وهذا تاريخ إبراهيم باشا، ألا يذكرنا - إن تنفع الذكرى - بهوى جمعنا حول العلم؟
فالبنادق الإبراهيمية لا تزال في بيوتنا، وطربوش محمد علي على رءوس شيوخنا، وكلمة مصريات على لساننا، وهي آصرة تربطنا. والشاعر شوقي مولود، كما قال عن نفسه، بباب بيت نصرناه بسيوفنا وقلوبنا، وكما دارت الدائرة على أميرنا مات الشاعر كالفراء ...
إذن فليست تسمية أحد شوارع بيروت باسم شاعر جيله - ولو أغضبنا العقاد - بأمر عظيم، فما فينا إلا منا، وكلنا تربطنا اللغة التي كان لها لبنان كالحجاج لأهل الشام. ومن استحق شكر لبنان في حياته - وشكر لبنان للأحياء فلتة - ألا نزيده منه في مماته، ونحن دولة اشتهرت بتكريم الناس مكفنين، كما كرمت جبران. ولا أدري أكانت أرغمت المكرزل على ذلك أمس ...
إذن لا يكبر الصاوي مروءة لبنان، ولا يلوم مصر إذا أبطأت عليه، فلبنان كما قال نابغته جبران، كل قبيلة فيه أمة، فلسفته شعوذة، وسياسته ثعلبة، ينصرف عن الدين إلى المذهب، ولا يرفع صوته إلا وراء النعش.
أجل إن لبنان بلد متصوف يدين بآية: «من سخرك ميلا امش معه ميلين، ومن خاصمك ليأخذ ثوبك فأعطه رداءك.»
إن لبنان - رحم الله شاعر بلعنبر - لا تغره هذه الأمجاد الباطلة، فلا تطلب له، يا أستاذ، شيئا منها. ولو لم يكن أمرع للزهاد والنساك لما جعله المتصوفون مقر «أقطابهم» يقيمون فيه مع أحنوخ وإيلياء إلى يوم يبعثون ... وهذه صوامعه على قلله لسان ناطق.
إننا نشكر للصاوي عاطفته الطيبة، وإن رأيناه اشتط في تذكيره قومه بتكريم من لا يكرم نفسه ولا يحترم نوابغه. فهذا جبران أديبنا العالمي، أما انطفأ خبره عندنا، وذهب ذكره مع الدوي؟ فلولا كيسه ما عاد إلى بلاده مكرما لينام في دير مار سركيس، على كتف نهر قاديشا الذي ترعرع على ضفتيه، ومزج ترنيمه بخريزه، ونام نومة الأبد على هينمة سروه وأرزه وشربينه.
فلأي ذكراه اجتمعنا بعد يومه، وأي علومه نصبنا، وأي شارع أسمينا، ثم لا نفتأ نردد: «ملء عين الزمن سيفنا والقلم!»
وهذا فرح أنطون، ماذا لقي من هذا الوطن، وأخجلة التاريخ من أبي المدرسة الحديثة الحرة، فمن بشر برنان وتولستوي وروسو ونيتشه وروسكين وغيرهم قبله. ماذا فعلنا له غير الإغارة على آثاره بعد أن اتخذ سويداء قلبه مدادا لتحبيرها؟
وهذا المنفلوطي، رحمه الله رحمة واسعة، صديق فرح، قد قرظ بولس وفرجيني القصة التي ترجمها فرح، بقصيدة، يوم كان المنفلوطي يقول الشعر، ثم شن الغارة على بيت صاحبه - وأظن ميتا - فسبا بنته وكساها ثوبا عربيا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ولا فرنجية.
نامعلوم صفحہ