غادر الأستاذ رضوان داره فرحا مبتهجا، وسار في الطريق يقفز كعادته؛ تلك العادة التي خلفتها له عاهته اللعينة ... لقد كانت إحدى قدميه أطول من الأخرى، وكان ذلك يستدعي تلك المشية التي انفرد بها، والتي كان يجاهد في إخفائها بما كان يصطنعه من كبرياء وتعارج، وكان أصدقاؤه يدركون العاهة، فيعرفون سر قفزه ... وغيرهم يعللها بنزعة زهو تتملك عليه حواسه ...
ومع ذلك فقد كان الأستاذ رضوان يقفز اليوم بغير علة عاهته ... كان يقفز فرحا. إن هذا أول يوم في حياته العملية، إنه ذاهب إلى المحكمة ليتولى الدفاع، ليجلجل صوته في فنائها رهيبا قويا، ليفتن القضاة والجمهور؛ إنها أمنية احتبسها في صدره على مضض خلال عشرة أعوام؛ أمنية كانت تتحول في عينيه إلى دموع كلما سار في طريقه إلى الدار، وقرأ اللافتات اللامعة الزاهية لكبار المحامين، وكلما فتح صحيفة سيارة فقرأ اسم واحد منهم، مسبوقا بأوصاف القدرة والنبوغ، ومتبوعا بألقاب المجد والعظمة ...!
أجل، لطالما طفرت من عينيه الدموع تحرقا إلى ذلك اليوم الذي سيصبح فيه واحدا من هؤلاء، يملأ على الناس أسماعهم، ويأخذ اسمه بأبصارهم ... ولطالما ألف في نفسه هذه المرارة التي يبعثها طول الشقة بينه وبين ما يتمناه ... ألفها حتى تحولت إلى عادة ثانية، منشؤها في هذه المرة عاهة نفسه.
لم تكن نفسه من القوة بحيث يرضى بالمنى؛ لقد فرضت عليه نزعة إنكار وإصرار على الإنكار، دفعه آخر الأمر إلى تصور أمنيته حقيقة وما يثيرها وهما وخيالا، وتحجرت الدموع آخر الأمر تحت وهج نفسه الظامئة الملتهبة، واستحال بكاؤه كلمات يلفظ بها تعليقا على الحقائق الواهمة التي تزخر بها الحياة ... وهوت الأسماء اللامعة إثر طعنات الحقد والحسد إلى الحضيض ...!
المحامي العظيم الذي يقرأ اسمه على اللافتة أضحى أمام عينيه وليد حظ واتته الأقدار فرفعت اسمه، وأوصاف العظمة والنبوغ التي تسبغها الصحف على عظيم رياء مصطنع، تمليه موجة فساد، لا بد من إصلاحه ...!
وفتح الإنكار أمام عينيه بابا جديدا، انسابت منه آماله ... إنه يعرف هذه الحقائق، ويستطيع أن يظهرها حين تواتيه الفرصة. الفرصة هي اليوم الذي يملك فيه حق الكلام، وسلاح الكلام ...
وهكذا بدأت المعركة؛ إنه اليوم يشرع أول أسلحته، ويسدد أول طعنة! سيقف أمام القضاء مترافعا عن محتال، سيدافع عنه بحرارة، ترى هل يحس ما سيأتي به الغيب؟ إنه لا يدري، ولكنه واثق أنه سيلقي بأقوى المؤثرات، وفكر طويلا فيما سيقوله. لقد قرأ أمس قضية هذا المحتال، إنه آثم بلا ريب.
لقد خدع امرأة ساذجة، وسلبها ما تملك، لكنه مع ذلك موكله وعليه أن يدافع عنه. إن عليه أن يحمل لواء العدالة. إن العدالة في نظره الآن ليست عقاب المجرم، وليست حكم القاضي ... إنها انتصاره هو. تلك أول خطوة في سبيل العدالة الحقة، العدالة الشاملة، أن يتبوأ مكان هؤلاء الذين تلمع أسماؤهم بغير جدارة، وأن يذلهم إذا استطاع!
ولج باب المحكمة، وقصد إلى غرفة المحامين، ونظر فيمن حوله، فوجد وجوه هؤلاء الذين أثارت أسماؤهم ذات مرة في عينيه البكاء ... وجد نفسه جنبا لجنب مع ذلك المحامي الخطير، الذي لفظ ذات يوم منصب الوزير، ليقف في منصة الدفاع، ووجد ذلك المحامي الآخر، إنه ضالته؛ لقد كان محاميا بالأرياف مغمورا، فأضحى اليوم علما يلمع اسمه ويلمع الذهب حواليه ... إنه ضالته بلا شك، إنه مثله من الدهماء، إنه ليس أكفأ منه، ولا أذكى، ولا يحمل إلا نفس الشهادة التي يحملها ... لقد سلط عليه منذ بعيد سوط لسانه في كل مناسبة ... ها هو الآن معه في غرفة واحدة، وفي قضية واحدة. إنه محامي السيدة الساذجة، إنه سيطلب حقها! يا لها من مباراة! لقد وجد نفسه أمام النيابة والمحامي الخطير!
كان في الحجرة خمسة من زملائه الشبان. تخرجوا معه في نفس اليوم، وقال له أحدهم وهو يداعبه: امتحان قاس يا أستاذ رضوان، إنه أقسى من الليسانس، لسوف تترافع ضد «م. بك» هذه مغامرة!
نامعلوم صفحہ