وهما يزعمان أنهما من المستكشفين الذين يطوفون في الأرض، ويجوبون أقطارها ويألفون خشونة العيش ويزهدون في الترف وما يتصل به، وهما من أجل ذلك يصرفان الخدم ولا يقبلان مما يعرضون عليهما شيئا، فإذا خلا كل واحد منهما إلى صاحبه وأغلق من دونهما الباب عرفنا أنهما لم يكادا يفارقان المطعم حتى استأنفا سعيهما إلى الموت وتدبيرهما لفراق الحياة، وكان الفتى يملك ساعة ذهبية فباعها واشترى بثمنها هاتين الحقيبتين ثم أقبل بهما مع صاحبته إلى الفندق الفخم يلتمسان الموت، وهما لا يريدان أن يموتا موتا يسيرا مبتذلا، وإنما يريدان أن يموتا موتا فخما في مطعم مترف أو في فندق عظيم، وقد حيل بينهما وبين الموت في المطعم ولكنهما أصابا فيه غداء حسنا، ولن يحال بينهما وبين الموت في هذه الغرفة التي أغلق بابها من دونهما إغلاقا، وأمامهما ساعتان يجب ألا تنقضيا حتى يكونا قد قطعا الأسباب بينهما وبين الحياة والأحياء، وهما كما رأيناهما في الفصل الأول يستقبلان الحدث العظيم مبتهجين أشد الابتهاج، ولكن هذه الخلوة في هذه الغرفة الأنيقة من وراء هذا الباب المغلق تثير في نفسيهما الغريرتين شيئا من الاضطراب الغامض الذي لا يتبينانه في وضوح، ولكنهما يحسانه إحساسا قويا ويظهر أثره في حديثهما وحركاتهما وما يتبادلان من نظرات.
وهذه الفتاة قد دخلت الحمام فلم تكد تراه حتى شغفها ما فيه من جمال وزينة، وهي مشوقة إلى أن تستحم في هذا الحوض وتلف جسمها في هذا الرداء وتستمتع بهذا الترف النادر لحظة قبل أن تموت، وصاحبها لا يأبى عليها ذلك وإنما يرخص لها فيه، فقد ذهبت لتستحم، وبقي الفتى يكتب كتابا آخر لأبيه، وهي تحدثه من حمامها وهو يجيبها، ونحن لا نحس في حديثهما كله إلا صفاء ونقاء، وعفافا وطهرا واضطرابا شديدا مع ذلك، ولكنه اضطراب يجهلان مصدره كما يجهلان غايته، وهذه الفتاة قد أقبلت من الحمام ملتفة في ردائه، سعيدة راضية ناعمة البال، تداعب صاحبها وتلاعبه، ثم تعزم عليه أن يفعل كما فعلت وأن يستحم في الماء الذي استحمت فيه، والفتى يمانعها ويأبى عليها، ثم يستجيب لها ويذهب إلى الحمام ويعود بعد حين وقد التف في رداء من أردية الحمام، ولكنه يرى الفتاة واجمة ذاهلة، تريد أن تسأل عن شيء، ولكنها لا تستطيع لأنها لا تجد وسيلة إلى السؤال، وهي لا تثق بأن صاحبها سيجيبها إن سألته.
والفتى يلح عليها في أن تلقي سؤالها وقد أخذ الاضطراب يسعى فيه كما سعى فيها، ولكنه يقاوم هذا الاضطراب مقاومة حسنة، ثم يستبين الأمر، ويعرف هذا السؤال الذي لا تستطيع الفتاة أن تبين عنه، فهما عاشقان، وقد أتيح للغريزة أن تعرب عن نفسها، ثم أن تفرض نفسها على العقل والإرادة فرضا، وكانت الفتاة أسرع إلى الانهزام من الفتى، فهي تسأل وتلح في السؤال وهي تدعو وتلح في الدعاء، هادئة حينا ثائرة حينا آخر، وديعة مرة عنيفة مرة أخرى، وقد قاوم الفتى ما استطاع أن يقاوم ذاكرا طهرهما ونقاءهما وما ينبغي لهما من الاحتفاظ بهذا الطهر والنقاء، ولكن الفتاة يائسة من الحياة وهي تستقبل الموت وستلج بابه بعد لحظات، ففيم الاحتفاظ بشيء، ولم الاحتفاظ بشيء؟ وقد ضعف الفتى، وأخذت الهزيمة تدركه، ولكن طرقا خفيفا يمس الباب فيفرق بين هذين العاشقين، ثم يفتح الباب ويدخل عاملان يريدان أن يتعهدا أسلاك الكهرباء، وإذا هذه الخلوة التي قطعت على هذين العاشقين قد فرضت عليهما، فهما يدعان للعاملين هذه الغرفة ليتعهدا فيها أسلاك الكهرباء، ويخلوان في غرفة أخرى، ونرى نحن العاملين يعملان ونسمعهما يتحاوران، ثم نراهما ينصرفان بعد أن أتما عملهما.
