في العجلة السلامة
المرض الأكبر
شبابك على قدر طاقتك
طريق الفلاح
احذروا الغضب
الأكواخ منابت العباقرة
مصرع العدل والمحبة
من وحي الأعياد
مع الشمس
إلى إخواني الطلاب
نامعلوم صفحہ
كيف تصبح رجلا ناجحا
التربية الوطنية في لبنان
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
إلى الراسبين في الامتحان
النمام عدو السلام
على أبواب المدارس
العائلات المستورة
على بوابة مدرسة
تشرين الأول
إلى الشباب المثقف
نامعلوم صفحہ
التشبه آفتنا الكبرى
هل من يعتبر
بصراحة
حول امتحان البكالوريا
خطرات
نحو حياة أفضل
صور ومشاهد
علمتني الحياة
الشجر تتهم البشر
قصة السعادة
نامعلوم صفحہ
إلى المرأة
حفلة ناشفة
لوحة الجميل الخالدة
في العجلة السلامة
المرض الأكبر
شبابك على قدر طاقتك
طريق الفلاح
احذروا الغضب
الأكواخ منابت العباقرة
مصرع العدل والمحبة
نامعلوم صفحہ
من وحي الأعياد
مع الشمس
إلى إخواني الطلاب
كيف تصبح رجلا ناجحا
التربية الوطنية في لبنان
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
إلى الراسبين في الامتحان
النمام عدو السلام
على أبواب المدارس
العائلات المستورة
نامعلوم صفحہ
على بوابة مدرسة
تشرين الأول
إلى الشباب المثقف
التشبه آفتنا الكبرى
هل من يعتبر
بصراحة
حول امتحان البكالوريا
خطرات
نحو حياة أفضل
صور ومشاهد
نامعلوم صفحہ
علمتني الحياة
الشجر تتهم البشر
قصة السعادة
إلى المرأة
حفلة ناشفة
لوحة الجميل الخالدة
آخر حجر
آخر حجر
تأليف
مارون عبود
نامعلوم صفحہ
المؤلف (1886-1962).
في العجلة السلامة
في حياة كل إنسان دقائق أشبه بما يسمونه المعركة الفاصلة، فإذا أضعناها فكأننا نضع مصيرنا على كف عفريت، أو نرهن حياتنا بكاملها لأمل طائش، ولا نرجو حلول الساعة التي يفك فيها الرهن.
وعندما قال الذين مشوا قبلنا على دروب الحياة: في العجلة الندامة، كان مركوبهم، إما أرجلهم، وإما قوائم حيوان مسخر لخدمتهم. أما نحن أبناء هذا الجيل، فمركوبنا نار وحديد وفولاذ، منها ما يمشي على الأرض، ومنها ما يدع الطير خلفه ولا يلحقه مهما جد وكد؛ ولذلك قالوا هم: في التأني السلامة.
ومع ذلك فقد رأينا في الأقدمين من آمن بفوائد العجلة. أما قالت العوام: الضربة لمن سبق؟ وهذا ما ينطبق اليوم انطباقا كليا على عصرنا، عصر السرعة.
ففي ذلك الزمان كان أكبر عيب أن تأكل واقفا أو ماشيا، أما اليوم فأصبح كل شيء يعمل على الماشي. لقد استراحت المقاعد وتعبت الأرجل. قد تنهار الأعصاب باكرا بسبب هذا الكد، ومع ذلك فهو ضروري للفلاح، وهل يحقق أملا من يسترخي في فراشه ولا ينفض عنه لحافه إلا حين يعتدل ميزان الشمس؟ إن من يحور ويدور، حتى يبدأ عمله، فهيهات أن ينجزه، فكثيرا ما يدعه ولا يفعل شيئا، يؤجل دائما وينتظر ساعة نشاط رائعة، وتلك الساعة لا تأتي.
أما روى التاريخ عن امرئ القيس، أنه قال؛ عندما جاءه خبر قتل أبيه: اليوم خمر وغدا أمر. وماذا فعل الغد لامرئ القيس، وأي غرض قضاه له؟ أليس الموت على الطريق وضياع الملك؟ فلو كان ترك الكأس ونهض، لما اضطر أن يبكي، هو وصاحبه، الذي بكى حين رأى الدرب دونه. ولما قال له هو: لا تبك عينك، إننا نحاول ملكا أو نموت فنعذرا.
