واشتريت مصباحا جديدا قوي الضوء حتى لا أتعب بصري بضوء المصباح الصغير الذي أعده الشيخ مصطفى لساكن غرفته، فكان ذلك يساعدني على الاستمرار في القراءة والكتابة إلى ما بعد نصف الليل أحيانا، ولكن النوم العميق الذي كنت أغرق فيه بعد هذا كان يجعلني أهب في الصباح نشيطا صافي الذهن مستبشرا.
هكذا قضيت الشهرين الأولين من إقامتي بالمنزل حتى رأيت يوما فطومة ابنة الشيخ مصطفى تأتي إلي في الصباح الباكر، وفوق رأسها صينية كبيرة عليها طعام من الفول المدمس والطعمية والبيض المقلي وفنجان من الشاي الثقيل القاتم اللون.
وشكرتها مخلصا على هذه الخدمة؛ لأني كنت بدأت أضيق بخدمة نفسي، فصارت الفتاة تحمل إلي إفطاري كل صباح فتضعه على عتبة الباب حتى إذا قمت من النوم وجدته ينتظرني، ولما مضت بضعة أسابيع أخرى بدأت فطومة تترقب الميعاد الذي أستيقظ فيه، فإذا أحست بأنني أتممت لبسي صعدت إلي تحمل الصينية، فتضعها على المنضدة، ثم تجلس عند عتبة الباب حتى أفرغ من الأكل فتحملها، وكان من الضروري أن أتفق على ثمن هذا الطعام، ورضيت فطومة بعد تمنع كثير أن أدفع كل شهر جنيها واحدا، ولكني كنت أدفع لها مائة وخمسين قرشا؛ لأن هذا أقل ما كنت أفطر به في المدينة فوق ما في طعام البيت من كرامة وراحة ونظافة، ولما مضت أشهر الربيع أصبحت في المنزل كأني أحد أفراد الأسرة، وصرت لا أغض طرفي كلما مررت بشقة الشيخ مصطفى، كما صارت فطومة تصعد إلى غرفتي في أوقات مختلفة من اليوم وتقضي معي أحيانا ساعة طويلة تثرثر وتغني.
وكانت فتاة في نحو الخامسة عشرة من العمر، ولكنها تبدو في أحاديثها ومعاملاتها أكبر سنا من هذا ، كانت وهي تنتظر فراغي من الإفطار تجلس عند الباب تقص علي أحاديث شتى من الشرق والغرب عن أمها وأبيها وجيرانها رجالا ونساء، وتعيد علي الأخبار التي تتلقفها من الطريق ومن حوانيت السوق، وكنت أعجب أشد العجب من إلمامها لما لا تلم به صغيرة مثلها، كما كنت أعجب من دقة نظراتها التي تنم عن أنها على مقدار عظيم من الذكاء الفطري.
وكانت لا تخجل أن تحدثني عن نفسها أحاديث تخجل الفتاة الصغيرة من مثلها، فقد عرفت منها أن شهاب أفندي الموظف الذي كان يسكن في الغرفة من قبلي كان يريد أن يتزوجها، وقصت علي بعض أخباره ونوادر مغازلاته، فكنت أشعر بالحرج من سماعها، وأنكمش في نفسي خجلا، ولكنها كانت تضحك مكركرة في مرح جريء عندما تلمح خجلي.
وأما عملي فإني اندمجت به بعد قليل ووجدت فيه عالما واسعا ممتعا بعد أن كنت في مبدأ الأمر شاعرا بالغضاضة من أني لا أزيد على قارئ بروفات، وقد تعرفت زملائي من قراءة بروفات مقالاتهم أكثر مما كنت أعرفهم من وجوههم، حتى صار لكل منهم في ذهني صورة مجردة تميزه عن الآخرين تمييزا واضحا.
وبدأ الأستاذ علي مختار يطلب مني الكتابة بعد أن قضيت في الدار الشهور الثلاثة الأولى، ولم ألبث إلا قليلا حتى طلب مني أن أستقل بباب خاص، فاخترت له عنوان: «أنا الشعب» مستعيرا تلك الصرخة التي كنت أصرخها وأنا في سجن مركز دمنهور، وكان الأستاذ يبدي إعجابه بأسلوبي «الحريف»، فشجعني ذلك على أن أطلق العنان لما كان يجيش في صدري من المشاعر الثائرة التي تجد وقودا كل يوم من أحوال الناس والسياسة، فصار لما أكتب صدى قوي على ما ظهر لي من الرسائل التي أخذت تنهال علي مع البريد كل صباح.
كانت الثورة تتأجج في النفوس من تحت الرماد، ولا يمنعها من الانفجار إلا الخوف من العسف.
وتطوع الأستاذ علي مختار بعد قليل بزيادة مرتبي إلى ثلاثين جنيها في الشهر، كما زاد أجري على القصة إلى عشرة جنيهات، فأصبح ما يصل إلي في كل شهر نحو خمسين جنيها، وهو دخل لم يخطر لي ببال في يوم من الأيام.
وهكذا صرت قادرا على أن أبعث إلى أمي ما يزيد على كفايتها.
نامعلوم صفحہ