أجاب عزمي: كانت تفضل أم كلثوم على أي صوت آخر، يمكنك أن تعزف ما تشاء ويناسب عيد الميلاد، حتى بيتهوفن ممكن، لقد وجدت عندها شرائط كثيرة له. لاحظ أن سمعها ضعيف، تماما مثل بصرها، ربما لا تجد أي استجابة من ناحيتها، لكن أرجوك ألا تتوقف عن العزف، نريد أن ننعشها ونسليها قليلا عن مرضها اللعين.
هب جورج والكمان على صدره والقوس يتحرك على الأوتار المشدودة بلحن الليلة عيد، غنى الجميع وراءه وهللوا وصفقوا. لم يبد على المريضة المتخشبة أنها أحست بشيء. لم تحول رأسها أو عينيها الزائغتين نحو النغم المنساب ولا نحو التهليل والتصفيق، وتواصل العزف لحنا بعد لحن وأغنية بعد أغنية؛ شمس الأصيل وهجرتك، مقاطع من غلبت أصالح وسهران لوحدي والأطلال والرباعيات. الكل يتابع ويغني مع الموسيقى الصافية المنسكبة في رقة وحنان، حتى مقطوعتي ضوء القمر ومن أجل إليز اللتين عزفهما جورج باقتدار واستغراق لا نظير له وجدا الاستجابة أيضا من الجميع. ظل الوجه المائل المسنود على كتف الكرسي المتحرك متصلبا على ما هو عليه، وبقيت عينا جورج مثبتتين عليه طول الوقت على أمل أن تتحرك فيه عضلة أو يرتجف رمش أو تهتز شفة بكلمة واحدة. كانت تخرج منهما آهة ممطوطة بين الحين والحين، آهة لا يدري أحد كيف يفسرها ولا يعرف إن كانت تعبيرا عن اليأس والتسليم أم عن الغضب والتمرد العاجز على الشلل الملعون، والمؤكد أن هذه الآهة لم تصل إلى كل الآذان؛ فقد انشغل الصغار والكبار بالرقص حول المشلولة، والتهليل بالغناء على أنغام الموسيقى، ثم بإطفاء الشموع بدلا من الصنم المسكين الغائب عن كل شيء، والانكباب على التهام الجاتوه وقطع التورته مع الشاي.
وأوقف عزمي الضجيج والضوضاء بإشارة حاسمة من يده التي تحمل علبة صغيرة من القطيفة الزرقاء. صاح على الملأ: جاء وقت هدية عيد الميلاد، اسمحوا لي أن أضع هذا العقد اللؤلئي حول عنق جنتنا العزيزة.
اتجهت نظرات الجميع نحو عزمي الذي وقف خلف المريضة وأخذ يلف العقد الناصع حول رقبتها، لم يبد عليها أنها لاحظت شيئا أو اهتمت بشيء، وحتى الآهة التي انطلقت مبحوحة من بين شفتيها الذابلتين لم يكد أحد يحس بها أو يلتفت إليها.
رجع جورج إلى مجلسه على الأريكة التي وضع عليها صندوق الكمان بعد أن شعر بالتعب والإرهاق، وتسمرت عيناه على الوجه المتصلب والعينين التائهتين. غاب هو أيضا عن الجميع فترة طويلة من الوقت ولم تمتد يده إلى الطبق الكبير الذي وضعه بشارة أمامه. أحس أنه يريد أن يخفي وجهه بين كفيه وينشج بالبكاء كما لم يحدث له طول حياته على الأرض. نهض واقفا والصندوق الأسود في يده اليسرى واليمنى تتقدم نحو عزمي بالسلام والرأس تميل على أنيس وبشارة لتقبلهما. حاول بشارة أن يثنيه عن الانصراف مؤكدا أنه سيوصله إلى مسكنه، لكنه اعتذر بضرورة انصرافه بسبب البروفة التي تنتظره في الصباح ولأنه يسكن في نفس الحي ولا داعي لتعب صديقه القديم، هز رأسه محييا الحاضرين، ووقف لحظة في خشوع أمام المريضة كأنه يودع ميتا أو كأنه شارك لتوه في إلقاء التراب على مثواه الأخير. لم يدر ماذا قال لعزمي وبشارة ولا كيف اعتذر لهما. كل ما يدريه أنه وجد نفسه يهبط درجات السلم نفسها التي هبط عليها قبل ثلاثة عقود أو يزيد، وأنه شعر كما شعر في المرة السابقة بالاختناق بالعجز عن التعبير عن إحساساته المرتجفة التي لم يجد اللغة ولا الكلمات التي تطابقها أو تدانيها، وسأل نفسه وهو يمشي فوق الممر المفروش بالرمل والحصى ويخرج من البوابة العتيقة: هل ضاع كل شيء سدى؟ هل وضعت نفسي في الجحيم بإرادتي؟ هل عشت ضحية وهم كبير مخبول لم أفق منه؟ أم كنت أجد نفسي بالمرض الموروث في أهلي وجيلي، قال لنفسه وهو يشق طريقه على شاطئ النيل ويلمح الأمواج الملتمعة والمختلجة بأضواء المصابيح وألوانها: ليكن الأمر ما يكون، لن أتوقف عن العزف ولا عن الحياة، سأواصل وأواصل رغما عن كل شيء.
