بعد الصيف
بين كأسين
صريع الحب والبغض
فجاءة فاجعة
الذوق
من عمل الشيطان
الفأل
يأس
ربع مية
من وحي الريف
نامعلوم صفحہ
رحلة
في الثقافة
ذات القفاز الأخضر
سن جولييت
مدام خمسة عشر
بعد الصيف
بين كأسين
صريع الحب والبغض
فجاءة فاجعة
الذوق
نامعلوم صفحہ
من عمل الشيطان
الفأل
يأس
ربع مية
من وحي الريف
رحلة
في الثقافة
ذات القفاز الأخضر
سن جولييت
مدام خمسة عشر
نامعلوم صفحہ
أحاديث
أحاديث
تأليف
طه حسين
بعد الصيف
ربوة تلقى حين ترقى إليها جهدا عظيما؛ لأنها لم ترتفع في الجو رويدا رويدا، ولم تدبر صعودها فيه تدبيرا، وإنما وثبت إليه وثوبا مفاجئا، فقامت أمامك كما يقوم الجدار، فأنت لا تصعد فيها تصعيدا هينا لينا، وإنما تصعد تصعيدا شاقا عسيرا، فإذا انتهيت إلى قمتها وجدت الأرض قد انبسطت لك واستوت، فليس فيها عوج ولا التواء، وأحسست كأنك ارتفعت فوق هذه الحياة المضطربة المختلة التي يجري نهرها في القرية تحت قدميك، يملؤها الكدر والغثاء، وأحسست كأن الشركة بينك وبين هذه الأحياء التي يزدحم بها النهر قد انقطعت، وكأنك من جوهر مصفى لا يشارك هذه الجواهر الكدرة في شيء، ثم أحسست كأن ضغط الهواء قد خف وكأن في نفسك وجسمك ميلا شديدا إلى الارتفاع والعلو، وكأنك تريد - لو خلي بينك وبين ما تريد - أن تطير في الجو، وتعيش مع هذه الأحياء الأخرى التي تتخذ الهواء ميدانا لما تأتي من حركة وما تنفق من حياة.
ثم تنظر فإذا صدق لا ترف فيه ولا تأنق، قد قام في ناحية من هذه الربوة، يدعوك إلى الراحة والحياة المطمئنة، حين تود لو تظفر بالراحة والحياة المطمئنة، بعد أن تشارك هذه الطبيعة القوية فيما هي فيه من حياة ونشاط، وقد انبسطت أمام هذا الفندق مروج لا تكاد تنتهي، وقامت في هذه المروج هنا وهناك أشجار تنفرد حينا وتجتمع حينا آخر، وتختلف فيما بينها اختلافا غير قليل؛ فمنها ما يثمر للإنسان ألوان الفاكهة، ومنها ما يمنحه الظل والجمال. وقد انتشرت في الجو المرتفع لهذه المروج ضروب من الطير مختلفة الأصوات والنغم، متباينة الألوان والأحجام، ولكنها تشترك كلها في الغناء والنشاط، وانتشرت في الجو المنخفض لهذه المروج ضروب من الحشرات الصغار الدقاق، تريد أن ترتفع فلا تواتيها القوة، فتظل قريبة من هذه الأرض الخضراء، واستخفت بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة حشرات أخرى مختلفة متباينة لا تكاد ترى ولا تكاد تحس، لولا أنها تستلذ الحياة في هذه المخابئ الوثيرة، وتستلذ ما يصل إليها من هذا النسيم الخفيف الأرج، وتستلذ حياتها الضئيلة اليسيرة كلها، فتندفع إلى غناء مختلف مؤتلف، ولكنه متصل على كل حال، وقد نجمت من بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة، وحول هذه الأشجار القائمة الشاهقة في الجو، نجوم تحمل ألوانا مختلفة من الزهر، وتنشر ضروبا متباينة من الورق النضر، ثم غمر هذا كله عرف لذيذ حلو حاد يبعث في الأنف لذة وفي النفس نشوة، وفي الجسم قوة ونشاطا، واستزادة من الحياة.
وهذا كله يختلف من حين إلى حين، حين تبسم له الشمس، فتلقي عليه أشعتها الحارة الهادئة، وحين تعرض عنه الشمس، فتنشر بينها وبينه سحابا رقيقا، وحين تغضب منه الشمس، فتحتجب عنه احتجابا، وتنشر بينها وبينه سحبا كثافا، وحين تسخط عليه الشمس، فتقطع ما بينها وبينه من صلات المودة والحب، وتخلي بينه وبين هذه السحب الكثاف، فإذا هي تصب عليه الماء صبا، أو تحصبه بالبرد حصبا، وأنت تشهد هذا كله مستمتعا به منغمسا فيه حين ترضى الشمس، ومتحفظا حين تسخط، ومترددا بين هذا وذاك حين تعرض إعراضا يسيرا أو عسيرا، فأنت تحيا في المرج حينا منقطعا له، ممتزجا به، أو منصرفا عنه بعض الانصراف إلى حديث عذب، أو كتاب ممتع، وأنت تهيم في المرج حينا آخر صارفا نفسك مرة إلى السماء من فوقك، ومرة إلى هذه الأرض الخضراء تحت قدميك، ومرة إلى ما بينهما من الشجر والزهر، تمتع بهذا كله نفسك وحسك وقلبك وعقلك، وتستمتع بهذا كله استمتاع الرجل الذي قد استكمل الحياة، فلم يجد فيها نقصا ولا ضعفا، حتى إذا أدركك المساء وتقدم بك الليل وعرفت أن هذه المروج لن تحسن ضيافتك ولا مؤانستك، وأن هذه القرية التي تضطرب في الحضيض بما يملؤها من سخف الحياة وباطلها لن تقدم إليك ما تقدمه إليك المدن من هذا اللهو الراقي الممتاز الذي هيأته الحضارة للمتحضرين؛ آويت إلى غرفتك وسمرت فيها مع كتاب ممتع من هذه الكتب، التي يحول العمل بينك وبينها أثناء العام، ولا تستطيع أن تفرغ لها إلا في الصيف، وما تزال في ذلك حتى تحس الحاجة إلى النوم، فتأوي إلى مضجعك وتستسلم فيه لراحة هادئة حلوة مطمئنة، حتى يوقظك غناء الطير، فتستأنف الحياة كما بدأتها أمس، وكما ستستأنفها غدا وبعد غد، حتى تدعوك ضرورة الحياة إلى أن تهبط من هذه الربوة وتخرج من هذه العزلة وتنغمس في هذا النهر الكدر الذي نسميه حياتنا اليومية.
على هذا النحو قضيت الصيف بعد أن أنفقت في مصر أعواما لم أذق فيها للراحة طعما، ولم أعرف فيها للهدوء والطمأنينة ذوقا، وكم كنت قد دبرت من خطة، وهيأت من عمل لهذا الصيف، وقد كنت أحدث نفسي بأني سأستريح بعد جهد وجد، وسأخلص من هذه المشاغل السخيفة التي تملأ الحياة في مصر، وسأوفق بين راحة الجسم ونشاط العقل، وبين التروض والإنتاج، فأكتب الرسائل وأفرغ للدرس، وقد أتم كتابا ما زال ينتظر أن يتم، وقد أعود إلى مصر وقد أخذت من القوة أعظم حظ ممكن، وجنيت من هذه المروج والرياض زهرات أنسقها تنسيقا، ثم أقدمها إلى الناس في كتاب أو كتب.
نعم، وكم فكرت فيما يمكن أن أكتب، وكم فكرت فيما يمكن أن أدرس، ولكني أعود إلى القاهرة بعد هذه الرحلة الطويلة، بعد هذه الأشهر الثلاثة التي أنفقتها على تلك الربوة، وفي تلك المروج، أو على ربوة ومروج تشبهها من قريب أو بعيد، أعود ولم أكتب فصلا، ولم أتم كتابا كان ينتظر أن يتم، ولم أبدأ كتابا كنت أحب أن آخذ فيه.
نامعلوم صفحہ
أعود فارغ اليدين كما سافرت فارغ اليدين، والغريب أني لا أحس حزنا ولا ألما ولا أسفا، ولا ألوم نفسي على شيء، ولا أكره ما قد يتحدث به إلي الشيطان من أني قد أضعت الوقت في هذه الأشهر الطوال.
ذلك أن إضاعة الوقت شيء إضافي يختلف باختلاف الظروف وباختلاف التقدير، فلعلي أضعت الوقت بالقياس إلى الصحف التي كانت تريدني على أن أكتب لها الرسائل، وبالقياس إلى الناشرين الذين كانوا يريدونني على أن أتم لهم كتابا، أو أبدأ لهم كتابا، وبالقياس إلى بعض القراء القليلين الذين كانوا يحبون أن يقرءوني من حين إلى حين.
لعلي قد أضعت الوقت بالقياس إلى هؤلاء، ولكني واثق بأني لم أضع الوقت بالقياس إلى نفسي، فقد حييت في هذه الأشهر الحياة التي أرضاها: حياة الراحة النقية والقراءة الخصبة المتصلة المختلفة، ولو أني خيرت لما عدلت بهذه الحياة حياة أخرى، مهما تكن ظروفها، ومهما تكن ألوان الإغراء بها والترغيب فيها، بل من يدري؟ لعلي لم أضع الوقت على هؤلاء، فقد أنفقت أربعة أعوام لا تكاد تنقطع فيها كتابتي إلى الصحف وأحاديثي إلى القراء، فمن يدري؟ لعل الصحف كانت في حاجة إلى أن أريحها، ولعل القراء كانوا في حاجة إلى أن أرفه عليهم، فقد يكون من حق الكاتب نفسه أن يستريح، ولكن من حق الكاتب على نفسه أن يريح أيضا، وقد أرحت القراء وأرحت نفسي أشهرا من هذه الثرثرة المتصلة الفارغة، ولكن الصيف قد انقضى مع الأسف الشديد وعدت إلى مصر مع العائدين، واستأنفت العمل مع المستأنفين، ولا بد من استئناف الكتابة والحديث فيما أستأنف من الأعمال.
ولست أدري أيستقبل القراء كتابتي وأحاديثي باسمين راضين، أم مبتسمين ساخرين، أم عابسين ساخطين؟ أما أنا فأعلم حق العلم أني لا أستقبل الكتابة باسما ولا راضيا، وأني قد أكتب ساخرا من نفسي ومما أكتب، وقد أكتب خطا على نفسي وعلى ما أكتب، ولو خيرت لما اخترت كتابة ولا حديثا، ولكن من للكاتب بهذه الحياة التي لا يكتب فيها، فهو مدفوع إلى الكتابة بطبعه، فإن أدركه الملل أو التقصير أو القصور، دفعه الذين يريدون الكتابة إلى أن يكتب، دفعه أصحاب الصحف الذين يريدون أن يملئوا صحفهم ، والناشرون الذين يريدون أن يملئوا مكاتبهم، والقراء الذين يريدون أن يملئوا أوقات الفراغ، وما أكثر أوقات الفراغ في مصر! وما أطولها على المصريين!
وقد تسألني لم أكره الكتابة أو أضيق بها؟ ولم أزهد في الحديث أو أنفر منه؟ فانظر حولك تجد الجواب؛ فليس مما يرضي ولا مما يلذ أن تكتب فإذا أنت مضطر إلى النقد المتصل واللوم المستمر، وأن تتحدث فإذا أنت مكره على أن تسجل في حديثك ما يحزنك أو يسوء، فقد يجد الإنسان في النقد لذة أحيانا، ولكن النقد إذا اتصل ثقل على الناقدين أنفسهم، فكيف إذا لم يجد منه الكاتب بدا، ولم يجد عنه منصرفا؟! ولست أدري في حقيقة الأمر كيف يستطيع الكاتب الأمين أن يكتب فيرضى ويرضي القراء، وكيف يستطيع المتحدث النزيه أن يتحدث فيرضى ويرضي المستمعين له، وليس في مصر ما يرضي أحدا، وليس بين المصريين من يرضى عن شيء، وإنما كل شيء في مصر يحزن ويسوء، وكل إنسان من المصريين ساخط محزون.
ما أعظم الفرق بين تلك الربى الباسمة المشرقة التي قضيت فيها الصيف، وبين هذه الوهاد العابسة المظلمة التي أستقبل فيها الشتاء! ومع ذلك فما زالت سماء مصر مشرقة ونجومها متألقة، وما زال جوها صحوا وماؤها صفوا، وما زال النيل يشق طريقه فيها، يحمل إليها الخصب والأمن والدعة والخلود، ولكن اعتدال الطبيعة وحدها ليس يكفي فيما يظهر لاستقامة الأمور، واعتدال الحياة، وإنما يجب مع ذلك أن تعتدل أمزجة الناس وتستقيم أخلاقهم، وما أبعد الأمل بيننا وبين اعتدال الأمزجة واستقامة الأخلاق! فإلى أن يتم الوفاق بين الطبيعة المصرية والشعب المصري، وإلى أن يعتدل الناس كما اعتدلت الطبيعة، لا بد للمصري المستنير الذي يحسن الحس والشعور والتقدير من أن يألم ويحتمل المكروه ويستقبل الصبح إذا أصبح والليل إذا جن بكذب الأماني وخيبة الآمال، وهو قد يعلن ألمه هذا من حين إلى حين فيكون ناقدا، ولكنه إذا أعلن ألمه هذا إعلانا متصلا كان شاكيا، وقليل من الناس يحب أن يشكو، وقليل منهم يحب أن يسمع الشكاة .
