وعبثت أصابعه بالسيجارة، وضغط عليها بعصبية، وكانت سحب الدخان قد حملها الهواء بعيدا، فبدت المرأة واقفة أمامه نصف مستندة إلى الحائط، وكلامها ينساب في هدوء غريب محير، وملامحها لا تنفعل لكلامها كأنما هي تتحدث عن كارثة أصابت إنسانة أخرى.
وتحت وقع حديثها المنخفض اللين ترعرعت رغبته في معرفة حكايتها. لم يكن هذا طبعه؛ فهو لم يتعود أبدا أن يأخذ ويعطي مع أحد من مرضاه، ولكنه لم يستطع المقاومة، ونسي نفسه والمرضى المنتظرين، وسألها في طفولة أن تحكي قصتها.
ولم تعتدل أو تتنحنح أو تصطنع التذكر، إنما وهي نائمة صاحية، والكلمات تجهضها شفتاها، فتخرج ميتة لا حرارة فيها ولا انفعال، مضت تقول: يا خويا ولا حكاية ولا حاجة ... أنا أصلي م الفيوم، وأوعى ألاقي نفسي شايلة الشاي مع أبويا في الموقف. ولما مات المرحوم بقيت أعمل أنا الشاي، وحبني جدع سواق، وحبلت، وسقطتني مرات أبويا. ولما ضاقت الفيوم في وشي جيت مصر. مصر أم الدنيا، هئ، هئ، هئ! جيت مع سواق، ومن سواق لسواق اتبدل على الموقف لحد ما اتلميت على واد نشال بقى ياخد علي فلوس، وعلمني الصنعة. أهه قلمك البالكر أهه، حسيت بحاجة؟ هئ، هيء! والنبي نفسي أبوس شفايفك الحلوين الحمر دول. يوه ما اطولشي عليك خدني الواد في قمته وتحبست مرة، وطلعت وراقبوني وتفتكر سكت؟ بقيت أنشل برضك، وتاجرت في الحشيش كمان، وبقيت أكسب ومعلمة قد الدنيا. وليا رجالة، ومشيت مع العسكري اللي كان بيراقبني ، واتمسكت أنا وهوه، وآدي أنت شايف أهي عيشة اللي يحب النبي يزق.
كانت تتكلم كمن يحلم، غير حافلة بمن يسمع كلامها أو مقيمة وزنا للطبيب وسماعته ومعطفه، ولا حتى ملقية بأي اعتناء إلى العسكري الواقف بجانبها منتصبا كماسورة العادم. وكما بدأت في هدوء انتهى كلامها في خفوت حتى سكتت.
وطوال الحكاية كان وجه الطبيب كشاشة العرض تتغير عليها الألوان وتتبدل. كان يسمع أشياء خطيرة تقال هكذا بسهولة، وكان وجهه يحمر ويصفر كالعذراء حين تمتد إليها يد جريئة، وتعبث بأقدس ممتلكاتها وقيمتها. وكانت المرأة تعترف بكل شيء دون حياء أو خجل كأنها أستاذة تحاضر في علم النفس.
ورغم كل ما اعتراه وأذهله، فقد كان عليه أن يقول شيئا يبدد به الانتظار الصامت الذي ساد الحجرة، فسألها وهو يقهقه ولا يدري لماذا يسأل، أو لماذا يقهقه: وانت، مالكيش أهل؟ مالكيش أهل؟
فقالت وهي تريح رأسها على الحائط: ليا. - إيه؟ - بنت.
وعاد يسأل وهو لا يدري لماذا يسأل: ليه ... إنت اجوزتني، ولا ...
فقاطعته وهي تسبل عينيها: وح تفرق إيه لما تكون بنت العسكري ولا المعلم. أهم الاتنين أزفت من بعض.
ومضى في أسئلته التي كان يلقيها من وراء عقله: والبنت فين دلوقت؟
نامعلوم صفحہ