يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدِّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأ مِنْهُ". مُتفَّقٌ عليه (٣٥)، فنَهى عن الوضوءِ من الماء الرَّاكِد بعد البَوْلِ فيه، ولم يُفرِّقْ بين قليلهِ وكثيرهِ، ولأنه ماءٌ حَلَّتْ فيه نجاسةٌ لا يُؤْمَنُ انْتِشارُها إليه، فينْجُسُ بها (٣٦) كاليَسِيرِ.
ولنا خَبرُ القُلَّتَيْن، وبئرِ بُضاعةَ، اللذان ذكرْناهُما؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ قال: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَىْءٌ"، مع قولِهم له: أنتوضأُ مِن بئرِ بُضاعةَ وهى بئرٌ يُلْقَى فيها الحِيَضُ ولحومُ الكلابِ والنَّتَنُ؟ وبئر بُضاعةَ لا يبلُغ الحَدَّ الذي ذكروه.
قال أبو داود: قَدَّرْتُ بئر بُضاعةَ بردَائِى، مَدَدْتُه عليها، ثم ذَرَعْتُه، فإذا عَرْضُها سِتَّةُ أذْرُعٍ، وسألتُ الذي فتَح لي باب البستان: هل غُيِّر بِناؤُها عما كانت عليه؟ قال: لا. وسألتُ قَيِّمَها عن عُمْقِها، [فقلتُ: أكثرُ ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى الْعَانةِ] (٣٧). قلت: فإذا نَقَصَ. قال: دون العَوْرَةِ (٣٨). ولأنه ماء يبلُغ القُلَّتَيْن، فأشْبَهَ ما زاد على عشرةِ أذْرُعٍ، وحديثُهم عامٌّ وحديثُنا خاصٌّ، فيجب تقديمُه.
الثانى، أنَّ حديثَهم لا بُدَّ مِن تَخْصيصِه، فإنَّ ما زاد على الحدِّ الذي ذكروه لا يمْنَعُ مِن الوضُوءِ به اتِّفاقًا، وإذا وجَب تخْصيصُه كان تخْصِيصُه بقولِ النبيِّ ﷺ أوْلَى مِن تَخْصيصِه بالرَّأْىِ والتَّشَهىِّ من غيرِ أصْلٍ يُرْجَعُ إليه، ولا دليلٍ يُعْتمَد عليه، ولأنَّ ما ذكروه مِن الحدِّ تقديرٌ طريقُه التَّوْقِيفُ، لا يُصارُ إليه إلَّا بنَصٍّ أو إجْماعٍ، وليس معهم نَصٌّ ولا إجماعٌ، ولأنَّ حديثَهم خاصٌّ في البَوْلِ، ونحن نقول به على إحْدَى الرِّوايتَيْن، ونَقْصُرُ الحُكْمَ علَى ما تناولَه النَّصُّ، وهو البولُ؛ لأنَّ له من التَّأْكيد والِانْتشارِ في الماء ما ليس لغيرِه، على ما سنذكرُه إن شاء اللَّه تعالى.