لا تستكثر إذن على الكاتب المصري أن ينفق الصيف من حين إلى حين على ربوة باسمة، وأن ينصرف عن النقد والشكوى إلى الامتزاج بالطبيعة وتنقية نفسه من أوضار الحياة.
نوفمبر 1935
بين كأسين
مدت إلى القدح يدا مترددة فتناولته على كره، ورفعته في بطء، ثم لم تبلغ به فمها الصغير، وإنما أمسكته في الفضاء لحظة كأنما كانت تدعو ما بقي لها من قوة وتجمع ما ند عنها من صواب.
نامعلوم صفحہ
ثم أدنت القدح من شفتيها الورديتين الرقيقتين فمنحته قبلة طويلة لم تبق فيه راحا ولا روحا، ثم ردته مسرعة حازمة إلى موضعه من المائدة كأنها قد أعرضت عنه ونفرت منه وضاقت به ولم يبق لها فيه أرب، فهي تنبذه نبذا وتلقيه إلقاء.
وكانت - فيما علمت - أهوى الناس للهو وأصباهم إلى اللذة وأنشطهم للشراب، وكانت - فيما علمت - إذا صحت أحرص الناس على الصمت وألزمهم للهدوء، وإذا انتشت أرغب الناس في الحركة وأقدرهم على الكلام، وكانت تصحو ما رأت الشمس، فإذا أقبلت ظلمة الليل فزعت إلى الشراب تلتمس عنده الأمن والأنس وتفر إليه من نفسها ومن الناس، كأنما كانت شمس النهار تؤنسها وتبعث فيها الدعة والطمأنينة فلا تشفق من شيء ولا تخاف شيئا، فإذا انحدرت الشمس إلى مبيتها وبسط الليل رداءه المظلم، أحست وحشة لا تزيلها إلا هذه الشمس التي تصب من الزجاجة في الكئوس والأقداح والتي لا تكاد تبلغ الشفاه حتى تجري مع الدم وتسري إلى النفس، فإذا كل شيء نور ودعة وأمن واطمئنان.
ولم يكن القدح الأول قادرا على أن يخرجها من هذه الوحشة التي تلم بها مع الليل، وإنما كان يعدها للخروج منها إعدادا، ويهيئها للمرح تهيئة، كان يحل عقدة لسانها ولكنه لا يطلق هذا اللسان، وكان يلقي على وجهها رداء رقيقا ولكنه قوي من الحياة والنشاط، وكان يبعث في نظراتها قوة وسحرا، وكان الناظر إليها يحس كأن قوة حلوة ولكنها عنيفة تريد أن تنبعث من هذا الوجه الجميل ومن هاتين العينين الساحرتين ومن هذا الفم العذب، ولكنها في حاجة إلى حركة رشيقة يسيرة أشبه بحركة الأصبع حين تمس زرا من أزرار الكهرباء فتبعث الحرارة والضوء، ولم تكن هذه الحركة الرشيقة إلا أن تمتد يدها اللطيفة إلى القدح الثاني وقد هيأه لها الساقي فترفعه إلى شفتيها وتحسو منه حسوة واحدة.
هنالك يلقى الستار، وهنالك تتجلى نفسها من ورائه كأكمل ما تكون قوة ونشاطا وجمالا.
وكانت قوتها منذ هذه الحسوة الأولى من القدح الثاني حرية كلها: حرية في اللحظ واللفظ، حرية في هذه الخواطر الشاذة الجامحة التي لم تكن تعلن نفسها في صراحة أول الأمر، وإنما كانت ترتسم على وجهها صورا متعاقبة مسرعة يراها الناظرون إليها فتثير في نفوسهم شكوكا وأوهاما وأحلاما أيضا.
حرية في حركاتها التي تظهر وقد تجاوزت نفسها إلى جسمها كله، فإذا هي تلتفت إلى جلسائها عن يمين وعن شمال، ترمق هذا بنظرة وتلقي إلى هذا جملة، وإذا يدها بل يداها تمتدان عن يمين وشمال وإلى أمام تمسان هذا وتداعبان هذا، وإذا هذه الحركة تنبعث في جسمها كله، وإذا هي تنهض متهيئة للرقص، ترقص وحدها وتدعو من أحبت ليراقصها، حتى إذا أعيتها الحركة وأجهدها الاضطراب عادت إلى مكانها وأسرعت إلى قدحها فاحتست منه ما شاءت أن تحتسي، واستعارت من روحه روحا ومن قوته قوة ومن حياته حياة.
ولم يكن هذا الجمال الذي يرفع عنه الستار أقل انبعاثا في نفسها وجسمها من تلك القوة وهذا النشاط، ولكنه كان جمالا حرا كتلك القوة الحرة، جمالا سهلا سمحا لا يتحرج ولا يلتزم حدا ولا قيدا، جمالا كريما جوادا لا يحتشم ولا يحب البخل، وإنما هو دعاء إلى الفرح والمرح ودعاء إلى اللذة والبهجة والنعيم.
دعاء ينبعث من عينيها المتوقدتين اللتين تنفذان إلى أعماق القلوب فتضعان فيها جذوة ضئيلة لا تلبث أن تلتهب وتضطرم.
دعاء من هذين الخدين المتوردين اللذين يكادان يفيضان الحياة، واللذين لا تقع عليهما الأعين إلا أغرت بهما الشفاه.
دعاء من هذا الفم الضيق الجميل الذي يسحر الآذان بما يساقط من لؤلؤ الحديث كما يقول الشعراء، ويسحر العيون بما يحيط به من هذا الإطار الوردي الخلاب. والذي يمتزج فيه هذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق السمع، وهذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق العين، فإذا هو ينبوع لا يرقى إليه الوصف، ينبوع تصدر عنه موسيقى عذبة سهلة معقدة مع ذلك تسحر الأذن والعين والقلب والنفس جميعا.
نامعلوم صفحہ
دعاء من هذا الصدر المشرق، دعاء من هاتين الذراعين الرخصتين الممتلئتين، دعاء من هذا القد الرشيق، دعاء إلى كل شيء، دعاء إلى غير شيء، دعاء إلى هذا الهيام الذي يستبي النفوس، ويصرف عنها ما أبقى الشراب لها من رشد وصواب.
ولم ينته صاحبي من هذا الوصف الجميل المغري حتى كان قد بلغ منه الإعياء، وأخذه الذهول، كأنه تمثلها أمامه منصرفة إلى قدحها تأخذه في رفق وترده في عنف، ماضية في عبثها، مغرقة في دعابتها، مندفعة في مرحها الذي لا حد له.
تراها نفسه فتغريه بالمشاركة في اللهو والاندفاع إلى اللذة، ويفقدها طرفه فيرده إلى الأناة ويضطره إلى الاحتشام.
وظل كذلك مضطربا بين نفسه وطرفه حينا، وأنا أريد أن أسأله عن أمره فلا أجد إلى ذلك سبيلا، فلما طال بي ذهوله وشرود نفسه أقبلت عليه أسأله عن صاحبته هذه ما اسمها ومن عسى أن تكون؟ ولست أخفي أني رددت عليه السؤال مرات، وعرضته عليه في ألوان من الكلام أرفق به مرة وأعنف عليه مرة أخرى، وما أشك في أن إلحاحي عليه هو الذي اضطره إلى أن يجيبني، وأخرجه من ذهوله الذي كان يكلف به ويحرص أشد الحرص على الإمعان فيه.
فلما أطلت عليه في القول وألححت عليه في السؤال قال: ما أنت وذاك؟! وما تعرضك لما لا تحسن؟! وما سؤالك عما ليس بينك وبينه سبب؟! لو أنك شربت بالكأس التي أشرب بها، وأحسست النشوة التي أحسها لاستطعت أن تعرف هذه الصورة الرائعة الخالدة من الجمال، ولكان الحديث بينك وبيني ميسورا. قلت: وما هذه الكأس التي تشرب بها أنت ولا أشرب بها أنا؟ قال: هون عليك فليست كأسا محظورة، وليست كأسا فيها لغو أو تأثيم ، وإنما هي كأس مباحة، ولكنها لا تتاح إلا للمصطفين الأخيار، هي كأس الشعر يا سيدي، ثم انصرف عني حينا وعاد إلى ذهوله وتركني واجما لا أفهم عنه أو لا أكاد أفهم عنه.
ثم عاد إلي بعد صمت طويل كأنه كان قد أنسي مكاني منه ثم ذكره بعد لأي، عاد إلي فقال في صوت كان يأتي من بعيد، كأنما كان يحدث عن نفسه الشاردة النائية: تسألني عن اسمها، فإن أسماءها لا تحصى، وتسألني عن شخصها، فإن شخصها لا يدرك ولا يكاد يبلغه الوصف، هي هيلانة هوميروس، وهي نعم عمر بن أبي ربيعة، وهي بثينة جميل، وهي عزة كثير، وهي ليلى قيس، وهي ألفير لمارتين، وهي شارلوت غوت، وهي رآي موسيه، وهي هذه التي عنت المحبين وأذاقتهم لذع الألم أثناء النهار، ومرارة الألم أثناء الليل، وهي التي أسعدت المحبين فجعلت حياتهم نعيما كلها وجمالا كلها، ثم ردتهم إلى الشقاء فجعلت حياتهم بؤسا وجحيما، وهي التي ألهمت الشعراء فاستوحوا منها شعرهم الذي غنوا فيه اللذة والألم، والنعيم والبؤس، والسعادة والشقاء، وهي التي جعلت الإنسان المترف إنسانا مترفا، وجعلت الشاعر المجيد شاعرا مجيدا، وهي التي جعلت للحياة الإنسانية معنى يدركه الفلاسفة ويتفكرون فيه، فإذا هم بين رجل متفائل يرى الحياة ابتساما فيبتسم، وآخر متشائم يرى الحياة عبوسا فيعبس، وينشر على نفسه وعلى الناس والأشياء من حوله رداء قاتما من اليأس والقنوط.
وأعترف أني لم أكد أسمع هذا الكلام من صاحبي حتى أغرقت في الضحك، ومضيت أعبث به وأسخر منه، ورأيت أنه لا يتجاوز أن يكون قد خضع لهذه النوبة التي كانت تعرض له بين حين وحين من الجنون حين كانت تطول قراءته ويتصل عهده بدواوين الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان هائما حقا قد اشتد عليه الهيام حتى أخرجه من طوره، وإذا هو يستأنف حديثه عن صاحبته هذه التي لا تحصى أسماؤها، ولا تحصر أوصافها، ولا يحد لها مكان من الأمكنة، ولا عصر من العصور، وإنما هي فكرة من الجمال المطلق تصور المثل الأعلى لهذه الأنوثة التي تغري بالسعادة وتدعو إليها، وتحبب اللذة إلى النفوس، وتسلط الألم والشوق على القلوب، وتطلق ألسنة الشعراء بالشعر، وتشكل أصوات المغنين بأشكال الغناء، وهو يستأنف الحديث عنها واصفا من شخصها ما لم يصف في حديثه الأول، يحلل من صوتها ومن حركاتها، ومن لحظها ومن خواطرها، ومن نشاطها ومن كسلها ما لم يخطر لي على بال، وأنا أسمع له معجبا بهذه الفصاحة التي لا تنضب، وبهذا البيان الذي لا يدركه عجز ولا قصور، وبهذا الخيال الذي أفلت منه عنانه فاندفع أمامه لا يعرف لنفسه حدا ينتهي إليه.
وقد استيأست من أن أرده إلى بعض الوقار، أو آخذ معه في شيء من حوار، أو أجاذبه أطرافا من حديث، فلم أر بدا من أن أخلي بينه وبين ما هو فيه من هيام، وأنا أستمع لحديثه الغرامي أو لغنائه هذا الذي كانت تملؤه الفتنة، وما لي أخفي الحق، ولا أقول إني كنت أجد في الاستماع له لذة ومتاعا كهذه اللذة التي أجدها حين أقرأ الشعراء، أو أسمع لهم؟! وهل كان صاحبي إلا شاعرا قد أرسل نفسه على سجيتها إرسالا فتغنت بخير ما فيها من حب الجمال والطموح إلى مثله الأعلى؟!
لم يكن صاحبي إلا شاعرا في ذلك الوقت، ولكني كنت أحب أن أعرف مصدر هذا الشعر الذي دفع إليه دفعا وهام به هياما، وقد عرفته آخر الأمر وبعد كثير من الجهد، فهو كان قد قرأ أول النهار مقالا لصديقنا الأستاذ محمد عوض في مجلة الهلال موضوعه مضايق البحار أو عنق الإمبراطورية البريطانية، ولست أشك في أنك ستغرق في الضحك حين تنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل، كما أغرقت أنا في الضحك حين أخذ صاحبي يقص علي قصته بعد أن أفاق من هيامه الغريب، فأين مضايق البحار وعنق الإمبراطورية البريطانية من هذه الغادة الحسناء التي وصفها صاحبي فأبدع في وصفها ما شاء له الشعر، وهام بها صاحبي فأمعن في الهيام بها ما شاء له قلبه الرقيق، وشعوره الدقيق، وخياله الرشيق؟ وأين مضيق جبل طارق وقناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق سنغافورة من هيلانة هوميروس، ونعم ابن أبي ربيعة، وبثينة جميل، وليلى قيس؟!
