلب الموت على الأبطال، نظرت فلم تجد المثنى يقدم الأنجاد، ويقود الجلاد، فصاحت: «وا مثناه! ولا مثنى اليوم للخيل.»
مات المثنى، وشهد له التاريخ أنه «كان شهما شجاعا ميمون النقيبة، حسن الرأي، أبلى في حروب العراق بلاء لم يبله أحد.»
3
فيا شباب بغداد الذين أنشئوا نادي المثنى ليحيوا ذكره، اذكروا فيه الرجولة الكاملة، والشجاعة البالغة، والمجد والسؤدد، والعمل المخلد، اذكروه قائدا مقداما، وأميرا حازما، وسيدا مطاعا، وجنديا مطيعا، اذكروه حرا أبيا، ومثلا عربيا، وخلقا عليا ، واستمدوا من ذكراه وذكرى أمثاله أخلاقا صلبة، تقيكم رخاوة الحضارة، وعزيمة ماضية ترفعكم عن ذل الرفاهية، وتقتحم بكم الأهوال إلى الغاية البعيدة والأمل العظيم.
ثم اذكروا أن المثنى فتح العراق جنديا مسلما، فاذكروا الإسلام ومجده، واعتصموا بأخلاقه، واستمسكوا بمعاليه، وسيروا قدما في عزة العروبة، وهداية الإسلام، وأنتم الأعلون والله معكم.
ملكة الجمال1
للأقلام محن تقضي عليها أن تسف إلى ما لا تود الكتابة فيه، وأن تنزل إلى ما تريد الترفع عنه، وقلمي مكره على الكتابة في هذه الحماقات، مرغم على أن يعنى بهذه الترهات.
1
كنت أحادث جماعة من الأصدقاء فسارت بنا شجون الحديث إلى أن تكلمنا في المدنية الحاضرة، حسنها وقبيحها، وجليها وسفسافها، قلت: أحسب أن المسيطرين على أخلاق الناس في كثير من المناحي المعيشية الحاضرة جماعة من التجار المفسدين، قال صديق: كيف ذلك؟ قلت: في طبع الإنسان الكلف باللذات، والاستهتار بالشهوات، وقد سار العالم آلاف السنين على هدى التجاريب، وتعليم الأنبياء والحكماء، يزن آلامه ولذاته، ويعدل بين مصالحه وشهواته، ويضع شرائع، ويسن سننا؛ ليعيش الإنسان على شريعة تعرف وتنكر، وتستحسن وتستقبح، وتقول: هذا حلال وهذا حرام، حتى استقامت للإنسان خطة في سياسة نفسه ومعاملة الناس، وصار يجاهد نفسه ليمنعها لذاتها، علما بأن وراء اللذة العاجلة شرا أعظم منها، ويصبر نفسه على ما يكره إيثارا للعافية في العقبى، واستمساكا بالفضيلة التي سكن إليها، ومكنتها من نفسه سيرة الآباء.
قال صديقي: هذا حق فما وراءه؟ قلت: أرى العصر الحاضر مفتونا كل الفتنة بالأهواء، مستكلبا على الشهوات، قد فتحت له من الملاهي أبواب، ومدت له إلى الغي أسباب، فشغلت من الحياة جانبا هذه الملاهي والمراقص والحانات، ورأى كثير من الناس هذه الدور مجلبة ربح عظيم، ووسيلة مال وفير، فأقبلوا عليها إقبالا، وافتنوا فيها افتنانا، واستعانوا على تزيينها، وجلب الناس إليها بكل ما أنتجت الحضارة من علم وفن، ولم يدعوا حيلة في الاستهواء إلا اتخذوها، ولا وسيلة إلى تهافت الناس عليها إلا توسلوا بها، يفتن كل فيما يعرض، وتؤدي المنافسة والطمع في المال إلى استباحة المحظورات، فينكر الناس أول الأمر، ثم يسكتون، ويخدعون أنفسهم فيما يرون، لما تصبو إليه غرائزهم، وتغرم به شهواتهم، حتى يصير هذا أمرا معروفا، وعملا مألوفا.
ثم يحدو أصحاب الملاهي حب الربح والمنافسة إلى أن يثيروا شهوات الناس بأفانين أخرى، وهلم جرا، لا يصدهم وازع من فضيلة أو عرف. وعبثا يحاول القانون أن يصد التيار، أو يقيم الجرف المنهار.
وهكذا تقاد الأمم بأذنابها، وتأتم بضلالها، وقس يا صاحبي أزياء النساء، فتنافس التجار فيها هو الذي يطيلها ويقصرها، ويطلع كل يوم ببدعة تبين عما دق من المرأة وجل، وما ظهر وما بطن. ولست أجد بدا من ذكر الحقيقة «العارية»، وهي أن النساء الخليعات هن القدوة في هذه السبيل، يلبسن ما يلفت النظر إليهن، ويميزهن من غيرهن، فيروق النساء الأخر هذا الزي. والمرأة لا تحب أن تغلب في زينتها وتجملها، فيصير هذا الخروج على السنن سنة مألوفة، وطرافة «مودة» معروفة. وكل ما ترى في ألبسة البحر من تغير مستمر غايته أن تبرز المرأة العارية متزينة، فهذه سبيله، تبدأ به الخليعات الجريئات، فتتهافت عليه الأخريات.
2
ووراء هذه جماعة من تجار الكتاب والجهلة المفسدين، يريدون أن ينالوا رغائبهم بشريعة، ويفسدوا في الأرض على علم، فيكذبون على الجمال والفن والحرية ما شاءت مآربهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الرذائل بغير أسمائها؛ فالفسق إعجاب بالجمال، وكل خليعة فنانة، وكل خليع أستاذ، ويتنافس أصحاب المجلات في كتابة ما تحبه الشهوات، وعرض الصور التي يهفو إليها الشبان، لا يبالون في سبيل المال أن تصلح الأمة أو تفسد، وتقوم أو تقعد، وتعمل التجارة عملها، حتى تجد الرجل الحريص على الفضيلة، الداعي إليها، إذا ابتلي بمجلة أغضى عن مفاسدها، فصار له رأي في نفسه، وفي غير مجلته، وعمل آخر تجاري في المجلة.
وقد عجبت لبعض الكتاب المعروفين بالغيرة على الأخلاق، والتنديد بالخلاعة والمجون، وبدع العصر الحاضر، إذ رأيت المجلة التي يشرف عليها تنشر من الصور والكلام ما لا يلائم آراءه، ويوافق مواعظه.
3
قال صديقي، والشيء بالشيء يذكر: وملكات الجمال ما ترى فيهن؟ لقد سرت البدعة إلينا، قلت: استمع؛ كنت في الصيف الماضي ذاهبا إلى إيران، فعرجت على لبنان أياما، وبينا أنا في «ظهور الشوير» رأيت الناس يزدحمون ويستبقون إلى بعض الفنادق، وسمعت أن هذه الجموع وتلك الوفود تتزاحم لتشهد اختيار ملكة الجمال في لبنان، قال رفيق لي: قد سرت العدوى إلى البلاد العربية، فقلت غاضبا: كلا، قال: ألست ترى وتسمع؟ قلت: لا أكذبك، لست أرى في هذه الأزياء ولا أسمع في هذه الرطانات عروبة، فلا تعد هؤلاء من العرب، وأرضيت نفسي بهذا الإنكار.
وقرأت منذ أيام أن ناسا اجتمعوا في «حمانا» من لبنان لاختيار امرأة يسمونها ملكة الجمال، وأن قنصل مصر ببيروت رأس هذا الجمع، فأسفت أن شغل القنصل الفاضل نفسه بهذه الترهات، وشارك في هذه المخازي.
وقرأت عن انتخاب آخر في «بكفيا»، وحمدت الله إذ لم أجد في هذه كله اسما يدل على عربية أو إسلام.
وقرأت من بعد في الجرائد عن حماقات كهذه في الإسكندرية، فرأيت الداعين إليها بين صاحب ملهى يريد أن يجذب الناس إليه، وصاحب جريدة غير عربية يبغي رواج جريدته، وأمثال هذين. وبعد قليل رأيت صورة الملكة، وقرأت أحاديث عنها، فعلمت أن فتاة سماها بعض الناس ملكة الجمال في مصر، ولقبوها مس إيجبت
Miss Egypt ، ورشحوها للذهاب إلى بروكسل لتشارك في مباراة الجمال، قلت: مس إيجبت لا تعرفها مصر، فما اهتمامك بجماعة من الحمقى أرادوا أن يشهروا فتاة، أو يشهروا بها، أو يتملقوا إليها، أو ينالوا مالا، أو يجاروا ساداتهم في أوروبا.
ثم تذكرت ما سطرت في أول هذا المقال، تذكرت أن زمام الأخلاق في هذا العصر بأيدي هذه الفئات وأشباهها، وأن هذا الذي نستنكره اليوم سيصبح إذا سكتنا عليه عادة تعد المجادلة فيها ضربا من الأفن، وفكرت أن مس إيجبت هذه ستذهب إلى أوروبا باسم مصر، وتشارك في سوق الرقيق هناك، وتبوء مصر بكل ما في ذلك من عار وحماقة، فرأيت أن الأمر جدير بالاهتمام، وأنه إن سكت عنه عقلاء الأمة صار سنة، وظن المفسدون كما تسول لهم مآربهم أنها سنة حسنة، ينبغي ألا تحرمها مدينة أو قرية. وقد وفدت على مصر من قبل ملكة الجمال في تركيا، فلم يستح بعض الوقحين من طلبة الجامعة أن يقترحوا الاحتفال بها في نادي الجامعة.
من مبلغ عنا هذه الفتاة، أنا لا نعرفها ولا نعرف جمالها ولا ملكها، وأن القحة البليغة أن تذهب إلى أوروبا مدعية أن مصر أرسلتها، ومصر بريئة منها وممن يرسلونها، ليت شعري أرضي المصريون - الحكومة والأمة - بهذه السبة؟ هل رضوا أن تنوب عنهم على رغم أنوفهم فتاة تذهب إلى بروكسل زاعمة أن مصر أرسلتها؟
كنت أحسب أن موقف مصر الحاضر بين دولة مستعبدة ودولة مهددة، سيخرج بطلا أو بطلة، تهيب بالمصريين ليغسلوا العار، ويحموا الديار، أو يرسلوا وفدا يدافع عن حقوق مصر عند عصبة الأمم، فإذا السفهاء في شغل عما يحيط بهم باختيار امرأة يرسلونها إلى بروكسل.
وقد أجاب أهل دمشق داعي العروبة والكرامة والفضيلة، فاجتمعوا حين سمعوا أن امرأة ستذهب إلى سوق الرقيق باسم سورية، واستنكروا ذلك، وأجمعوا على مطالبة الحكومة بأخذ الطريق على هذه السنة السيئة، فأجابت الحكومة دعوة العقلاء، ومنعت اجتماع السفهاء لاختيار ملكة للجمال، وفي ذلك للمصريين وغيرهم أسوة حسنة.
سيقول السفهاء: جماعة لا يعرفون الجمال، ولا يقدرونه، ولا يميزون الحسن من القبيح، فهم ساخطون ثائرون، أو جماعة لم يفهموا حضارة أوروبا، فهم جهلة متعصبون. والله يعلم أن الجمال يعبد قلوبنا، ويملك مشاعرنا، وتهفو إليه أفئدتنا حيثما تجلى في السماء أو في الأرض، ولكنا لا نعرف الجمال في الأسواق، يصفق حوله الفساق، ولا نعرف الجمال تسأل فيه الآراء، وتعرض فيه المرأة كما تعرض العجماء!
المعتصم بن صمادح1 على فراش الموت
الأندلس في أمر مريج، زال عنها سلطان الخلافة فاضطربت، وفقدت رواسيها من بني أمية فمادت، وأصبحت كرقعة الشطرنج يتغالب الملوك على كل بيت فيها، كل قوي يحوز ما وسع حوله وهمته، والعيش غلاب، «والبر أوسع والدنيا لمن غلبا.»
في هذا المعترك ملك محمد بن أحمد بن صمادح التجيبي مدينة «وشقة »، وملك عمه مدينة «سرقسطة»، ثم غلبوه على مدينته.
ثم ملك ابنه معين بن محمد مدينة «المرية»، غصبها من عبد العزيز بن أبي عامر، وخلفه ابنه أبو يحيى المعتصم بالله وهو في سن الرابعة عشرة.
نشأ المعتصم في ملك ضيق الرقعة، فاستعاض منه سعة الخلق، وبعد الهمة، وحلية العلم والأدب، والسخاء الشامل، والجود العمم، حتى طاول المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف ونافسه، وحتى قال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حينما لقيهما بالأندلس: «هذان رجلا هذه الجزيرة.»
قال ابن خلكان:
وكان رحب الفناء، جزيل العطاء، حليما عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال ، ولزمه جماعة من فحول الشعراء.
وقال الفتح بن خاقان:
ملك أقام سوق المعارف على ساقها، وأبدع في انتظام مجالسها واتساقها، وأوضح رسمها، وأثبت في جبين أيامه وسمها، لم تخل أيامه من مناظرة ولا عمرت إلا بمذاكرة أو محاضرة.
وكانت دولته مشرعا للكرم، ومطلعا للهمم، فلاحت بها شموس، وارتاحت فيها نفوس، ونفقت فيها أقلام الأعلام، وتدفقت بحار الكلام، وكإجادة ابن عمار وإبداعه في قوله معتذرا من وداعه:
أمعتصما بالله والحرب ترتمي
بأبطالها والخيل بالخيل تلتقي
دعتني المطايا للرحيل وإنني
لأفرق من ذكر النوى والتفرق
وإني إذا غربت عنك فإنما
جبينك شمسي والمرية مشرقي
وكان المعتصم كالمعتمد بن عباد شاعرا مجيدا، كتب إلى الوزير الشاعر ابن عمار:
وزهدني في الناس معرفتي بهم
وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلا تسرني
مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمة
من الدهر إلا كان إحدى المصائب
طوى الأمير أربعين عاما في إمارته، شاع فيها ذكره، ونبه اسمه، وحلب الدهر أشطره، وخبر أحداثه وعبره، ثم حم القضاء.
بعث ابن تاشفين جنوده على ملوك الطوائف تثل عروشهم، وتعفي على آثارهم، ولقي «رجلا الجزيرة» الصدمات الأولى، فدارت على المعتمد الدائرات، فإذا هو أسير أغمات. وللمعتمد بن عباد قصة ملؤها العبرات والزفرات.
وعلم ابن صمادح بما أصاب صاحبه، فملكه الغم، وناء به الحزن. وكان أسعد من صاحبه جدا؛ نجاه الموت من الإسار، وأنقذه الحمام من المذلة والعار، ورحم الله أبا الطيب: «رب عيش أخف منه الحمام.»
