إن كماليات هذا العصر وتقاليده تمتص ما بقي في كأسها فتحاول ستر خصاصتها، ولكن أنى لها ذلك والفقر فضاح! فهي كالمحكوم مؤبدا بالأعمال الشاقة فلا براح له.
الناس في حفلاتهم، يتحلقون حول الموائد الموشاة بصحاف ألوان الطعام، يأكلونها بعيونهم وأفواههم، وآذانهم صماء عن تنهدات العيال المستورة، ناسين مآدبها وكوكتيلها وشايها، وتبرعاتها ومبادرتها إلى إغاثة الملهوفين والمنكوبين. ففي كل موسم لا يطرق أحد بابها ليؤاسيها أو يسليها أو يتوجع لها.
أيامها أمست مآتم، ولياليها للنحيب الصامت. تتأسف على الجاه العظيم، وتتلهف على مال فرقت شمله يد القدر الغاشم. وكل مصيبة تصغر متى كبرت، إلا مصيبة زوال النعمة، فإن آلامها وأوجاعها تتجدد كل ساعة. ولكن ذلك البكاء لا يتجاوز صدرها، فهي ترجع صوتها كالمطوقة التي تبكي الهديل. فأين هم الذين سمتهم العرب جابري عثرات الكرام ليتداركوا هذا البؤس الصامت؟
فباسم الإنسانية نسأل ذلك الغني الحديث النعمة أن لا يرفع رأسه اختيالا وكبرا، ويخفف الوطء على أديم الأرض، ولا يغره حشد المال ورقا وذهبا في صندوقه الذي لا يدخله حتى الهواء القالع ... فما ضر ذاك الثري الأمثل لو ألغى مأدبة أو حفلة كوكتيل من حفلات العام، ونفس بها عن هذه العيال المسكينة، بينما هو يعلق في صدر قاعته: «الخلق كلهم عيال الله»؟
أنتركها في بؤسها كما ترك جزيمة بن بشر أصدقاؤه وجفوه بعدما أنفق عليهم ماله؟
أبى جزيمة الشهم أن يخرج من بيته فقيرا حتى يقرع الموت بابه وينتزع درة تلك النفس من صدفها. بل فلنكن كعكرمة الفياض الذي حمل إليه تحت جنح الليل الدامس كيسا من الدنانير، ولم يشعر بذلك أحدا.
فإلى أمثال هؤلاء نلفت أنظار الحكومة، فهم أحق بفضلات الميزانية من الأنانيين الذين يتناتشونها ويسلبون بمراسيم ما يطمعون به منها.
قد تكون في هذه البيوت المسدلة عليها ستور النسيان آنسة ذات جمال وكمال يحول دون تأهلها قليل من المال يكون جهازا لها، كما تقضي عادات هذه الأيام، فلا تبقى حملا ثقيلا على عائلتها التي هي أيضا عيال على القدر الساخر.
وقد يكون بينها فتى متوقد الذهن بخل عليه الدهر الظالم بقليل من المال؛ لتقبله إحدى المدارس العالية في حضنها حيث يتلقى العلوم ويكون في المستقبل من جنود المعرفة التي تحارب الجهل المخيم في آفاق البشرية.
وقد يكون بينها صبية صغار يتضورون جوعا، وسيدة انزوت بين جدران بيتها ولم تخرج منه بأثوابها الرثة حياء وخجلا. وسيد لا يجد غير المعول ليحصل به ما يقوم بتكاليف عائلته المنكودة.
نامعلوم صفحہ