نعم، أين مضايق البحار وتاريخ الاستعمار من هذه المثل العليا للجمال واستهوائها لأحلام الرجال؟ ولكن اقرأ مقال صديقنا الجغرافي الأديب وانته منه إلى آخره، فسترى أنه اعتدى على الشعر، وبغى على الفن، وأهان الجمال، وأساء إلى الخيال، وبعض هذا يكفي لإثارة شاعر رقيق القلب، دقيق الحس، ملتهب العاطفة كصاحبي هذا، فقد شرب صديقنا الأستاذ محمد عوض بكأس العلماء الجغرافيين قبل أن يكتب فصله هذا، فزعم أن الذي أثار الحرب بين اليونانيين والطرواديين لم يكن جمال هيلانة البارع، ولا لحظها الساحر، ولا طرفها الفاتر، ولا صوتها العذب، ولا حديثها الذي كان يحيي القلوب كما يحيا الزهر لقطرات الندى. لم يكن شيئا من هذا، وإنما كان الاستعمار وحب الاستيلاء على مضايق البحار، وحسد اليونانيين للطرواديين لأنهم كانوا يتسلطون على طريق من طرق التجارة. يا للهول! يا للإثم! يا لعدوان العلم على الفن! يا لطغيان العقل على الخيال! يا لجناية المادة على الروح! ماذا؟ وإذن فقد كان كل ما نظم هوميروس من الشعر، وكل ما نظم الشعراء قبل هوميروس وبعد هوميروس من القصص حول هيلانة وأحاديثها، وقد كان غناء اليونان كله، وقد كان كثير من تمثيل اليونان، وقد كان كثير من فن اليونان، وقد كان إيمان اليونان بهذا الجمال البارع الخالد؛ لغوا من اللغو، وعبثا من العبث، وأسطورة من الأساطير، وكان الأمر ينتهي عند البحث والتحقيق، وعند التمحيص والتدقيق، إلى هذا الشيء التافه الحقير الغليظ الفج الذي يسمونه المال والتجارة والربح، وتريد بعد هذا أن يكون العلم محسنا إلى الناس لا مسيئا، ومسعدا للناس لا مشقيا، ومنعما على الناس لا ممتحنا لهم بألوان البؤس والضراء؟
نامعلوم صفحہ
كلا، لقد عذرت صاحبي حين أثاره ما قرأ في مقال الأستاذ الدكتور عوض فأبغض العلم ونفر منه وكره العلماء، وضاق بهم، وأسرع إلى الشعر فغرق فيه إلى أذنيه، ثم خرج منه بهيلانته هذه التي رويت حديثها في أول هذا الفصل.
العجب لهؤلاء العلماء! يكبر العلم في نفوسهم فيفسد عليهم كل شيء، وإذا هم يزينون الباطل ثم يعرضونه على أنه الحق، وإذا هم يفتنون بما زينوا، ويفنون فيما اخترعوا، ويخدعون أنفسهم عن أنفسهم. يحدثنا اليونان جميعا أثناء العصور الطويلة والقرون المترامية وفي الآثار الأدبية والفنية الخالدة التي لا تكاد تحصى، بأن حرب طروادة إنما أثارها جمال هيلانة، فنأبى إلا أن يكون اليونان كاذبين مخدوعين مضللين، بفتح اللام وبكسرها، وإلا أن يكون مصدر الحرب حاجة الاستعمار إلى مضايق البحار. يجب أن يكون اليونان ساسة مهرة كالإنجليز، لماذا؟ لأن طروادة تقوم غير بعيد من مضيق الدردنيل، ويجمع الرومان على مثل ما أجمع عليه اليونان من قبلهم، وتجمع أوروبا المتحضرة أثناء القرون الوسطى على مثل ما أجمع عليه اليونان والرومان، ويجمع الأدباء والشعراء وأصحاب الفن في أوروبا الحديثة، وفيهم شكسبير وغوت، على مثل ما أجمع عليه الذين من قبلهم، يتفق هؤلاء جميعا على أن اليونان غضبوا لجمال هيلانة فأثاروا ما أثاروا من هذه الحرب، واحتملوا ما احتملوا من المحن، وخاضوا ما خاضوا من المكاره، وأنشئوا ما أنشئوا من الآثار الخالدة في الأدب والفن، ثم يأتي عالم من أصحاب الجغرافيا فيلقي نظرة سريعة على الخريطة، ويرى أطلال طروادة قريبة من الدردنيل فيهدم في أقصر لحظة وبأيسر حركة من عقله ويده هذا البناء الإنساني الشامخ الذي أقامته الأمم والأجيال، واشتركت فيه عبقريات الأدب والفن تمجيدا لجمال هيلانة، وتخليدا لحسنها الذي كان يسحر النفوس.
هذا كثير وأكثر منه أن العقل لا يستطيع أن يخلص من هذا الرق الذي يفرضه عليه العلماء، فهو مضطر إلى أن يرفض وحي الأدب والفن ويذعن لنتائج هذا البحث العلمي الجاف.
الآن، والآن فحسب، فهمت لماذا يتردد صديقنا عوض في ترجمة فوست الثاني بعد أن ترجم فوست الأول، فقد كان غوت يؤمن بهيلانة وبخلودها، وهو قد زوجها من فوست، ولم يكن يرى رأي الجغرافيين أن حرب طروادة كانت للاستعمار، فكيف بصديقنا الجغرافي أن يترجم هذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينقض علمه نقضا ويرفضه رفضا؟ آمنت بأن صاحبي لم يكن مخطئا ولا غاليا حين طلب إلي أن أشرب بكأس الشعر لأتعرف هيلانة، فإن هذه الكأس الأخرى التي يسقينا بها العلماء مرة المذاق، قصيرة المدى، ضيقة الأمد، لا تفتح للنفوس أملا، وإنما تقيم أمامها أسوارا شاهقة من اليأس والقنوط، وأين كأس الشعر التي تجلو لنا بهجة الجمال الخالد من كأس العلم التي تفرض علينا سماجة المال الوضيع؟!
ما أعظم الفرق بين هاتين الكأسين! وما أشد حاجتنا حين يلح علينا العلماء بكأسهم المرة إلى أن نسلي عن أنفسنا بهذه الكأس الحلوة الخالدة التي يديرها علينا الشعراء!
اللهم اشهد أني أنكر العقل، وأجحد العلم، وأرفض أن تكون حرب طروادة قد ثارت لشيء غير جمال هيلانة الخالدة!
فبراير 1936
صريع الحب والبغض
ضاق بالحياة فخرج منها، أو ضاقت به الحياة فنفته من جوها نفيا، وكان الذي بغض إليه الحياة وزهده فيها وأخرجه منها مخرجا عنيفا حبه للناس ورفقه بهم وعطفه عليهم، وكان الذي حبب إليه الموت وزينه في قلبه ودفعه إليه دفعا شديدا بغض الناس له، وحقدهم عليه، وإسرافهم في إيذاء نفسه، وإهانتهم إياه في ضميره وكرامته وشرفه الوطني.
نهض بواجبه شابا فجاهد ذائدا عن وطنه، متحملا في ذلك ما يحتمله المحاربون من ألوان البأس وفنون الشقاء، ثم أسره العدو فكلفه ضروبا من الجهد، وثبت هو لما كلفه العدو أبيا كريما ذائدا عن وطنه في سجن الإسار كما كان يذود عنه في ميادين الحرب، ثم رد الناس إلى السلم واستقرت بهم علاقات الإلف والمودة، واستأنف المحاربون القدماء حياة العمل اليومي، كل ميسر لما خلق له، وكان هذا الرجل قد خلق للنضال السياسي فأقبل عليه وجد فيه وظفر بكثير من التوفيق، وإذا هو نائب اشتراكي، ثم وزير اشتراكي، وإذا هو ينهض بأعباء الحكم ويحتمل أثقال الإدارة في وزارة الداخلية الفرنسية، وإذا هو يصل الليل بالنهار عاملا في ديوانه، وعاملا في بيته، وعاملا في حزبه، وعاملا في مجلس البرلمان، وعاملا في مجلس الوزراء، ووسيطا بين العمل ورأس المال، ومتنقلا بخطبه في مدن فرنسا وقراها لا يستريح ولا يحب الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الاطمئنان، قد امتلأ قلبه بحب المستضعفين وامتلأت نفسه بمذهبه السياسي؛ فأنفق ما يملك وما لا يملك من القوة والجهد في تقوية الضعفاء حتى ينتصف لهم من الأقوياء، وفي الذود عن مذهبه السياسي الاشتراكي حتى يحقق من أغراضه أقصى ما يستطيع تحقيقه في غير ثورة ولا عنف ولا تغيير أساسي للنظام الديمقراطي المستقر.
نامعلوم صفحہ
وإنه لفي ذلك يمضي أمامه مضاء السهم لا يبطئ ولا يني ولا يحجم ولا يتردد، وإذا خصومه السياسيون يرمونه بسهم مسموم يتلقاه الرجل أول الأمر فيثبت له ويمتنع عليه، ولكن السهام يتلو بعضها بعضا، وكلها مسمومة مهلكة، والرجل يثبت لها ويقاومها ما استطاع، يردها عن نفسه بماضيه النقي، ويردها عن نفسه ببلائه الحسن في الحرب، ويردها عن نفسه بسيرته الكريمة في الإيثار، ثم ينهض لمعونته وزير الدفاع فيعلن إلى الناس جادا جاهدا ومصمما ملحا أنه كان محاربا كريما وأسيرا كريما، وأنه قد أدى واجبه الوطني في أيام المحنة الوطنية الكبرى كأحسن ما تؤدى الواجبات، ولكن مقاومة الرجل لا تغني عنه شيئا، ومعونة وزير الدفاع لا تغني عنه شيئا، واجتماع قلوب العمال والضعفاء حوله لا يغني عنه شيئا، فهذه السهام المسمومة ترسل إليه مجتمعة متصلة لا تفتر ولا تني ولا تحيد.
وإذا هو قد استيأس من قدرته على المقاومة، واستيأس من قدرة أعوانه على الدفاع عنه، واستيأس من قدرة هذا الحب الشعبي الذي كان يحوطه ويكلؤه على أن يحميه من هذا البغض السياسي الذي كان يصب عليه الشر متصلا في غير رفق ولا أناة.
وقد أنهك الجهد قوته الجسمية وأنهك الحزن قوته المعنوية، وإذا هو ينظر فلا يرى إلا ضميره قد أفعمته الحياة واستأثرت به الكرامة والغضب للشرف، فهو يثور في غير جدوى، وهو يضطرب في غير غناء، وهو يدمى مصبحا ويدمى ممسيا، وهو يدمى عاملا ويدمى مطمئنا، وهو لا يجني من وراء هذا كله إلا اتصال هذه السهام التي ترسل إليه إرسالا لا يعرف المهل ولا الريث، وإذا نفسه تمتلئ باحتقار الناس والحياة، وتمتلئ باحتقار هؤلاء الذين يقذفونه ويكذبون عليه مستمسكين بأهداب الباطل، معرضين عن أسباب الحق، مستجيبين لداعي الشهوة، معرضين عن داعي الإنصاف، يريدون أن يسوءوه وأن يسوءوا أنصاره فيه، لا يسألون أنفسهم أيسوءون معه الحق والفضيلة والعدل والإنصاف.
نعم، وتمتلئ نفسه بهذا الاحتقار الرفيق الذي تملؤه الرأفة، وتشيع فيه الرحمة لهؤلاء الذين يحبونه فلا يغني عنه حبهم شيئا، ولهؤلاء الذين يدافعون عنه فلا يغني عنه دفاعهم شيئا.
نعم، وتمتلئ نفسه احتقارا لهذه الحياة التي تجمع بين أولئك وهؤلاء، ولا تميز بين الجور والعدل، ولا بين الخير والشر، وإنما تدور على غير بصيرة ولا هدى فتمد للطغاة أسباب الطغيان، وتقصر بأهل الخير حتى عن حماية أنفسهم، تمتلئ نفسه بالاحتقار للحياة والأحياء، وبالزهد في الحياة والأحياء، فلا يرى لنفسه مخرجا إلا الموت فيقبل عليه مسرعا إليه، ثم يكتب إلى ذوي قرباه قبل أن يخطو خطوته الأخيرة إلى القبر أنه جاهد ما استطاع الجهاد، ولكنه انهزم فآثر الموت، وأن الذي دفعه إلى الموت إنما هو ما ألح عليه من تعب جسمه وتعب نفسه.
