وهنا طفح سيل الدموع من عيني شارلوت، فخفف من الضغط الشديد على فؤادها، فرمى فرتر بالورقة وأمسك يدها فبللها بدموعه، واستندت شارلوت على ذراعها الثانية، ووضعت منديلها على عينيها؛ فقد كان كلاهما في شدة التأثر؛ إذ أحيت هذه القصة المحزنة مصائبهما، وأثارت عواطفهما المتبادلة. وألصق فرتر عينيه وشفتيه الملتهبتين بذراعها المرمرية، فارتعدت وحاولت أن تترك الغرفة، ولكن الحزن والرحمة الناعمة منعاها من التحرك، ثم خففت على نفسها بالتأوه والدموع المستشفعة، ورجته أن يستمر، فتناول الورقة خائر القوى، وقرأ بصوت يرتجف:
لم توقظني أيها النوء؟
يقول إنني مغطى بقطرات الندى،
ولكن قد آن وقت فنائي.
وستهب الريح التي تذبل أوراقي. •••
سيأتي الرحالة غدا،
الذي رآني يوما لطيفا شجاعا،
وستبحث عيناه في المزرعة،
ولكن لن يراني أبدا.
ونفذت هذه الكلمات الموافقة لموقف بطلنا كالبرق إلى نفسه، فارتمى هائجا يائسا على قدمي شارلوت، وأمسك بيديها فأدناهما إلى عينيه ثم إلى جبينه، ورأت شارلوت لأول مرة عزمه المشئوم، فأفقدها هذا الخوف الخفي حواسها، فضغطت على يديه بحنو ثم ضمتهما إلى صدرها، وأحنت رأسها بلطف نحوه متأثرة بعاطفة وشعور حلو، فلمس خدها الملتهب خده صدفة، وفي تلك الدقائق المهيجة لم يحسا بشيء سوى ميلهما المتبادل ، فأمسكها فرتر بين ذراعيه، وضمها إلى فؤاده الخافق، وطبع على شفتيها المرتجفتين ألف قبلة ملتهبة، فصاحت بصوت ضعيف مرتعش وهي تحول وجهها عنه: «فرتر! فرتر!» ثم أزاحته عنها بيدها الضعيفة، وتأخرت بضع خطوات، وحدجته بعينين يسطع منهما الجلال والفضيلة، وكررت لثالث مرة: «فرتر!» وغشيته هيبة فجائية، فتباعد باحترام وسقط على ركبتيه، وعادت هي ترتعد نحو الباب، وبصوت ملؤه الشفقة الممتزجة بالاستياء خاطبته قائلة: «هذه هي المرة الأخيرة يا فرتر، لن تراني بعد الآن.» ثم ألقت على المحب المسكين نظرة أخرى هي الحنان مجسما، وأسرعت إلى غرفتها وأقفلت الباب. ومد فرتر ذراعيه إليها، ولكنه لم يحاول منعها، وبقي على الأرض في حالته المحزنة زمنا ما، ورأسه منحن على الأريكة، وأخيرا أيقظه من غفلته صوت الخادم الذي جاء يجهز المائدة، فسار جيئة وذهابا في الغرفة، وعندما خرج الخادم اقترب من باب شارلوت وصاح بصوت ضعيف: «شارلوت شارلوت! كلمة أخرى، وداعا أخيرا.» وأنصت فلم يسمع رجعا، فتوسل ثانية ولكن عبثا، فانطلق خارجا يصيح بصوت مرتعد: «يا شارلوت العزيزة وداعا، وداعا إلى الأبد.»
نامعلوم صفحہ