لقد فاتك القطار يا امرأ القيس ولم تقيد الأوابد، وما ظفرت إلا بلقب الملك الضليل عن جدارة واستحقاق. إن صديق الكأس لا يفلح.
من تأن نال ما تمنى، لم تعد عملة رائجة في هذا العصر، فالناس في حلبة السبق دائما، لا ينتهون من شوط حتى يبادروا إلى آخر بلا تأجيل ولا تردد. أما قال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن فيه مقدما
نامعلوم صفحہ
فإن فساد الرأي أن تترددا
فالتردد هو الذي يخيب أمانينا ويحول دون الفلاح. قال الحجاج في خطبة الولاية: «إني والله، لا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت»، فالتراخي والتردد والتأجيل لا تحقق أملا ولا تبلغ مرتبة.
أستعرض حياتي، على تفاهتها، وخلوها من المغامرات، فلا أجدني ندمت على شيء فعلته، بل ندمت دائما على الذي لم أفعله في حينه؛ لأن الفرص إذا ذهبت لا تعود. ومن يضيعها أضاع كنزا لا يقع عليه فيما بعد؛ ولذلك قالوا: الوقت من ذهب.
قيل لقائد عظيم: القائد الفلاني عظيم مثلك، فأجابهم: وهناك فرق بيننا، وهو أنني أسبقه أربع ساعات. يعني أنه يستيقظ في الساعة الخامسة ويبادر إلى عمله، بينما زميله لا يستيقظ قبل التاسعة. فإذا كنت أيها الأخ الكريم، من أصحاب النهوض في الساعة التاسعة، فعدل منهاجك منذ الغد إذا أردت أن تحقق شيئا تذكر به.
لا تندم على ما فات واستعوض عنه بما هو آت، فقد تسترد في عام ما أضعته في أعوام. عد إلى ماضيك، وتذكر كم فاتتك من مواعيد؛ لأنك أضعت بضع دقائق في الحديث مع واحد لا عمل له إلا الثرثرة والتساؤل عما لا يفيده، فأضعت أنت ما يفيدك. كن جسورا ولا تبال بمن يستوقفك إذا كنت على ميعاد.
قال أحد المفكرين: ما من وقت مثل الزمان الحاضر، فمن لا ينجز ما يفكر بتحقيق عمل حين يعن له، فهيهات أن يحققه فيما بعد. فلا تؤجل عملا، واجعل شعارك: الآن. امح كلمة غدا من سفر حياتك، فنقد غدا باطل لا يتعامل به المفلحون. إن التردد يمسي مرضا، والتأجيل هو أول أعراض هذا المرض الاجتماعي العضال، فإذا طلبت من ابنك أن يقوم بعمل، وقال لك بعد ساعة مثلا، فقم إليه واقتلعه من مكانه ثم خذه بساعده، وهكذا افعل به كل مرة إذا أردت أن تحميه من ميكروب هذا المرض القتال.
اقرأ على مسامعه نصيحة ولتر سكوت التي أسداها إلى شاب حصل على مركز جديد وهو يطمح إلى التقدم: خذ حذرك من الانقياد إلى ما يحول دون استعمال وقتك كله، فلا تضيعه بما لا يعنيك ولا يفيدك. اعمل واجبك أولا وبسرعة، ثم خذ حقك من الراحة بعد إتمام العمل.
إن العجلة هي سمة عصرنا. ولكن ليس معنى هذا أن تكون أهوج، فلا تتقن عملك. إن عدم إضاعة الوقت هو العجلة المطلوبة. إن السرعة أم الثقة بالنفس، وهي أنصع برهان على انتظام أعمالنا ومقدرتنا. ومن لا يذهب إلى مركز عمله إلا بعد أن يدور في زوايا بيته دورات عديدة، ويخرج ثم يدخل إلى بيته مرات قبل أن يفارقه بالسلامة، فهذا لا يعرف العجلة، ولن يأتي في غده عملا جليلا.
فلنتعلم السرعة من الطبيعة، فكل ما فيها في حركة دائمة، تسرع خطاها ولا تقف دقيقة لتستريح؛ لأن راحتها في عملها الدائم.
سئل أحد مشاهير الرجال: كيف أتممت كل أعمالك في هذا الوقت القصير؟ فأجاب: إنني أعمل في الحال ما يجب علي أن أعمله، وأنتظر الجديد لأنجزه حالا.