وكذلك قضى هذا الوزير الفرنسي صريع حبه للناس وبغض الناس له، فكان موته عبرة تدعو إلى كثير من التدبر والتفكير، وما أكثر العبر التي تدعونا إلى أن نتدبر ونتفكر! فالحياة تعرض علينا منها ألوانا مختلفة في كل يوم، ولكننا لاهون عنها بأنفسنا وهمومنا المتصلة ومنافعنا العاجلة، إلا أن تكون العبرة متصلة بشخص ممتاز أو بحادث فذ، هنالك نقف عندها قليلا ونفكر فيها قليلا ثم نستأنف ما كنا فيه من اشتغال بأنفسنا وهمومنا ومنافعنا، وكأن الحياة لم تدعنا إلى الاعتبار، وكأن الأيام لم تضطرنا إلى التفكير.
ذاد هذا الوزير عن وطنه في الحرب العظمى ذيادا كريما، ثم أسره العدو، فإذا خصومه يزعمون أن هذا الأسر لم يكن إلا فرارا، وإذا هم يعظمون أمر هذا الفرار ويسرفون في التشنيع به ويكبرون أن يصل الفار من ميدان القتال إلى أن يكون نائبا، ثم إلى أن يكون وزيرا، وقد كذب الرجل خصومه ونفى عن نفسه هذا الإثم، وأيدته وزارة الدفاع ما وجدت إلى تأييده سبيلا، فحققت واستوثقت وأعلنت إلى الناس أن الرجل لم يفر ولم يقض عليه ولم يؤخذ بظنة ولم تلحق به ريبة، ولكن خصومه لجوا في الخصومة وأبوا إلا أن يجادلوا ويمعنوا في الجدال، وأكبر الرجل نفسه وأكبر حرية الرأي وأكبر حق المعارضة في نقد الوزراء فلم يحاكم خصومه ولم يقف معهم أمام القضاء، وكانوا خليقين أن يقدروا هذا وأن يرعوا حرمة هذا الرجل الذي وسع عليهم وكان يستطيع التضييق، وأقصر عنهم وكان يستطيع أن يأخذهم بالبطش دون أن يخالف القانون أو يتجاوز حدوده ولكنهم لم يعرفوا لهذا الرجل حقا ولم يرعوا له حرمة، كما أنهم لم يعرفوا للعدل حقا ولم يراعوا له حرمة؛ لأنهم لا يخاصمون كما تعود الناس أن يخاصموا وإنما هم يخاصمون خصام المستميت، يحاربون بكل سلاح وينتفعون بكل وسيلة، ويأخذون على عدوهم كل طريق.
وكذلك انتهى الأمر إلى هذه المسألة التي ذهب فيها رجل ضحية حرية الرأي أو ضحية الإسراف في حرية الرأي أو ضحية العدوان على حرية الرأي، فليس عدو الحرية من ينصب لها الحرب ويفرض عليها الأغلال والقيود وحده، ولكن للحرية عدوا آخر ليس أقل شرا ولا أهون شأنا من هذا الطاغية المستبد، وهو هذا الذي يتجاوز بها الحدود ويخرجها عن طورها المعقول ويحولها أداة للشر وسبيلا إلى الفساد.
وكذلك تشهد أوروبا في هذه الأيام ويشهد العالم كله معها هذه الحرية البائسة يعذبها أعداؤها ألوانا من العذاب، أولئك يغلونها ويقيدونها ويقيمون الأسوار الصفيقة بينها وبين الملايين من الناس في شعوب كثيرة وأقطار مختلفة من الأرض، وهؤلاء يستغلونها ويسرفون في استغلالها، فيحررونها من كل قانون ويطلقونها من كل عقال ويشيعون فيها جنونا ينتهي بها إلى الإجرام واقتراف الآثام، أولئك يقتلون الناس لأنهم يحرمونهم الحرية ويقطعون بينها وبينهم الأسباب ويضطرونهم إلى هذا الصمت المهلك والكظم المضني، وهؤلاء يقتلون الناس لأنهم يسلطون عليهم الحرية الجامحة التي لا تعرف لجموحها حدا تقف عنده أو غاية تنتهي إليها، فهؤلاء الصرعى الذين يسقطون في أقطار أوروبا على اختلافها إنما هم ضحايا الحرية المعذبة بالسجن حينا وبالإطلاق حينا آخر.
وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الغريب الذي ينتهي بالإنسانية إما إلى الجنون وإما إلى المذلة والهوان، وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الذي ينتهي بالحضارة الحديثة إلى الكارثة تأتيها لأن أفرادا يضيقون بالحرية فيهدرونها، ولأن أفرادا آخرين يهيمون بالحرية فيذهبون بها إلى غير مدى.
نامعلوم صفحہ
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فهذا كاتب فرنسي من كبار الكتاب يحرض على القتل ويستمع له أنصاره ويستجيبون له ويهمون بسفك الدماء، فيؤخذ هذا الكاتب ويقضى عليه بالسجن قضاء لا مرد له، ولكن الناس لا يعتبرون ولا يزدجرون وإنما تمضي الصحافة في إذاعة البغض وإثارة الحقد وإفساد ما بين الناس من صلات حتى تنتهي إلى هذه المأساة التي دفعت الوزير الفرنسي إلى الموت، فأيهما خير: نظام يغل الصحافة ويعقل الأقلام ويعقد الألسنة ويكبح المعارضة كبحا ويميت الناس غيظا بما يضطرب في صدورهم من الآراء وما يغلي في رءوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها والأقلام على سجيتها والألسنة على طبيعتها فيكتب الناس في غير حساب، ويقول الناس في غير رعاية للحق والعدل؟ أيهما خير: نظام السلطان العنيف الذي يرد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى، أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى أيضا؟
كلا النظامين شر من غير شك، وما أظن إلا أن الناس جميعا يعرفون ذلك، وما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه وبين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان، ولا يطغي الحرية فيطغي معها الأهواء والشهوات، ولكن كيف تستطيع الإنسانية أن تصل إلى هذا النظام وقد فسد عليها أمرها واختل التوازن بين قواها المختلفة، وأفلت عنان النظام فيها من يد العقل، واستأثرت به الشهوة فهي تصرفه تصريفا لا حظ فيه للروية ولا للتدبير.
مهما يكن من شيء فهذه حرية الصحافة، أو قل هذا الإسراف في حرية الصحافة قد استحدث فنا جديدا من الإجرام، فن القتل المعنوي كما يسميه بول نور، هذا الذي يأتي من الإسراف في القذف وإذاعة السوء حتى يحمل الناس على أن يقتلوا أنفسهم، وهو يستحدث في الوقت نفسه فنا جديدا من العقاب، فهؤلاء الفرنسيون أو المفكرون من الفرنسيين يريدون الحكومة على أن تشرع القوانين لتردع مثل هذا النوع من الإجرام، ومهما يكن من شيء فهذه الديمقراطية الأوروبية تلقى حربين مختلفتين: حربا تأتيها من الخارج من هؤلاء الذين ينظمون السلطان العنيف، وحربا تأتيها من الداخل من هؤلاء الذين يستمتعون بالحرية الديمقراطية إلى غير حد، أفتراها تسلم من هاتين الحربين؟ أفترى تخرج ظافرة من هذا العداء المزدوج؟ لا أدري، ولكن هل يتاح لنا - نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية - أن ننتفع بمحنة الديمقراطية الأوروبية وأن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقا وسطا آمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارا، وتعصمها من أولئك الذين يسرفون في حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت؟
ديسمبر 1936
فجاءة فاجعة
أشرقت الشمس بنور ربها فملأت الأرض بهجة وجمالا، وملأت النفوس قوة ويقينا، وبثت في الأجسام حياة ونشاطا، وغمرت قلب تلك الفتاة بنور من الأمل حلو حار مطمئن طموح معا، أرسل على وجهها الجميل دعة ولينا وأمنا وحنانا، وكانت قد أنفقت ليلة هادئة مطمئنة بعد أن أنفقت يوما هادئا مطمئنا. عملت بياض النهار وشطرا من الليل في تمريض هؤلاء البائسين الذين تضطرهم الآلام والأدواء والفقر إلى المستشفى، فيلقون فيه من عناية الأطباء ورفق الممرضات والممرضين ما يرد عنهم عوادي العلل، أو يسلك بهم طريقهم إلى آخر الحياة في لين ورفق وعزاء. وكانت هذه الفتاة حلوة الروح، كريمة النفس، رقيقة القلب، تقبل على عملها محبة له، مؤمنة به، موقوفة النشاط عليه، كأنما تؤدي حين تؤديه واجبا دينيا مقدسا قد امتلأ به قلب صادق الإيمان.
فكان ابتسامها وحديثها وحركاتها حين تذهب وتجيء، وعنايتها بهؤلاء المرضى حين تختصهم بعنايتها، كان هذا كله يقع من هؤلاء الضيوف البائسين في المستشفى موقع الرحمة على القلب الشقي، وموقع الماء من الظمآن الذي يحرقه الظمأ ويضنيه الصدى، وموقع العزاء من المكروب، والغنى من المحروب، وموقع الأمل من اليائس الذي اشتملت عليه ظلمات اليأس، والقانط الذي كاد يهلك نفسه القنوط. كانت حياتها في المستشفى نورا يذود عنه الظلمة، ونعيما يرد عنه البؤس، وبهجة لقوم قد استيأسوا من بهجة الحياة. وكانت تتنقل بين غرفات المستشفى وحجراته مشرقة الوجه، باسمة الثغر، مطمئنة النفس، محزونة القلب مع هذا كله لما تشهد من ألم وما ترى من شر، فلا تكاد تدخل غرفة أو حجرة إلا أدخلت معها الرحمة والحب، ولا تخرج من غرفة أو حجرة إلا تركت فيها قسطا من أمل وحظا من عزاء.
وكانت إذا أنفقت يومها هذا في توزيع العناية والرحمة والحنان على المرضى والبائسين آوت إلى مضجعها حين يتقدم الليل ناعمة النفس، رضية البال، مطمئنة القلب، والتمست هذه الراحة التي ترد إلى الجسم قوته وإلى العقل نشاطه، وإلى القلب ذكاءه وشجاعته وحبه للخير وحرصه على البر واحتماله للمكروه.
وكانت تنفق ليلها في نوم هادئ ربما روعته من حين إلى حين أحلام سود تمثل لها آلام المرضى وعواقب هذه الآلام، وربما ابتسمت فيه أحلام بيض تمثل لها شفاء بعض هؤلاء المرضى واستئنافهم لحياة حلوة باسمة، وربما أشرقت فيه أحلام أخرى لا تتصل بالمرض ولا بالمرضى ولا بأهل هذا المستشفى، وإنما تتصل بأسرتها المتواضعة النائية عن المدينة التي تنفق حياتها في كد وجد، وفي أمن وأمل، وفي حزن غير قليل مصدره أثقال الحياة، وبعد الولد، وضيق ذات اليد، أو تتصل بهذا الأخ الشاب الذي لم يكد يتجاوز العشرين، والذي يقيم في المدينة غير بعيد منها ولكنه لا يكاد يلقاها إلا مرة في الأسبوع، حين يتيح لها العمل ويتيح له الدرس ساعات يلتقيان فيها فيتحدثان، وربما خرجا للتروض إلى ضاحية من ضواحي المدينة سعيدين بهذا اللقاء ناعمين بهذه النزهة المشتركة، ثم عادا مع المساء فصحبها أخوها حتى يبلغها المستشفى ويودعها وقد ضربا موعدا للقاء بعد أسبوع.
ولعلها كانت ترى في بعض ما ترى أثناء هذا النوم الهادئ صورا أخرى من الأحلام لا تتصل بالمستشفى ولا تتصل بالأسرة النائية ولا تتصل بالأخ القريب، وإنما تصور زاوية من زوايا هذا القلب المتواضع الكبير لا يعرفها أحد غيرها، وقلما تفكر فيها يقظة وقلما تحلم بها نائمة، ولكنها تعرض لها من حين إلى حين، لحظات قصارا في اليقظة أو لحظات قصارا في النوم، تعرض لها لأسباب نادرة طارئة غير منتظرة ولا مقدرة، إنما هي نظرة إلى بعض الوجوه أو تأثر ببعض الأصوات أو ابتهاج لبعض الابتسامات، وإذا الستار يرفع عن هذه الزاوية المستورة في قلب كل فتاة، وإذا هذه الصور تسنح شاحبة حينا، ومشرقة حينا آخر، تمثل آمالا ضيقة طورا وواسعة طورا آخر ولكنها تملأ حياة الفتيات نعمة وثقة وإيمانا بالحياة. ولم تخل ليلتها هذه من أحلام مروعة بعض الروع وأخرى مهدئة بعض الهدوء، ولم تخل ليلتها من حزن وأمل معا فقد كثر الذين حملوا إلى المستشفى من جرحى الفتنة، وكثر حولهم نشاط الأطباء والممرضين، وعظم بفضلهم إيمان هذه الفتاة بعملها وحرص هذه الفتاة على أن تفيض من رحمتها وحنانها وبرها أكثر مما أفاضت إلى الآن.