ويظل الملعب خاليا أمامنا لحظات، ثم يقبل العاشقان، وقد تغير من أمرهما كل شيء فهما قد عرفا الحب، وهما مع ذلك يستقبلان الموت أكثر سعادة وابتهاجا مما كانا قبل حين، وهما يهيئان سمهما في قدحين وهما يخلطان الدعابة بالجد، ويخلطان الحب بالموت، وقد شربا قدحيهما واضطجعا معا على مضجع واحد، لا يجدان ألما، وإنما يحسان سعادة ونعيما ويتبادلان أحاديث تتقطع قليلا في صوت يخفت شيئا فشيئا، حتى لا يكاد يسمع، ثم يلقى بيننا وبينهما الستار، ولا ينبغي أن تحزن أيها القارئ، ولا أن يأخذك شيء من الأسى، فهذا الستار يرفع أمامك، وانظر فسترى هذين العاشقين قد أغرقا في نوم عميق، ولكن أين هما؟ إنهما في غرفة من غرف أحد المستشفيات في باريس قد وضعا في سريرين متجاورين، وأنت تراهما، فلا ترى موتا، وإنما ترى نوما عميقا، ثم انظر فهذه الممرضة قد أقبلت تسعى بين يدي الأستاذ الطبيب، وهذا الطبيب ينظر إليهما، ثم يلتمس نبضهما، ثم يدعوهما فلا يجيبان، ثم ينصرف عنهما مطمئنا مستيقنا أنه قد استنقذهما من الموت الذي ألقيا نفسيهما في أحضانه منذ ثلاثة أيام.
ولا يكاد الطبيب ينصرف عنهما حتى يتحرك الفتى قليلا ثم تتصل حركته، ثم تبلغه اليقظة شيئا، وإذا هو يتحدث إلى نفسه، وإذا هو مستوثق أنه في العالم الآخر، وقد لمست يده ريشة نجمت من الوسادة التي أسند إليها رأسه فهو يظن أنه قد أصبح ذا جناحين يطير بهما في العالم الذي لا ينتهي، وهو يلتمس أصل جناحيه فلا يجد شيئا، واليقظة تسعى إليه، ثم تهجم عليه، وإذا هو قد أفاق، وإذا هو يفتح عينيه، ويرى ما حوله، ويستيقن أنه لم يمت، وإذا هو يرى صاحبته مغرقة في النوم، وهو يدعوها، ويدعوها، ويصيح بها، ويلح عليها، ثم ماذا؟ إنها هي أيضا تتحرك ثم تستيقظ، ثم تفيق ثم ترى صاحبها، ثم تسأله أين هما، فيجيبها مازحا نحن في السماء، ثم ينتهيان إلى هذه الحقيقة التي لا يعرفان أحلوة هي أم مرة، وهي أنهما لم يموتا، وهذه الممرضة قد عادت إليهما فتراهما مستيقظين، وتبشرهما بالإفلات من الموت فلا يفرحان، ولعلهما إلى الحزن أقرب منهما إلى الفرح، فما خطب الأسرتين؟ وماذا قالتا حين انتهى إليهما النبأ؟ وماذا تريدان أن تصنعا بهما ؟ وهذه الممرضة تنبئهما بأن رجلا وامرأة يريدان أن يرياهما، والفتيان مشفقان أشد الإشفاق من هول ما سيريان وما سيسمعان.