نامعلوم صفحہ
فاعمل يا أخي اليوم ما يكن عمله.
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
لا تؤجل شيئا؛ لأن الغد ليس ملك يديك، إنك لا تدري ماذا يحدث، فتندم على ما فات، ولات ساعة مندم.
ابصق على الشيطان واجعل شعارك: في العجلة السلامة، وقدم الأهم على المهم. وليكن لكل عمل وقت؛ وإذا فعلت فأنت مفلح إن شاء الله.
المرض الأكبر
وما أعني إلا الوهم، فالوهم يورث الهم.
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
فالوهم هو الداء المقيم الذي لا يحول ولا يزول، إذا استولى علينا جعلنا نظن الموجود لا وجود له، ونحسب ما لا وجود له حقيقة ملموسة؛ فنسمع أصواتا، ونرى أشباحا تروعنا فنخافها، كأنها ذوات كيان. وقد أصاب المتنبي حين وصف جبانا بقوله: «إذا رأى غير شيء ظنه رجلا.»
نامعلوم صفحہ
روى العالم غوبلو أن أحدهم قال له إنه أصيب بوهم تكرر مدة من الزمن، فكان ينظر، حين يجلس إلى مكتبه، شخصا على المقعد يحدق النظر إليه بينا أنه لم يكن على المقعد أحد.
وهذا يذكرني بما قرأت عن باسكال، زعموا أنه كان يرى هوة فاتحة فمها عن يمينه كلما جلس إلى مكتبه، فيرتاع، ولكي يزيل هذا الوهم، كان يضع كرسيا على فم تلك الهوة ليطمئن قلبه إلى عدم وجود هوة.
ليس المجال هنا مجال تعداد أوهام الناس، فعندنا من أوهامنا ما يغنينا عن تلك. كما أننا لا نقصد الأخبار وسرد قصص الوهم، ولكننا نعني الأوهام المرضية التي تستولي علينا فتجعلنا مصابين بالمرض الذي نختاره وننتقيه.
رأيت في شبابي راهبة بلدية كانت تتوهم أن في أذنها عصفورا تزعجها انتفاضاته. وقد قصدت أطباء بيروت في ذلك الزمان - منذ نصف قرن - وظلت تروح وتجيء والعصفور جاثم لا يطير من ذلك الوكر الدافئ.
وأخيرا تركت أنا جبيل ولم أعد ألتقي تلك الراهبة. وقد سألت عنها فقيل لي: إنها في مغارة دير قزحيا، عصفورية لبنان في ذلك الزمان.
أما أوهامي أنا فليست من هذا العيار الثقيل، ولكنها إن لم تمتني، فقد أزعجتني ولا تزال. ولا بأس علينا إن روينا للقارئ بعضها، فهذا الموضوع، جميع الناس فيه سواء، فكما لا يخلو رأس من هم كذلك قلما يخلو من وهم.
كنت منذ نشأتي مشغول البال على صحتي، فخطر لي أن أكون طبيبا نفسيا، فاشتريت كتاب طب أطالع فيه.
كنت إذا سمعت بانتشار مرض في البلاد، أسرع إلى فهرست ذلك الكتاب، وأقرأ عن ذلك المرض، وهكذا صرت اختصاصيا أصاب بالمرض الذي أريد، ساعة أريد.
وذات سنة أقبلت حمى التيفوئيد على المدرسة التي كنت فيها، وعجز طب ذلك الزمان (1903) عن مكافحتها فصرفتنا إدارة المدرسة إلى بيوتنا.
واعتقدت أنا، أو توهمت، أنني أحمل ميكروب التيفوئيد معي، فرحت أقرأ في ذلك الكتاب، المشئوم علي، فوقعت على عبارة فيه تقول: إن نبض المريض بالتيفوئيد تزدوج ضرباته، فجسست نبضي، فإذا به مزدوج. خفت جدا، ولاحظ والدي قلقي، فأخبرته، فقال: هات يدك، وبعدما جسها قال: من خبرك أن نبضك مزدوج؟ فأجبته: خبرتني إصبعي.
نامعلوم صفحہ
وبعد حين استفحل أمر الوهم فنمت في فراشي، وجاء الذي كنا نسميه حكيما، وبعد أخذ الحرارة، وجس النبض، وفحص اللسان وتفتيش جميع زوايا جسدي، قال: ننتظر يومين ثلاثة لعله خير. ثم مضت أيام وأنا على حالي، فضاق صدر والدي فصرخ بي: قم من فراشك. وبعد جهد نهضت، وما زلت ناهضا.