نامعلوم صفحہ
فكرت في هذا كله قبل أن يغلبها النوم، وحلمت بهذا كله بعد أن اشتملها النوم، ثم أفاقت من نومها وانسلت من غرفتها وذهبت إلى رئيستها لعلها أن تكون في حاجة إلى بعض العون، ولكن الرئيسة لقيتها باسمة وردتها رفيقة وألحت عليها في حزم أن تستكمل حظها من الراحة ونصيبها من النوم، فعادت الفتاة إلى غرفتها وأوت إلى سريرها وأخذت تغالب هذا الأرق مستعينة على ذلك بالتفكير فيما يدخر لها الغد من ساعات حلوة تقضيها مع أخيها خارج المنزل في هذه الضاحية أو تلك، ومضت تتصور أخاها وتسمع حديثه وتلقي إليه حديثها وتقترح عليه ويقترح عليها، وتداعبه ويداعبها ، وتغاضبه ويغاضبها، ثم تراضيه ويراضيها حتى عاد إليها النوم فردها إلى كنفه مرة أخرى، ثم لم تفق حتى كانت الشمس قد أشرقت فملأت الأرض بهجة وجمالا وملأت النفوس قوة ويقينا، وبعثت في الأجسام حياة ونشاطا، وكانت نفسها أشد ما تكون قوة على احتمال الجهد وإيمانا بنفع هذا الجهد وحرصا على بذل المعونة الصادقة لمن يحتاج إلى المعونة الصادقة، وكانت حياتها قوية إلى غير حد، وكان نشاطها بعيدا إلى غير مدى، وكان وجهها كله ابتساما، وكان قلبها كله رحمة، وأنفقت صباحها في حركة متصلة لا تحس جهدا ولا نصبا ولا تشعر بإعياء، وإنما هي ينبوع من الرحمة والحنان والمواساة يجري في طرقات المستشفى ويفيض على ما يقوم في جوانبها من الغرفات والحجرات.
وإنها لفي ذلك وإذ هي تحس نبأة تراع لها أول الأمر، ثم تثبت لها بعد ذلك بقليل: لقد استؤنفت الفتنة مع الضحى، وكان لهذه الفتنة صرعى قد كثرت فيهم الجراحات، وها هم أولاء يحملون إلى المستشفى كثيرين، منهم من فقد الحركة والألم، ومنهم من لا يزال شاعرا يجد الألم ويصبر عليه، ومنهم من تجاوز الألم طوقه فأخرجه عن الصمت إلى الأنين أو إلى الصياح، كلهم في حاجة إلى العون وكلهم في حاجة إلى المواساة، وكلهم في حاجة إلى الرحمة والعزاء، فليتجدد النشاط إن كان قد فتر، وليضاعف النشاط إن كان لم يدركه الفتور، ولتدم القلوب في الصدور ليظهر برغم ذلك الابتسام على الثغور، ولتنطق الألسنة بهذه الكلمات التي تقع من الجرحى أحسن موقع وتقع من قائليها أشد المواقع ألما وإيذاء، وليكثر هذا الكذب الحلو البريء الذي يمنحه الأطباء والممرضون للمرضى والمنكوبين ليعينوهم به على الصبر واحتمال المكروه، وليمكنوهم به من مقاومة المرض ومقاومة الموت أيضا.
وهذه الفتاة قد سمعت هذه النبأة فارتاعت لها أول الأمر، ثم ثابت إليها نفسها، ثم وجدت هذا الكنز الذي خبأته في قلبها الكريم والذي لا ينفد ما فيه من العطف والبر ومن الحب والحنان، ثم ملكتها هذه الأريحية التي تملك النفس الكريمة فتدفعها إلى البذل من هذا الكنز من غير حساب، وإذا هي تندفع اندفاعا إلى حيث النشاط والحركة، وإذا هي قد تسلحت بالشجاعة والحب لتصارع المرض والموت وتستنقذ منهما هؤلاء البائسين المنكوبين.
أقبلي أقبلي أيتها الفتاة على هذا المصاب، امنحيه ما تملكين من عون، هبيه ما تستطيعين من عناية، ردي إليه بعض الحياة، ردي إليه بعض الحس فقد اشتد عليه الألم حتى ما يحس ألما، وتدنو الفتاة ذاهبة القلب باسمة الثغر، فلا تكاد تلقي نظرة على هذا الفتى الذي تدعى لإسعافه حتى تنفرج شفتاها عن صرخة يدوي لها المستشفى، ثم تضطرب يداها في الهواء ثم تسقط، وإذا هي في حاجة إلى الإسعاف، وإلى من يمنحها بعض هذا العون الذي كانت تريد أن تمنحه لهذا الفتى، وإلى من يرد عليها بعض هذا الحس الذي كانت تريد أن ترده على هذا الفتى، وإلى من يكذب عليها كما كانت تريد أن تكذب على هذا الفتى، وإلى من يواسيها كما كانت تريد أن تواسي هذا الفتى.
لم تنفرج شفتاها عن تلك الصرخة الداوية فرقا ولا خوفا؛ فقد تعودت أن ترى صرعى المرض وصرعى الموت، ولم تضطرب يداها في الهواء ضعفا ولا جبنا؛ فإن لها في صراع العلل والموت بلاء محمودا، ولم تسقط إلى الأرض خورا ولا تهالكا؛ فقد طالما ثبتت لأبشع ما يثبت له الممرضون والممرضات، ولكن عاطفة الأخوة فوق هذه الشجاعة المكتسبة وفوق هذا الجلد المصنوع وفوق هذا الصبر الذي يتعلم في المدارس ويأخذ الناس به أنفسهم أخذا.
رفقا بهذه الفتاة، ورحمة لهذه الفتاة، وعطفا على هذه الفتاة؛ فإنها لم تر مريضا ولا جريحا، وإنما رأت أخاها وقد اشتمله الموت، وكانت تقدر بل كانت تهيئ نفسها لتلقاه موفور القوة والنشاط وتقص عليه آخر النهار بلاءها في أوله.
ها هي هذه ترد إلى حياتها أو ترد إليها حياتها، وها هي هذه ترد إلى شجاعتها أو ترد إليها شجاعتها. لن تستطيع مواساة المرضى ولا معونة الجرحى في المستشفى لأن هناك في مكان بعيد عن هذه المدينة جريحين هما أحق بهذه المواساة وأجدر بهذا العون، فلتسرع إليهما ولتحمل إليهما نبأ الكارثة، ولتحمل إليهما مع هذا النبأ الأليم عزاء البنت البرة عن الابن الشهيد.
ديسمبر 1935
الذوق
لا أريد أن أكون مؤرخا أو ناقدا أو أديبا، فقد يعرض لي كما يعرض لك أن نسأم التاريخ والنقد والأدب، وأن نرغب في هذا الحديث الهادئ المطمئن الذي لا يثير خصومة ولا جدالا، وإنما يريح الناس ويعينهم على إنفاق الوقت إذا أخذوا فيه وتجاذبوا أطرافه كما يقولون.
نامعلوم صفحہ
وأنا أملي هذه الأسطر وقد تقدم الليل وهدأ من حولي كل شيء إلا هذه الصراصير التي تتغنى في الحديقة غناء متقطعا، والأصوات تصل إلي عن بعد فلا أكاد أسمعها إلا حين أصغي إليها، وإلا صرير القلم يمضي به صاحبي وهو يسمع ما أملي عليه ثم يقف إذا انتهى به إلى حيث انتهيت من الإملاء.
وقد أنفقت يوما طويلا ثقيلا تنقلت أثناءه بين ما أحب وما أكره من أعمال منها المنتج الخصب وفيها العقيم الجدب، وأشهد أن أحب شيء إلي وقد خرجت من هذا اليوم الثقيل الطويل ودخلت في هذا الليل الهادئ المطمئن أن أنسى - ولو إلى حين - يومي وما كان فيه، وأن أشغل نفسي عنه بما يلهي ويريح، ولي إلى ذلك سبيلان؛ فإما أن أقرأ وإما أن أستعرض ما قرأت، وقد كان بين ما قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصتان تمثيليتان نشرتهما مجلة «الأليستراسيون» الفرنسية في أسبوعين متواليين أو متقاربين على أقل تقدير، وهاتان القصتان تختلفان في الموضوع وتختلفان في النتيجة وتختلفان في الأسلوب والقيمة الفنية، ولكنهما على اختلافهما في هذا كله تثيران نوعا واحدا من التفكير، ولعلهما تنتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.
فأما إحداهما فتقص أمر امرأة زوجها أهلها من رجل لا تحبه، فأذعنت واستقبلت حياتها الجديدة عابسة ساخطة لا تفهم زوجها ولا تطمئن إليه، وسافرت معه كأنما تساق إلى السجن، ولكنها لقيت أثناء السفر شابا أعجبها وأعجبته، فأحبها وأحبته، وكانت لها وله صروف وخطوب، حتى إذا عادت إلى باريس وانغمست في حياتها المألوفة أحست فتورا في الحب، واستكشفت أن حبها لهذا الشاب لم يكن إلا تعلة ولهوا وسبيلا إلى إيقاظ قلبها النائم وإثارة عواطفها الراكدة، حتى إذا استيقظ هذا القلب وثارت هذه العواطف تبينت أنها تستطيع أن تحب هذا الزوج لولا أن هذا الشاب يحول بين هذا الحب وبين أن يزهر ويؤتي ثمره؛ فهي تبسم لزوجها وتعبس لحبيبها، وما تزال به تريد أن تصرفه فينصرف مضحيا بنفسه وقلبه وحبه.
وأما القصة الأخرى فتصور زوجين يحب كل منهما صاحبه أشد الحب ويؤثره على نفسه أشد الإيثار، ولكن أحدهما - وهو الرجل - مريض يخاف على نفسه الموت، وقد علم من امرأته أنها لن تحيا بعده وأنها جادة إن مات في اللحاق به، وهو يحبها ويحرص على أن تعيش عيشة كلها سعادة ولذة ونعمة، وهو يريد إذا مات أن تتعزى عنه امرأته وأن تحيا من جديد فتحب وتجني ثمار الحب، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل هذه الغاية، ولكنه يريد أن يتحقق آخرته قبل أن يقدم على هذه التضحية، فيعرض نفسه على كبار الأطباء ويقضي هؤلاء في أمره بما كان يخاف فينبئونه بأنه مرتحل عن هذه الحياة بعد قليل، وإذن فلا بد من التضحية، وهو لا يتردد بل يقدم عليها شجاعا جريئا فيتكلف عشق امرأة تتردد على داره ويظهر الهيام بهذه المرأة حتى يخدعها من جهة ويثير غيرة امرأته وسخطها من جهة أخرى، ويمضي في تكلف هذا العشق إلى أبعد حد، فيهجر داره ويقيم عند صاحبته ويأبى على امرأته كل عودة، ثم يتم عمله هذا القاسي العنيف بالسفر مع صاحبته إلى ما وراء البحر، ولم لا؟ أليس قد قضي عليه بالموت؟ فيجب أن تكرهه امرأته قبل أن يموت، حتى إذا مات لم تلحق به، بل تعزت عنه واستقبلت حياتها في أمل ونشاط، وقد وفق فامرأته منصرفة عنه، وإن لم تكن ميالة إلى استئناف الحياة الغرامية والزوجية، وهي على كل حال لا تريد أن تموت ولا أن تلحق بزوجها.
ولكنه أراد شيئا وأراد القضاء شيئا آخر، فما كاد يترك وطنه حتى كذب الأطباء وعادت إليه صحته وقوته ونشاطه وقوي مع هذا كله حبه لامرأته وحب صاحبته له، فيعود إلى فرنسا ولا يتردد في أن يضحي بهذه المرأة التي آمنت بحبه وأنقذته من الموت ليستأنف الحياة مع زوجه وقد عاد إليها موفور الصحة مستكمل القوة، وتقبل صاحبته هذه التضحية فتنصرف كما انصرف الفتى في القصة الماضية. فأنت ترى أن إحدى القصتين تضحي برجل والأخرى تضحي بامرأة، وكلتاهما تمثل الأثرة في الحب، وقد انتهت إلى أقصاها، وتتخذ من الأخلاق العامة المألوفة وسيلة إلى هذه الأثرة. تلك تضحي بصاحبها لتعود إلى زوجها فتعيش عيشة ترضاها الأخلاق والعرف ويرضاها الدين، وهذا يضحي بصاحبته، بل يتعمد خداعها ثم يضحي بها ليعود إلى امرأته ويحيا حياة ملائمة للخلق والعرف والدين، ومع ذلك فمن المحقق أن الكاتبين لم يتفقا على موضوع القصتين ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه، ومن المحقق أيضا أن جمهور النظارة في باريس أحب القصتين وأعجب بهما وضمن لهما حظا غير قليل من الفوز والبقاء.
فتوارد الخواطر هذا وإعجاب الجمهور بنتيجته خليق أن يدعو إلى شيء من التفكير، ذلك أنه إذا كان من الحق أن لكل شيء سببا، وأن حادثة لا تقع إلا وقد سبقتها علة دعت إلى وقوعها؛ فلا بد من أن يكون هناك سبب دعا إلى هذا التوافق بين الكاتبين، وإلى أن يعجب الجمهور بقصتهما إعجابا متقاربا، وهذا السبب هو فيما أظن الذوق العام، وما يختلف عليه من ألوان التطور.