يقول ابن بسام: وكان بين المعتصم وبين الله سريرة، أسلفت له عند الحمام يدا مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده.
دع ما نمق الكتاب، وأنشد الشعراء، ودع أربعين عاما طواها الزمان كأنها أحلام، وانظر المعتصم ليلة الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة؛ الليلة التي طلع عليه بالردى فجرها.
ها هو ذا على فراش الموت في قصره بالمرية، ومعسكر ابن تاشفين على مقربة من المدينة ترى خيامه، ويسمع ضوضاؤه.
ويسمع المعتصم وجبة من الجيش اللجب، والجند المصطخب، فيقول كأن لم ينعم بالملك والجاه أربعين عاما:
لا إله إلا الله، نغص علينا كل شيء حتى الموت.
وقالت أروى، إحدى جواريه:
فدمعت عيني، فلا أنسى طرفا إلي يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه:
ترفق بدمعك لا تفنه
فبين يديك بكاء طويل
عثمان بن أبي العلاء
الرجل الذي غزا الأسبان اثنتين وثلاثين وسبعمائة غزوة
1
ملك بني مرين يعم المغرب الأقصى، ويرث دولة الموحدين، وهذا سلطانهم السادس يوسف بن يعقوب بن عبد الحق (685-706ه) يسير الجحافل لتمكين ملكه، ولكن جماعة من بني مرين حسدوا بني عمومتهم على السلطان، ونفسوا عليهم الرياسة، وزعموا أنهم أحق منهم بميراث عبد الحق، فثاروا على السلطان يوسف، واعتصموا بجبال ورغة، فأنزلهم السلطان من صياصيهم، وألحمهم السيف، فأشفق أعياص بني مرين على أنفسهم، ولحقوا ببني الأحمر بالأندلس سنة ست وثمانين وستمائة.
ثم رجع إلى المغرب بعد سنين أحدهم، عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق؛ لينازع بني عمه السلطان، فثار في جبال غمارة، فاشتملت عليها ناره، واستطارت منها ثورته، فعمت بلادا كثيرة، ولجأ إليه كل مخالف من بني مرين وغيرهم، ومات يوسف وعثمان في ثورته، فخلفه ابنه أبو ثابت (706-708ه) فسير الجحافل إلى عثمان، فهزمهم ومد على رغم أبي ثابت سلطانه إلى بلاد أخرى، فنهض أبو ثابت نفسه في جنود لا قبل لعثمان بها، فخلى البلاد واعتصم بسبتة وهي يومئذ في قبضة بني الأحمر.
ومات أبو ثابت، فخلفه أخوه الربيع سنة ثمان وسبعمائة، واصطلح بنو مرين وبنو الأحمر، فضاق المغرب على عثمان بن أبي العلاء، فولى وجهه شطر الأندلس فيمن تبعه من قرابته.
2
لم يكن للمسلمين في الأندلس إلا مملكة غرناطة الضيقة، وقد ألح العدو عليها، وصمم على محوها. واستمات في الدفاع عنها المسلمون؛ إذ كانت الملجأ الأخير، والوزر الذي ليس وراءه إلا الموت أو الاستعباد. وكان بنو مرين يرسلون جيوشهم مددا لبني الأحمر حينا، ويسيرون إلى الجهاد بأنفسهم حينا . وكان أولو النجدة والصرامة كابن أبي العلاء يفدون على الأندلس مجاهدين مرابطين غضبا لدينهم، وحمية لإخوانهم.
3
جاء عثمان الأندلس فتولى «مشيخة الغزاة»، وحسن بلاؤه، وعظمت مكانته، فكان شجا في حلوق الأسبان، وكان غصة لبني الأحمر، شاركهم في سؤددهم، حتى كاد يستأثر بالأمر دونهم، وهو من قبل خصم قومه ملوك المغرب، ثار عليهم وزلزل دولتهم زمانا.
لم يكن عثمان ملكا ولكنه:
كان من نفسه الكبيرة في جيش
ومن كبرياه في سلطان
تولى زعامة الغزاة ثلاثا وعشرين سنة، فما وهن عزمه، ولا فل حده، ولا أغمد سيفه، ولا حط سرجه.
وما كان إلا النار في كل موضع
تثير غبارا في مكان دخان
والنفس الكبيرة تستهين بالصعاب، وتطرق على المنايا الأبواب، وما الجيوش الجرارة، والحروب المستعرة في همة الرجل العظيم إذا صمم.
فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها: من تحت أخمصك الحشر
وحسبي من الإفاضة في وصف عثمان والإشادة بذكره أن أنقل هنا ما كتبه أصحابه الغزاة على قبره:
هذا قبر شيخ الغزاة، وصدر الأبطال والحماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، إمام الصفوف، القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، قاصم الأنجاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام الماجد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم، أبي سعيد عثمان ، ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدس المرحوم، أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، كان عمره ثمانيا وثمانين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة، وقطع عمره مجاهدا مجتهدا في طاعة الرب، محتسبا في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفار، مصادما بين جموعهم تدفق التيار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفر وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به سعيدا مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلا على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجت الأندلس لبعده. أتحفه الله برحمة من عنده.
توفي يوم الأحد، الثاني لذي الحجة من سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله.
مدنية زائفة1
قال صاحبي وأنا أسايره في شارع الحافة «الكورنيش» من الإسكندرية ليلة من ليالي الصيف: «ما أجمل هذه المدينة!» انظر هذه المهيع الممهد، ما بين رأس التين والمنتزه، مشرفا على لجة يمعن فيها البصر والفكر إلى غير غاية، وانظر هذه الأبنية الهائلة الشامخة، تزحم السحاب بذراها، وتقابل السماء بمثل نجومها، وتنسج على الأمواج أشعتها، وتزيد الأضواء بهجتها.
وتأمل هذا العقد من المصابيح الكبيرة يطوق هذا الخليج الجميل، والسيارات تطوي الأرض ذات اليمين وذات الشمال، فيها المصطافون قد أخذوا من الحياة متعتها، واهتبلوا من الأيام فرصتها، وألحان الموسيقى تتدفق من هذه الأندية والمراقص، فتموج في الهواء، حتى تختلط بأمواج الدأماء، وهذا البحر الزاخر من الناس، والمحافل المزدحمة بشتى الأجناس، يحوطها النظام، ويهيمن عليها القانون والسلطان، ويرقبها الشرط والعسس، كل آخذ بحقه، مأخوذ بعدوانه.
يا أخي لقد استبحر العمران، وشمل الناس الأمان، وأمكنهم العيش السعيد، وأسلس لهم الزمان العصى، وأطلعت لهم المدنية من النعيم ألوانا، وأنبتت لهم من اللذات أفنانا، يا أخي، إنها لمدنية.
ثم صمت صاحبي، ومال بنا المسير حتى ملنا ذات الشمال إلى محطة الرمل، فمررنا بباب القنصلية الإيطالية، فرأيت بجانب الجدار شبحين ضئيلين، فاقتربت أنعم النظر فيهما، فإذا طفلان نائمان، جلس أحدهما القرفصاء واعتمد بجانبه على الجدار، وتمدد الآخر على الأرض، عرضة لأقدام السابلة، قلت: وا رحمتاه! طفلان شريدان ألجأهما الشقاء إلى هذا الجدار.
ويعلم الله ما بهما من السغب والنصب، وما لقيا في يومهما وأمسهما، وما يلقيان في غدهما، قال صاحبي: لا تعجب، فأمثال هذين كثير، يعثر بهم السائر حيثما ذهب، فانقلب الأسى في نفسي غضبا على صاحبي، قلت: أرأيتك مدنيتك هذه العظيمة، وطرقها المعبدة، وقصورها الشاهقة، ومصابيحها المتلألئة، وسياراتها الخاطفة، ومراقصها اللاهية، وأنديتها الحافلة ، أرأيتك القانون والسلطان، والشرطة والعسس والنظام، وهذا العمران المتبحر، والسعادة التي شملت الناس، وألوان النعيم التي طلعت بها المدنية، والعيش الخفض، والزمان المواتي، ومدنيتك الرائعة الفاتنة، أليس في هذه المدنية العظيمة لهذين الطفلين سعة؟ أليس في هذا العمران لهذين الطفلين مأوى؟ أليس في هذه القوانين لهذين الطفلين حماية؟ أليس في هذا النظام لهذين الطفلين موضع؟ أليس في هذه القلوب لهذين الطفلين رحمة؟ يا صاحبي، حسبك حسبك، لا تحدثني عن المدنية ونعيمها، لا تخدعني بالمدنية وقوانينها؛ إنها لمدنية زائفة.
الشعر والشاعر1
هو وحي في شعاع القمر
يملأ القلب ضياء وسلاما
أو حديث في حفيف الشجر
أفشت الريح له سرا فهاما
أو بكاء في حنين الوتر
ملأ الأنفس وجدا وغراما
هو طل الفجر فوق الزهر
يملأ الروض دموعا وابتساما
ثم يبدو مثل قدح الشرر
بين خفق القلب والهم صداما
أو تراه كالوصايا العشر
2
بين ومض البرق والرعد كلاما
ذلك الشعر إذا ما ترجما
عن خفايا وحيه اللفظ المبين
رب شعر وحيه قد كتما
أبلغ الأشعار ما لا يستبين •••
يخلق الشاعر خلقا آخرا
من خيال حائر فيه المدى
يجعل الليل غرابا طائرا
خاف نسر الصبح لما أن غدا
ويرى النجم شريدا حائرا
هام يبغي في الدياجي موردا
ويضيق الناس عنه ثائرا
فيرى القصة خلقا مسعدا
يبرأ الأبطال فيها ساحرا
فتراهم في البرايا خلدا
مثلا في البر يبقى سائرا
أو حليف اللعن يبقى أبدا
كم هدى الشاعر قبلا أمما
ودعا فيها إلى العز المكين!
وبنى للمجد فيهم سلما
فاستقاموا للمعالي صاعدين! •••
وجه من يهواه روض ناضر
ألفت فيه من السحر معاني
ومن الطرة ليل كافر
ضللت فيه دموع وأماني
دولة الحسن، عليها ساهر
نابل من طرفه، والحاجبان
ومن الهجر جحيم ساجر
ومن الوصل فراديس الجنان
غضبة الشاعر ليل زافر
جلل الأرض بنار ودخان
ورضا الشاعر صبح سافر
ملأ الأرض بنور وأمان
يصبغ العالم ما شاء كما
لعبت باللون أيدي الراسمين
فإذا شاء أراه مأتما
وإذا شاء فعرس الفرحين •••
ويلف السحب من نيرانها
في إهاب الغيظ والحقد الكمين
ويسل البرق من أجفانها
سيف ثأر مصلتا للظالمين
ويقود المزن من أرسانها
بيد الريح شمال أو يمين
ويعد الرعد من تحنانها
حين يروي الأرض بالغيث الهتون
أو يرى فيه صدى طغيانها
رددته رهبة للسامعين
ويقيم الطير في أفنانها
شاديات باكيات كل حين
ويرى النهر دموعا ودما
في عراك الدهر والقلب الحزين
أو يرى الصفحة سردا محكما
نسجته الريح بين الناسجين •••
ويرى الورد ضحوكا طربا
إذ تحليه من الطل درر
فإذا الورد ذوى واكتأبا
حسب الطل هو الدمع انتثر
ويرى البانة قدا معجبا
ماس في الروض دلالا وخطر
ويرى الجدول صلا هاربا
في ظلال الأيك أعياه الوزر
ويظن الريح دارت لعبا
في ذرى الأشجار تلهو بالطرر
ويخال الطير غنى مطربا
يقرأ الحسن بصفحات الزهر
ضاق هذا العيش إلا حلما
راق في الأحزان نوم البائسين
تضحك الآمال فيه كلما
أبكت الآلام عيش الكادحين •••
صاح والشاعر في نظراته
يخرق الستر إلى سر الضمير
فيرى الآمال في طياته
ودبيب الحزن فيه والسرور
يكشف المحزون عن أناته
ويراه الناس في ثوب الحبور
ويجلي الحب عن سوءاته
وجميع الناس منه في غرور
ويرى المحسن في هالاته
حين يخفي فضله كل كفور
فشعاع الشعر في ومضاته
كاشف للناس عن ذات الصدور
يقرأ الشاعر ما قد أبهما
في ضمير الدهر آلاف السنين
ويرى الغائب مشهودا كما
بصر الهدهد بالماء المعين •••
يجهد الشاعر طول العمر
فيرى الآمال يأسا ومحالا
فتراه مثل باز صرصر
ملأ اللوح صياحا وصيالا
أو تراه مثل ليث هصر
عض في الأسر قيودا وحبالا
ثم يلهو بجمال الزهر
كاتما في الصدر غما ووبالا
فتراه عندليب الشجر
واصفا في الروض حسنا وجمالا
أو تراه كحمام هدر
رتل الحزن نشيدا فأطالا
صاح ما الشعر سبيلا أمما
هو صهر القلب في نار الشجون
صاح ما الشعر كلاما، إنما
هو ذوب النفس أو ماء العيون
لم لا تقول الشعر؟1
كتبت إلي أيها العم الكريم
2
تسألني لماذا صمت بعد تغريد، ونضبت بعد فيض، وسكنت بعد المرح، واكتأبت بعد الفرح ؟ وما هذا الوجوم والإطراق بعد التهلل والإشراق؟ أين قلبك الهدار، وقلمك المكثار؟ وأين شعرك الشاعر، ونظمك الساحر؟ ليت شعري وقد أمكنك القول لم لا تقول الشعر؟
1
يا سيدي، بماذا أجيبك؟ لقيت الحياة مبتسما، ونشأت مترنما، أطالع تباشير الصباح مرحا كالأطيار، مترنحا مع الأشجار، تروقني ألوان الأفق، وظلمات الغسق، وتشدهني طلعة ذكاء، في موكب الضياء، أراقب الأضواء، في الإصباح والإمساء، وأساير الظلال، بالغدو والآصال، وأخلو إلى القمر أشرب ضياءه، وأحس في نفسي صفاءه، وأقول:
البر والبحر ذوب من سنا قمر
تردد الطرف فيه فهو حيران
وأتأمل الأزهار في شعاعه، وأقبل الورد في لآلائه، وأساير النيل أجري مع مائه، وأضطرب مع أمواجه، وأقف على البحر فرحا بآذيه المهتاج، معجبا بسلاسل الأمواج، أرقب العراك المتواصل بين الماء والساحل.
وكم طربت لزقزقة العصافير في نور الصباح، وتنزيها على متون الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحا في الضباب!