فإذا أقبل هذان الزائران عرفنا أنهما عم الفتى وعمة الفتاة قد وكلت إليهما الأسرتان العناية بهذين الآثمين اللذين لا يستحقان من أهلهما عناية ولا حماية، وهذان الزائران يغلظان للمريضين، ثم ينبئانهما بما قرر أهلهما في أمرهما، فسيتزوجان، ولكن كل صلة بينهما وبين الأسرتين مقطوعة لا سبيل إلى وصلها، وعليهما أن يكسبا حياتهما، فأما الفتاة فستعمل في تجليد الكتب، وأما الفتى فسيعمل مع أحد المقاولين، وقد انصرف الزائران وخلا كل من العاشقين إلى صاحبه وقد أفاقا من نومهما حقا، وأفاقا من أحلامهما أيضا، فأين الحب وبهجته، وأين الموت وراحته من هذه الأحاديث التي كانا يسمعانها، أحاديث العمل والجد والكد والفقر والجهاد في سبيل الحياة؟! وأين هذا الترف الذي كانا يفكران فيه قبل أن يموتا، ويبأسان منه حين كانا يلتمسان الموت، من هذا الشظف الذي يقبلان عليه؟! وهذا الفتى الذي كان طالبا في مدرسة الفنون الجميلة يتهيأ لهندسة العمار، لن يكون مهندسا، ولن يشيد الدور والقصور والكنائس الفخمة، ولكنه سيكون عاملا عند أحد المقاولين!
هما محزونان وهما يترددان بين احتمال الحياة المرة التي تعرض عليهما والرجوع إلى الموت الحلو الذي خرجا منه، ولكن زائرا قد أقبل عنيفا غليظ الصوت، كثير اللوم، حلو النفس مع ذلك، لا يكاد العاشقان ينظران إليه حتى يعرفاه، فهو شارل خادم المطعم قرأ قصتهما في الصحف فأقبل يسأل عنهما، وهو سعيد لنجاتهما، وهو بر بهما عطوف عليهما، إنه يقرضهما ما يحتاجان إليه من مال ليستقبلا حياة هادئة وليتم الفتى درسه، إنه يحمل إليهما بعض ألوان الطعام التي أحباها في المطعم منذ أيام، إنه يطعمهما بيديه ويأخذ عليهما عهدا ألا يسعيا إلى الموت مرة أخرى.
هذه القصة كما لخصتها لك يسيرة أشبه شيء كما قلت بأحاديث العامة في أسمارها، ولكني أزعم أنك لا تستطيع أن تقرأها بالفرنسية حتى تفتن بها وتحاول أن تعيد قراءتها، فهي قد كتبت في أسلوب عذب سهل مؤثر حقا، ولكن النقاد ينكرون - كما قلت - على الكاتب أمورا، فهذا الخادم شارل قد أقبل في الفصل الثالث لينقذ الموقف ليس غير، لا تدعو القصة إلى مقدمه وإنما هو قد اخترع اختراعا، وهذه الدعابة المتصلة والمزاح المستمر قبل الموت وبعد الموت، شيء غير مألوف، وهاتان الأسرتان اللتان تنتهي القسوة بهما إلى هذا الحد لا يعرفهما الناس في الحياة المتحضرة، والقصة بعد هذا كله متأثرة بقصة شكسبير روميو وجولييت، وعنوان القصة مشتق من قصة شكسبير، فالعاشقان يختلفان وقتا ما في سن جولييت أكان خمس عشرة سنة أم كان اثنتي عشرة سنة، ولكن أخذ القصص الرائعة الخالدة وتعصيرها كما يقول بعض الكتاب مباح بشرط ألا يكون فيه إفساد لهذه القصص، ولا إخراج لها عن طورها الرائع الجميل.
وكل هذه الملاحظات في نفسها وجيهة معقولة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن النظارة قد وجدوا في شهود القصة راحة ومتاعا، وأن القراء يجدون في قراءتها راحة ومتاعا أيضا، فقد يكون الكاتب مقصرا في ذات الفن، ولكنه لم يقصر من غير شك في ذات النظارة ولا في ذات القراء، ومن الكتاب من يكفيه هذا المقدار من الإجادة.
مدام خمسة عشر
نامعلوم صفحہ