في نهاية الطبعة الثانية من هذا الكتاب لخصنا زبدة الآراء الراجحة فيما تستطيعه العلوم الحديثة من الحكم الصادق في مسألة الحقيقة الإلهية، فقلنا: «إن العلوم الطبيعية ليس من شأنها أن تخول أصحابها حق القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية؛ لأنها من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل، ومن جهة أخرى مقصورة على نوع آخر من الموجودات، وهي - بعد هذا وذاك - تتناول عوارض الموجودات ولا تتناول جوهر الوجود، وهو لا يدخل في تجارب علم من العلوم.»
واستطردنا في هذا التلخيص قائلين: «ولكن العالم الطبيعي يحق له إبداء الرأي بحق العقل والدليل والبديهة الواعية؛ لأنه إنسان يمتاز حقه في الإيمان بمقدار امتيازه في صفات الإنسان. أما العلم نفسه فلا غنى له عن البديهة الإنسانية في تلمس الحق بين مجاهل الكون وخوافيه، فكيف تسري المقررات العلمية بين العلماء - فضلا عن الجهلاء - لولا ثقة البديهة؟ كيف يعرف المهندس صدق الطبيب في مباحثه العلمية؟ ولا نقول: كيف يعرفها الجاهل بالطب والهندسة؟ ما من حقيقة من هذه الحقائق تسري بين الناس بغير ثقة البديهة وثقة الإيمان، وما من حقيقة من هذه الحقائق يعرفها جميع المنتفعين بها معرفة العلماء أو يمكن أن يعرفها جميع الناس كما يعرفها بعض الناس، وهي مع ذلك مسائل محدودة يتاح العلم بها لمن يشاء، فلماذا يخطر على البال أن حقيقة الحقائق الكبرى تستغني عن ثقة البديهة الإنسانية ولا يتأتى أن تقوم في روع الإنسان إلا بتجارب المعامل التي يباشرها كل إنسان؟»
وقد مضى العلم قدما في كشوفه وبحوثه عن حقيقة المادة وحقيقة ما وراءها خلال هذه السنوات، فلم يظهر في هذه الكشوف والبحوث ما يزيد دعوى العلم الحديث أكثر مما تقدم: قصاراه أن يذهب مع التجارب العقلية والحسية إلى غاية أشواطها، ثم ينتهي إلى عمل البديهة؛ لإدراك أقرب الموجودات إلى الحس وأبعدها منه، على حد سواء.
ويبدو أن الفلسفة اللاهوتية والفلسفة العلمية تتلاقيان على هذا الاتجاه، فلا تدعي الفلسفة اللاهوتية أنها أقدر من العلم على بلوغ أسرار الحقيقة الكبرى، وإنما غاية ما تدعيه أن الحقيقة الكبرى فرض محتوم كفروض الرياضة الصحيحة التي نسلمها لنقيس عليها الحقائق البرهانية.
ونحن نكتب هذه المقدمة في أواخر السنة 1959 وأمامنا كتاب في موضوع الفلسفة الإلهية وخبر عن جائزة نوبل التي منحت للممتازين بخدمة العلم الطبيعي هذه السنة، فإذا بنا واقفين مع الفلسفة واللاهوت والعلم الطبيعي معا عند نهاية أشواط الحس والفكر وبداية أشواط البديهة. ثم لا سبيل إلى الرجوع خطوة في هذه الطريق، ولا سبيل إلى التقدم وراءه خطوة واحدة بالتجربة الحسية أو العلمية.
بين أيدينا كتاب البروفيسور ه. د. لويس
Lewis
الذي سماه «تجربتنا الإلهية» أو تجربتنا عن الإله
Our Experience of God
ولخص بها نتائج البحث المشروعة عن الحقيقة الإلهية، فما هو غاية المدى الذي تذهب إليه الفلسفة في رأي هذا الفيلسوف؟
نامعلوم صفحہ