غاية المدى في رأيه أن الحقائق التي يقررها العلم والفكر لا تعدو أن تكون حقائق نسبية أو حقائق بالإضافة إلى غيرها كما نقول في مصطلحات المنطق العربية، وبعض هذه الحقائق مقياس لبعض، ولكنها جميعا لا تثبت للذهن بحال من الأحوال بغير القياس إلى حقيقة مطلقة أبدية تحيط بها جميعا، وهي الحقيقة الإلهية.
وليس البروفسور «لويس» ممن يستضعفون البراهين الفكرية التي يستعان بها على إثبات وجود تلك الحقيقة، وليس هو كذلك ممن يقنعون بها، ويحسبونها يقينا قاطعا يحسن السكوت عليه، ولكنه يرى أن هذه البراهين هي واجب العقل الذي لا يجوز له أن يتخلى عنه في سعيه إلى هذه الحقيقة وإلى كل حقيقة، أو لا يجوز له أن يركن إلى البديهة وحدها، ويعفي نفسه مما هو قادر عليه، فإنه لا يستطيع أن يثق بالبديهة إن لم يبلغ بالبحث غاية الأمد المستطاع، وقد يشعر العقل أحيانا أنه وثب بالإدراك الملهم وثبة تذهب به وراء المدركات التجريبية والمدركات الفكرية أو المنطقية، ولكن هذه التجارب القاصرة هي جزء من التجربة الإلهية وليست شيئا مناقضا لها أو مستوعبا لجميع أجزائها.
ولو كان الفيلسوف لويس من المتصوفة القائلين بإمكان المعرفة من طريق الاتحاد بين الله والإنسان لما كان لفلسفته محل من البحث الحديث ولا البحث العلمي الفكري على إطلاقه، فهو لا يقول بإمكان هذا الاتحاد الإلهي الإنساني، ولا يسميه تجربة إنسانية في سبيل العرفان بالله، بل هو يرى أن المتصوفة يخطئون التعبير عن هذه التجربة، وينبغي أن يفرقوا بين معرفة تقوم على فناء الإنسان في الذات الإلهية ومعرفة تقوم على إدراكه لوجوده في صميمه، ثم إدراكه لما هو أعظم منه وأرفع من شأوه، ومحل فلسفة لويس من البحث الحديث أنه لا يعيد لنا عبارات الاتحاد والفناء ووحدة الوجود كما رددها بعض المتصوفة من جميع المذاهب، ولكنه يأتي بالجديد حين يقول: إن إدراك الحقيقة المطلقة عمل إنساني يعالجه الإنسان بما عنده من الوسائل المحدودة، وكل ما هنالك أنها وسائل غير كافية تحتاج إلى تتمة، فهي لا تعطينا كل شيء ولا تحيط بكل شيء، ولكن الفرق بينها وبين المعرفة الواجبة إنما هو فرق بين ناقص وتام وليس بفرق بين باطل وحق، ولا بين شك ويقين.
وعلى الجملة يمكن أن تدل فلسفة لويس، ونظائرها من الفلسفات الدينية في هذا العصر، إلى نتيجتين:
أولاهما:
أن أدلة المنكرين غير كافية للإنكار، فليس عندهم من دليل مقنع يستند إليه العالم أو المفكر في الجزم بإنكار وجود الله.
وثانيتهما:
أن أدلة المؤمنين كافية لبعض الإثبات، ولا بد من ملاحظة الفرق بين هذا القول وبين القول بأن تلك الأدلة لا تكفي للإثبات على وجه من الوجوه، فإن ما يثبت بعض الثبوت بالعقل، ويتم ثبوته بعد ذلك بالبديهة غير الدعوى التي ليس لها ثبوت على الإطلاق، وبخاصة حين نعلم أن الاعتماد على البديهة سند معول عليه في الدراية الإنسانية، كما يعول الطبيب على حقائق الهندسة ويعول المهندس على حقائق الطب، ويعول الناس جميعهم في الحكم ببديهتهم على الحقيقة التي لا يحيطون بها كل الإحاطة.
أما المباحث التي اختص أصحابها بجائزة نوبل العلمية لهذه السنة فهي ذات مغزى كبير في التعريف بالأقيسة النسبية والأقيسة المطلقة أو المجردة من ناحية أخرى: وهي ناحية الحقيقة المادية.
فالباحثون في تركيب المادة يبحثون في البروتون والبوزيترون والكهرب والنيوترون، ويعلمون أنها جميعا موجودات بالنسبة إلى غيرها، ولم يعرف بعد كيف يكون وجودها إذا انفردت بذاتها.
نامعلوم صفحہ