والطبيعة التي تسمع دبيب المنى هدأت حركتها هنيهة كأنها تصغي إلى صوت الشبح المضطهد المشرد.
أما الشبح، فحين أيقن أنه بمنأى عن مضطهديه، هام على وجهه باكيا منتحبا، وإن كان لا يرجو من القدر الأعمى فرجا لكربته، فهو يعلم المكتوب له في لوح الأزل. إنه سيلفظ آخر نفس من أنفاسه قبل انشقاق الفجر، فمشى هائما يروعه تساقط أوراق الأشجار، وتقلقه زغردة الرياح، فينتبه إلى ما لا يدرك وكأنه يقول للرياح: رويدا رويدا يا أختي، فسوف لا تهبين إلا على ذئاب في ثياب، زمجري ما استطعت إذا كنت مستعجلة.
وكان الشبح يفتح عينيه السوداوين للريح العاتية دون أن تتأثرا بما يصفع وجهه من غبار؛ لأنهما غارتا في محجريهما.
كان ينظر إلى القمر الذي يتخبأ تارة خلف الأغصان، وطورا وراء الغمام الظاعن في بيداء السماء، فينفر من هذه المداعبة ويقبع كالغزال الشارد.
ولما بلغ ساق سنديانة قضت العاصفة على عنفوانها، قعد عليها يلتمس الراحة.
وأرخى لنفسه عنان التصورات، وراح يراجع تاريخ حياته منذ بلغ التذكر حتى الساعة التي هو فيها.
ندب سوء حظه ومصيره، وكيف بعد أن كان يتسربل ثياب النعمة السابغة، ويتقلب على فرش العزة والكرامة، أضحى طريدا شريدا ليس له مكان يسند إليه رأسه.
حاق به الذل، وجاءه الهوان فاحتل دياره، وأصبح له في كل عضو من أعضائه مرتع ومقيل.
فبعد أن كان بين البشر أعز من الحياة وأطيب منها، أمسى أذل من مومس، يطرد عن أبواب القصور التي كان يرتع فيها بالأمس.
كان لا يرضى إلا بفوق الفوق، وصار يرضى بأقل من القليل، ولا يدرك شيئا من القليل التافه.
نامعلوم صفحہ