أحزان الكهل الطيب
قال لنفسه وهو يجتاز بوابة الحديقة التي يتردد عليها أحيانا ويسلم تذكرة الدخول للحارس الطويل الأسمر وعلى وجهه ابتسامة حكيم ممرور ومسامح: نزهة في الخريف تليق بكهل في خريف العمر. وهل عند الخريف الكهل ما يقدمه لكهل يقترب من الشيخوخة إلا الضوء الأصفر العليل، والنسيم الفاتر الذي يرف رفيف عصفور صغير ويتيم، وهامات النخيل والكافور المحنية من ثقل الحزن والضجر والتأمل الطويل والشوق الملهوف إلى نضارة الربيع وغناء الطيور ولعب الأطفال ومواكب العشاق؟ تبسم الكهل وهو يتلفت إلى اليسار ويرى بعض الزوار الملتفين حول النموذج المجسم المحاط بجدران زجاجية طالما أطل من خلالها على معالم الحديقة الشاسعة، ثم تطلع أمامه إلى التل الأخضر الذي ثبتت عليه ساعة تصر منذ زيارته الأخيرة للحديقة على أن تشير إلى منتصف الظهيرة أو منتصف الليل لا يدري.
سار على مهل فوق الأوراق الذابلة كأنها تذكرة بأوراق عمره المنقضي أو بآلاف الأوراق التي سودها خلال ما يقرب من أربعين سنة ولا بد أنها الآن تتعفن أو ترتجف من برد الوحدة والصمت والظلام في كتب مهجورة على الرفوف أو في المخازن المعتمة السوداء. كان قصير القامة ميالا إلى السمنة، وجهه الطفلي الأبيض المستدير تتوجه قمة بيضاء مشعثة تخلو من شعرة واحدة سوداء، وهو يتقدم على الطريق الصاعد ببذلته الخفيفة الداكنة التي لا تلفت الأنظار وكأنه جاء ليودع أصحابه من الأشجار والأزهار والعصافير والأطفال والعشاق المتناثرين، أو ليلقي وصيته الأخيرة عليهم ويفيض على الجميع دفقة حنان الأب الرءوم الذي يوشك على السفر إلى المجهول، ويمشي ويعمل ويأكل وينام وهو في كل لحظة على أهبة الوداع المحتوم. يتدلى من يده كيس من البلاستيك الأصفر يحتوي على حزمة مسودات ومشروعات ورءوس موضوعات يريد أن ينفرد بنفسه كعادته في ركن من أركان الحديقة ليراجعها ويحاول إحياء بذورها التي كادت تموت من طول الإهمال أو النسيان، ومع هذه المسودات نظارته الطبية وقلم رصاص صغير وقطع من الحلوى يمكن عند الضرورة أن تنقذه من غيبوبة الضغط المنخفض الذي طالما سحبه إلى الهاوية السفلية السحيقة. •••
أوصلته خطواته المتأنية الثقيلة على الطريق المرتفع إلى جوار لافتة على شكل سهم مكتوب عليه: إلى حديقة الصداقة. وبينما هو يتجه إلى الدرج الصاعد إلى تلك الحديقة التي تناثر فيها عدد من المعالم البارزة والنماذج الدالة على بعض الدول الشقيقة، إذا به يتسمر في مكانه كتمثال حجري أو خيال مآتة مذهول. سأل نفسه وهو لا يرى إلا ظهرها والطفلة الصغيرة التي تمسكها من يدها وتحاول - رغم صياحها - أن تتركها تصعد الدرجات بنفسها: أيمكن أن تكون هي؟ هل حانت اللحظة الضائعة وآن الأوان - بعد أربعين سنة قاسية - لكي أسلم عليها وأنظر في عينيها وأكلمها للمرة الأولى في حياتي؟ اقترب من الدرجات التي تصعد عليها هي وحفيدتها - إذ لا بد أن تكون حفيدة! - وهو يدقق النظر بقدر ما يسعفه بصره الكليل. لا ليس ثمة شك في أنها هي، ظهرها المنحني تحت تقل حدبة خفيفة في أعلاه، ساقاها السمراوان النحيلتان كأنها من أهل النوبة أو أسوان، شعرها الفاحم الطويل الذي طالما رآه ينسدل على ظهرها وجبينها العريض الناصع، وطالما جذبه الحنين لأن يغرق وجهه في ليله الرحيم الدافئ، يا شد ما تخللته الشعرات البيض وتوغلت فيه أشعة الخريف الصفراء، والخطوات الحازمة الصارمة التي يتردد معها الصوت الصارم الحازم وهو يأمر الصغيرة بألا تلتفت أبدا أبدا للوراء.