وكم فتنني الوجه الجميل، والخلق النبيل، فقلت:
في كل حسن أرى سرا يجاذبني
نفسي، وما لي بهذا السر عرفان
أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب، فإذا هو على لساني وقلمي؛ فأنطلق قائلا معجبا، ومنشدا مطربا.
وكل شيء يبعث الأمل، ويحدو إلى العمل، وكأن القضاء طوع الخيال، وليس في الدنيا محال، وكأن الإنسان يستطيع أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه، والمستقبل وضاء، وكل ما في العالم ضياء.
2
ثم نفذ الفكر إلى ما وراء الظاهر، وتطلع إلى ما في السرائر، وجاوز القشر إلى اللب، وخاض الضحضاح إلى العباب، وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائر الخليقة، فانبهم العالم واستعجم، فإذا كل شيء مبهم، فالفكر فيما وراء الحجب جائل، وكل سر هنالك هائل، والضوء هنالك ضباب، والبصر حجاب.
امحت الأشكال، وخفيت الألوان، وعيت الريشة في يد الراسم، وحار القلم في يد الشاعر، وبهت المنطق دون البيان، وجمد اللفظ على اللسان، ويبقى السر المحجب، آبيا على كل مطلب، أو يبص من الحقيقة حاجب يتسع عن ضيق الألحان، ويكبر على سلاسل القوافي والأوزان.
ورحم الله الشاعر سنائيا إذ يقول: «رجعت عما قلت؛ إذ ليس وراء الألفاظ معان، وليس لما ندرك من المعاني ألفاظ.»
3
أهم بالمعنى الصغير، فإذا هو حلقة في سلسلة، وطريق إلى كل معضلة، وجزء من كل حقيقة هائلة.
وأحاول الأمواج، فتنفتح عن الأعماق، فيضل الفكر، وتزيغ الأحداق، وأعالج حمرة الشفق، فإذا وراءها خبيئات الأفق، وإذا الأفق صلة الأرض والسماء، وملتقى الظلام والضياء، وكيف بما هناك من حقائق؟ كيف بما استسر من أسرار الخالق؟
وأهم بالكلام عن الحيوان، فإذا أنا في لجة الحياة، وهي السر العجاب، سلسلة وسطها فوق الأرض وطرفاها في التراب.
وأريد أن أصف الذرة، فإذا هي والشمس سواء، باهرة الحقيقة، رائعة الضياء، أنظر إلى الصغير فيكبر، وأقصد إلى الآنس فيفر، وأعمد إلى الواضح فينبهم، وإلى المعرب فيستعجم.
والأمل تكسرت أمواجه على صخور الحقائق، وضل سرابه في فسيح السمالق.
هأنذا على ساحل المحيط الأعظم، حائر الطرف بين اللجة والشاطئ، مقسم الفكر بين الظاهر والباطن، ولست أدري أأبقى صامتا مبهوتا، أم أهجم على الأهوال، وأغوص في الأعماق، مبينا عن عرفاني وجهلي، وإدراكي وعجزي، أم أرجع إلى العهد القديم أصف الألوان والأشكال، والضياء والظلال؟
أوراق مالية1 في القرن السابع الهجري
كيخاتو بن أباقاخان بن هلاكو، خامس ملوك المغول المسمين أيلخانية، كان كما يقول مؤلف «حبيب السير» أسخى بني هلاكو؛ كان يفيض جودا في موائده، ولا يقف به حد في الإسراف واللهو.
وقد اختار لوزارته صدر الدين الزنجاني المعروف بصدر جهان. ولم يكن الوزير مخالفا مولاه في التبذير، فخلت الخزائن، واشتدت الحاجة إلى المحال، وضاق بالملك الأمر، فبدا للوزير أن يأخذ عن أهل الصين سنة كانت معروفة عندهم في ذلك العصر، هي التعامل بأوراق تغني غناء الحجرين الكريمين، أو المعدنين النفيسين: الذهب والفضة، وليس الفرق بين الورق والورق ذا خطر.
أمر الوزير بطبع أوراق للتعامل سميت «جاو»، وأنشأ في كل ناحية دارا لطبع الأوراق سميت «جاوخانة»، وشرع قانونا يحتم على الناس الإقلال من تداول الذهب والفضة جهد الطاقة.
وكانت الأوراق كما وصفها رشيد الدين الشيرازي في تاريخه المعروف بتاريخ «وصاف» والمؤرخون المعاصرون على هذا الشكل:
ورقة مستطيلة، عليها كلمات صينية، وفوقها باللغة العربية كلمة الإسلام «لا إله إلا الله محمد رسول الله» اتباعا للمألوف في المسكوكات الإسلامية، وتحت هذا اسم الكاتب، ودائرة كتب فيها قيمة الورقة، وكانت القيمة تختلف من نصف درهم إلى عشرة دنانير، ومما كتب على هذه الأوراق هذه الكلمات الهائلة: «أصدر ملك العالم هذه الجاو المباركة سنة 693ه، فمن غيرها أو محاها يقتل هو وزوجه وأولاده، ويصادر ماله.»
وأرسلت إلى المدن منشورات تبين فوائد التعامل بهذه الأوراق، وتبشر الناس أن الفقر والبؤس سيزولان لا محالة إن دام التعامل بها، ومما جاء في هذه المنشورات هذا البيت:
چاو أكرد رجهان روان كردد
رونق ملك چاودان كردد
وترجمته: «إذا راجت في العالم الجاو دام رونق الملك أبدا.»
ومما جاء في قانون هذه الأوراق أن الورقة التي تمزق أو تبلى، ترد إلى الجاوخانة، ويعطى صاحبها ورقة أخرى تنقص عنها عشر القيمة.
ثار الناس على هذه الأوراق: يروى أنه جعل موعد تداولها في مدينة تبريز شهر ذي القعدة سنة 693ه، فلما جاء الموعد أقفلت الحوانيت ثلاثة أيام، ووقفت الأعمال، وأبى الناس أن يقبلوا «الجاو المباركة».
وكان أعظم رجال الدولة نصيبا من سخط الناس وبغضهم: عز الدين المظفر، الذي وكل إليه إخراج الأوراق والقيام عليها، ومما قيل فيه:
توعز ديني وظل جهاني
جهانرا هستيء تونيست درخور
أزان كبر ومسلمان ويهودي
بس أز توحيد حق والله أكبر
همى خوانند أزروى تضرع
بنزد حضرت دارى إداور
خدليا برمراد خويش هركز
مبادا درجهان يكدم مظفر
وترجمتها: «أنت عز الدين وظل العالم، ولكن بقاءك شر على العالم، من أجل ذلك ترى المسلمين واليهود والمجوس بعد توحيد الله وتكبيره، يتضرعون إلى الحكم العدل: ربنا لا تجعله ساعة واحدة مظفرا بمراده.»
انتشرت الثورة في مدن كثيرة، حتى ذهب كبراء المغول إلى السلطان «كيخاتو» فكلموه في أمر هذه الأوراق البغيضة، حتى رضي بإلغائها.
قبر مفقود1
قال صاحبي ونحن نؤم مسجد النبي دانيال في الإسكندرية: هذا هو المسجد، فولجنا إلى الفناء، فإذا جماعة من السؤال جالسين إلى الجدار كأنهم موتى أعوزتهم القبور، ثم قال صاحبي: وهذا البناء مقبرة، فملنا ذات اليمين إلى رجل بالباب، عرفنا من موقفه وأوامره أنه قيم المقبرة. - السلام عليكم. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هل من حاجة؟ - يا سيدي، شاعر من شعراء الترك ووزير من وزرائهم اسمه عاكف باشا قدم إلى مصر أيام محمد علي باشا ومات بهذه المدينة، ودفن بجوار النبي دانيال، فهل تعرف عن قبره خبرا؟ - أكان وزيرا في مصر؟ - كلا، لكنه مر بمصر حاجا، ثم عاد إليها بعد الحج، فمات بالإسكندرية. - هذه مقبرة لأسرة الأمير عمر. يا محمد، اذهب معهما إلى المقبرة القديمة، أليست مفتوحة؟ - لا يا سيدي، ولكن فتحها يسير، فهناك إبراهيم.
سرنا وراء الرجل يسلك بنا في فناء المسجد حتى انتهى إلى زقاق ضيق يفضي إلى باب مرتفع، فنادى إبراهيم وكلمه، فجاء يحمل المفتاح وتقدم نحو الباب ففتحه، ثم ألقى خشبة ضخمة على كوم من الحطب أمام الباب، فارتقى عليها، ودخل فاتبعناه.
سور قصير يحيط بعرصة واسعة، فيها ارتفاع وانخفاض، وأكوام من التراب، وأكداس من الأحجار، يبدو بدخلها قبران إلى اليمين، عليهما نصبان من الرخام. وإذا أنعم الباحث النظر تبين قبرين دارسين أو ثلاثة في أرجاء أخرى.
قال إبراهيم: ليس هنا إلا القبران اللذان ترى. فتأملت كتابة تركية، وقرأت ما في سطور الفناء من عظات وتواريخ وأسماء، فإذا اسمان آخران، ودفينان مضى عليهما زهاء ثمانين عاما، وجلت في أرجاء المقبرة فرأيت قبرا عليه نصب واقع يتضمن اسما آخر، ثم مررت بقبر لا نصب عليه، وبنصب لا قبر له؛ بطشت يد الزمان العسراء ببقايا الفناء!
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
لبثت حينا أسائل القبور والأحجار فلم تحر عن الشاعر جوابا، فرجعت إلى إبراهيم فقال: كانت هذه الأرض كلها قبورا، فذهب بها الحفر، قلت: أي حفر؟ قال: قلبوا الأرض يفتشون عن قبر الإسكندر؛ فقد أخرجوا ما ضمنته الأرض من أحجار وعظام إلى عشرين ذراعا، فلم يظفروا بشيء، قلت: إنها لتعزية؛ إن فقدنا قبر شاعرنا فقد ضل في ثنايا الأرض وظلمات التاريخ قبر الملك العظيم الفاتح، الإسكندر بن فيليب، إنها لتعزية!
رجعنا إلى صاحبنا الذي أشار بالذهاب إلى المقبرة القديمة فقال: هل عثرتم على القبر المنشود؟ - لا، رأينا قبورا قليلة، وقرأنا ما وجدنا من أنصاب، فلم نجد قبر عاكف باشا. - هنا مقبرة سعيد باشا، أيمكن أن يكون قبره فيها؟ - ليس بعيدا، فقد حدث التاريخ أن محمد علي باشا أحسن وفادته، وبالغ في الحفاوة به، فليس عجيبا أن يكون قد أمر بدفنه بين قبور الأمراء. - يا فلان - قيم مقبرة سعيد باشا وكان بجانبه - ادخل بهما لعلهما يجدان القبر، فأحسبني رأيت هذا الاسم على بعض القبور. - عندي أوراق فيها أسماء القبور كلها، فتفضلا معي.
ودخل إلى بهو به مكتب، فأخرج ورقتين فيهما أسماء معظمة لأمراء وأميرات، أسماء كانت عناوين حياة حافلة بالأبهة والرفاهية، مملوءة بخطوب الزمان، ونوب الأيام، وما هي الآن إلا أسماء قبور.
ما وجدت «عاكف باشا» بين الأسماء، فشكرت للرجلين وانصرفت.
قال صاحبي: لم تعثر عليه.
قلت: أجل، ولكني أعلم أنه في باطن الأرض، فإن لم يكن بد لشاعرنا من قبر، فهب الأرض كلها قبره. يا أخي، إنما يخلد الناس بالآثار لا بهذه الأحجار، وقد صدق جلال الدين الرومي إذ قال:
فلا تطلبن في الأرض قبري
فإنما صدور الرجال العارفين مزاري
2
جلال الدين منكبرتي1
1
سارت جيوش التتار تقذف بالموت والدمار
فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون
خرت المدائن لصولتهم، فأسروا وقتلوا، ثم سلطوا الماء والنار فأخربوا ودمروا، وانطلقوا في جحافل من السيوف والسهام، والنار والدخان، والدماء والماء، والهول والفزع.
وعلاء الدين ملك خوارزم قد أوقد النار ولم يستطع إطفاءها، وفتح باب الشر ولم يقدر على إغلاقه، لم يغن جنده، ولم تثبت عزيمته، فما زال يهجر المدينة بعد المدينة حتى اعتصم بجزيرة في بحر الخزر، فهلك بها.
2
ورث جلال الدين ملك أبيه، وإنما ورث الضراب والطعان، وعرشا في أشداق المنون تخاض إليه الأهوال، وتقطع دونه الآمال. لقد ذهب الملك وعلاء الدين معا، وورث جلال الدين دين أبيه من الكفاح والنضال، ورث القتال الحاضر، والملك الغابر.
هلم جلال الدين، ادفع عن رعيتك ما لا يدفع، واختر لنفسك وليس في الشر خيار.
هما خطتا إما إسار وذلة
وإما دم، والقتل بالحر أجدر
تحفز البطل تحفز الأسد، وتقهقر ليثب، ولكن المغول كانوا في إثره حيثما سار، يطوون وراءه الليل والنهار، حتى خرج من ملكه، وقارب الهند، وهنالك صف جلال جنده، وهم:
عصابة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
فهزم عدوه الجبار في ست معارك.
يلقى المنية في أمثال عدتها
كاليل يقذف جلمودا بجلمود
ولكن طوفان المغول أعظم من أن تثبت فيه صم الجلاميد، أو يغني فيه العزم المرير والبأس الشديد.
ذلكم جلال الدين على نهر السند، وأولئكم المغول على النهر يكر عليهم كالأسد المحرج، ويصدقهم القتال من الفجر إلى الظهيرة، يموت في يمينه الحسام بعد الحسام، وينفق تحت عزائمه الجواد بعد الجواد، فلما سدت على العزائم سبل النصر، وضاقت بالمجال حيل الأبطال، حمل على عدوه فحطمه، ثم انثنى إلى النهر فاقتحمه، والموت خزيان ينظر. تلك لجة النهر تموج بجلال الدين وجنوده، وفوقهم من سهام المغول وابل منهمر، وفي الهمم القعساء تستوي الغبراء والدأماء. أعجب الأعداء بهؤلاء الأبطال، فوقفوا معجبين ينظرون.
غرق معظم الجند، وخرج البطل ببقايا القتل والغرق ليلقى بهم عدوا آخر، فهذا «جودي» أحد أمراء الهند يغير على البطل المرزأ لينفيه من أرضه، وهذا جلال الدين على العلات يصمد للمغير فيهزمه.
ثم جاء مدد من جنوده فتقدم في أرض الهند، وأقام بها حيث شاء على رغم «قراجة» أمير السند، وإيلتتمش أمير دهلي اللذين تحالفا وحالفا عليه الدهر.
وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة
إذا نازلت عزم الكرام كتائبه
3
أتحسب جلال الدين بلغ من الجهد غايته، ومن الجلد نهايته، وقد أعذر إلى المجد والملك والرعية؟ أتحسبه، وقد فقد ملكه جميعه، وهزم في أرض غريبة، تبلد يطلب في فجاج الأرض مفرا، أو يلتمس في زواياها مستقرا؟ كلا! إنه فقد ملكه ولم يفقد رجاءه، ولا عزمه ولا إباءه. إن له ملكا وإن يكن في يد العدو الجبار، وإن له عرشا وإن يكن في ذمة الزمان الغدار. إن أمامه في عراك الخطوب ثماني حجج تطير فيها بين المشرق والمغرب همته، وتنقله من حرب إلى حرب صرامته، ويسلمه من مصيبة إلى مصيبة حظه.
يشق بين الأهوال طريقه إلى كرمان ففارس فأصفهان فالري، ثم يصمد للخليفة العباسي الناصر، فيهزم جنده، ويقتل قائده، ويسوق المنهزمين إلى أسوار بغداد.
ثم يستولي على تبريز، ويجعلها عاصمة ملكه، ويغير على الكرج، فيزيد في أعدائه، كأن أعداءه ليسوا أكفاء نضاله. وبينما هو في تفليس جاءه نبأ هائل، وناهيك بخيانة الأعوان في حومة الطعان: أنبئ أن براقا الحاجب والي كرمان قد مالأ المغول. فيبادر من تفليس إلى كرمان ليأخذه بخيانته، ثم يرتد من كرمان إلى الشمال ليحارب التركمان والملاحدة، فيهزمهم ويجزيهم بما اقترفوا في غيبته، ويشرق تلقاء دامغان، ليهزم جيشا من المغول، ويرجع إلى الغرب حين يعلم أن الكرج تألبوا عليه، فيلتقي الجمعان، وتأبى على جلال الدين شجاعته ومضاؤه إلا أن يبارز أبطال الكرج، وقد قتل أربعة من صناديدهم ولاء، ثم حمل على الكرج فهزمهم أجمعين.
4
هذه سنة سبع وعشرين وستمائة وجلال الدين يعمل ليؤلف بين أمراء المسلمين، ويضرب بهم هذا العدو المدمر، فلا يمهله عدوه فيباغته ثلاثون ألفا من المغول، فينهزم أمامهم، ولكن ليستولي على مدينة كنجة.
عشر سنين نازل فيها جلال الدين منكبرتي أحداث الزمان مجتمعة، وغلب فيها جهد الأعداء، وخيانة الأصدقاء، وجالد عدو المسلمين، وخليفة المسلمين، وحارب المغول والتركمان والملاحدة والكرج.
أرأيت جلال الدين نجما يدور به فلك من الخطوب بين المشرق والمغرب؟ أعلمت أن الرجل العظيم يخلق أحداث التاريخ ولا ينقاد لها؟ إن يكن ما يروى عن جلال الدين مستحيلا، فكم بين حقائق التاريخ من مستحيل!
غياث الدين أخو جلال الدين يمالئ الأعداء أيضا! فانظر إلى البطل العظيم عام ثمان وعشرين وستمائة وقد اجتمع عليه الأعداء، وخانه الإخوة والأصدقاء، وناء بقلبه خذلان أعوانه لا بطش أقرانه. ها هو ذا مكتئبا حزينا مشردا يسير في قرى الكرد، ولعله يحاول أن يخلق من عزمه جندا وحربا وانتصارا وملكا، ولكن رجلا من الكرد باغته ففتك به.
أتته المنايا في طريق خفية
على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها
بطول يمين واتساع جنان
ولكن النفس العظيمة التي ملأت العدو والصديق هيبة وإعجابا لا تموت بموت الجسد، فقد أكبر الناس أن يموت البطل الذي غلب الموت في كل معترك، فبقوا أكثر من عشرين عاما يتحدثون أن بطلهم حي، وأنه ظهر في هذا المكان أو ذاك، بل حاول بعض الناس أن يلبسوا عظمته، ويحملوا اسمه، فناءوا بالعبء، فأخذهم المغول بغير عناء.
يا شباب الشرق، قلبوا صفحات مجدكم؛ فإن أعظم المصائب أن تمحى ذكرى الآباء من صدور الأبناء، وإن لكم في جلال الدين لعبرة.
إسكندر يقتل صديقه1
1
إسكندر العظيم يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه في مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.
الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر «كرانيكوس» الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر أول فتح في آسيا، ثم تخضع له المدائن حتى سرديس، فقد دانت له آسيا الصغرى كلها.
ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز جبال طوروس، ويسير تلقاء الشام، وإذا جيش دارا، الجيش اللهام الذي لا يغلب من قلة، رابض في طريقه، وفي سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر تزدحم مئات الألوف للحرب، ويسقط في البحار مائة ألف من الفرس، ويفر دارا، وينهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجته وابنتاه. فانظر إلى الإسكندر قد قهر «الملك الأعظم» ملك الفرس، وطالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم أيام دارا.
ويتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة أشهر، فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويؤسر ثلاثون ألفا، فيباعون عبيدا، ويصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالا. ذلكم الإسكندر الفاتح القاهر، وذلكم جزاء من يقف في سبيله!
ويفتح الإسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويرفع نسبه إلى آمون، ثم يجمع جنده ويسير إلى العدو الأكبر؛ الملك الأعظم، فيجتاز الفرات ودجلة إلى حيث يعسكر دارا.
وهنالكم على مقربة من أطلال نينوى العظيمة، التي تندب مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلا إلى الشمال والغرب من مدينة إربل، قريبا من ملتقى عبد الله بن علي العباسي ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة وقامت دولة، هنالكم تراءى الجمعان، وعسكر الإسكندر تجاه دارا. ويشير «برمينيون» على الفاتح المقدوني أن يهجم على عدوه ليلا، فيأبى مجد الإسكندر وكبرياؤه فيقول: «أنا لا أسرق النصر.»
ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق، ويسارع الغالب صوب الجنوب. أريتك بابل العظيمة مدينة السحر والعلم، ها هي ذي تفتح أبوابها للإسكندر، ويباركه كهنتها، ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس واصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.
تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طرد دارا، حتى عثر به في الطريق قتيلا.
إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة، وقد طوى المراحل والممالك، ما بين مقدونية ونهر سيحون، ينعم هنالك بالشباب والظفر، والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد. إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.
2
ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادوا، ثم تترع للملك المظفر كئوس من الإطراء والإعجاب والإجلال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون، فيرفعونه فوق الأبطال جميعا، ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب إلهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره، والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر في آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!
يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون، و«كليتوس» رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطا محملقا. كليتوس أحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو «لانيس» حاضنة إسكندر التي قتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر فارسيا يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه، فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب، قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟
إن فيليب كان عظيما، ثم تأخذه الحدة فيقول: «ليست مآثره دون مآثر ابنه. لا، إن مآثره لأعظم؛ فقد خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا، وإنما صلت أيها الملك بما أورثك فيليب، من ملك ممهد، وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم، وتقدم الفرس عليهم، ألم تقتل برمينيون العظيم؟»
هاج الحاضرون وقذفوا كليتون بالجدل والتوبيخ، وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح، الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه، ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله. وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما ويصيح مادا يده إلى الملك: «اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجتك يوم كرانيكوس، وأصخ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك واختص العبيد بصحبتك!»
اهتاج إسكندر لموقف كليتوس، ولذكرى كرانيكوس وبرمينيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيد قد نحاه أحد الحاضرين، فينادي الحرس مغضبا هائجا، ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان.
وتقدم نحوه بطليموس وبردكاس، القائدان الكبيران، فأحاطا به، وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج لئلا يعترف بأنه أساء واعتدى، ويقول إسكندر: «وا أسفا! إن قوادي قد غلوني كما فعل بسوس بدارا،
2
وإنما لي من الملك اسمه.»
ويتقدم إسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه قسرا، ثم ينقض كالصاعقة فينزع حربة من أحد الجند فيغمدها في صدر كليتوس صديقه القديم!
3
يرتاع الحاضرون ويفيق إسكندر من نشوته وثورته وعنجهيته فيفتح عينيه فإذا كليتوس طريح يضطرب في دمه.
خرج إسكندر من البهو يعدو إلى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ويبكي بدموع عزت على الخطوب الشداد، وغلت في الحوادث السود، ويتمادى به البكاء، وكلما كفكف دمعه تمثل له صديقه طعينا، فيلعن نفسه نادما، ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول: «ويلي! أنا الغادر الكنود؛ لقد جزيت كليتوس ولانيس شرا بما أحسنا إلي، لست بعد اليوم جديرا بالحياة.»
ويجتمع إليه صحبه يعزونه، ويسوغون ما عمل، فلا يزداد إلا حزنا واكتئابا، وندما وأسفا، ويجتمع الجند المقدونيون فيجمعون على أن كليتوس قتل بحقه، وأنه ينبغي ألا يدفن، فيغضب ويقول: كلا، إنه سيدفن بأمري.
ويأتي الكهنة فيقولون: إن الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الإله «ديونسوس» أجراها الله على يد الملك انتقاما لنفسه بما حرم القربان في هذه المأدبة، ثم يأتي الفيلسوف «أنكشر خوس» فيقول: أيها الملك، إن الذي أنت فيه لعجز. إنك أيها الملك العظيم، والفاتح القاهر، لجدير بأن تحل وتحرم، وتحق وتبطل بإرادتك، لا أن تخضع للقوانين التي سنها الناس، ثم يأتي كلستنوس الفيلسوف فيجهد أن يهون على الإسكندر ما فعل. •••
فارق إسكندر مضجعه بقلب كليم إجابة لنصحائه، وإجابة لواجبه في هذه البلاد النائية، ولكني أحسب الجرح قد ذهب مع إسكندر إلى قبره!
إسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته غاية، ولا ثبتت في طريقه دولة، ولا وهن قلبه في سلم ولا حرب، ولكن إسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحمل وخزة واحدة من وخزات الضمير؛ فخر كالطفل يبكي ويتململ، وكاد يبخع نفسه فرارا من الندم!
الغريق1
بينما يسير بنا زورق في النيل رأينا من بعد على شاطئ قريتنا أسودة تضطرب، تتقارب وتتباعد، وتفترق وتجتمع، ثم يقترب بنا الزورق فنرى رجالا يموج بعضهم في بعض، وإذا ضوضاء وجلبة، وإذا الناس في أمر مريج، بين جالس قد رمى ببصره إلى النهر حائرا، وواقف يشير إلى الماء صائحا، ومسرع يساير النهر يتبين الأشياء الطافية على الماء، ومناد: انظروا، ما هذا الذي يضطرب به الموج؟ وآخرون أخذوا الشباك واستقلوا زورقا، يرمون بشباكهم في كل مكان، وغواص يطفو ويرسب وقد أخذه الصياح من كل جانب: إلى الأمام، إلى الوراء، اقترب، ابتعد، ألم تجد شيئا؟ غص مرة أخرى. والناس من القرية إلى الشاطئ أفواج متتابعة، والنساء على بعد صارخات معولات، والنيل متدافع اللج، مصطخب الآذي، يسير سيرته متدفقا زاخرا، لا يعي ما يقولون، ولا يأبه لما يفعلون!
عرفت أنا ههنا إنسانا غرق، وتمثل لي عجز الإنسان، وانقطاع حيلته في هذه الخليقة العظيمة! التهم النيل الرجاء، وطواه في جوفه، ومر في عظمته وجبروته، كدأبه في الحقب المتطاولة، منذ انبثق من عالم الغيب في فجر التاريخ، وكم نفس طواها صدره الواسع! وكم أمم تراءت صورها في صفحته، ثم كانت كالخيال في المرآة، لا بقاء ولا خلود! والناس على كثرة زحامهم وزياطهم دهشون، لا يدرون ماذا يفعلون! كذلك عظمة هذا العالم، وكذلك عجز هذا الإنسان الكبير!
دنوت من الجمع المحتشد، فقلت لأحدهم: ما خطبكم؟ قال: فلان بن فلان غرق. فتركته قائلا في نفسي: وماذا عسى أن يقع في السماء والأرض إن غرق فلان بن فلان؟ إن الناس والحيوان والأشجار والأنهار خلائق متصادمة في هذا العالم، يهلك أقواها أضعفها، ولا تبالي الخليقة إذا اصطدم إنسان وحجر، أيهما الكاسر وأيهما المكسور! وهذا رجل سقط في الماء فرسب.
ابتعدت من الناس مفكرا، فكأني أسمع في هذا الاضطراب وهذا الصخب ثلاثة أصوات تدوي في أذني: صوت الإنسان الضعيف يقول: وا أسفاه! وا رحمتاه! غرق فلان بن فلان، فيا حسرتاه على فلان وأهل فلان!
وصوت القضاء الرهيب يصيح: أصاب إنسانا ما قدر له.
وصوت الطبيعة القاسية يقول في غير اكتراث: جسم ثقيل سقط على الماء فرسب ...!
مدرسة الصحراء1
قرية ذات نخيل قامت في الصحراء كالأمن بين الخوف، والأمل بين اليأس، والحياة بين الموت، تهوي إليها أفئدة سالكي الصحارى، فيجدون من الظلال والمياه ما يمسح عنهم الجهد والنصب، ويطفئ فيهم العطش والصدى.
لمن هذه القرية المباركة؟ من القوم قد اجتمعوا فيها على أمر جلل، وأمل بعيد، وغاية سحيقة، قد اعتزموا اقتحام الصعاب، ومجالدة الأهوال، وتحدثوا بقلب العالم رأسا على عقب؟
من هؤلاء التلاميذ الذين أنبتتهم الصحراء، وأخلصهم ماؤها وهواؤها، وشمسها وهجيرها، وبردها وزمهريرها، فكانوا كروضة الحزن سقاها الحيا، وأنضرتها الشمس والريح، في قنة لا عهد للأنيس بها؟ من هؤلاء العرب قد جلسوا في أسمالهم، وأصغوا إلى معلمهم، يأخذون الحكمة، فتمكن من سرائرهم، فإذا هي خلق وسجية، وإذا هي الأمل والعمل، وإذا هي سعادة الأولى والآخرة؟
وعجبا لقوم ضعاف فقراء يتهيئون لما لا قبل لهم به! يريدون أن يكونوا أساتذة العالم وسادته؟ ولولا كرم في نفوسهم، وحكمة في أفعالهم لقلنا: بهم الطيش والغرور.
