وكنت أترقب بعد ذلك أن يبعثني السيد أحمد إلى بيته لتأدية خدمة لعل عيني تقع مرة أخرى على منى، ولكنه لم يطلب إلي خدمة لمدة أشهر طويلة حتى شق الأمر علي مع كل ما حاولته من صرف فكري عن تلك الأمنية وتسخيفي لها. كنت دائما أذكر منى وهي تسير تحت ظلال الشجر في ساعة العصر وشعرها الذهبي يشبه أشعة الشمس المضيئة.
ومرت أيام الموسم من ذلك العام، فاتسع وقت فراغي، واشتدت علي وطأة الفكر، فكنت أقرأ كثيرا وأكتب كثيرا وأخرج إلى الحقول لألهو عن التفكير في منى، ولكني كنت دائما أخرج من الميدان منهزما، وكثيرا ما كان قلقي يحملني على الحماقة، فأتعمد المرور من أمام بيت السيد أحمد في ذهابي إلى خارج المدينة لعلي ألمح منى من بعيد، فكنت إذا لمحتها يوما عدت إلى بيتي كأنني أطير على الهواء وأتصبر بالسعادة التي فزت بها عدة أيام، وأما إذا لم أفز بتلك اللمحة ذهبت إلى الحقول كئيبا لأنفس عن قلبي بجولة طويلة.
وحدث يوما أنني خرجت إلى شمال المدينة، فمررت بمنزل أنيق له سور من أشجار شائكة تتسلق عليها أعواد مزدهرة ذات أزهار بديعة الأشكال والألوان، وهزني ذلك المنظر حتى وجدت نفسي أسبح في خيالي، فلم أتنبه إلا على صوت بوق يصيح من ورائي، فالتفت فإذا هي عربة كبيرة تكاد تدوسني، فأسرعت إلى جانب الطريق في شيء من الغيظ، ولكني ما كدت أبصر من في داخل العربة حتى وثب قلبي دهشة وسعادة. كانت منى هناك تبتسم ولوحت لي بيدها، ثم انطلقت بها العربة وأنا ثابت في مكاني. كانت هناك مثل الأزهار التي بدت لي منذ لحظة فوق السور العالي الشائك، تبتسم ولا أستطيع أن أصل إليها، وتعلقت عيني بالعربة حتى اختفت عني ثم سرت على الطريق وقلبي يدق عنيفا وأنفاسي تضطرب، وعادت العربة بعد حين وأنا ما أزال في طريقي، فلما اقتربت منى هدأت سرعتها، فاتجهت إلى منى، وكانت لحظة من أسعد لحظات حياتي؛ إذ رأيتها تلوح بيدها نحوي وتبتسم في مرح، وقد بقيت هذه الصورة عالقة بخيالي لا أنساها، وهي ما تزال محفوظة عندي في القطعة الشعرية التي ألفتها تلك الليلة بعنوان: «زهرة السور العالي».
ومر علي ذلك الصيف في غمرة لا أكاد أتنبه فيها إلى شيء غير صورة منى، حتى بدأ الموسم الجديد، وبدأت أعود إلى أكياس القطن المكدسة في المحلج، وعاد إلي قلقي وضيقي من العمل الرخيص الذي حبست نفسي فيه، وهل أهون من وزان في محلج؟ كانت هذه الفكرة تعذبني في الصباح والمساء وتزداد بي قسوة كلما اقترنت بها صورة منى.
وفي يوم من الأيام طلب مني السيد أحمد أن أحمل إلى البيت مبلغا من الجنيهات «الفكة»، وكان الوقت ظهرا والجو مطيرا، فكنت واثقا أن منى لا تكون في مثل هذه الساعة في الحديقة، ومع هذا فإني كنت سعيدا بأن أذهب إلى البيت ولو لم أرها، ودققت الجرس عند باب المنزل الداخلي، لأدعو الخادم، وانفتح الباب، وظهرت أمامي منى نفسها، وكان وجهها يضيء بابتسامة هادئة، وعيناها تشعان بالنور الصافي الذي أعرفه، وصاحت صيحة خافتة: سيد!
ولم يسعفني النطق لأن دقات قلبي عوقت لساني، فمددت كلتا يدي نحوها قائلا: مفاجأة سعيدة.
ثم أرتج علي فلم أجد كلمة أخرى، فأخرجت ظرف النقود من جيبي وقدمته إليها.
فقالت ضاحكة وهي تأخذ الظرف: هي حقا مفاجأة سعيدة، هذا إسعاف أشكرك عليه لأني مفلسة، واليوم عيد ميلادي، وعندي وليمة لبعض صاحباتي ... وكنت أسأل نفسي من ذا يشتري لي فاكهة ممتازة، فهل تحسن الاختيار يا سيد؟
فقلت سعيدا: ليس أخبر مني بأصناف الفواكه يا منى، وكانت دقات قلبي قد هدأت قليلا، واستطعت أن أستمر قائلا: وأرجو أن تقبليها هدية مني لعيد ميلادك.
فقالت في بساطة: أشكرك. لسنا عددا كبيرا. أقة واحدة من التفاح وأخرى من الكمثرى، وبعض وحدات من البرتقال. دعني أذهب لأدرك الكعكعة قبل أن تشيط.
نامعلوم صفحہ