كثيرا ما نسأل أنفسنا: أيهما أشد تأثيرا في صاحبه؟ أهو صاحب الفن يبتكر من آياته الفنية ما يخلب الناس ويستهويهم؛ فتؤثر في حياتهم العقلية والشعرية، ويسيرهم كما يريد، أم هو الجمهور تؤثر فيه الظروف المختلفة فتكون مزاجه وذوقه تكوينا خاصا، ويقوى هذا الذوق وذلك المزاج حتى يتشخصا في الكاتب، أو الشاعر، أو المصور، أو المثال؛ فإذا هو ترجمان يعرب عن نفس هذا الجمهور ومرآه يعكس ذوقه ومزاجه؟
فأما حين يكون الكاتب مبتكرا يؤثر في الجمهور غالبا إياه على أمره، فإنما يعجب الجمهور به لأنه غريب قد ظهر قويا أقوى من الجمهور، فالجمهور يذعن له ويؤمن بقوته ويعجب بآثاره كما يعجب بآثار القوي بعد أن يجاهده ويصارعه ويمتنع عليه فلا يجد سبيلا إلى المقاومة، فيضطر إلى الإذعان والخضوع. وأما حين يكون الكاتب أو الشاعر ترجمان الجمهور ومرآته، فالجمهور لا يعجب بالكاتب أو الشاعر وإنما يعجب بنفسه، يعجب بصورته التي يراها في المرآة. ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي يكره الجمهور على ما يريده ويغتصب إعجابه اغتصابا ويرسم له طريقه العقلية والشعورية هو الكاتب أو الشاعر الخليق بالبقاء حقا، ومن الواضح أن هذا الكاتب أو الشاعر لا يتاح للناس إلا قليلا في أوقات متقطعة، فإن وجد فهو ثقيل على الجمهور بغيض إليه وربما لم يظفر بحقه من الطاعة والرضا والإعجاب إلا بعد موته بزمن يقصر أو يطول، ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي تكون آثاره الفنية صدى لنفس بيئته ليس غير هو الذي يستأثر بالرضا والإعجاب ويستمتع بلذتهما في حياته، ولكنه لا يكاد يدع هذه الحياة حتى ينساه الذين كانوا يكلفون به ويتهالكون عليه.
كل هذا حق فيما يظهر، وكل هذا واضح أيضا، ولكن المسألة التي لا تزال غامضة هي الصلة بين الكتاب والشعراء وبين الذين يقرءون آثارهم أو يسمعون لها، هذه الصلة التي تجعل بعضهم محببا إلى الناس وتجعل بعضهم الآخر بغيضا، وتطيل أمد هذا الحب والبغض أو تقصره، وهي الذوق فما هو؟ ومن أين يأتي؟ وإلى أي غاية ينتهي؟ وما المؤثرات المختلفة التي تكونه وتسلك به سبل التطور المختلفة المتباينة؟ أهو عقل خالص قوامه البحث والنقد والتقدير والحكم؟ كلا، فلو كان الذوق كله عقلا لضاعت آيات فنية خالدة، ولما استطاع هذا الجيل أن يعجب بكبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، ومع ذلك فقد كان أفلاطون يمقت هوميروس وشعره ويحظر درس هذا الشعر في مدينته الفاضلة، ولكنه على ذلك كان يستشهد به ويستخلص منه حكما لا تفنى. أهو شعور خالص قوامه الحس والتأثر والانفعال الذاتي الذي لا روية فيه ولا اختيار؟ كلا، فلو كان كذلك لضاعت آثار كبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، والمثل الذي قدمناه نفسه يدل على هذا أيضا، فلم يكن أفلاطون يصدر عن شعوره وانفعاله السريع الذي لا روية فيه حين كان يستشهد بأبيات هوميروس، وإنما كان يصدر عن عقله الفلسفي وعن حكمه وتقديره.
فليس الذوق إذن عقلا خالصا ولا شعورا خالصا وإنما هو مزاج من العقل والشعور، ولكن أي عقل وأي شعور هنا؟ يجب أن نلاحظ أن ليس للناس ذوق واحد ولكن لهم أذواقا مختلفة متباينة تختلف باختلاف بيئاتهم وظروف حياتهم، كما تختلف باختلاف حظوظهم من الثقافة وباختلاف حظوظهم من لين الحياة وشدتها ومن نزوع الحضارة بوجه عام، ولا بد من عودة إلى هذه الأذواق المختلفة إن أردنا استقصاءها، فلندعها الآن ولنقف عند هذا الذوق الذي يمكن الجمهور من أن يعجب بأثر فني أو يسخط عليه، فهذا الذوق يجب أن يكون مشتركا بين الناس ليدفع أيديهم إلى التصفيق إن أعجبوا، وأفواههم إلى الصفير إن سخطوا، وهو مشترك بالفعل ولكن الغريب من أمره أنك مهما تلاحظ من إجماع الناس على الإعجاب بأثر فني أو السخط عليه فلن توفق إذا طلبت إلى كل واحد منهم أن يرد إعجابه أو سخطه إلى تعليل يشتركون فيه.
نامعلوم صفحہ
هم يعجبون معا ويسخطون معا وكأنهم يعجبون أو يسخطون لسبب يشعرون به جميعا، ولكن سل كل واحد منهم عن هذا السبب فستجد بينهم اختلافا كثيرا، ذلك لأنهم يختلفون في حظوظهم من العقل والشعور والثقافة وظروف الحياة المختلفة، فيقدر كل واحد منهم الأشياء قدرا ملائما لحاله فلا يتفقون إذا حكموا فرادى، ولكنهم على كل حال يشتركون في مقدار ما من هذا العقل وهذا الشعور وظروف الحياة الأخرى، وكأن هذا المقدار الذي يشتركون فيه هو الذي يمكنهم من أن يتفقوا على السخط أو الإعجاب، هذا المقدار الضئيل هو الذي يشترك فيه أفراد الجماعة فيكون ذوقهم العام مختلفا في نفسه أيضا باختلاف الظروف التي تحيط به وتؤثر فيه، ولست أشير إلى اختلاف الأذواق العامة باختلاف الأجيال ، فقد كان الذوق العام منذ ثلاثين سنة في مصر شيئا غير الذوق العام الذي نشهده الآن، كان يعجب بشيء من الشعر والنثر نراه نحن سخيفا، ولو قد عرض عليه ما ينشئ كتابنا وينظم شعراؤنا لما ذاقه ولما أساغه، ويكفي أن تعرض على جماعاتنا الآن ما يكتب أو ينظم منذ ثلاثين سنة لترى نفورها منه وإنكارها له، لا أشير إلى اختلاف الذوق باختلاف الأجيال، ولا إلى اختلاف الذوق باختلاف البيئات، فهذا طبيعي يسير الفهم والتعليل، وإنما أشير إلى أن الذوق العام الواحد في جيل بعينه يختلف باختلاف الظروف الوقتية الطارئة التي تعرض له فتؤثر فيه، فلو قد مثلت القصتان اللتان أشرت إليهما آنفا في باريس منذ عشر سنين لما أعجب بهما النظارة، بل لسخطوا عليهما أشد السخط؛ ذلك لأن ظروف الحياة التي كانت تحيط بالباريسيين في ذلك الوقت كانت تدعو الجماعات إلى بغض الأثرة وحب الإيثار، وكيف لا وقد كانت الحرب قائمة والجهود كلها موجهة إلى التعاون على دفع العدو وإنقاذ الوطن.
فالأثرة لا تلائم التعاون والتوفيق بين الجهود المختلفة، ولو أعيد الآن تمثيل القصص التي أنتجتها ظروف الحرب وأعجب بها الباريسيون حينئذ لما أعجبوا بها الآن إلا متكلفين؛ لأنهم يكرهون أن يقال عنهم أو أن يقولوا هم عن أنفسهم إنهم قد نسوا الحرب وأهوالها، فترى أن جيلا واحدا يعجب ويسخط إعجابا وسخطا مختلفين باختلاف الظروف التي تؤثر في ذوقه العام.
ومعنى هذا كله أن هاتين القصتين يجب أن تكون كل واحدة منهما مرآة صادقة إلى حد ما لطبيعة الخلق الفرنسي في هذه الأيام لهذه الأثرة التي أنتجتها الحرب بما دعت إليه من جهاد وصراع بين هؤلاء الذين كانوا يتعاونون منذ سنين، كانوا يتعاونون لدفع العدو الطارئ، فلما خلصوا منه فرغ بعضهم لبعض، وكانوا قد لقوا في الحرب خطوبا وأهوالا وصنوفا من الحرمان والبؤس، فهم يريدون الآن أن يعوضوا ما فاتهم وأن يستمتعوا من اللذات بما يعدل ألوان البؤس والحرمان التي خضعوا لها من قبل، وإذن فهم أثرون، ويجب أن تكون الأثرة هي الطابع الذي يطبع أخلاقهم، وأعمالهم، وذوقهم، وآثارهم الفنية.
ومن المحقق أن هذا الطور من أطوار الحياة الفرنسية سيزول كما زال غيره من أطوارها السابقة، ويومئذ لا يطبع الذوق العام في فرنسا بطابع الأثرة هذا، ولا يعجب الفرنسيون بهاتين القصتين، ولا يتخذ الكتاب والممثلون الأخلاق والعرف وسيلة إلى إرضاء الأثرة وحب النفس.
ومثل هذا يمكن أن يقال في كل ذوق عام وفي كل جيل من أجيال الناس، وكم أحب أن أعرف الطابع الذي يطبع ذوقنا المصري العام في هذه الأيام التي نعيش فيها.
من عمل الشيطان
كان هذا من عمل الشيطان ليس في ذلك شك، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء، ولأن السماء ترتفع عن العناية بهذه الصغائر، فالحب يسعى إلى القلوب من طريق العيون أو من طريق الآذان، من طريق الصورة التي تراها العين فتنقلها إلى النفس بما تحمل من دواعي الميل والنفور، أو من طريق الصوت الذي تحمله الأذن إلى القلب بما يشيع فيه من أسباب الحنان أو القسوة، فأما أن يصل الحب إلى القلوب وينتهي البغض إلى النفوس من طريق الأيدي التي تلطم والوجوه التي تتلقى اللطم فشيء غير مألوف لم تبتكره الأشياء، ولم تهبط به إرادة السماء، وإنما اخترعه عبث شيطان ماكر أو كيد عفريت من هذه العفاريت التي تلعب بقلوب الناس ونفوسهم وتصرف عواطفهم وأهواءهم كما تشتهي في كثير من الأحيان.
وهذا الحب الذي أتحدث عنه، وهذا البغض الذي جاء في أثره لم تنشئهما نظرة من هذه النظرات الحادة الفاترة التي يقول فيها الشاعر القديم:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
نامعلوم صفحہ
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
ولم يحدثهما صوت من هذه الأصوات التي يقول فيها الشاعر القديم أيضا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وإنما أنشأتهما لطمتان إحداهما فتحت للعاشقين باب النعيم الذي لا يوصف، والأخرى فتحت لهما باب الجحيم الذي لا يطاق، ولو أن قصة هذين العاشقين كانت من هذه القصص التي يبتكرها خيال الكتاب لما تحدثت إليكم بها، ولأعرضت عنها إعراضا، ولرأيتها أثرا من آثار خيال مريض لا يحسن التحليق في أجواء الفن بمقدار ما يحس الإسفاف إلى الحقائق الواقعة، ولكنها قصة لم يخترعها الخيال وإنما اخترعتها ظروف الحياة، وهي إن صورت شيئا فإنما تصور سخف الإنسان وعبث الشيطان وائتلاف الحياة الإنسانية أحيانا من أشياء قليلة الغناء حقا.
كان ذلك في مدينة من مدن فرنسا تعرفونها جميعا حق المعرفة، وفي جنة من جنات هذه المدينة ليس منكم إلا من ألم بها مصبحا أو ممسيا ملتمسا للرياضة أو ساعيا إلى الجامعة، فكلكم قد درس في مونبلييه، وكلكم قد ألم بحديقتها المعروفة ... وأظنكم تذكرون أن كثيرا من الحفلات الشعبية تقام في هذه الحديقة، فقبيل حفلة من هذه الحفلات بدأت هذه القصة التي تضحك من أراد أن يضحك، وتحزن من أراد أن يحزن، وتصور سخف الحياة على كل حال. كل الناس يزدحمون على باب الحديقة ازدحاما شديدا ليشهدوا حفلا موسيقيا عسكريا قد خصص إيراده لإعانة الجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك في الساعة الثانية بعد الظهر حين فرغ الناس من غدائهم، وكان ذلك في آخر الربيع وأول الصيف حين يشتد في مونبلييه ذلك الحر الرطب الذي يصهر الأجسام والنفوس جميعا، ويخرج الناس عن أطوارهم ويهيئهم للغضب السريع. كان الناس يزدحمون ويتدافعون بالمناكب، وكان صاحبنا يزاحم مع المزاحمين ويدافع مع المدافعين، وإنه لفي ذلك يتقدم خطوة ويتأخر أخرى، وإذا وجهه يتلقى على إحدى صفحتيه لطمة لم يتلق مثلها قط، لطمة لفتته إلى نفسه ولفتت الناس إليه ولفتته إلى المصدر الذي يمكن أن يكون قد ساقها إليه، وملأت قلبه غضبا وحفيظة وموجدة، بل قد ملأت قلبه نخوة ومروءة وثورة للكرامة المهدرة والشرف المهان.
