ثم يذكر الغزالي أنه عاد إلى قبول الضروريات العقلية، ولكن عودته لم تكن بنظم دليل وترتيب كلام، بل كانت بنور قذفه الله في صدره كما قال.
ونحن لا ننازع الغزالي في أن لله نورا يقذفه في صدور عباده ولكن نسأله: لم لا تكون الأحكام العقلية قبسا من ذلك النور؟ ونسأله كذلك: ما هي حالة المرء الذي ينتظر هذا النور الذي تراه فوق البرهان والدليل؟
على أن الذي يعنينا قبل كل شيء: هو أن نسجل أن الغزالي وضع مؤلفاته في الأخلاق وهو على هذه الحال. ونرجح أن حياته الروحية ابتدأت بعد توليه التدريس في مدرسة بغداد، ثم لازمته إلى النهاية، كما ستراه.
الفصل الرابع
فهمه للحياة
ولأجل أن نبين وجهة نظره في أحكامه الأخلاقية، ينبغي أن نعرف كيف كانت صحته وكيف كان مزاجه، وكيف كان فهمه للحياة، حين عني بالتأليف في الأخلاق، فإن معرفة مزاج المؤلف وصحته وفهمه للحياة الاجتماعية، من أهم ما ينبغي تقديمه قبل الشروع في درس ما ترك المؤلفون.
والسند الصحيح لحياة الغزالي هو كتابه «المنقذ من الضلال» فلندعه يصف لنا حياته في عزلته التي دامت نحو عشر سنين، والتي وضع في أثنائها كتاب الإحياء وهو أهم ما كتب في الأخلاق.
قال بعد كلام طويل: «ثم إنني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقهم إنما يتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم، من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص خواصهم لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات. فكم من الفرق بين أن يعلم المرء حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان. وبين أن يعرف حد السكر، وإنه عبارة عن حال تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معان الفكر، وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حد السكر وهو سكران ما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر، والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد للصحة، فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا.
فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأن ما يمس تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها، والمسالك التي سلكتها، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر: فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي، لا بدليل معين محرر، بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها. وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل والعوائق، ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم: فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل. وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد، وإن لم تقطع الآن هذي العلائق فمتى تقطع؟!
فبعد ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما لا تتيسر لك المعاودة. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر. أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما تطبيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا أستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم وقضم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي شربة، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى ذلك إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إلى العلاج.»
نامعلوم صفحہ