ولكنني ما خلصت من وهم الفتوة حتى وقعت بأوهام الكهولة. قرأت أن العمر واحات. فمن يبلغ واحة الثمانية والأربعين، فلينتظر الثامنة والخمسين، وإذا بلغها فلينتظر الثامنة والستين، وها قد فتها، والله أعلم إلى أين نصل. ولكنني قضيت أهوالا وسلخت أكثر عمري، وأنا في غرفة الانتظار، حتى أصبحت اختصاصيا في انتقاء الأمراض.
كلما أحسست بحركة في جسدي انتقيت لها أخطر الأمراض وتوهمت أنني مصاب به، وكنت إذا أصبت برشح أحسب أنني معرض لما يليه. وهكذا انقضت حياة قلقة، ولكني كنت أنسى أوهامي التي أجترها عندما أنصرف إلى عملي وأكب عليه، حتى أنسى كل شيء إلا ما يشغلني به عملي.
وقعدت منذ ربع قرن على سرير العيادة عند الدكتور أ. خ. فعني بي ودقق كثيرا، وأخيرا انتصب أمامي بقامته الفارعة وقال: منذ كم سنة وأنت تشعر بهذا المرض؟
فأجبته: منذ سنوات.
فقال: لو كنت مريضا حقا لكانت تخت عظامك، أتمنى لو تكون لي سلامة جسمك، فدع هذه الأوهام وراجع رواية موليير «المريض غصبا عنه».
واستطرد قائلا: أربعة أشياء تجنبها يا مارون: ميزان الحرارة، والقبان، وأخذ النبض، ووزن الضغط؛ إن هذه الأربعة تتغير وتتبدل فلا تشغل بالك بها. أنت سليم من كل مرض.
ومنذ أشهر التقيت الطبيب الذي أطلقني حينا من سجن أوهامي، فضحك وقال لي: كم صار عمرك؟ فقلت له: في الثالثة والسبعين.
فقال: أصدقت الآن إنك بألف خير وعافية.
فقلت له: ليس كل التصديق ...
نامعلوم صفحہ
فقال: هذا لخيرك؛ لأنك صرت في عمر يستدعي الحذر. الحذر ضروري، ولكن التوهم مرض، وإذا استفحل أصيب صاحبه بالمرض الذي يريد ويصدق نفسه.
هذه قصتي، وما أزعجتكم بها إلا لاعتقادي أنها قد تكون قصة أكثركم، وإذا صح ما زعموا من أن الحب هو أقوى الفيتامينات، فالوهم هو السم الناقع والمرض الأكبر.
يقول الأطباء: «معنويات المريض تساعد على شفائه»، فأية معنويات تكون لصاحب الأوهام؟ رحم الله إيليا أبو ماضي القائل:
أيها المشتكي وما بك داء
كيف تمسي إذا غدوت عليلا؟
أحسن الأدوية في هذه الحالة، هي ترديد المثل العامي القائل: «وقوع البلا ولا استنظاره.»
فالواهم يدلك عليه، إذا قلت له: كيف حالك اليوم؟ يظن أنك تتقصى أخبار صحته، أو أنك عارف أنه مريض، فيفتح السجل ويقعد يقص عليك ما أحس أمس واليوم. وهكذا يظل يجتر أوهامه، ولا يصدق أنه معافى ولو حلف له الطبيب.
كثيرا ما اهتم علماء النفس بهذا الموضوع الخطير، وقالوا أخيرا: إذا نحن فكرنا في السقم والمرض أصبحنا مرضى.
قال ماركوس أوريليوس، الإمبراطور العظيم: إن حياتنا من صنع أفكارنا.
أعرف رجلا عظيما مات منذ سنين، قضى حياته في معالجة أمراض غير موجودة، ولو كان مريضا حقا لما جاز التسعين. ولكثرة أوهامه، اقتنى معجم لاروس الطبي، وجعله كتاب مخدته يطالع فيه في أوقات فراغه ليلا ونهارا.