تأوه وهو يضع قدمه على أول سلمة في الدرج العالي: ليتك تتلفتين للوراء لتري جارك القديم، أم تراك ستعبرين عليه كما فعلت على الدوام وربما لم تتذكري الحبيب الخائب الذي لم يبادلك كلمة واحدة، ولم يسمع صوتك مرة واحدة، ولم تلمس يده يدك إلا مرة واحدة في لقاء عابر عندما كنت تقفين مع أمك وطفلتيك في مدخل الصيدلية الكبيرة في الميدان الكبير القريب من مسكنك ومسكني في الجوار. أجل! أجل! لا يمكن أن تكون إنسانة أخرى سواك، ولا يمكن أن أضيع هذه الفرصة - بعد أن ضاع العمر كله - دون أن يخاطب لساني لسانك وتنظر عيني في عينك ولو أدى الأمر أن أسير وراءك حتى نهاية العالم، لكن الارتباك الأزلي يبدأ منذ الخطوة الأولى في أثرك، ماذا أقول لك بعد أربعين سنة لم ترك فيها عيناي إلا بمحض الصدفة عند منعطف طريق أو في صحبة ابنتيك وزوجك أو وأنت تطلين علي من داخل سيارة دون أن يدل شعاع من عينيك أو حركة من فمك أنك تعرفت على الجار البائس القديم، وإذا افترضت أنني تشجعت أخيرا وهتفت أناديك باسمك، هل ستتذكرين ملامح وجهي أم ستنكرينها بعد أن حفرتها التجاعيد والأخاديد وصار الشعر في بياض الثلج، وسقطت الأسنان وانتفخت العينان من طول التعب والسهر على الكتب والأوراق؟ وكيف صرت أنت أيتها المحبوبة الظالمة المظلومة بعد أن دارت بنا الأرض أربعين دورة حول الشمس القاسية؟ هل سيصعقني نفس الشعاع الذي كان ينطلق من بريق عينيك السوداوين الواسعتين فيأسرني بأغلاله الفضية ويسحرني ويخرسني كالأبكم الأصم أو يجعلني أتوقف في مكاني كالشحاذ العاشق الذي ينتظر طلعة بنت الأمير في موكبها الرنان، ولا يطمع إلا في لمحة من ضوء نجمتها المستحيلة، ألن أشعر بالحرج الذي بدأ يجتاحني من الآن عندما أقف أمامك وأحاول أن أذكرك باسمي ورسمي وعملي وضياعي وتمزق قلبي ولحمي وأيامي منذ أن تركت مسكني المجاور وأغرقت نفسي - في محاولة يائسة لنسيانك - في بحور المعرفة والكتابة والقراءة فلم يسلم قاربي الصغير من الغدر والخيانة والضياع والاصطدام بصخور الشواطئ التي لم تكن أبدا هي شواطئ النجاة؟! سأراك بعيني كما رأيتك على الدوام؛ جنتي المحظورة وقمري المستحيل وأمي الصغيرة التي حرم من حنانها الطفل اليتيم، وسترينني أنت كما لا بد أنك رأيتني في المرات المعدودة التي شاء فيها بصرك أن يقع علي؛ نفس المقهور المكسور حتى من أقرب الناس إليه، نفس العاشق الخائب الذي لم يسر إلى جوارك مرة واحدة، وها هو يسير وراءك - يا للمفارقة المضحكة المبكية! - كما سار أورفيوس في العالم السفلي الذي نزل إليه بحثا عن حبيبته وزوجته التي اختطفتها آلهة الموت القاسية، لكن الآية انقلبت، وبدلا من أن يسير الشاعر والمغني الأسطوري في المقدمة وتمشي وراءه الزوجة والحبيبة الغالية، أراني ألهث وراءك منتظرا لفتة واحدة منك إلى الخلف، وأراك تشدين يدك على يد حفيدتك خوفا من أن تنزلق على المنحدر الأخضر الذي يفضي إلى طريق ضيق تحفه قناتان صغيرتان ويؤدي إلى الأعمدة المغربية الفاتنة المتلاحمة والمرتفعة كالخيمة الرخامية المثمنة الأضلاع في فناء جامع أو ساحة قصر أندلسي بديع. •••
نامعلوم صفحہ