إن الإنسان ليقف في أمرهم بين الإعجاب والسخرية! دعهم في قريتهم، وتنظر الحوادث تأخذ مجاريها، ثم انظر إليهم بعد أعوام تر التلاميذ الضعاف قد أخذوا كتابهم وسيوفهم، واستووا على صهوات خيولهم، وتطاولوا إلى هداية العالم كله، وحكم الناس أجمعين! دعهم في آمالهم البعيدة، وأمانيهم العظيمة، ثم أبصرهم بعد سنوات قليلة وقد خفقت أعلامهم في مشرق الشمس ومغربها، ودان لهم كل طيع وعصي، وإذا العالم ملؤه الإعجاب والخوف والمحبة والفزع، وإذا هم شرر قد انبعث فأصاب الفطر الصالحة، فكان نورا، وأصاب النفوس العليلة، والأخلاق السقيمة، فكان في هشيمها نارا! ثم انظر إليهم فإذا بهم على العرش قد ورثوا ملك الأرض، وأحسنوا السياسة، وقادوا الناس بالحسنى، ثم دفعوهم إلى الخير، وهدوهم إلى الإحسان! وإذا صفحة من الإحسان ليس للناس بها عهد من قبل، وإذا كتاب في تاريخ المدنية لم تقو على فصوله من قبلهم أمم الأرض قاطبة.
أنبئني كيف وسعت القرية الصغيرة أرجاء الأرض؟! وكيف عمر العدد القليل نواحي العالم؟! وكيف بلغ هؤلاء الضعفاء آمالهم؟! وكيف كان التلاميذ الفقراء، كما أرادوا، أساتذة العالم؟!
فكر جهدك، فلن تجد أساطيل ولا جحافل، ولا طيارات ولا غواصات، ولا معامل ولا مصانع، ولا كتبا وأسفارا يضيق بها العد، ولا أنت واجد شيئا مما يبهر من جبروت الحضارة وزخرفها!
ما الذي خلق من القلة كثرة، ومن الضعف قوة، ومن الذل عزا، ومن الموت حياة، وأخرج من الصحراء شرذمة كانت أعظم مثل في العظمة والعدل والإحسان والعلم والحضارة ؟!
فتش ما استطعت، وفكر ما قدرت، وقلب حوادث التاريخ كما تشاء، فلن تجد إلا شيئا واحدا، وأمرا فذا، لن تجد إلا سرا إليه مرجع كل ما عرفت، وعمادا استقل بكل ما وصفت: الإيمان المتين، والخلق الصالح. إن في ذلك لعبرة.
على شاطئ النيل1
في ليلة من ليالي الصيف المقمرة، في قريتنا على ضفة النيل الشرقية، خرجت إلى الشاطئ وانتبذت مكانا في زورق منعزل، وكنت أرى في الغرب أهرام دهشور وبعض القرى والنخيل، مناظر بين الظهور والخفاء يتنازعها ظلام الليل وضوء القمر كأنما تتراءى في لوحة مصورة، والقمر ساطع في المشرق، يرسل أشعته الهادئة كأنها رشاش من ينبوع صاف، ينضح الخليقة، يطفئ عنها وهج الشمس، ويمسح عنها آثار التعب والكد والعراك، أو كأنها يد رفيقة تمسح على رأس طفل محزون، والنيل مترع زاخر، يسرع الجري في وقار، فلا تسمع في تدافع مياهه إلا وسوسة الأمواج، وحفيفها بالشاطئ، وهمهمتها في جانب الزورق.
سكنت إلى نفسي، وشعرت لذة الخلوة، ولم يكن يشغلني إلا خوف أن يحضرني إنسان يتودد بالأحاديث، وألقيت على النيل نظرة لم تسترد، والنيل كفكر الفيلسوف المطمئن، صفحة واسعة مضيئة، عميقة هادئة، ترسل في النفس سلاما وأنسا واطمئنانا وسكونا ورهبة.
ثم تهب ريح تجعد صفحة النهر، وتغضن أساريره، فكأن كل شيء قد تغير؛ ثارت ثائرة النهر، كما تضطرب أفكار المفكر الهادئ بشبهة عاتية تزلزل نواحيه، وتهيج مستقر سرائره، كذلك جاشت نفسي، وهاج فؤادي:
أيها النيل المنحدر من مجاهل الأرض، كأنك آت من وراء الغيب، والمتدفق من مجاهل الزمن، كأنك منحدر من الأزل! أيها النيل المصطخب بدفاعك وآذيك، الرائع في هديرك! أيها النيل المنصب في البحار الواسعة العميقة التي لا يعلم قرارها، هل أنت إلا سبب إلهي تسيل من المجاهل إلى المجاهل، كما يبزغ النجم في الأفق ويغيب في الأفق؟ ما مبدؤك وما منتهاك؟ نعرف أنك من البحر وإلى البحر.
وكذلك حياتنا، أيها النيل، نرى مجراها المائج الجائش، الصاخب المضطرب، المزبد الطامي، وكأن الناس فواقعه التي لا قرار لها، أين منبع هذا المجرى وأين مصبه؟ ما مبدؤه وما منتهاه؟ منبعه الأرحام التي تقذف الأجنة في هذا العباب، وأما مصبه فتلك الحفر السحيقة الموحشة الساكنة التي تزدرد العالم في الحقب المتطاولة وتقول: هل من مزيد؟ هذه المهاوي التي لا يعلم قرارها، ولا يدرى إلى أية غاية منتهاها، أجل، إنها البحر الأبدي المجهول. وما هذه الصفائح والرجام والحصى والمدر إلا أمواجه وزبده، ورشاشه المتطاير، ولكنها الأمواج الساكنة الجامدة؛ لأنها أمواج الموت؛ ولأنه بحر الفناء.
هذه منبعه وهذا مصبه، ولكن ما المبدأ وما المنتهى؟ لا ندري، ولكننا نعرف أننا من البحر وإلى البحر!
تدفق أيها النيل من الغيب إلى الغيب. أيها النيل، كم مرة طلعت الشمس عليك! وكم مرة تلألأ في صفحتك القمر! وكم مرة تراءت في لججك هذه الكواكب المطلة عليك كأنها تطالع صورتها فيك، وكأنها تناجيك بالأسرار الغامضة، والحوادث الخافية، والوقائع التي طويت في غيابات الزمن، والأمم التي سفت عليها أعاصير القرون!
يا نيل، كم أمة عمرت شاطئيك، وجمعت بالجسور عبريك، وملأت صفحتك بالسفائن، ثم زال بها نهر الحياة السريع، فلا جلبة ولا عراك، ولا جرس ولا ركز، ولا تكبر ولا فخر، وليس إلا بقية آثار تشبه الجزر والصخور المعترضة في مجرى النهر استعصت على التيار، ولا بد أن يجرفها يوما. وإن أكبر هذه الأمم حظا من الخلود تلك التي بقيت آثارها كصفائح القبور تدل على ما وراءها من الفناء، تلك التي يقرأ تاريخها في أحجار المقابر.
أيها النيل، وإنك لأهدأ سيرا وأرفق يدا من نهر الحياة، بل نهر الموت الذي لا يبقي ولا يذر! إنك تجور على القرى أحيانا، وتتحيف الشاطئين أحيانا، ولكنه لا يدع قرية ولا شاطئا، ولا علامة على القرية والشاطئ. إن لك لعبرين وقرارا، فأين عبرا نهر النيل، وأين قراره؟ وماذا في لجاته؟ إنه القضاء الرهيب يتدفق من الأزل إلى الأبد، وكأنه يجري وراء العيون والأسماع، والعقول والأفكار، وإنما نبصر من فواقعه ورشاشه، ونسمع عن اصطخابه وضوضائه، لا بل نرى لججه وأمواجه، ونسير في تياره وعبابه، وليس لنا علم بما وراء ذلك.
أيها النيل، تدفق تدفق من الغيب إلى الغيب، كما شاء ربك، فكذلك نحن في هذه الحياة: سائرون مع النهر، مستسلمون للتيار، جهدنا أن ننشر الشراع، ونحرك المجداف، كما شاء ربنا، وليس لنا من الأمر شيء.
ملك وفيلسوف1
نشأ إسكندر بن فيليب ملك مقدونيا قويا شجاعا عظيم النفس، بعيد الهمة، وتبوأ العرش في سن العشرين، فأرهق الجند بأسه، وتصرفت بالجحافل همته، فلم يعجزه مطلب، ولا بعدت عليه غاية، وما ظنك بملك شاب عظيم طموح، كبير الهمة، يواتيه جند باسل، وجحافل جرارة؟
سار إسكندر فسقطت الممالك لبأسه، وخرت العروش لصولته، فإذا إسكندر ملك ما بين مقدونيا وليبيا والهند، وإذا إسكندر وارث اليونان والفرس وبابل وأشور ومصر.
أيها الملك الشاب، لقد بلغت ما لا يبلغه ملك على الأرض، لقد أتيحت لك السعادة غير منقوصة، وألقت إليك الأماني مقاليدها.
سار إسكندر الكبير يوما فقيل له: أيها الملك العظيم، إن هذه الخشبة التي نرى من بعيد مسكن ديوجين الفيلسوف، يحملها على ظهره حيثما سار، ويأوي إليها. ديوجين الذي هجر تكاليف الحياة وضوضاء البشر، وقنع بالهواء والماء في الفلوات، يعيش مع الطير والوحش، ويقتات بما يقيم أوده مما تخرج الأرض.
أراد إسكندر تلميذ أرسطو أن يتواضع للفلاسفة، وأن يؤثر عنه أنه مشى في عزته وجبروته إلى ديوجين المسكين. أراد إسكندر أن يؤاسي الفيلسوف. مشى الملك العظيم حتى وقف على ديوجين الفقير.
ليت شعري ماذا يهم ديوجين من الملوك والدول؟ وماذا يعنيه من إسكندر وجيوشه؟ إن ديوجين الذي تنفذ نظراته إلى بواطن الأشياء كالأشعة لم ير في إسكندر وجنده إلا ظلالا تمتد تحت الشمس وتنقبض، إلا صورا ترسمها ليقة الشمس، ويخفيها ظلام الليل، إلا أخيلة تتراءى ثم تغيب في تضاعيف الزمان.
رفع ديوجين رأسه إلى الإسكندر فلم ير إلا ظلا سقط عليه، فحرمه ضوء الشمس، حرمه متاعا منحه الله الناس جميعا، ولم يجعل للملوك سلطانا عليه.
فلما قال إسكندر العظيم: ما حاجتك يا ديوجين؟
قال ديوجين الذي لا يملك شيئا ولا يملكه شيء: حاجتي أن تذهب فلا تحجب عني ضوء الشمس!
النهضة1
نهضة الأمة: انتباهها من غفلتها، وانتعاشها من كبوتها؛ للتفكير في حالها، والنظر إلى مآلها، ونقد سيرتها، والبحث عن عيوبها، وتعرف نقائصها، وقياس ما بينها وبين الكمال؛ لتتجه نحو الغاية المرجوة، وتعد الوسائل المؤدية إليها.
وهي طور من الأطوار التي تنتاب الأمم في سيرها مع قوانين الاجتماع، وخضوعها للسنن الإلهية، لا ترى أمة تستمر بها الغفلة، ولا أمة تمتد بها اليقظة على مدى الأيام: حياة وموت، وشباب وهرم، وارتقاء واستفال، وصعود وانحدار، ولكن الأسباب تعجل بنهضة أمة أو تعوقها، وتواتيها أو تعاندها.
وللنهضة أسباب داخلية وأخرى خارجية تتعاون على إنتاجها، ويكمل بعضها بعضا، وقد تكون إحداهما أبين أثرا، وأوضح مظهرا.
فمن الأسباب الداخلية نبوغ المصلحين الذي يريدون بعزائمهم تغيير حال الأمة، وسوقها في طريق الكمال. وهذا النبوغ من علامات النهضة ومن أسبابها، فهو أثر لحال جديدة خالطت نفوس الأمة، ومؤثر شديد في هذه النفوس، ومنها نظام الحكم، وأسلوب التعليم، وحال الزراعة والصناعة والتجارة، وهلم جرا، وأوضح ما يكون هياج الأفكار، ونزوع النفوس إلى الإصلاح حين تبلى الأمة بضلال السيرة، واختلال النظام، وتمنى بمصائب تأخذ عليها طريقها، وتلفتها إلى ما تعانيه من شقاء، وتشعرها بالألم على كثرة ما تحملته، وبمرارة الظلم على طول ما ألفته، وحينئذ يفكر الناس: فيم هذا العيش؟ وإلى أين؟ ولماذا يحملون هذه الأعباء؟ وبأي حق يساسون بهذه السيرة؟ فتبدأ في النفوس سلسلة من الأفكار تنتظم أمور الأمة جميعا، فإن الفكر إذا تنبه لا يقف في طريقه شيء، وحينئذ يكون ميزان الأعمال العقل لا العادة.
وقد تأتي بذور النهوض من الخارج، وذلك باختلاط الأمم ونظر بعضها إلى بعض، فيكون بينها من التقليد والغيرة والتنافس ما يكون بين الأفراد، كما كانت الحرب الميدية بين الفرس واليونان مقدمة لعصر أثينا الذهبي «عصر بركليس»، وكانت الحروب الصليبية من أسباب مدنية أوروبا الحاضرة، وكما كان سيل الأوروبيين على المشارقة في هذا العصر مثيرا لهذه الحركات التي تناولت كل أساليب الحياة في الشرق، بينما تكون الأمة راضية بما عندها ، ترى عند غيرها ما يخالف عاداتها وأخلاقها وعلومها وآدابها، فتبتدئ القياس والموازنة، وتشرع العقول تفضل بعض المختلفات على بعض، وذلك يقتضي أن تنظر إلى غاية في الحياة، يكون بها الترجيح والتفضيل، فيكون الرجوع إلى هذه الغاية، لا إلى العادات الموروثة.
ومن علامات النهوض كثرة التفكير، وشدة الخلاف، والدعوة إلى العمل مقرونة بالحجة، وتمحيص البراهين المختلفة.
والحياة البشرية لا بد لها من قوانين ترشد العاملين، وعادات يتفق عليها الناس، حتى لا يضطر الإنسان إلى التفكير والترجيح كلما هم بعمل صغير أو كبير فيذهب وقته ضياعا. ومن أجل ذلك كان عصر النهوض الذي يهدم القواعد ولا يبالي بالعادات عصرا ملؤه الحيرة والشك والملل والانقباض. وقد كان القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا عصر هياج وتمرد وقلق، حتى أنتج الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت الأمة العثمانية قي القرن الأخير مجالا للنزاع والجدال، حتى كانت ثورة الدستور، ولا تزال الأمة في تقلب؛ ومن أجل ذلك كانت الأفكار المصرية في هذا العصر كثيرة التناقض والتنافر، والنزاع بين القديم والحديث، وهلم جرا.