نامعلوم صفحہ
أما دواء الأوهام فهو تناسيها، ولا نتناساها إلا بالعمل المستمر ولعل هذا ما عناه، وليم جيمس، بقوله: «ليس في إمكاننا أن نغير شيئا من إحساساتنا بمحض إرادتنا، ولكن في استطاعتنا أن نغير أفعالنا فتتغير إحساساتنا.» فالطريق إلى السعادة المفقودة هي أن تظهر كما لو كنت سعيدا.
ألا تكفينا أمراضنا حتى نقدم على اختراع أمراض غير موجودة؟
لا يشفينا من أوهامنا إلا الاعتقاد الذي لا يتزعزع بقول القائل: «لا بد مما ليس منه بد.» وإذا لم تعمل بهذه الكلمة، وقعدت تغذي أوهامك، فإنها تتكاثر عليك، تنام معك في سريرك، وترافقك في مسيرك ولا تدعك حتى تنهار أعصابك وتمضي لسبيلك بلا رجعة. فخير لنا أن لا نقطع جسرا قبلما نصل إليه.
شبابك على قدر طاقتك
إن عدد السنين، وشيب الشعر، وسقوطه، كل هذا لا يقدم ولا يؤخر.
هل رأيت ثورا يدركه الشيب أو الصلع مهما يعش؟
ليس العبقري للحراثة، ولا يعيش على عضلات يديه ورجليه، وإنما يحيا ويظل فتيا بتلافيف دماغه. فرب فتى خرف في الثلاثين، ورب شيخ ظل فتي الفكر في الثمانين والتسعين.
إنا لفي زمن يهزءون فيه بالشيخوخة لأنها شيخوخة. هذا هو اعتداد الكثيرين من الشباب، ولا عجب، فالصراع، كما نلاحظه، قائم أبدا بين الشيوخ والشباب.
نبدأ في البيت، فالشيخ لا يعجبه شيئا من أعمال ذريته، وهذه غريزة المحافظة على السيادة التي فقدت أو كادت.
يريد الشيخ أن تمشي الأمور على عقله. يكون ابنه في الثلاثين وما فوق، وإذا أتى ما لا يقره عليه، ولم يستطع أن يسيره كما يروم، هز رأسه وقال: أولاد!
نامعلوم صفحہ
وكذلك أم الأولاد، فإنها لا عمل لها إلا نقد كل حركة من حركات كنتها. تفتش دائما حولها لعل عينها تقع على من تغمزه على تلك العروس وتقول همسا: كنا وكنا ...!
أما الكنة فتقول وهي تتنهد: عجوز!
وإذا خرجنا من البيت الأبوي، عثرنا على أنماط لا تحصى في جميع ميادين الحياة. رأينا الجيل النازل لا يعجبه إلا القليل مما يعمله الجيل الطالع، والجيل الطالع لا يعجبه شيئا من أعمال السلف، يريد أن يقوض أساس ما بناه السابقون، وهذا هو ناموس الحياة الخفي، فالشباب يسعون ليتفوقوا على شيوخهم، والشيوخ يناضلون عن صرحهم ليظل شامخا. وهم لو قدروا لردوا الناس إلى عهد المغاور.
كم أضحك عندما أقرأ وداع القرن التاسع عشر في كتاب مجالي الغرر. عد كاتب ذاك المقال عجائب ذلك القرن واختراعاته من الداليجانس إلى المنطاد، فالقطار، والفونغراف، وتساءل عما سيحدث! وما مرت في سمائنا طائرة فدرين عام 1912 حتى قلنا ضاحكين من القطار: أمن يمشي على خط لا يحيد عنه كمن يروح ويجيء في الفضاء كما يشاء؟
شاء أحد شعرائنا أن يتخيل، فقال في نابليون:
قالوا لنابليون ذات عشية
إذ كان يرصد في السماء الأنجما
من بعد فتح الأرض ماذا تبتغي
فأجاب أبحث كيف أفتتح السما
واليوم، وقد فتحت السماء، وطرنا إلى الفضاء الخارجي، وفكرنا في التسابق إلى استعمار الأجواء واحتلال القمر، فهل يكون الفضل في هذا للشباب وحدهم، أم للشيوخ وحدهم؟
نامعلوم صفحہ
لا لعمري! ليس في الميراث الإنساني شيوخ ولا شباب، بل همم وطاقة وحمية.
فالنبوغ قريحة توجد أولا، وعمل يوجد أولا وآخرا. وما دام الجهاز الدماغي صالحا للأخذ والإعطاء، فلا تضير الشيخوخة أحدا، كما لا تنفع الشبوبية شيئا، إذا كانت بلا طاقة.
