ولكني عدت إلى نفسي بعد قليل، وقلت: إني لم أقترف في حق السيد أحمد جريمة ألوم نفسي عليها؛ فقد كنت أحمل له إخلاصا وولاء لا شائبة فيهما، وأعرف أنه صاحب الفضل علي وأنه يكرمني، ولا ينبغي لي أن أحزن من أجل نصيحة صريحة قلتها له أبتغي بها مصلحته. لم أكن متهما أمام ضميري؛ ولهذا عزمت على أن أخوض المعركة حتى نهايتها، واستقر رأيي على أن أبقى في خدمته، وأواصل عملي حتى يبدأ هو بالتخلي عني إذا شاء.
وصاحبني في تلك الليلة إحساس قوي بالاعتزاز بأني إنسان أستطيع أن أجهر برأيي ولا أتردد في الثقة بنزاهة ضميري، وكلما مرت بذهني ذكرى هذه الليلة عرفت أنها كانت من اللحظات السريعة التي تمر بنا، فلا نفطن إليها في وقتها، ولكنا نعرف فيما بعد أنها كانت لحظة خطيرة فيها مفرق من مفارق الطرق في الحياة. بدأت أشعر منذ تلك الليلة بأن لي وجودا، وإن كنت لا أزيد على موظف بمحلج يكتب الأرقام على بالات القطن.
الفصل الثالث
عندما ذهبت في اليوم التالي إلى المحلج وجدت السيد أحمد جلال على عادته مهذبا سمحا كأن لم يحدث شيء في الليلة السابقة، فحمدت الله على الرأي الذي اهتديت إليه، وزادت ثقتي في الرجل وزاد شعوري بالولاء له، واستمر السيد في تكليفي القيام بتدبير الطعام للعمال في الأيام الباقية من رمضان، ولم يكن لي أن أراجعه في ذلك، فما كان ينبغي له أن يقطع عادته في أثناء الشهر بعد أن بدأها.
وبقيت في عملي بعد ذلك شهرا بعد شهر لا أكاد أفطن إلى مرور الزمن إلا في أول كل شهر إذا قبضت مرتبي، وقد زاد السيد أحمد ذلك المرتب بعد بدء الموسم الجديد فجعله خمسة عشر جنيها، وجعلني وزانا فاختفى شعوري بالصغر والتفاهة شيئا بعد شيء.
وكان العمل في أيام الخريف والشتاء لا يدع لي فرصة كبيرة في القراءة؛ لأني كنت أعمل طول النهار إلى المساء بغير راحة إلا ساعة قصيرة عند الظهر، وصار السيد أحمد لا يكلفني الذهاب إلى البيت لقضاء الخدمات الصغيرة، فلم أذهب إلى هناك إلا مرة واحدة في مطالع الربيع لأحمل هدية جاءت إليه من أحد أصدقائه في الإسكندرية، وهي علبة بديعة الصنع من قطيفة الحرير يدل مظهرها على أنها تحتوي على حلية ثمينة، وذهبت إلى البيت وكنت لم أقابل مني منذ شهور وكان يوما من أيام مارس والهواء الدافئ يعلن أن الحياة بدأت تدب في الكون. كانت أعواد الأشجار وأوراقها الرطبة والأزهار المتبرجة بألوانها الزاهية وروائحها العطرة تقول: «هذا هو الربيع»، وكانت الطيور المرحة كذلك تتواثب وتزقزق وتغني قائلة: إن الحياة تجدد شبابها، ورأيت منى في الحديقة تتمشى في ساعة العصر بين ظلال الشجر وحدها. لم تكن تلعب كما اعتادت ولم تسرع إلي صائحة مرحبة كما كانت تفعل من قبل. كانت في ذلك اليوم مثل زهرة الفول الأنيقة الناضرة إذا بللها الندى في الصباح، وكان عليها ثوب من الحرير الأبيض ووجهها البارع الحسن يزينه كأنه جوهرة. كان لون وجهها الوردي ولون