فقد كان صاحبنا عربيا من أهل الريف، فلم تكد اللطمة تبلغ وجهه حتى ثارت نفسه وهاجت عاطفته وغلى الدم في عروقه وصعد إلى وجهه الملطوم، واستيقن أن العروبة كلها قد أهينت في شخصه إهانة لا تردها لطمة كاللطمة التي تلقاها، ولا يغسلها إلا ذلك الدم الذي زعم المتنبي أنه وحده هو الذي يسلم الشرف الرفيع من الأذى حين يراق على جوانبه.
كان هذا كله في لحظة بل في أقصر من لحظة إن أمكن أن يكون هناك ما هو أقصر من اللحظة، وقد رفع صاحبنا رأسه وتهيأ للهجوم الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر، ولكنه لم يكد يرفع رأسه ويلتفت به إلى يمين حتى أطرق ولسانه يقول عن غير إرادة وفي صوت متهدج أضحك منه من حوله وأضحكه من نفسه فيما بعد: معذرة يا سيدتي! قالت السيدة التي لطمته: معذرة من ماذا؟ بل أنا التي تعتذر إليك، فقد ظننت أنك آذيتني بهذا الدفع المنكر، ولم تكد يدي تصيب وجهك حتى عرفت أنك بريء وأن الآثم شخص آخر ليس له حظ من أدب ولا من تربية، وكان هذا الشخص الآخر الذي ليس له حظ من أدب ولا تربية قد ذاب في أثناء هذا كله واستخفى، ومن يدري لعله لم يكن إلا شيطانا كاد كيده ثم ابتلعته الأرض أو اختطفته السماء، ولعله لم يكن إلا خيالا لعب برأس السيدة، والشيء المحقق هو أنها أحست أو ظنت أنها أحست دفعا غير كريم فلطمت وجه هذا الفتى، ثم لم تلبث أن عرفت براءته فاعتذرت إليه من لطمتها في نفس الوقت الذي كان هو يعتذر إليها فيه من هذا البطش الذي هم أن يبطشه بها، ومن هذا الغضب الذي هم أن يصبه عليها صبا، والشيء المحقق أيضا هو أن هذه اللطمة التي دعت إلى تبادل الاعتذار قد دعت إلى تبادل الابتسام ثم إلى تبادل الحديث، ثم إلى الاستمتاع بالموسيقى العسكرية التي خصص إيرادها للجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، والشيء المحقق أيضا هو أن الأسباب التي مدتها هذه اللطمة لم تنقطع بانتهاء الحفلة وإنما اتصلت وكانت مصدرا غريبا لحب غريب.
وما أظنكم تنتظرون أن أقص عليكم كيف خرج اللاطم والملطوم من الحديقة وكيف سعيا معا إلى قهوة فرنسا ، هناك قريبا من الاسبلاناد، وكيف تبردا فيها من حر الصيف ومن حر الحفلة بقدحين من أقداح الجعة، وكيف اتصل الحديث بينهما حلوا رائقا للنفوس حينا وحادا ممزقا للقلوب حينا آخر حتى فرق بينهما مقدم الليل فتفرقا ولكن على موعد للقاء ...
نامعلوم صفحہ
وكلكم يعرف إلام تنتهي هذه المواعيد حين تتصل، وقد انتهت مواعيد صاحبينا إلى حب هائج مضطرم لم يخفف من لوعته إلا الزواج، فصوروا لأنفسكم إن كنتم في حاجة إلى أن تصوروا لها هيام العاشقين أثناء هذه الخطبة التي اتصلت وقتا غير قصير، وصوروا لأنفسكم أثر هذا الهيام في حياة الفتى وفي طلبه للعلم وإقباله على الدرس، وأثره في أسرة الفتى المصرية في قرية من قرى الريف، وأثره كذلك في نفس الفتاة وفي أسرتها المحافظة، صوروا لأنفسكم هذا كله وقدروا أن الحب الذي أثارته هذه اللطمة قد قهر هذا كله وتغلب على ما فيه من صعاب وعقاب وانتهى إلى الزواج على رغم الدرس الذي أهمل، وعلى رغم المقاومة التي جاءت من الريف المصري، والمقاومة الأخرى التي جاءت من الريف الفرنسي، وصوروا لأنفسكم كذلك أن هذه اللطمة قد أذكت الحسرة في كثير من القلوب وأشبت الغيظ في كثير من القلوب أيضا: أذكت الحسرة في قلوب فتيات كن يفكرن في هذا الشاب، وأشبت الغيظ في قلوب شباب كانوا يفكرون في هذه الفتاة، ولكن الحب سيل جارف لا يمر بشيء إلا اكتسحه اكتساحا، وريح عاصفة لا تدع شيئا أتت عليه إلا جعلته كالرميم، والحب قاهر بطبعه: قاهر للناس وقاهر للأشياء وقاهر للأحداث والخطوب أيضا، وحب هذين العاشقين قد قهر كل شيء وقهر كل إنسان، ووقف العاشقان ذات صباح أمام العمدة في مدينة مونبلييه فألقى عليهما سؤالين وسمع منهما جوابين، وتلا عليهما طرفا من أطراف القانون المدني وأعلن بعد ذلك أنهما قد أصبحا زوجين، وانتهت تلك اللطمة إلى غايتها الأولى.
ففتح للعاشقين باب من أبواب النعيم الذي لم تر مثله عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر لأحد على بال، وكأنما كانت تلك اللطمة شيئا يشبه الطرق على الباب للاستئذان في الدخول، وكأنما كان الحب هو الذي اصطنع يد الفتاة فطرق بها على قلب الفتى بابه، ولم يكن باب هذا القلب عين الفتى ولا أذنه ولا فمه، وإنما كان صفحة وجهه الذي لم يكن رائعا ولا جميلا.
وقد استمتع العاشقان بهذا النعيم ما شاء الله أن يستمتعا به، ذاقا لذائذه في فرنسا وتنقلا بها بين إيطاليا وسويسرا، وعبرا بها البحر آخر الأمر إلى مصر واستقرا بها حيث تعلمون في مدينة من المدن المصرية سعيدين موفورين لا يعرفان من الحياة إلا وجهها الباسم الصبوح، ولكن وجه الحياة ليس باسما دائما بل قد يعتريه العبوس، وليس مشرقا دائما بل قد يغشاه الظلام أحيانا، وقد يصدر عبوس الحياة وإظلامها عن الناس حين يأتون بعض الأمر ويدعون بعضه، حين يقولون فيكون ما يقولونه مصدرا للشر، وحين يسكتون فيكون سكوتهم سبيلا إلى الريب، حين يعملون فيكون عملهم مثيرا للسخط، وحين يكسلون فيكون كسلهم وسيلة إلى الاتهام.
والواقع أن حياة الزوجين أظلمت ذات يوم، لا لأن أحدهما قال شيئا أو عمل شيئا، ولكن لأن ساعة من ساعات الصفو الحلو البريء أبت أن تنقضي دون أن تعقب كدرا ومرارة وشكا.
فقد فرغ الزوجان ذات يوم لمجلس من هذه المجالس الكريمة التي يسمر فيها الأصدقاء بعد الغداء أو بعد العشاء حين يفرغون من طعام أحسن إعداده وشراب أحسن اختياره، وحين يقبلون على الحديث أحيانا وعلى الموسيقى أحيانا أخرى وعلى الرقص في أثناء ذلك، وقد أخذ الأصدقاء في تلك الليلة بحظهم من نعيم الحياة وتفرقوا، وخلا الزوجان وأخذا يتحدثان عن وليمتهما وعما دار حولها من حديث، وعما كان بعدها من سمر، وكان الزوج متحمسا في استعراض هذا كله، وكانت امرأته تسمع له في غير نشاط أو لعلها كانت تسمع له بإحدى أذنيها لا بهما جميعا، لعلها كانت ذاهلة عنه بعض الذهول، وقد نبهها رفيقا بها فلم تتنبه، وقد نبهها مرة ثانية فلم يغن عنه التنبيه شيئا، وإنما مضى هو في حديثه المتحمس، ومضت هي في استماعها الذاهل حتى رابه من أمرها شيء.
وأيسر الريب بين العاشقين لا يخلو من خطر، فقلوبهم حساسة ونفوسهم أشبه شيء بالحطب الجذل لا تكاد تمسه النار حتى يصبح حريقا مضطربا يملأ ما حوله لهبا، وكأن نفس الفتى كانت معدة لشيء من هذا، فقد كان غيران لا يطيق الشك ولا يحتمل الريب، فلم ذهول امرأته عن حديثه وإمعانها في هذا الذهول؟! ضاقت نفسه ثم اشتد ضيقها ثم ثارت ثم خرجت عن طورها وإذا هو يقول أكثر مما كان يريد، وإذا هي تظن أكثر مما كان ينبغي، وإذا ألفاظ طائشة تلتقي ثم تصطدم، وإذا يد الفتى تمتد ثم تنقبض، وإذا اللطمة التي تلقاها في مونبلييه ففتحت باب النعيم للعاشقين قد ردت إلى صاحبتها في مدينة من المدن المصرية ففتحت باب الجحيم للبائسين.
وما أحب أن أصور لكم من أمرهما أكثر من ذلك، فما أريد أن أخرج من الإشارة إلى الدلالة، ولا من التلميح إلى التصريح، وإني على ما تعرفون من إمعاني في البغض حين أبغض، لأكره أن أتمنى لأشد الناس لي عداء أن يصير إلى مثل ما صار إليه الفتى وإلى مثل ما صارت إليه الفتاة. ألا ترون أن هذا الشر كله لا يمكن أن يكون إلا من عمل الشيطان؟ وهم القوم أن يجعلوا هذا الحديث موضوعا للجدال يعللون فيه ويئولون، وينكرون منه ويعرفون، ولكن أحدهم رفع صوته حتى اضطرهم إلى الصمت وقال في سخرية لاذعة: ما أكثر ما تفتح اللطمات أبوابا للنعيم ثم تفتح بعدها أبوابا للجحيم! ألم تسمعوا أن لطمة وثبت بفلان إلى مكان رفيع، وأن لطمة أخرى قد تهبط به قطعا إلى مكان سحيق؟!
قال صاحب الحديث: أما وقد أخذتم تخوضون في حديث الأشخاص، وتلمحون إلى أحداث السياسة، فليس لي بينكم مقام، وانصرف وأصحابه يدعونه إلى أن يعود وهم يقولون: أقبل فقد آمنا بأن قصتك من عمل الشيطان.
الفأل
كان ممعنا في القراءة حين سمع صوتا عذبا يدعوه، فلما رفع رأسه رأى زوجه قائمة أمامه وقد أشرقت من وجهها كله ابتسامة حلوة فيها كثير من الخفر وفيها شيء من خوف ضئيل وشيء من العجب أيضا. قالت له في صوت يريد أن يضحك، ولكنه يقاوم الارتياع: إن في حجرة الاستقبال ضيفا ينتظرك، وهم أن يسألها عن هذا الضيف، ولكنها أخذت يده في رفق، وأنهضته فاستجاب لها مداعبا مخفيا لبعض الوجل، فلم يكن أحب إليه من أن يمضي في قراءته لتلك القصة الرائعة التي يعرض فيها مكسيم جوركي حياته أثناء الصبا.
نامعلوم صفحہ
وقد سعت به زوجه سعيا رفيقا إلى حجرة الاستقبال، فلما بلغ باب الحجرة لم يجد أحدا، وإنما وجد هدهدا قد استقر على البيانو في هدوء واطمئنان، فلم يكد يراه حتى أغرق وأغرقت زوجه معه في ضحك متصل لم يكد يفرغ منه حتى تلا الآية الكريمة:
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين
ثم داعب خد امرأته وقال لها في صوت حازم جازم: انتظري نبأ عظيما يبلغك اليوم أو غدا، فنظرت إليه كالحائرة المستفهمة، ولكنه قال لها في صوته الحازم الجازم: قد علمت أن الهدهد لا يكذب ولا يحب الكذب. ثم عاد إلى كتابه ولكنه لم ينظر فيه، وانتظرت هي أن ينصرف الهدهد عن البيانو، فلما انصرف أقبلت على الموسيقى، ولكنها لم تعزف، وإنما جعلت أصابعها تذهب وتجيء في غير انتظام، كان مشرد النفس أمام الكتاب، وكانت مشردة النفس أمام البيانو.
كان كل منهما بعيدا عن صاحبه ولكنهما كانا يفكران في شيء واحد، أو في أشياء مؤتلفة متقاربة، يتكون منها جزء قيم من نسيج الذكرى هذا الذي يعمر القلوب ويمتع العقول، ويضيء في النفوس حين تظلم الأحداث وتدلهم الخطوب، فقد كان للهدهد أثر عظيم الخطر في حياتهما الأولى، كان رسول البشر والغبطة والحبور إلى أبنائهما حين كانوا أطفالا لا يكادون يعقلون، كان الهدهد هو الذي يحمل إليهم ما تريد أمهم أن تمتعهم به من طرفة، وما يريد أبوهم أن يسرهم به من هدية، وكان الهدهد يستخفي بطرفه وهداياه ينثرها في حجرات البيت وغرفاته نثرا، وينشرها في أبهاء الدار ودهاليزها نشرا، وربما أخفاها إخفاء في أعشاب الحديقة وبين أشجارها ونجومها، وربما علقها في الأغصان أو تركها على حافات النوافذ.