إن خيط العبقرية يمتد من المهد ولا ينتهي إلا في اللحد، والأدلة على ذلك كثيرة. فإذا استقرينا التاريخ أنبأنا أن الأعمال الجليلة، في كل ميدان، كان فرسانها من الشيوخ والشبان.
ليست العبقرية بضاعة، فنعطى منها نماذج بلا ثمن؛ إن ثمنها موجع جدا.
العبقرية كالأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها ثم تعطيك بقدر ما تحرثها وتغذيها. وكنز العبقرية المطمور لا ينبشه إلا العامل المثابر شيخا كان أو شابا؛ فلكي يكون الشبان فاتحين مكتشفين، فما عليهم إلا أن يجدوا لينبشوا الكنز المدفون بين تلافيف أدمغتهم.
أليس بالكد والتأمل وصلت القردة إلى أن تصور وتعرض رسومها مع رسوم نوابغ الفن؟ فكيف تريد أنت أن تكون شاعرا، كاتبا مكتشفا عبقريا، بلا تأمل ولا تفكير؟
إن الثرثرة تعوقنا جدا، وتبدد طاقتنا. فلنتأمل كم جاهدت تلك القردة المسكينة حتى حققت ظن داروين في جنسها، فاجتهد أنت واعمل مثلها صامتا.
يقول المثل: لا يخلو رأس من حكمة، وهذا ما حققته لنا الأيام.
إن الموهبة هي الأساس، أما حجارة البنيان فهي الإرادة، والرغبة والطاقة، وبذل أقصى الجهد. فإذا كنت مزودا بطاقة ولا تستثمرها فماذا تنتظر؟
لا يغرنك شبابك إذا كنت شرخا، ولا تهولنك شيخوختك إذا كنت هرما. فالقصة قصة طاقة، وعلى قدر طاقتك يكون إنتاجك.
نامعلوم صفحہ
ألا يذكر كلامي بقول المتنبي: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»؟
فالشاعر أو المفكر، أو العبقري يسبق إلهامه العلم؛ ولهذا يكبر المتنبي في عيني كل يوم.
ما عساك تفعل من العظائم إذا كنت تتثاءب ألف مرة قبل أن تنهض من فراشك؟ وإذا كنت هكذا فاعلم أنك شيخ محطم ولو كنت ابن عشرين.
الفتوة وحدها لا تكفي، فليست المسألة مسألة سن.
إذا كنت عبقريا ولا تعمل، فإنك تظل حيث أنت وقد يسبقك واحد دونك ذكاء، ولكنه أعظم طاقة وحمية، ويحب عمله من كل قلبه.
يقولون: إنه يقتضي لنا سبعون مليون سنة حتى نقطع الفضاء، ثم تظل تلك الرحلة المليونية بلا نتيجة. أفلا يخطر ببالنا شيخ المعرة الذي قال قبل ألف سنة ونيف:
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
المعري شيخ وهن عظمه ورق جلده. والمتنبي أخو خمسين مجتمع أشده، وكلاهما سبقا العلماء إلى حقائق أقروها اليوم.
أتريد أن أضع لك مخططا يريك أنه ليس للعمر تأثير على أصحاب العقول الكبيرة؟ ولكني قبل ذلك أحب أن تعرف ما يقوله غلادستون حول هذا الموضوع، قال: «إن للعمل الذي يمكن استخراجه من الدماغ الإنساني حدا معينا، والرجل الحكيم لا يبذل قواه في عمل لا يطيقه.» فخير ما أتمنى هو إيقاد النار الكامنة في صدور الفتيان؛ لأن في كل هيكل بشري نارا خالدة تدفعه إلى عمل نافع، يبرز فيه على سواه.
نامعلوم صفحہ
يغتر بعضنا بالشهادات والألقاب العلمية، ويتهافتون على إدراكها بدون علم أو امتحان، وينامون على الثقة. ولكن باكون قال: «إن الدروس لا تعلم كيفية الاستفادة، ففي خارج الكتب حكمة تكتسب بالملاحظة. وفائدة الكتب يجب أن تطلب في خارج جلودها.»
والآن فلنقم بما وعدنا، ولنعد إلى الجدول مبتدئين بالشباب النوابغ.
