أخرجه من حصار ذكرياته صوت بشارة وهو ينادي باسمه وصوت صبي صغير يدعوه أن يتفضل بالدخول، وما هي إلا لحظات حتى كان عزمي نفسه، بقامته الطويلة وحيويته البالغة ووجهه البشوش، قد ظهر وراء الباب المفتوح وهو يهلل ويحيي بدفء وحرارة بالغين، ويسلم على جورج بترحيب شديد وهو يلتفت إلى بشارة: أعظم هدية منك يا بشارة (ثم وهو ينظر إلى صندوق الكمان) وهذه أجمل فرصة للاحتفال بمناسبتين سعيدتين في وقت واحد؛ تشريف الأستاذ جورج لأول مرة وأرجو ألا تكون المرة الأخيرة، مع حفلة عيد ميلاد صغيرة لا بد أن الكمان ستملؤها أنسا وبهجة. قال هذا وهو يهتف بصوت عال: تفضلوا، تفضلوا (ثم وهو يميل على أذن بشارة ويسر إليه هامسا) اليوم عيد ميلاد جنة، وأنت تعلم كم هي مريضة.
تفضل الضيفان وراء عزمي والصبي الصغير الذي كان من السهل أن يحدس الزائر بأنه ابنه، وقد أكد عزمي هذا حين قال وهو يشير إلى الأريكة البنية الواسعة وكراسي الفوتي المريحة، هذا هو ابني أنيس، أول العنقود وآخره، أمه تتغيب عنا يومين في الأسبوع بسبب المحاضرات التي تلقيها بجامعة الإسكندرية. لم أستطع أن أؤجل الاحتفال بعد أن تعرفت عليك يا أستاذ جورج؛ لهذا اغتنمت الفرصة العظيمة عندما رأيتك عند بشارة، وسترى بنفسك أنه لم يكن يحتمل التأجيل، هيا
والتقصير، وشكرا لك يا بشارة على هذا الشرف العظيم.
حاول جورج الذي ثبت صاحب البيت عليه عينيه أن يقول شيئا، لكن شفتيه تحركتا قليلا ولم يخرج منهما صوت. شعر أن الرد الملائم على مجاملة عزمي هو أن يخرج كمانه من جرابه ويعزف شيئا يحيي به البيت وأهله، وانحنى بالفعل على الصندوق وأخرج رفيقة العمر ووضعها على حجره. لم يغب عنه أن يلاحظ التغير الذي طرأ على الأثاث والسجاد والثريات المتلألئة في السقف عما كان عليه الحال قبل ثلاثة عقود أو أكثر، وأكد هذا ما قاله عزمي وهو يخبط بكفه على كتف بشارة: تغييرات كثيرة كما ترى، لتشعر كم أنت مقصر في زيارتنا. حاول بشارة أن يعتذر بدوامة الأيام والأعمال، وربت عزمي على ظهره وهو يقول مطرقا برأسه إلى الأرض: ليته اقتصر على الأثاث وحده (ثم وهو يخفض صوته كأنه لا يريد أن يسمعه أحد سواه) بعد مرض جنة المفاجئ كان لا بد من التصرف بسرعة، مات زوجها كما تعلم في حرب ثلاثة وسبعين، وزوجت بنتيها في الأعوام الخمسة الأخيرة مما أرهقها وأتعبها تعبا شديدا، وحين فاجأها المرض الملعون وفاجأنا لم يكن من الممكن أن نتركها تعيش وحدها وهي بهذه الحالة فأحضرناها لتعيش معنا ونستطيع رعايتها وتدبير العلاج اللازم لها في كل الظروف (وأضاف وهو يضع يده على وجهه ويكاد يبكي) الأمر لله، هي مأساة كبيرة ولا حيلة لنا. شد بشارة على يده وقال محاولا أن يخرج صديقه والضيف الحاضر من إطار اللوحة القاتمة: يا أنيس، الحقنا يا بني بالحاجة الباردة قبل الشاي. قال عزمي وهو ينهض متجها إلى الداخل ويهتف بصوت مرح يحاول أن يكون طبيعيا: يا أنيس، هل غرقت في شبر ماء؟ أين العصير يا بني؟
في هذه الأثناء كان جورج قد أخرج الكمان من الصندوق وأخذ يمر بأصابعه على الأوتار والمفاتيح في رفق وهو يضع أذنه بين الحين والآخر على الجسد الخشبي المحتشد بشتى الأنغام . تطلع أمامه وفوقه وحواليه في هدوء وراحت أجنحة خياله تحلق في سماء اللقاء القديم. لم يسأله أحد أن يعزف شيئا محددا، ودون أن يدري وجد نفسه يسبح على أمواج ذكريات القصبجي، كما وجد الحاضرون أنفسهم يغوصون مع اللحن في دهاليز الوجوم والاكتئاب والحنين والندم والحسرة والتسليم للتعاسة الخالية من أي أمل. كانت الصينية وعليها أكواب العصير والمشروبات المتنوعة قد وضعت على المائدة، حتى أنيس الذي أحضرها وقف متجهما وكاد أن يغرق في نهر النغم الحزين، واستطاع عزمي أن يخلص نفسه من أسر اللحن المعتم فاقترب من جورج وهو يتكلف الضحك وفي يده كوب من عصير البرتقال وقال له: لاحظ يا أستاذ جورج أننا سنحتفل الليلة بعيد ميلاد، أرجوك أن ... رد عليه جورج وهو يضع الكمان بجواره على الأريكة: معذرة يا أستاذ عزمي، سأحاول أن أخرج من جو الذكريات. وأضاف بشارة وهو يربت على يد جورج: ادخل في الجو المرح أرجوك، ستأتي بناتها الآن ومعهن الأزواج والأولاد، هذا ما فهمته من عزمي، الست مريضة جدا ولا داعي للمزيد.