فإن لم يكن للأمة في هذا الطور قواد مرشدون، ومصلحون قادرون، كان من وراء هذا الاضطراب شر مستطير. والنهضة إن لم يهدها الحزم، ويهذبها الفكر، فقد يربو شرها على خيرها. لا بد لكل نهضة من فكر يثبت خطاها حين تهيج العواطف، ويبين للأمة قصد السبيل حين تركب العزائم الجامحة كل مركب خشن، وتنزع بالنفوس الثائرة هموم لا تبالي بالعواقب، وحين يغلو الناس في الخروج على العادات، والنفور من النظم حين يرونها قيدا لإرادتهم، ويفكرون فيما أنتجته من سيئات، فيندفع واحدهم كالحصان الأرن عالج رباطه حتى قطعه، فذهب في الأرض طلق الجموح.
لا بد إذن من أن تبين الغاية، ويبصر الناس بما ينفعهم وما يضرهم، حتى يخففوا من غلوائهم، فإذا دعاهم الإعجاب بالجديد إلى أن يأخذوا عن غيرهم كل شيء، وإذا أرادوا الخروج من عقائدهم وعاداتهم وسائر ميراث أسلافهم كلفا بالحرية، وجب أن يقال لهم: انظروا ما أنتم في حاجة إليه، وإياكم أن تحقروا آدابكم وقوانينكم ؛ فإن لكل أمة نظما ألفتها البيئة والأخلاق والأحوال الخاصة، وأيدها مر الزمان، فأصبحت مثالا لحياتها، لا تصلح في مكانها نظم أخرى، ولكل أمة عادات تحسن عندها ولا تحسن عند غيرها.
لا تحقروا ما أيدته التجارب، وهدى إليه الوجدان، فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. لا تخلطوا المدنية الصناعية بالمدنية الأخلاقية، فتتخذوا رقي أمة في صناعتها دليلا على رقي أخلاقها وآدابها، ولا تجعلوا فقركم في الصناعة والوسائل المادية برهانا على فساد أخلاقكم وآدابكم، فبين الأمرين فرق عظيم. خذوا من المدنية الصناعية ما استطعتم؛ فإنها نتيجة القوانين الطبيعية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان. أما المدنية الأخلاقية التي تستمد من التربية والتعليم، ومن خواص الشعوب والأجناس، وتاريخ الآباء، وآثار البيئة، فكونوا من أمرها على حذر، وأكثروا فيها النقد والتمحيص، وإياكم أن تأخذوها كما هي، فتكونوا كمن لبس ثوبا لم يفصل على جسمه، أو كالغراب الذي حاول مشية القطا.
يقال: إن اليابان التي نافست أوروبا حتى زاحمتها في التجارة والصناعة والعلم، ووقفت أمامها بأسلحتها، لم تزل مستمسكة بأخلاقها وعاداتها اليابانية، تزدري كل من يهجر عاداته إلى عادات أوروبا. وقد نرى الهند والصين على اعترافهم بفضل أوروبا في علوم الطبيعة لا يسلمون لها بالسبق في الفلسفة والتربية والأخلاق.
لا بد من النقد وتمييز الخبيث من الطيب، وإلا سارت الأمة في طريق محفوف بالمصاعب، وكانت سيئاتها أكثر من حسناتها.
فإذا عرفت الغاية واستبانت، فلا بد من النظر في الوسائل، فقد يشرق الإنسان وهو يريد أن يغرب إن لم يستوثق لنفسه. وانظر أمة أرادت تعليم أولادها مثلا، فأكثرت المدارس العالية، وأهملت المكاتب الأولى، فإنها لا تصل إلى ما تريد، وكذلك أمة تقصر جهدها على الشكل، ولا تهتم بتجارتها وصناعتها ونحو ذلك من شروط الحياة الصحيحة.
حتى إذا عرفت الغاية، واختيرت الوسائل، جاء وقت العمل، ولا بد له من الدأب والصبر، حتى ينجح السعي ويحمد الكد، وإلا ضاع الزمن بين الإقدام والإحجام، وسارت كل طائفة مراحل من الطريق ثم وقفت، فتستأنف السير طائفة أخرى تقف حيث وقفت الأولى أو قريبا منها، فإذا جهد كثير ضائع، وسعي غير نافع، وإذا الأمة لا تزال في أول الطريق.
إذا عرفت الأمة الغاية والوسيلة، ثم عملت واستمرت، وصابرت وصبرت، فلن يقوى أحد على أن يصدها في طريقها، أو يعوقها عن غايتها، ومن ذا الذي يعطل القوانين الطبيعية، أو يبطل السنن الاجتماعية؟ بل من يمنع النتيجة إذا تمت المقدمات، ويحول دون الغاية إذا وضح الطريق، وأزيلت العقبات؟
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا .
الإخوان1
من لي بقوم من الإخلاص طينتهم
لدى الشدائد والسراء إخوان؟
قد حالفوا الحق لا يخشون لائمة
في الله ثبتهم في الحق إيمان
إذا تنكر جبار لهم خشنوا
وإن تعرض مسكين لهم لانوا
قرت بهم رجفات الدهر واتسقت
للعقل والعدل والإحسان أركان
من كل أروع ملء الدهر عزمته
وهمه في ضمير الدهر أشجان
ترى الهموم به الأهوال معتزما
يفوت ظن الردى والموت خزيان
مرزأ يتلقى الرزء منصلتا
تنشق عنه من الأهوال أجفان
فذلك الطود يجري حوله نهر
من الخطوب له بالناس طغيان
يزل عن سفحه الآذي مصطخبا
وما يلين لمر الماء صوان
فاتت مآرب أهل الذل قمته
فما يذلله نيل وحرمان
كأنه إذ يناجي ربه فرحا
عما يكابده في الأرض غفلان
ومنها في جماعة غير هؤلاء صغار الهمم ضعاف النفوس:
لا يعرف الرزء في الآمال واحدهم
إن نال مضجعه والبطن ملآن
كأنما الفلك الدوار أرحية
للقوت، والشمس في الآصال أفران
سعيد بن جبير1
سيف الحجاج مصلت يرعد، وينذر ويتوعد، ويحكم في الرقاب فلا معقب، وقد جلس الحجاج مجلس بؤسه، وأدار أفلاك نحسه، وهو من تمرس بالشدائد حتى هانت عليه، وشهد القتل حتى ما يبالي به، ساعة صرح فيها الشر، وكشرت المنية، وحسبك ببطش الحجاج الذي يوحي إلى كل قلب رعبه، ويقض على القريب والبعيد مضجعه.
قدمت إليه أسارى «الجماجم»
2
وقد أمره الخليفة فيهم أن يقتل من لا يقر على نفسه أنه كفر إذ خرج على الخليفة مع ابن الأشعث.
رأى كل أسير أن في الإقرار فرجا، وفي التعريض لمن يأبى التصريح مخرجا؛ سئل الشعبي فقال: أصلح الله الأمير! نبا بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أنقياء، ولا فجرة أقوياء، وسئل مطرف بن عبد الله فقال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر.
وأنت يا سعيد بن جبير! إن لك في القوم أسوة، ولك في القرآن رخصة. هذا سيف الحجاج ونطعه، وذاك جبروته وبطشه. الحجاج من لا تأخذه هوادة، ولا ينثني إذا اعتزم، فأبق على نفسك بكلمة؛ كلمة لا تضيرك في دين ولا دنيا. تقدم فصرح بالكفر مكرها، أو فعرض؛ فإن في المعاريض متسعا. لا تتردد؛ فإن سيف الحجاج لا يمهل، ولا تبطئ؛ فإن الحجاج لا يؤامر.
لا لا، سعيد يأبى، سعيد يصمم أن يقول ما يكنه فؤاده: سعيد يربأ بنفسه أن تعرض في الحق، سعيد يحقر الحياة، ولا يرهب الموت، سعيد لا تأخذه في الله رهبة.
ويحك يا سعيد! إنهم ينادونك، فالله في نفسك وأولادك والعلم الذي في صدرك، إن الأمر لأهون من أن تقتل فيه، فالآن فاختر: إما الحياة وإما الموت.
يتقدم سعيد مزدريا بكل شىء إلا الحق، يمثل سعيد بين يدي الحجاج، سئل: أتقر على نفسك بالكفر؟ فقالها كلمة أكبر من الحجاج وأعوانه، وعبد الملك وسلطانه، وأكبر من كل جبروت في الأرض، قالها ليشتري الحق ويبيع الحياة. أجاب سعيد ساخرا بالجنود والأعوان، والسيف السلطان، قد ملك عليه الحق عقله وقلبه ولسانه.
قال: «ما كفرت بالله مذ آمنت به.»
هوى رأس سعيد عن جسده، قذف سعيد برأسه في وجه الجبروت، وقدمه ثمنا للعقيدة والإباء.
سعيد بن جبير لم يذله مطمع، ولم يملكه خوف، ولا أزرى به ملق، ولا طأطأ رأسه لجبروت، ولكنه كره الحياة، ورغب في الموت؛ ليقول ما يعتقد بين السيف والنطع. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
رفائيل1
البارحة بعد نصف الليل أتممت قصة رفائيل قراءة، وكنت بدأت قراءتها منذ زمن بعيد، فتطاول الأمد، وتثاقلت النفس تثاقل الغم على قلبي جوليا ورفائيل.
ما حسبت قط أن الحزن الذي شربته جرعات، وأشربه قلبي رشحات، وأحسسته حينا بعد حين، يبلغ هذا المبلغ. بلى! أذكر أني في إحدى الليالي وقفت القراءة إشفاقا على نفسي حينما بلغت برفائيل وجوليا حديقة «منسو» وحم هنالك الوداع. أذكر أني حينئذ وضعت الكتاب على حافة السرير، وألقيت على الوسادة رأسا ينوء بالهموم، فماج بي الليل، وطار الفكر في أرجاء السماوات، وقذف القلب بأحزانه زفرات، ودارت النفس في أعماق من الظلام والفكر ما لها من قرار، ولكني ما حسبت قط أن الحزن آخذ بي إلى الغاية التي بلغها البارحة.
أذكر أن في هذه القصة مواقف موجعة، ومشاهد مروعة، أذكر جوليا ورفائيل وهما في نفسيهما مأساتان أحكم الله تأليفهما، وبعث بهما إلى الأرض في صفحات الحادثات، أو في صفحات «لامرتين» لتقرأ على مر الأيام، وأذكر البحيرة؛ بحيرة «برجيه»، يوم كان اللقاء بين حبيبين لا يعرف أحدهما الآخر، فكأنهما التقيا على موعد بعد أن برح بهما الشوق، وأمضهما الانتظار، ويوم حان فراق «إكس»، ورحلت جوليا إلى باريس، فتبعها رفائيل يرقبها عن كثب وهي لا تدري، وينجدها كلما عرض لها ما تكره، حتى أبلغها دارها ثم رجع.
وأذكر تلاقيهما في باريس يجتمعان على هوى عذري، وفرح هو أشد ضروب العذاب، في ملتقى حبيبين هو أشبه بمأتم تهيأ فيه للقضاء الذي ليس منه مفر، ويوم يبيع رفائيل لؤلؤة أمه وهو يبلها بدمعه ليستطيع الإقامة على مقربة من جوليا، ويوم ذهب إلى أمه فأخبرها أن الطبيب أشار عليه بالمسير إلى «سافو»، فلا تجد أمه بدا من أن تقسو على أعز صديق، وأنفس ذخيرة، وأجمل ذكرى: الشجرات اللاتي يظللن الدار، واللاتي حنون على هذه الأسرة دهرا طويلا، فكان في ظلالهن مسارح اللهو، ومدارج الصبا لرفائيل وأمه وأبيه. فانظر كيف تضطرها الأقدار أن تسلط الفأس على هذه الأشجار! كل أولئك أذكره، وإنها لذكرى ممضة، ولكن ما حسبت قط أن يبلغ الحزن بي هذا المدى.
البارحة بعد نصف الليل أخذت الكتاب أقرأ الوريقات القليلة الباقية، ونفسي تضطرب فزعا مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.
حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير إلا ظلاما، ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة، ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه، على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.
قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس، ثم عن رسائل باريس، فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط «ألن» لا خط جوليا، يقرأ سطورا سوداء تنعي إليه جوليا، وينظر بصره الزائغ، فإذا خط جوليا نفسها - أجل خط جوليا نفسها - ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت؛ لتعزي رفائيل عن نفسها فلله ما أفظعها تعزية!
تركت رفائيل يخر مغشيا عليه، وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت، ثم لج بي البكاء.
حاولت سدى أن أسكن جأشي، أو أكفكف دمعي. ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة. كانت قصة رفائيل لها كقدحة الزند، أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.
كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة، رجلا مجهولا، يشبه لامرتين؛ طبعا مكتئبا، وقلبا منقبضا، ونفسا ملتهبة.
كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلي لامرتين أم أحسن؟ ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟!
الربيع1
دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهارا، واشتعلت الأرض أزهارا وأشجارا.
تبرجت بعد حياء وخفر
تثني على الله بآلاء المطر
قد صرحت الأرض بمكنونها، وأبانت الحياة عن ضميرها، فنبتت معاني الحياة والجمال في ألفاظ من الأوراق والنوار.
باح الربيع بأسرار البساتين
وعطر النفس أنفاس الرياحين
ونفخت أنفاس الربيع الحرى الحياة في كل ذرة، فأخرجت قواها أعشابا وأزهارا، فرقتها ألوان، وألفتها معان.
لم يبق للأرض من سر تكاتمه
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف شتى من زواهرها
حمرا وصفرا وكل نبت غبراء
أي مسرح للفكر، وأي مجال للخيال، وأي مراد للطرف!
دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر
والطير مغردات كأن أصواتها ذوب هذه الألوان، وكأن ألوان الروض جمد هذه الألحان. يهتز الطائر الغريد، على الغصن الأملود، فيقرأ ما تحته من صفحات الجمال، فكأنما الطير إبر الحاكيات، تنطق بما تضمنت الصفحات من نغمات،
2
والعصفور مرح تتداوله الأغصان، وتتهاداه الأفنان، تارة في انتزاء بين الأرض والسماء، وتارة تغيبه الحديقة، كأنه في هذا الجمال فكرة دقيقة، صغير تملأ الهواء نغماته، ضئيل تشغل الجو خفقاته.
والفراش قلق بين النوار، هائم بين الأزهار، لا يقر له قرار، كأن كل فراشة زهرة طائرة، أو قبلة بين الأزهار حائرة، أو نغمة في جمال الروض سائرة!
