احادیث المازنی
أحاديث المازني
اصناف
وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه ويقصر عنه فيقف الفأر المسكين جامدا لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر وأن في وسعه أن يذهب ويجري. والقط ساكت لا يمد إليه يدا ولا يبرز مخلبا فيطمئن الفأر ويشرع في الهرب وهو يتلفت حتى إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك في سره وغرس في جنبه مخالبه وراح يشكه بها شكا يكون خفيفا تارة وثقيلا أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى - وعينه عليه - ويكتفي بأن يربض ويتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم.
ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كان آخر ما لقي منه لا يزال شديد فيتشهد ويقول «يا حفيظ. أعوذ بالله.. على وجه من أصبحت في يومي المنحوس هذا يا ترى.. على كل حال.. الحمد لله.. قدر ولطف.. ترى أين ذهب هذا الوحش الضاري.. يا حفيظ يا حفيظ. الله استرنا.. المهم الآن أن أذهب إلى جحري فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التي لا آمن أن يثب علي فيها قط آخر - والعياذ بالله».
ويتوكل المسكين على الله يقول «هيه. يا معين ويروح يجر رجليه رجلا بعد رجل، وذيله مسحوب وراءه على الأرض، ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه من الدم القاني، فيمضي إلى الجحر وهو لا ينظر إلى اليمين ولا إلى الشمال ولا قدامه ولا خلفه، حتى إذا قارب الجحر وانتعشت نفسه قليلا وعظم أمله في النجاة والسلامة وطول العمر وهم بوثبة أخيرة إلى حيث لا تدركه القطط ولا تستطيع أن تتبعه إذا بالقط المتربص على ظهره ومخالبه في لحمه الطري فيدرك الفأر اليأس ويستسلم ويقول في سره وهو يؤكل عسى الله أن يعوضني يوم النشور دارا أخرى لا قطط فيها.. ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفيران.
والقطط تولد عمياء مطبقة الأجفان فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعني بها ونتعهدها ونسقيها اللبن الذي هو لطعامنا ونبرها ونسرها سنة بعد سنة ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهي الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوما وأن توصد الأبواب ونحن لا ندري أن القط في إحدى الغرف ونغيب شيئا ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير ويتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه - ما في ذلك شك - فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب والقط يموء بل يعوي ويتوثب كالمجنون وقد نسي كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو افتراس هذا الذي دخلها عليه وإن كان سيده وصاحب الفضل عليه.
وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين فما أحب القطط كما أسلفت. وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو بابا مواربا فيدخل القط ويمضي إلى أواني الطعام ويكشف عنها الغطاء - أي والله ولو كانت من النحاس الثقيل - ويلتهم كل ما بقي..
وقد كان لي جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعا..
وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح في الليل - والصوت في الليل يسري - «يا حنيفة.. هل أغلقت باب المطبخ» فتصيح حنيفة من مرقدها والنوم يغالبها «أيوه يا سيدي..» فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول «يحسن أن تقومي وتستوثقي وبعد قليل اسمعه يؤنبها ويقول لها «ألم أقل لك هذه النافذة لم تكن محكمة الإيصاد.. وهذا الباب.. أنظري.. لو دفعه إنسان بيده لانفتح» فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول «لا يا بنتي.. دوري قبل النوم على كل باب وكل نافذة وامتحني كل منفذ بيدك لتتحققي». «وكنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل نفسي عما يخيفه وهو في عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان يغلق بابها بالمفتاح ويضعه - أعني المفتاح لا الباب - في جبيه.
فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق ويقرع الباب.. ثم زال عجبي لما بلوت قطط الجيران.. وأيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط.. وله العذر.
والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح وما أظنهم إلا صدقوا ومن كان يشك في ذلك فيتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالي فلا يزيد على أن ينظر يمنة ويسرة - فإن في القطط تحرزا شديدا - ثم ينهض ويمضي كأنما كان قد انحدر على بساط كهربائي. وتضربه بالحجر فلا يهيبه بل يرتد عنه. وهو مثال الفردية الصارخة والأثرة المجسدة.
وما رأيت قطتين اتفقتا قط وما اجتمع قطان في مكان إلا تحفزا للقتال فترى كلا منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويقول «واووووووو» ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره.
نامعلوم صفحہ