عينيها اللازوردي وشعرها المتموج الذهبي، كان كل ذلك يبدو أروع من كل مناظر الربيع الجديد، ولما رأتني أحنت رأسها بابتسامة صغيرة فذهبت إليها لأحييها، ومدت إلي يدها في هدوء، ولأول مرة نظرت إلى وجهها متأملا. رأيتها مثل وردة كانت في المساء ناعسة في كمها، ثم تفتحت في الصباح عن تمامها وزينتها أسرار الطبيعة المتفننة في الإبداع، وجدتها أمامي فجأة وهي فتاة لا طفلة، وكانت نظرتها صريحة كالعادة، ولكن عينيها كانتا في لون البحر الصافي العميق، فوقفت أمامها مبهوتا أتأمل صورتها كأني لم أرها من قبل، ولما مددت إليها يدي بالهدية التي أحملها، لم أبتسم ولم أنطق بكلمة، بل إني لم أجب على سؤالها: «ما هذا؟» وارتبكت وخشيت أن تسمع دقات قلبي، وما كادت تأخذ العلبة وتفتحها حتى هممت بالانصراف، ونظرت منى إلى الحلية ونطقت بصيحة إعجاب خافتة، ثم نظرت إلي لتشكرني، وشعرت بأن وجهي يتقد حمرة، ولم أجد وسيلة للخلاص من ارتباكي إلا بأن أنطق بتحية قصيرة ثم انصرفت ووليتها ظهري، وما كدت أصل إلى الباب حتى هبت علي عاصفة شديدة من الحنق على نفسي، ولم أعد أرى شيئا أمامي، وسرت في الطريق كأنني هباءة تضل في فراغ حتى عدت إلى المحلج وأغرقت نفسي بين أكياس القطن في شيء يشبه الحنق، وأخذت أكتب الأرقام تارة وأزن الأقطان تارة أخرى لا أدع لنفسي فراغا حتى أظلمت الدنيا.
ولما ذهبت إلى بيتي في تلك الليلة شهدت معركة من أعنف المعارك التي اضطربت فيها خواطري، كيف وقفت أمام منى هكذا كالصنم الأبكم لا أنطق ولا أتحرك؟ أليست هي منى الصغيرة التي كنت ألعب معها لأدخل السرور إلى قلبها، ولكن ما لقلبي كان يخفق كالمجنون وأنا أنظر إليها؟ وكانت صورتها تتمثل لي وعطرها ينفذ إلى أعماق صدري، وعيناها تشعان بالنور في خيالي، وأصداء صوتها الهادئ تتردد في سمعي مثل أنغام الموسيقى، وخطر لي سؤال عجيب في ثنايا خواطري: «ليت شعري كيف أبدو في عينيها؟» ثم حنقت على نفسي وعدت إليها ألومها على ذلك السؤال الأحمق، وحاولت أن أصرف ذهني إلى شيء يشغله عن تلك الخواطر العقيمة فأخذت أقرأ، ولكني لم أفهم سطرا مما قرأت. ثم أخذت أكتب أشعارا ولكني كنت أسرع إلى تمزيقها ساخطا على حماقتي.
وطلع علي الصباح بعد إغفاءة قصيرة في آخر الليل، وكنت أكثر هدوءا، ولكن إحساسا جديدا أو قلقا جديدا دب إلى نفسي، وهو الرغبة في أن أترك الخدمة بالمحلج، وقضيت سائر اليوم غائبا في أحلام اليقظة، أفكر فيما يمكن أن أشتغل به من الأعمال إذا تركت عملي بالمحلج، وتساءلت مرارا: «لماذا لا أستقل بتجارة أكون فيها صاحب عمل لا موظفا صغيرا في محلج؟»
لماذا لا أكون مثل السيد أحمد جلال الذي بدأ حياته فقيرا مثلي، ثم استطاع بكده أن يبني لنفسه تجارة عظيمة؟
وقد استولت علي هذه الفكرة الجديدة، فصارت أمنية دائمة منذ ذلك اليوم، تخبو أحيانا وتبدو أحيانا، ولكنها دائما هناك في أعماقي.
نامعلوم صفحہ