إلى أبيك، وسأحمل أحزاني إلى قاعدة عرشه السموي، وآمل أن أتعزى حتى تأتي، وعند ذلك أطير على جناحي سيرافيم
2
لألقاك ثم أطلبك فنبقى معا إلى الأبد.
ليس هذا بحلم ولا بمتعة خيال، اذكري «سنحيا هنا فيما بعد، وسيعرف ويرى كل منا الآخر ثانية».
وفي نحو الساعة الحادية عشرة سأل فرتر خادمه عما إذا كان ألبرت قد عاد، فأجاب بالإيجاب؛ لأنه مر عليه ممتطيا جواده، فناوله فرتر الرسالة الآتية غير مختومة ليحملها إليه بداره:
أنا مزمع سفرة فأعرني مسدساتك وإلى الملتقى.
فرتر
أما الجميلة شارلوت فقد قضت الليلة في أقصى حالات الحزن والاضطراب، وازدحمت برأسها آلاف من الإحساسات المؤلمة؛ فإن حرارة ضمات فرتر الحادة قد وجدت إلى قلبها سبيلا رغم كل تظاهر مبرقش، وذكرت كل الأيام الماضية؛ أيام الطهر والهدوء التي يظهر لها - بالمقارنة مع الحاضر - حسن جديد، وخافت عبوسة ألبرت وتعنيفه الحاد متى علم بزورة فرتر، وهي لم تكذب في حياتها قط، ولم تخادع أبدا، بيد أنها وجدت من المحتم إخفاء الحقيقة لأول مرة، وقد كبرت خطيئتها في نظرها رقتها المتناهية واشمئزازها الذي شعرت به، على أنها لم تكره مسببها ولم تعزم على منعه عنها، ولقت ألبرت متعبة حزينة، ولم تكد تتم ارتداء ملابسها، وكانت هذه هي المرة الأولى التي لقته فيها غير راضية، وارتعدت خشية أن يلحظ بكاءها وأن يكتشف ذبولها لقلة النوم، فزادت هذه المخاوف اضطرابها، وقابلته بشوق أظهر خوفا وارتباكا أكثر من سرور حقيقي، ولم يفت هذا عين ألبرت اليقظة، فجلس وفض بعض الرسائل، ثم سأل بوقار عما إذا كانت هناك أخبار جديدة، وعما إذا كان قد زارهم أحد في غيبته، فأجابت بعد تلعثم قليل أن فرتر قد جاء أمس وبقي نحو ساعة، فقال ألبرت: «إنه ليتخير الفرص جيدا.» ثم قام إلى غرفته.
وبقيت شارلوت وحيدة تفكر زهاء ربع الساعة؛ فإن حضور رجل تحبه وتقدره قد غير مجرى أفكارها، وعادت لذهنها رقته الماضية وحبه للخير وكماله وهيامه بها وحدها، فأنبت نفسها على سوء مقابلتها له، وألهمت إلهاما خفيا أن تتبعه، فدخلت إلى حيث كان وسألته عما إذا كان يريد شيئا، فأجابها سلبا ببرود، وبدأ يكتب وجلست تشتغل، وكان يترك مكتبه بين آن وآخر ليتمشى في الغرفة، فكانت شارلوت تنتهز هذه الفرصة لتحدثه، ولكنه كان يتجنب ذلك بأن يكاد لا يجيبها، ثم يعود إلى مجلسه، وكانت هذه المعاملة القاسية أشد إيلاما لاجتهادها في إخفاء الهم الذي سببته، ولإمساك الدموع التي تكاد تسيل كل لحظة. وانقضت ساعة على هذه الحال، ثم وصل خادم فرتر فزاد في حزنها، وما قرأ ألبرت الرسالة حتى التفت بهدوء إلى زوجته قائلا: «أعطيه المسدسات، وإنني لأرجو له سفرا طيبا.» ووقع هذا الأمر كالصاعقة على شارلوت، فقامت مذعورة من مقعدها، وتقدمت بخطى بطيئة مرتجة إلى الحائط حيث تعلق المسدسات، وتناولتها بيد مرتجفة، ثم أخذت تنفض عنها الغبار على مهل، ولولا نظرة معنوية من ألبرت اضطرتها للطاعة لأطالت الإبطاء، فسلمت الأسلحة المشئومة إلى الخادم دون أن تستطيع النطق بكلمة واحدة، ثم طوت ما كانت تعمل فيه، وانصرفت توا إلى غرفتها، وقد غلبها حزن لاذع وتقريع مريع، ومر بفكرها خاطر خفي في بعض الأحايين كي تعود إلى زوجها، فتنطرح على قدميه وتفصح له عما وقع في الليلة الماضية، معترفة بخطئها وما تخشاه، ولكنها تأكدت عاجلا سوء المغبة من مثل هذه الأساليب، وأيقنت أن ألبرت لا يمكن أبدا أن يغرى على الذهاب إلى فرتر. وأخيرا جهزت المائدة، ولولا سيدة من صاحباتها كانت مدعوة لساد على المائدة السكون.
ولما علم فرتر من خادمه أن شارلوت هي التي سلمته المسدسات تناولها بملء السرور، ثم جلس إلى بعض الخبز والنبيذ، وصرف الخادم لعشائه وبدأ يكتب.
نامعلوم صفحہ