والشعراء ينافسون الطير على الأيك طربا وتغريدا، وفي المرج تسبيحا وتحميدا، تنبجس في جوانبهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم على أزهار الشعر؛ ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روضة، وفي كل معنى زهرة، وعلى كل قافية نضرة.
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة.
ذلكم الربيع الذي فتن الناس، فافتنوا في وصفه والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه، فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيدا، ومجدته بشتى الوسائل تمجيدا، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخل من المفتونين به جيل.
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم، فهم لا يحسون مقدم الربيع إلا قليلا. ولو أنهم عرفوا كلب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن.
وقد غاب في الثلج الربيع وحسنه
كما اكتن في بيض فراخ الطواوس
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع، فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة - لاحتفوا بالربيع، وعرفوه يقظة بعد هجود، واشتعالا بعد خمود، ورأوا فيه النشور بعد الموت، والإدراك بعد الفوت.
على أن للربيع في مصر دقائق يسر لها الإنسان، وشيات يدركها الشعراء في كل زمان.
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفحة؛ لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حينا، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمنا. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملا، وفي كل حزن سرورا، وفي كل ظلام نورا. ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترف على جداول الربيع الرياحين.
رثاء ضرس1
أيها الضرس ما خلعت اختيارا
رغم أنفي فراق خل قديم
لك في في موضع ليس ينسى
وبقلبي ذكرى الوفي الكريم
ذقت في صحبتي من الحلو والمر
وعرك الصلاب غير مليم
غير أن الزمان ألبسك السق
م وأنحى عليك بالتحطيم
ما بقاء الشجاع في الصف إما
كل حدا وآض جد سقيم
غاية الجهد أن حبوتك تاجا
أي تاج يرى لعظم رميم؟
لك في الشاه أسوة خلع الأم
س وخلاه تاج ملك قديم
لا سواء فأنت أشرف نفسا
قد تركت الميدان غير ذميم
وحملت الأعباء جهد شجاع
واهن الجسم ذي فؤاد سليم
لهف إخوانك الوفاة إذا ما
ثبتوا للوغى بقلب كليم
لهف نفسي وقد فجعت ببعضي
إن هذي مصيبة في الصميم
كل حي إلى الفناء ولا يب
قى سوى ربك العلي العظيم
الوطن1
تربتك وماؤك، وأرضك وسماؤك، منه نشأت، وإليه إن كنت سعيدا تعود، أول ما أحسست من الحياة، وأبصرت من الضياء، ونشقت من الهواء، وسمعت من الترنيم والغناء، وعرفت من الفرح والبكاء. مرحت طفولتك مع طيره، في زرعه وشجره، ورتع صباك في بره وبحره، وسهله ووعره، وحره وقره، وشمسه وقمره، فهو روحك وجسمك، وحسك وعقلك، وحقيقتك وخيالك، وذخائرك وآمالك. كدحت يدك في مادته، وسبح فكرك في معناه، واستنزلت الوحي من سمائه، وأطرت الخيال في هوائه، ورأيت غير الحياة في أرجائه، بين صباحه ومسائه، وضيائه وظلمائه، ورعيت الجمال في جناته النواضر، ونجومه الزواهر، وفي زروعه وأشجاره، وجداوله وأنهاره، واستمددت من شمسه القوة والعمل، ومن قمره جمال الخيال ونضرة الأمل، وعرفت معاني الحياة في مشارقه، وأدركت أسرار الفناء في مغاربه.
كتاب آبائك المفتوح لك، وصحف أجدادك المنشرة أمامك، تقرأ فيها عزك وهونك، وأفراحك وشجونك، وأنت فيها سطر مقروء غدا، يراه الخلف رديئا أو جيدا. حقب أنت إحدى ساعاتها، وسلسلة أنت من حلقاتها. حي أنت فيها وكنت من قبل حيا، وستحيا وإن كنت في رمسك مطويا، تقول: «فعلنا» وقد فعل آباؤك القدماء، و«سنفعل» وإنما تريد أن يفعل الأبناء، قرآنك المتلو على الدهور، وأدبك تقرؤه الأجيال بين منظوم ومنثور، وموسيقى وضعت لك ألحانها، وأناشيد تخاطبك قوافيها وأوزانها، وتهيب بك أفراحها وأشجانها، ليس بأمانيك تحبه أو تقليه، ولا باختيارك أن تنام عنه أو تسهر فيه، فأنت فيه قد خلقت، ولنصرته قد طبعت، وليس في قدرتك أن تبدأ الخليقة، أو تنقض السليقة.
أنت فيه علم وفي سواه نكرة، ووجهك في مغانيه صورة محبوبة، وفي غيره خلقة منكرة، وصوتك في منازله نغمة مألوفة، وفي غير همهمة منفرة. وأنت في سواه حرف لم يركب فهو غير مقروء، ولفظ يعثر به اللسان فهو جد مشنوء، وصفر لا على يمين ولا على يسار، لا يدخل في حساب المجد ولا العار، لو لم تكن منبوذا لقلت: رقعت بالية في ثوب أجد، ولو لم تكن خفيا لقلت: شعرة بيضاء في ثور أسود.
ألم تر إلى أسارى يهود الأوائل كيف عطلوا مزاهرهم على نهر بابل،
2
وخرست ألسنتهم بالغناء وقالوا: «كيف ننشد أناشيد إسرائيل ونحن غرباء!» سوقك التي إن تهجرها فأنت في الحياة بائر، وعشك الذي إن تفقده فأنت طير حائر، ومعك حيثما ذهبت مجده وفخاره، أو إثمه وعاره، وسيف مجده في يمينك، أو ميسم خزيه على جبينك، ليس إلا إليه الثواء، وإن ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء. •••
مصر التي برزت خضراء في صحراء، وجرى نهرها بين جناتها كالمجرة في السماء، وظهرت بين الرمال، كما تلوح في اليأس الآمال، أو كما ينبثق الفجر من الظلم، ويرف الزهر على الصخر الأصم، ينبوع في مجاهل، وورد بين السباسب عذب المناهل.
مصر التي طلع فيها فجر التاريخ فأضاء، وكشف بها عن المعارف أول غطاء، وأنشد الدهر على نيلها أنشودة الفخار الأول، وألقى المجد فيها رحله ثم لم يتحول، وانفجر فيها ينبوع العلم فعم، فنهلت منه سائر الأمم، وانقدحت منها شرارة المعرفة فكانت نارا، فعشت إليها الأمم الحيارى.
مصر التي أعجبت في القديم والحديث، وراقت ماضية وحاضرة، ألم تر كيف رسا هرمها على الزمن، وثبتت قواعدها على الفتن، وبقيت كما كانت مدهشة السر والعلن؟ هرمها طاول الدهر فطاله، وصارعه الزمن فما أماله، صرح رهبته القرون، وعي ببانيه ريب المنون، فالقبور التي هي سطور الفناء، تقرأ فيها آيات الخلود والبقاء. ترى فيها الحياة جامدة، وتحس فيها اليقظة هاجدة، وتتبين منها شعلة النبوغ وهي هامدة، كتمتها الأرض حينا ثم لم تستطع صبرا، وضاقت بسرها العظيم صدرا، وابتلعها الزمان فلم يستطع لها هضما، فلفظها رائعة كما كانت قدما، فيا لك من موت أدل على الحياة، وفناء أشبه بالبقاء، وهمود أقرب إلى الخلود!
مصر التي جرى نيلها بياضا في ظلمات الأيام، وسطرا تترنم به الأعوام، مرآة للتاريخ لها من جنات مصر إطار، وسيف للحق قلب الظلم منه مستطار، كم أنبتت بشاطئيه أمما زاهرة، ومدنا عامرة، وجنات ناضرة! فقابل السماء بأبهى من نجومها، وأنفذ من رجومها، رأت الشمس وجهها فيه فتاة وشمطاء، وشبت النجوم ترى صورتها في الماء، وظهرت المجرة صورة له في السماء. سقى القرون الخوالي ولم ينضب، وكتب عبر الأيام بمداده فلم ينفد، تدفق كالقدر من الأزل إلى الأبد فياضا هدارا، معطاء مكثارا.
هو يا ابن مصر حياتك وعزك ، وقد كتب به مجدك وفخرك.
يا بني مصر الحديثة، لا تكن آثاركم على عبري النيل أردأ خطا ولا أقبح سطرا، فإنما تلكم الحقب الموروثات، والآثار الخالدات، وديعة الأمم الخالية، وميراث القرون الآتية؛ فتقدموا للعمل بقلوب ملؤها الإيمان والأمل، ورءوس ملؤها الحكمة والروية، وأيد ملؤها النشاط والقوة، واحذروا غضب الله، ولعنة الخلف، وحكم التاريخ.
بين التصوف والغزل
زهرات ذابلات
أحاذر في نجواي بث شكاتي
فأكتم ما في القلب من حسرات
ويغلبني وجدي فألقاك شاكيا
ولا بد للمصدور من نفثات
لقد علمت أخت الملائك أنني
من الغم والأحزان في غمرات
وأن هواها مستبد بمسمعي
وفي كل شيء، مالئ نظراتي
وملء فؤادي والأماني كلها
يبرح بي في يقظتي وسباتي
أروم اصطبارا عن لقاك فأنثني
إليك بملء القلب من خفقات
وألتمس السلوى لديك فأنثني
بزاد من الأشواق مستعرات •••
إذا ما دجا بالغم قلبي أضاءه
كواكب من ذكراك والخطرات
وإن جنحت للشر نفسي هديتها
بذكراك فارتدت إلى الحسنات
وإن أخلدت يوما إلى الأرض ردها
هواك إلى الأفلاك في لمحات
وذكرك قد يجلو عن القلب رينه
فيسطع فيه النور حين صلاتي •••
على أنني يعتادني من تذكري
لواعج هم مشعل الزفرات
هي النور وهي النار والسلم والوغى
بقلبي ، ومنها غبطتي وشكاتي
وأمني وخوفي وهي أنسي ووحشتي
وظلمة أيامي وضوء حياتي
فيا قمرا إن غاب عني نوره
فقلبي ليل موحش الظلمات
ويا شمس حسن إن تغب فجوانحي
بها شفق في وقدة الجمرات
ويا فلكا للحسن والحب دائرا
يبارك ربي هذه الدورات
فلو كان ما بيني وبينك فرقة
لقطع بحار أو لطي فلاة!
ولكنه الدهر المشت يقيمنا
على قربنا، في فرقة وشتات •••
تمنيت أنا طائران بدوحة
تظلل نبعا ثر في الفلوات
أصوغ لك الأزمان شعرا وبهجة
وأسمع منك الخلد في نغمات
ويمسك هذا الدهر عن حركاته
فلا هو بالماضي ولا هو آت •••
أناظمة الأشعار أنت قصيدة
جلتها يد الخلاق في قسمات
يطالعها قلب من الشعر مجدب
فينبت فيه الشعر أي نبات
وينشدها من قد في الصخر قلبه
فينبض منه الشعر قلب صفاة
أرى وجهك الوضاء شعرا مصورا
تسطره يمناك في كلمات
كأن يراعا في يمينك إبرة
1
تردد ما في الوجه من نغمات
يقولون: «شعر شاعر» هل عنوا به
بديعة حسن تنظم الشطرات؟ •••
يحيى بهذا الشعر قلبي فاقبلي
وإن كنت روضا، هذه الزهرات
سقتها دموعي واصطلت حر زفرتي
فلا تعجبي إن لم تكن نضرات
يا رب رحماك1
سجا الليل، وخفتت الأصوات، وأوت الطير إلى أوكارها، ولجأ كل حي إلى مأواه، وانبعثت بالإنسان أوصابه وهمومه، وأفراحه ومآربه، في شتى المذاهب.
أقلب الطرف بين الأرض والسماء، وأجيل الفكر في الغابر والحاضر، وأبعث إلى نفسي بالسؤال بعد السؤال، فتجيب كل سؤال بمثله، وتشرح كل معضلة بأعضل منها، فإذا أنا باك على الناس، راث لهم، وإذا لساني يضطرب بهذه الكلمات:
رحماك يا رب للفقير الكادح يقض عليه مضجعه ألم يومه، ووساوس غده، وتسلمه هموم النهار إلى المرقد، فإذا هو شقي في مرقده، يثير أشجانه مرأى أطفاله في ألوان من الفاقة، يضاحكهم وقلبه باك، ويبش إليهم وفؤاده شاك.
رحماك يا رب للأغنياء البخلاء، بين تخمة أمعائهم، وشره أيديهم وأفواههم، وفظاظة قلوبهم، وغفلة نفوسهم، حين يتقلبون في النعيم مترفين فكهين، ضاحكين مستهزئين، لا يبالون ما على الأرض من بؤس، وما بين الجدران من آلام. رب رحماك لهم فإنهم وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم.
رب والعابد الصاف في جوف الليل، هجر الناس ولجأ إليك، ونفر منهم وأنس بك، أنزل عليه السكينة والطمأنينة، وأضئ له السبيل إلى جنابك المقدس، ومهد له الطريق إلى حرمك الأمين.
رب والعاصون الغارقون في آثامهم، الجائرون في ضلالهم، وكل ذي ذنب طبعت به نفسه، ودنس به قلبه، وعمي به بصره. رب هم أحوج الناس إلى رحمتك، وأولاهم بهدايتك، أنقذهم من ورطاتهم، ونقهم من أرجاسهم، هم أطفالك العرمة، وعبادك الغافلون، وعبيدك الآبقون، وأنت أنت ولي إرشادهم، والقادر على إسعادهم.
رب والمرضى تبرح بهم الآلام، وتبريهم الأسقام، أدركهم برحمتك الواسعة، وأغثهم برعايتك، إنك أنت الرحيم.
ثم المحزونون على حبيب مفقود، أو قريب مفتقد، تتقطع قلوبهم زفرات ، وتذهب أنفسهم حسرات، بين الماضي وذكرياته الفاجعات، والمستقبل وآماله الضائعات.
وكل ذي غم يضطرب في بحر من الآلام والأحلام، وخيالات من الموت والحياة، تذهب زفراتهم مع الرياح، ودموعهم مع الأنهار، وتدور بهم الهموم، فنومهم سهاد، ويقظتهم رقاد. قد انبهمت عليهم أمورهم بين اليأس والأمل، والظن واليقين، كالغريق يغشاه موج من فوقه موج. رب فاهدهم إلى ساحل النجاة، وأطلع عليهم نجمك الهادي في الظلمات، وأرسل عليهم روحا من رحمتك، ومد عليهم ظلا من عنايتك.