دق جرس الباب ودخلت سيدتان شابتان في ملابس ملونة ومبهجة، وظهر وراءهما شابان يفيض وجهاهما بالصحة والنضارة، وضعا علب الهدايا التي يحملانها فوق المائدة المستطيلة وانطلقا إلى الداخل مسرعين بعد تحية عابرة للحاضرين، ونادى عزمي على ابنه: قل لهم يحضروا عمتك يا أنيس، نريد أن نسمع ونأكل ونحتفل معها، أليس كذلك يا حضرات؟
لم تمض لحظات حتى ظهر كرسي متحرك يدفعه أنيس من الخلف وتجلس عليه مريضة متصلبة ومتخشبة، رأسها مركون على المسند في أعلى الكرسي وخلف ظهرها وتحت قدميها مسندان آخران من قماش أحمر بخطوط سوداء. صفق بشارة وهو يسرع للمشاركة في دفع الكرسي المتحرك: هابي بيرث داي ... هابي بيرث داي تو يو. وردد عزمي وأنيس والزوجان الشابان اللذان ظهرا وراء الكرسي: والليلة عيد، عالدنيا سعيد ...
بدأ الجميع ينهمكون في صف الأطباق والأكواب وعلب التورتة والجاتوه والحلويات التي أحضرها الضيوف. حملق جورج في الوجه المتقلص الذي اعوج فكاه وزاغت فيه العينان ولفه التعب والإرهاق وأطبق عليه الهمود والجمود، أخذ يفتش فيه عن الوجه القديم الذي كان يرتعش لمرآه ويحس كأن صاعقة ضربته وداهمته من العينين الناريتين. هل هذه هي جنة التي عشت ثلاثين سنة في جحيم ذكراها؟ أهذا هو الوجه الذي كان يسحرني ويفتنني بملامحه الحادة المضيئة، وأنفه السامق المتكبر، وشفتيه المحمرتين الممتلئتين، وغمازتيه العابثتين الماكرتين تحت الوجنتين البارزتين، والشعر الأسود المسترسل كفرعي صفصاف على شاطئ ترعة أو بحيرة؟ أهذه جنة التي لم أعرف اسمها إلا اليوم، جنة التي كرست حياتي وألحاني ونومي وصحوي ونبضي وأنفاسي لتمجيد اسمها وإحياء جذوة حبي اليائس البائس لها وصونها من الذبول والخمود والسأم؟ ماذا أرى الآن أمامي؟ حطام إنسان أحببته بلا أمل وتوحدت من أجله ورفضت أن يكون لي ملهم أو رفيق حياة سواه؟ كيف تحول إلى صنم متحجر، مجموعة أعضاء متشنجة عاطلة من الحركة والجمال والوعي؟ وأنا الذي حلمت أن أراك عن قرب وأسلم عليك وأبادلك الكلام مرة واحدة ولتكن الأخيرة قبل أن يغيبني قبري؟ ما الذي جرى لك وأي لعنة وأي شيطان فعل بك ما فعل؟
أفاق جورج على صوت هامس في أذنه. كان عزمي يميل برأسه عليه ويسر إليه بما غاب عنه: إنه الشلل بعيدا عنك، أصابها في المخيخ ولم نستطع أن نفعل شيئا، قال الأطباء إنها ستبقى هكذا ولا أمل في أي تحسن، أرجوك أن تبدأ العزف حتى نحتفل وننسى.
سأل جورج: وماذا تفضل؟ هل أعزف موسيقى أغاني أم كلثوم أم موسيقى عبد الوهاب أم ...
نامعلوم صفحہ