قال رسكين: «أبدع الآثار الفنية اصطنعت في سن الشباب.» وقال دزرائيلي: «كل شيء عظيم من صنع الشباب. إن القلب هو الذي يتسلط على الشباب، أما الرجولية فيتسلط عليها الدماغ. فالإسكندر ونابليون، كانا شابين حين قبضا على المسكونة.»
ورافائيل وبيرون ماتا قبل الأربعين، وروملوس أسس رومية في العشرين، وأسامة بن زيد عقد له لواء الفتح وهو يافع. ونيوتن اكتشف بعض أهم اكتشافاته وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين، وكتس مات في الخامسة والعشرين، وشلي قضى نحبه في التاسعة والعشرين، وأديب إسحق ونجيب الحداد ماتا في هذه السن، ولوثيروس عد مصلحا في الخامسة والعشرين، وفيكتور هيغو ألف مأساة وحاز ثلاث جوائز وهو دون العشرين، وغوت أنشأ تمثيليات في الثانية عشرة، وابن المقفع مات في السادسة والثلاثين وكثيرون من نوابغ العالم ماتوا قبل الأربعين.
وإذا كانت الطاقة تنتج ما أنتجت في طور الشباب، فماذا يكون منها لو رافقت الشيخوخة؟ هاك جدول الشيوخ:
غلادستون، في سن الثمانين، كانت له عشرة أضعاف القوة والقيمة اللتين يتمتع بهما شاب من طرازه في الخامسة والعشرين، وهوميروس الشيخ الأعمى نظم الأوديسة في آخر العمر، ولزوميات المعري بنت شيخوخة مهدمة، وكان ولنكتون وكليمنصو وتشرشل بين السبعين والثمانين حين ربحوا الحرب العظمى، وقصة روبنسون كروزي كتبت في الستين، وأفلاطون مات في الحادية والثمانين وهو يكتب، وشوقي ظلت طاقته تعطي حتى الليلة التي مات فيها، وغاليلو ظل في السابعة والسبعين يواصل عمله ويطبق مبادئه العلمية وهو مكفوف البصر، والشدياق والجاحظ ألفا وكتبا في التسعين، وبرناردشو نيف على التسعين وظل مرحا لا تفارقه طاقته.
إن الرجال كالخمرة، فمنها ما يصير خلا متى عتق، ومنها ما يصير نبيذا فاخرا. فلا تقل إذن: هذا شاب وذاك شيخ، فما أشبه دماغ الإنسان بالبطارية الكهربائية، فمنها ما يفرغ في الشباب، ومنها ما يظل يعطي إلى آخر العمر. فكن إذن شمسا، قوية الطاقة لا قمرا يستمد النور ويستجديه، ويتضرع إلى الغيوم كيلا تحجب نوره المستعار.
وإذا سألتني كيف أعرف إذا كنت شيخت، فإني أجيبك: اسأل قلبك يقل لك. فإذا كنت لا تعتقد أنك كبرت، فأنت لا تزال بخير ولو كنت ابن تسعين.
طريق الفلاح
ليس للفلاح؛ أي النجاح في الحياة طرق معبدة، ولا خطوط حديدية، ولا أوتسترادات. فعلى كل منا أن يشق هذا الطريق الضيق بيديه. وما أخال الباب الضيق الذي عناه يسوع إلا طريق الفلاح الذي كثيرا ما نهتدي إليه، ولكن بعد كد وعناء عظيمين. فمنا من يفلح شابا، ومنا من لا ينفتح له باب النجاح إلا مكتهلا، ومنا من لا يدرك شيئا لا شابا ولا كهلا.
نامعلوم صفحہ
أصحيح أن الحظ يكمن لنا على جانب الطريق، فإن التقينا به صفت لنا الحياة وعشنا ببحبوحة ورخاء، وإلا فإننا نظل نتعثر حتى نصادفه فنسير الهوينا وتفارقنا الحيرة؟
نرى واحدا ينجح في عمله منذ أول خطوة في هذه الحياة، ونرى آخر يمشي ويظل حيث هو متنقلا من عمل إلى عمل حتى لا يدع عملا إلا جربه، ثم عاد عنه وقعد ينظر إليه ملوما حسيرا. فما سبب الفرق بين هذا وذاك؟
إذا قابلنا نحن بين الاثنين، فقد نرى الناجح دون الفاشل ذكاء واجتهادا. فما العلة يا ترى؟
غالبا ما يكون الناجح المفلح من الكادحين في الحياة، وهؤلاء هم الذين يوجهون أنفسهم ولا يوجههم آباؤهم وأولياؤهم؛ ولذلك لا يعملون إلا بوحي من رغبتهم، وهنا سر الفلاح. فإذا كنا نحب عملنا شققنا خطة نسير عليها إلى النهاية، وفزنا بأمانينا وتحققت آمالنا.
