وإن سَأَلَ الْمُتَظَلِّمُ فِي قِصَّتِهِ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَا بد من أن يكون الخصم في القصة مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةً، لِتَصِحَّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لم يسم الخصم، ولم يذكر الْخُصُومَةُ لَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وِلَايَةً عَامَّةً، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا، وَلَا خَاصَّةً لِلْجَهْلِ بها.
فإن سَمَّى رَافِعُ الْقِصَّةِ خَصْمَهُ وَذَكَرَ خُصُومَتَهُ، نُظِرَ فِي التَّوْقِيعِ بِإِجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ فَإِنْ خَرَجَ مخرج الأمر فوقع " أجبه إلى ملتمسه" أو " اعمل بِمَا الْتَمَسَهُ" صَحَّتْ وِلَايَتُهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بهذا التَّوْقِيعُ. وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ لِلْحَالِ، فَوَقَّعَ " رأيك في إجابته إلى ملتمسه موفقا". فَهَذَا التَّوْقِيعُ خَارِجٌ فِي الْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّةِ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَالْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهَا مُعْتَادٌ. فَأَمَّا فِي الأحكام الدينية، فقد أجازه طائفة من الفقهاء، اعتبارا بالعرف فيه، وصحت الْوِلَايَةُ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَوَازِهِ، وَانْعِقَادِ الولاية، حتى يقترن به أمر تنعقد به الولاية، اعْتِبَارًا بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ. فَلَوْ كَانَ رَافِعُ الْقِصَّةِ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَوَقَّعَ بِإِجَابَتِهِ إلَى ملتمسه، فمن اعتبر العرف المعتاد صحح الولاية بهذا التوقيع. ومن اعتبر معاني الألفاظ لم يصحح بِهِ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهُ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يسأل الحكم. الحالة الثانية من التَّوْقِيعَاتِ: أَنْ يُحَالَ فِيهِ عَلَى إجَابَةِ الْخَصْمِ إلَى مَا سَأَلَ، وَيُسْتَأْنَفَ فِيهِ الْأَمْرُ بِمَا تَضَمَّنَهُ، فَيَصِيرُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ في الولاية. وإذا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالُ كَمَالٍ، وحال جواز، وحال تخلو عن الأمرين: أما الحال الَّتِي يَكُونُ التَّوْقِيعُ فِيهَا كَمَالًا فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ، فَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بالنظر. والثاني: الأمر بالحكم فيه، فَيَذْكُرُ فِيهِ " اُنْظُرْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَاحْكُمْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، وَمُوجَبِ الشَّرْعِ". فهو أكمل التوقيعات. وإن لم يذكر في التوقيع " بالحق وموجب الشرع" جَازَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحَقِّ الذي يوجبه حُكْمُ الشَّرْعِ. وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي التَّوْقِيعَاتِ، وصفًا لا شرطًا. فإذا كان التَّوْقِيعُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ النَّظَرِ، وَالْحُكْمِ، فَهُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِلُ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ وَالْوِلَايَةُ.
وأما الحالة التي يكون التوقيع فيها جَائِزًا، مَعَ قُصُورِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، فَهُوَ أن يتضمن الأمر بالحكم دون النظر فيه، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ " اُحْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ" أَوْ يَقُولُ " اقْضِ بَيْنَهُمَا" فتصح الولاية بذلك، لأن الحكم والقضاء لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو منه.
1 / 89