رب والشريف الذي تقهقرت به الأيام، وكلب عليه الزمان، تدفعه الحاجة، وتمنعه العزة، وتدعه الفاقة، وتمسكه الأنفة، فهو غني النفس فقير اليد، كلما نسج على نفسه سترا من التعفف والتجمل مزقته يد الزمان العاتية، وكلما تجلد أنحى الدهر على تجلده، يثور في قلبه الذل والكبرياء، والعز والهون، فهو بين طموح نفسه وهوى الحادثات به أشقى الأشقياء، معذب اليأس والرجاء.
رب والراكبون البحر على غواربه الجائشة، وثبجه الهائل، ولجه الذي يلقى كل عين بهولها، وكل نفس بصورة حتفها، فإذا أظلم اليم طغى الماء، وصرخت فيهم الريح الهوجاء، ففي رحمتك نور الظلماء، وسكينة الماء، وهدوء العاصفة الهوجاء.
وسالك البيداء ضلت به الطريق، وانبهم عليه المذهب، لا يدري أيقف على قبره، أم يسير إلى قبر أمامه؟ فإذا الصحراء كلها قبر واسع، يهرع إلى الشراب من خدع السراب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. انصب له في البيداء منارك، وابعث له من هدايتك دليلك.
رب حتى النبت الذابل، والشجر المصوح، والأرض الماحلة، أسبل عليها غيثك، وأنزل إليها الحيا بفضلك.
اللهم قلوب ملؤها الرجاء، ونفس تحن إلى الورد وهي ظماء، وأيد مبسوطة إليك وهي من الثقة ملاء، وأعين ناظرة إليك وأنت لها ضياء، فلا تردها خائبة، ولا تزدها حسرة على حسرة. رب كيف يحرم شجرك الذي غرست، وزرعك الذي زرعت، من غيثك المدرار، وشمسك الساطعة؟ ومن يصد دنس الخلائق أن يرد نهرك فيطهر، ويسبح في حوضك الكوثر؟
يا سامع خفقات القلوب الحزينة، وزفرات الصدور الكليمة، وعالم نزعات القلوب الضالة، وجمحات الأهواء المردية، لا تدع قلبا خائفا إلا أمنته، ولا صدرا زافرا إلا روحت عنه، ولا عقلا ضالا إلا هديته، ولا هوى زائغا إلا رددته حكمة ورشدا.
اللهم عجز الفكر، وعي اللسان، ووقف القلم، ولا تزال ساحات الرحمة لا يدركها نظر، ولا يحيط بها فكر، ولا يسطرها يراع، وقد فررنا من خوفك إلى رجائك، ومن عذابك إلى رحمتك، ومن جبروتك إلى لطفك، ومن سخطك إلى رضاك، ومن حرمانك إلى نيلك، ومنك إليك. أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت بكل شيء عليم.
رب أعتقني
بين العبد الهرم وربه
1
رب جلل الشيب رأسي، وقيد الكبر خطوي، وفل الضعف يدي، وحنت السنون متني.
رب قد حملت الأمانة جهدي، وأديتها على قدر طاقتي، وقد أنى لي أن أستريح فأعتقني.
رب قد زرعت وحصدت، وغرست وجنيت، وعمرت الأرض، ومهدت السبل، وقد أنى لي أن أستريح، فأعتقني.
رب وقد بررت بالفقير، ورحمت الضعيف، وآويت اليتيم، وأصلحت بين المتخاصمين، وألفت بين المتباغضين، ولم آل في جمع عبادك على المودة والرحمة، أنى لي أن أستريح، فأعتقني.
رب وقد ربيت الأولاد والإخوة والأحفاد، ولم آل في التأديب والتهذيب، فأعتقني، قد أنى أن أستريح.
رب والحيوان أطعمته ورحمته، والطير في جو السماء غذوته وسقيته وآويته، مما زرعت من الحب، وحفرت من الآبار، وشققت من الأنهار، وغرست من الأشجار. أعتقني، فقد أنى لي أن أستريح.
إلهي حملت العبء غير متبرم، وأديت الأمانة غير متتعتع، وقلت الحق غير متلعثم، سلكت سبيلك صابرا، وأوفيت على الغاية مجاهدا، ووجهي ويداي ناطقات بما فعلت، شاهدات بما صنعت؛ فارحمني، فقد أنى لي أن أستريح، وأعتقني، وأعطني براءة عتقي، كما يكرم السيد عبده الذي هرم في طاعته، أو كما يسيب الحيوان بعد أن أضناه المسير والحمل.
2
عرفت ما صنعت، ورضيت ما فعلت، وشكرت ما قدمت، وعفوت عما هفوت، وادخرت لك أكثر مما رجوت، ولكني لا أقيلك من تكليفي، ولا أسترد منك أمانتي، ولا أعفيك من عبوديتي. - رب لا أستقيل من عبوديتك، ولكن يدي لا تقوى على العمل، ورجلي كلت عن السعي، بل كل لساني وفكري، فكيف أحمل الأمانة، وأؤدي الواجب؟ - أحب أن أرى يديك ترتعدان في العمل لي، ورجليك تدبان في سبيلي، ولسانك وقلبك يخفقان بذكري. لا أكلفك ما لا تطيق، بل أرضى بالقليل وأكثره، وأقبل الصغير وأعظمه. أحب أن أراك عاملا ما عشت لي؛ إن في العمل حياتك ورحمتي. - رب أستغفرك ولا أستقيلك، ولا أبغي عتقا من عبوديتك. سأعمل ما خفق قلبي، وتردد نفسي
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين .
الحياة1
أيهذي الحياة فيك اعتقادي
أنك الغم صيغ من أضداد
أنفس لا تحد فيها مناها
طامحات إلى الخلود صوادي
نازعات لدرك كل معمى
قادحات بفكرها الوقاد
طائرات مع الخيالات في اللم
حة تجتاز أبعد الآماد
ركبت من شقائها في كساء
واهن النسج هذه الأجساد
وأحيطت بكل جسم شباك
من صروف جلت عن التعداد
فإذا آفة ألمت بجسم
هدمت عالما فسيح المراد
إن هذه الحياة نهر عجيب
زاخر اللج دائم الإرعاد
مده في مجاهل الغيب نبع
جائش الماء فائض الإمداد
فجر الله نبعه في حماه
من وراء الإسماع والإشهاد
غمر الأرض ماؤه وصداه
وهو معي مذاهب الرواد
فهو آت من منبع الأزل المج
هول جار لمظلم الآباد
نحن فيه فواقع تتراءى
في عراك الأمواج والإزباد
صاح أين المصب في ذلك النه
ر، وما المنتهى لذا الاطراد؟
حفر في طريقه غائرات
في مهاو من الفناء بعاد
تشرب النهر ذا الغوارب لا تر
وى صواد أوامها في ازدياد
هي بحر الفناء: لج صموت
يتراءى لنا بموج جماد
ولتلك الأحجار في كل قبر
موجه والرشاش في كل واد
ولذاك السكوت صوت رهيب
ولذاك السكون جري النفاد
هكذا هكذا: نضوب وفيض
بين هذي القبور والميلاد
نحن في دنيانا كركب سفين
في ظلام إلى المدى قصاد
يفتح الموج كل هول عليهم
والمنايا روائح وغوادي
وتظل الرياح تعصف فيهم
عصفات الهلاك دون اتئاد
وسوى ذين كل صخر مخوف
متوار عن أعين الرصاد
كلما أنجز الهلاك وعيدا
وطوى الماء صفحة من جلاد
جزع الركب للغريق وصاحوا
وأشاروا بعاجزات الأيادي
وتنادوا للرزء: وا حسرتاه!
ليس من حيلة سوى ذا التنادي
ثم عادوا إلى المسير وحالت
صرخات الجهاد دون افتقاد
هكذا هكذا: مسير وهلك
أبد الدهر فوق هذا المهاد
قهرتنا الأهوال واليأس لولا
حكمة الله في بلوغ المراد
فقلوب جوامح في مناها
تشعل العزم في الخطوب الشداد
إبر المغنطيس
2
إما ضللنا
هاديات إلى طريق السداد
ثم صوت يهيب:«للواجب الحت
م هلموا، ولا تنوا في اجتهاد»
فهو ريح تجري بكل سفين
ماخرات بالعبء دون ارتداد
ساخرات بهولها سائرات
حيث يبغي المسير رب العباد
خيرنا العامل المجد على العلا
ت لا يأتلي لفعل الرشاد
ذاك من ينشر الشراع على الري
ح ويلقى الردى جريء الفؤاد
ويظل المجداف بين يديه
يقهر اللج في رهيب الجهاد
خيرنا ذو الأناة والنظر الثا
قب يمضي لقومه خير هاد
خيرنا خيرنا لإخوانه السف
ر ببحر الحياة، ذو الإنجاد
يا ليل
يبتلع الظلام أشعة الشمس المرسلة من وراء الأفق كأنفاس المحتضر، ويغطي الرماد جمرة الشفق، فلا يبقي ولا يذر، ثم أطبق الظلام، ومحت آية الليل آية النهار، والأرض هاجعة تشكو اللغوب، وتعد على الناس الذنوب، والسماء من عليائها ناظرة، كأنما النجوم عيونها الحائرة.
يا ليل قد استتر الناس وتقطعت قيود العادات، فظهرت كل نفس على حقيقتها، وأعلنت بما في ضميرها، وظهرت الإنسانية بخيرها وشرها.
فكم في طيات الظلام لصوص مسخت ذئابا، واتخذت من السلاح مخالب وأنيابا، تروع الآمن في سربه؛ لتحول بين الكاسب وكسبه؛ كل دم دون مآربهم مطلول، وكل جريمة في سبيلهم هينة! وكم يا ليل من مضطغن يضطرم الحقد في قلبه، ويئز كالمرجل صدره، يخرج به الانتقام في أحشاء الظلام! وكم يا ليل من فاسق دلف إلى مأربه، وأكب على شهوته، وكم أيها الليل وكم قد انتشر جندك الشرير كما ينساب في الغاب وحشه وحشراته!
وكم عابد صف في محرابه، لعينه سكيب، ولقلبه وجيب، وصل قلبه بربه، وعقد لسانه بذكره، قد أنار له الظلام الطريق إلى مولاه، بعد أن هدأت عنه ضوضاء الحياة، وأسمعه السكون صوت الحق، بعد أن فرغ من ضوضاء الخلق، وأوت إليه نفسه في أعماق الظلماء، فإذا جسم في الأرض وقلب في السماء، وإذا هو وربه ثم العالم هباء!
يا ليل والمضطجعون في مراقدهم طار بهم الخيال، وسرت بهم الأماني والآمال، فمنهم المتمني خيرا، ومنهم المتمني شرا، وذو الفكرة الشريفة، وذو الرغبة الخسيسة.
يا ليل، حتى النائمون يغمضون أجفانهم عن عالم العمل؛ ليفتحوها في عالم الأمل، انبعثت بهم الأحلام الهائمة، والأفكار النائمة، فشهدوا الشقاء والنعيم، والفقر والغنى، والنجاح والخيبة. ورب حلم أصدق من العيان، ونوم أقرب إلى حقيقة الإنسان.
يا ليل، أنت الإنسانية خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وأمانيها وآمالها، وحقائقها وخيالها.
أنت يا ليل الإنسانية المجردة، يكسوها النهار ثوبا من الرياء، وأنت الحقيقة الرائعة، يزيفها في النهار الضياء.
يا ليل أنت الحقيقة المظلمة، وما النهار إلا كذب مضيء.
حلم في يقظة1
ضل يومي في ظلال الشجر
بين أزهار الربيع الممرع
وعلى الأمواه ضلت فكري
نظرة حيرى وقلب لا يعي •••
جالس والفكر ناب طائر
يتنزى بين أرض وسماء
فإذا سرت فإني حائر
تذهب السبل به حيث تشاء
وإذا بي في وقوف ناظر
نظرات سابحات في الهواء
ويمر الناس مرأى بصري
أتخطاهم بلحظ مسرع
ويصيحون وهمس الفكر
قد نفى ضوضاءهم عن مسمعي •••
كنت يومي عالما لا يفهم
ثائر النفس قرير المنظر
وكأن القلب بحر خضرم
ماجه الهم بريح صرصر
زاخر اللج عبوس مظلم
حطمت فيه سفين الفكر
يا له قلبا عظيم الخطر
مبهم القصد غريب المطمع
ثائر الهم بعيد الوطر
كل شيء همه لم يسع •••
أقبل الليل وأدجى أفقه
ويدب الشر من أوكاره
وطغى اللهو وراجت سوقه
وسعى كل إلى أوطاره
غير محزون تمادى شوقه
أطبق القلب على أسراره
ونحا للدار جم العبر
ساهم الوجه مليء الأضلع
خافق القلب حسير البصر
باكي النفس فقيد الأدمع
شرع الهم بقلبي يسكن
خففت من حره زفراته
ويح قلبي! ما أراه يأمن
هبت الريح طغت لجاته
ملك منه أثير الشجن
أذكت النار به نظراته
لم يا وجه الرجاء المسفر؟
لم يا ذات الجمال الأروع؟
لم يا ذات المحيا الخفر
تستخفين بقلب موجع؟ •••
أنت سلم ثارت الحرب به
ونسيم فيه للنار ضرم
أنت ورد ناضر في قربه
وخزة الشوك وتبريح الألم
أنت نور ساطع من غيبه
ماج بالقلب سناه والتطم
لست بدعا فطلوع القمر
يكرب البحر بمد مترع •••
لست بدعا فنضير الشجر
تقدح النار به للمزمع
حينما مال طريقي للفراق
ونزعت النفس كي أنجو بها
لم شيعت بألحاظ رقاق
زادت النفس على أوصابها؟
أجفلت نفسي وجدت في الإباق
وسهام اللحظ في أقرابها
ثم كرت مثل لمح البصر
ترتمي من فزع في فزع
واقتفت منك فقيد الأثر
ويحها عادت بشر المرجع •••
خلتها طائر نوح بشرت
بنجاة بين طوفان الغير
خلتها شمس صباح سطعت
بسناها في سحاب مكفهر
فإذا شمس غروب خلفت
شفقا في القلب منها يستعر
كل حين أرتجي أن تسفري
وأولي الوجه شطر المطلع
هي تعليل حياة البشر
ويقيني فيك أن لن تطلعي •••
أنت برق في ظلام دامس
أشرق الجو به ثم خبا
أنت حلم راق نوم البائس
أنت نجم قد بدا لي غاربا
بسمة في فم دهر عابس
سمح الدهر بها ثم أبى
لك يا بلبل مهما تطر
أمن مسراك وعذب المشرع
لك حفظ الله مر الأدهر
ولي الذكرى وسح الأدمع
نامعلوم صفحہ