إن لنا منا وفينا موجها في طريق الفلاح، فإذا سرنا بهديه عشنا مطمئنين، وإلا فإننا نظل على هامش الحياة. فما علينا يا ترى أن نعمل؟
علينا أن نتبع ما نميل إليه من عمل، فالعمل الذي نرغب فيه هو الذي يجب أن نتبعه.
أبوك يريد أن يراك بين أكابر العلماء، ولكنك أنت لا تستطيع، وأمك تريد أن يكون ابنها سياسيا، فتفتش لك عن كرسي تجلس عليه لتراك قبالة عينيها وتعتد بك وتعتز، ولكنك أنت لا تصلح للرئاسة ولا للسياسة؛ لأنك خلقت لتكون رجل أعمال وتاجرا ناجحا، فهل تضيع ذاتك بين إرادة أبيك وأمك؟
لا بد من وجود ميل في قرارة نفسك، وهذا الميل يجب أن تتبع، ولو كان عملك ليس من الأعمال الجلى.
أنت هو الذي يشرف عمله، فالناس يعجبهم الإتقان. ولا يمكن أن تخرج شيئا أنيقا إذا كنت لا تحب عملك.
لا بد أن تكون فيك قوة ما، فعليك أن تبحث عنها، ومتى اهتديت إليها مشيت في طريق الفلاح، وحق لك أن ترجو خيرا.
نامعلوم صفحہ
إياك أن تقدم على عمل لا ترجو أن تجيده إجادة تامة. فالعمل الناقص لا تقره نواميس الحياة.
قد تقول لي: ومن أين أعرف مقدرتي؟ وأنا أقول لك: حاول. جرب. وإذا بدأت فواظب.
لا تتطلب مركزا لا تقدر على ملئه، وإذا حصلت على مركز فلا تطمح إلى منصب أعلى منه، بل ارفع شأن مركزك بإتقانك العمل فيه.
إن المركز الذي تحصل عليه لا يرفع من شأنك إن كنت غير قادر على التصرف فيه وتدبير شئونه، بل تزدرى وينظر إليك باستهزاء وسخر.
وإذا كنت بلا عمل فاقبل بالعمل الذي تيسر لك. وإذا كان دون مقامك الذي يصوره لك طموحك، فأنت تصل إلى ما تطمح إليه إذا أتقنت عملك هذا، فيتهافت عليك أصحاب الأعمال.
لا تطلب منك الحياة إلا ما انتدبتك إليه، فلا تغتر بشهاداتك ووسائلك، فالعمل شيء والحبر على الورق شيء آخر. فرب رجل حامل أسمى الألقاب العلمية لا يستطيع أن يماشي رجل أعمال حصيف، وإن يكن أميا.
إن طمعنا بجعل أنفسنا غير ما نحن هو الذي أشاع هذه الفوضى في المجتمع.
انظر إلى الناس، فقلما تجد رجلا في محله؛ فهذا جراح في مستشفى كان الأجدر به أن يكون جزارا على ظهر وضم، وذاك مرب، لو أنصفته الأيام كان يجب أن يكون راعي بقر أو غنم، وتجد محاميا لم يخلق إلا ليكون مزارعا، وفتيانا يبيعون أوراق اليانصيب أو يحملون السل للعتالة كان يجب أن يكونوا على مقاعد الجامعات العالية يتلقون العلوم العويصة.
إن رغبتنا في المجد الباطل هي التي جعلتنا نتبادل المراكز، وهي التي جعلتنا نزدري المهن، ولا نفكر إلا بالسلطة الفارغة ولو على قن دجاج.
إن كل عمل هو شريف إذا كان صاحبه من ذوي الضمائر الحية، فأصغ إلى صوت ميلك، وأجب نداء رغبتك. وإذا أراد أبوك أن ترث مهنته مع عقاراته، وأنت لا تميل إلى ذلك فقل له: فتش عن وارث غيري، وأنا سأفتش عن عمل أحسنه وعقار أستطيع استثماره.
نامعلوم صفحہ