ولم يكن يمضي يوم حتى يتصايح الأطفال في الصباح أو في المساء بأن الهدهد قد زار الدار وترك فيها شيئا، وكان الأطفال يحبون الهدهد أشد الحب، ويودون لو استطاعوا أن يؤنسوه ويحدثوه ويسمعوا منه، ولكنهم كانوا يرونه قد وقف منهم غير بعيد في هذا المكان أو ذاك من الحديقة، فإذا دعوه لم يستجب لهم كأنه لا يسمع منهم، وإذا سعوا إليه ارتفع في الجو ارتفاعا يسيرا، ثم انصرف عنهم دون أن يوئسهم من منظره، ودون أن يبخل عليهم بصوته هذا الذي لم يكن يخلو من التحدي، وكان الأطفال يسألون أمهم حينا وأباهم حينا آخر: ما بالهم لا يرون الهدهد حين يحمل إليهم طرفه وتحفه، وإنما يرونه دائما فارغا خاليا إلى نفسه، نافرا منهم منصرفا عنهم؟ فكانت أمهم تجيبهم، وكان أبوهم يجيبهم أيضا، بأن الهدهد حذر لبق ظريف يحب المداعبة، ويؤثر أن يفجأ أصدقاءه بما يترك لهم من الهدايا، وقد شب الأطفال وعقلوا واستبانوا الحقائق من أمر الهدهد، وما كان يحمل إليهم من الهدايا، ولكنهم مع ذلك خادعوا أبويهم حينا وخيلوا إليهما أنهم كانوا يصدقون ما يقصان عليهم من أمر الهدهد، ثم خادعوا أنفسهم حينا آخر وأرادوا أن يصدقوا ما كان يقص عليهم من أمر الهدهد، ثم لم يجدوا بدا من الإذعان لحكم العقل والانحراف عن قصة الهدهد، فجعلوا يتندرون بها في كثير من الحنان ساخرين من أنفسهم ومداعبين لأبويهم، ثم صرفوا إلى شئون الصبا والشباب عن شئون الطفولة، وشغلوا بالدرس والتحصيل عن هدايا الهدهد وطرفه.
كان صاحبنا يستعرض هذا كله وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى مما كتب فيه شيئا، وكانت زوجه تستعرض هذا كله وهي تجري أصابعها على البيانو دون أن تستخرج منه لحنا مستقيما، على أنها لم تلبث أن حزمت أمرها، وأقبلت على موسيقاها، فانغمست فيها انغماسا، أما هو فلم يستطع أن يحزم أمره ولا أن يعود إلى مكسيم جوركي، لأنه لم يكد يفرغ من استعراض طفولة أبنائه حتى استعرض طفولة نفسه.
فقد كانت الصلة بينه وبين الهدهد بعيدة جدا أبعد من الصلة بينه وبين زوجه وبنيه. كان يعرف الهدهد منذ طفولته الأولى، يراه فيعجب بشكله، ويسمعه فيحن إلى صوته، ويتمنى أن يتاح له هدهد يمسكه في الدار ويتخذه له رفيقا، وما زال يلح بهذا التمني على أبيه وإخوته وذوي معرفته حتى رفق به بعض أهل القرية فجاءه ذات صباح بقفص ظريف قد استقر فيه هدهد ظريف، وهو يذكر ابتهاجه بهذه التحفة وإسراعه إلى أمه راضيا مسرورا، يخرجه الرضا والسرور عن طوره، وهو يذكر كيف ابتسمت له أمه في رفق وكيف تقدمت إليه في ألا يعذب الهدهد ولا يرهقه من أمره عسرا، وكيف نهضت فأخذت منه القفص وعلقته إلى جدار من جدران الدار، ووضعت فيه إناءين صغيرين في أحدهما قليل من ماء وفي الآخر قليل من حب، وطرحت إلى جانب الجدار وسادة، وقالت لابنها وهي تمسح على رأسه: هذا مكانك من صديقك الهدهد، تستطيع أن تأوي إليه كلما أحببت أن تراه أو تسمع منه. وقد وفى الصبي لهدهده أياما طوالا فكان يسرع إليه كلما عاد من الكتاب وسط النهار وآخره فيتحدث إليه، ويسمع منه، ويطيل الحديث والاستماع.
ولكن الرجل الذي أهدى إليه الهدهد لم يحسن الفهم عنه فيما يظهر، كما أنه هو لم يحسن الفهم عن نفسه، فقد أقبل ذلك الرجل عليه في الضحى ذات يوم وأهدى إليه صقرا صغيرا لطيفا بعد أن قص من جناحيه، وفرح الصبي بصقره ذاك الجميل، وخيل إليه بل ألقي في نفسه أن هذا الصقر سيؤنس الهدهد في وحدته، وسيكون رفيقه حين يشغل هو بهذا الكتاب البغيض الذي كان يذهب إليه أول النهار ويعود منه لحظة للغداء ثم يرجع إليه مسرعا ولا يعود إلى صديقه الهدهد إلا آخر النهار. وكان الصبي يشفق على هدهده من هذه الوحدة المتصلة، فأي غرابة في أن يسعد بهذا الصديق الجديد الذي سيسلي الهدهد ما بعد عنه صاحبه، فإذا عاد لم يتحدث إلى الهدهد وحده وإنما تحدث إليه وإلى الصقر جميعا، وما هو إلا أن يدخل الصقر على الهدهد في قفصه وينصرف لبعض ما ينصرف إليه الصبية ثم يعود بعد ساعة قصيرة أو طويلة، فيرى، ويا هول ما يرى! يرى الهدهد ميتا قد نقر الصقر رأسه واستخرج ما فيه، إنه لم يكن يعرف أن الطير يعدو بعضها على بعض.
ويرى أمه حزينة تلومه وتعنف به في اللوم، وترسل إلى ذلك الفلاح الذي أهدى إليه الصقر شتما قبيحا، وقد أخذ صاحبنا وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى ما كتب فيه شيئا يستعرض هذه الذكرى، ويستعرض حزنه على الهدهد وحبه له من بعيد بعد تلك الكارثة واقتناعه بأن الخير له وللهدهد في أن يتراءيا ويتحدثا من بعيد، ثم ينتقل من هذا الاستعراض إلى ما عرف من أمر الهدهد حين حفظ القرآن واستظهر سورة النمل وعرف قصة سليمان وملكة سبأ. كل ذلك جعل يستعرضه وهو ينظر في كتابه دون أن يرى ما فيه، وقد استقر في نفسه أن لزيارة الهدهد لداره شأنا، وأنه قد جاء بالنبأ اليقين، وأن النهار لن ينقضي حتى يبلغه أمر ذو بال. والغريب الذي تستطيع أن تصدقه أو تكذبه - فلن يغير تصديقك ولا تكذيبك من الحق شيئا - هو أن النهار لم ينقض دون أن يأتيه النبأ العظيم.
والحق أن صاحبنا قد عاد في ذلك اليوم طفلا فعلق نفسه من بعض نواحيها بالتلفون، وعلقها من بعض نواحيها الأخرى بالجرس، وعلقها من ناحية ثالثة من نواحيها بساعي البريد، وتستطيع أن تقول إنه جلس في مكتبه واجما وخصص إحدى أذنيه للتلفون وإحداهما الأخرى للجرس، ومد عينيه أمامه إلى النافذة يرقب من يمكن أن يصعد سلم الدار من الزائرين، وقد طال به ذلك وشق عليه، ثم أقبلت عليه شئون الحياة اليومية فصرفته عن هذا السخف صرفا ظاهرا، ولكن قلبه ظل بقية النهار ينتظر شيئا غامضا، وقد دعاه التلفون حين أقبل الأصيل، فلما استمع إلى ما قيل له وأجاب بكلمات قصار أسرع إلى زوجه يقبلها ويقول مستبشرا: ألم أقل لك إن الهدهد قد جاء بالنبأ اليقين؟ قالت زوجه: وما ذاك؟ قال: استقالت الوزارة ودعيت إلى الاشتراك في الحكم.
نامعلوم صفحہ
ولم تشرق الشمس من غد حتى كان صاحبنا وزيرا، ولم يرتفع الضحى من اليوم نفسه حتى كان صاحبنا لا يخاف شيئا كما يخاف الهدهد، ولا يبغض شيئا كما يبغض الهدهد، ولم يكن بالأمس يأنس إلى شيء كما كان يأنس إلى الهدهد، ولم يكن بالأمس يحب شيئا كما كان يحب الهدهد، ولكن صدق الهدهد قد أقر في نفسه أيضا أن الهدهد لا يستطيع أن يأتيه بعد الوزارة بنبأ يسر أو يروق؛ فمن يدري إن أقبل الهدهد إليه يحمل نبأ استقالة الوزارة؟ وليس الهدهد صديقا له وحده من دون الناس يحمل إليه وحده الأنباء السارة، فقد يكون للهدهد أصدقاء آخرون يمكن أن يحمل إليهم أنباء سارة صادقة، ويمكن أن يكون من هذه الأنباء نبأ استقالة الوزارة والدعوة إلى الاشتراك في الحكم.
قل إن هذا منطق سخيف، وأؤكد لك أني أرى هذا منطقا سخيفا، ولكني أؤكد لك أيضا أن للحوادث منطقا غير منطق الناس، وإن التفاؤل والتشاؤم يعبثان بعقول الناس، فيفسدان منطقهم في رأي أرسطاطليس وفي رأي الأستاذ لطفي السيد، ولكنهما يقربان بين هذا المنطق وبين منطق الحوادث أحيانا، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن صاحبنا قد تطير بالهدهد طيرة شديدة كما كان يتفاءل به من قبل تفاؤلا شديدا، وأنه لم يسع قط إلى غرفة استقباله إلا وفي نفسه إشفاق شديد أن يرى الهدهد قائما على البيانو في مكانه ذاك، ولو استطاع لتقدم إلى أهله في أن تغلق نوافذ الدار ما أشرق النهار، وفي ألا تفتح إلا حين تنام الطير، والشيء الذي لا شك فيه أيضا هو أن استحى أن يتقدم في ذلك إلى أهله مخافة أن يظنوا به الظنون، ولكنه تقدم إلى أعوانه في الوزارة ألا تفتح نوافذ مكتبه، وزعم لهم أنه يكره أن يأتيه منها الضجيج والعجيج ويشفق من تيارات الهواء ويؤثر الضوء الرفيق على الضوء العنيف.
وحياة الوزراء حافلة بخطوب السياسة وأحداثها، فهم يرضون إذا أصبحوا، ويغضبون إذا ارتفع الضحى، ويعودون إلى الرضا حين ينتصف النهار، ويردون إلى السخط حين يجلسون إلى الغداء كل ساعة من ساعات الليل والنهار تحمل إليهم في دقائقها ألوانا من الرضا والسخط، ومن الأمن والخوف، ومن القلق والهدوء، فكان صاحبنا كلما حدث حادث مغضب أو مقلق وكلما نشر خبر مسخط أو مثير للخوف لم يذكر إلا الهدهد ولم ير أمامه إلا الهدهد، فقد كان الهدهد رسول النعمة إليه قبل أن يرقى إلى الحكم، فأصبح الهدهد نذير النقمة إليه بعد أن ارتقى إلى الحكم.
ولكل أجل كتاب، ولكل وزارة آخر، وقد أقبل صاحبنا مع الضحى ذات يوم على مكتبه، ولكنه لم يكد يدخل حتى رأى حبيبه أمس وعدوه اليوم قائما بشكله الجميل البشع على حافة النافذة وقد نسي الخدم إغلاقها لأمر ما، ولست أصف لك ثورة الوزير الظاهرة فقد تعرفها وهي لا تعنيني، وإن كان خادم مكتبه قد سمع ما لا يرضي وقضى ساعة منكرة، وإنما أصف لك تشاؤم الوزير فيما بينه وبين نفسه؛ فقد أظلم قلبه واربدت نفسه وساء خلقه وقبح لقاؤه للموظفين والزائرين جميعا، وعاد إلى أهله غضبان أسفا لا يكاد ينطق، وجلس إلى الغداء فلم يكد يصيب منه شيئا حتى قالت زوجه: إنك لمحزون منذ اليوم، هل من جديد؟ قال وهو يتكلف الابتسام: ما أدري ولكن رأيت الهدهد البغيض. قالت وقد كادت العبرة تخنق صوتها: لقد أصبح الهدهد بغيضا الآن وما أكثر ما كان يملأ قلوبنا غبطة وسرورا! ثم خلت إلى أبنائها فضحكت وضحكوا.
ولكن المساء لم يقبل في ذلك اليوم حتى كان صاحبنا يستأنف القراءة في كتاب مكسيم جوركي من حيث تركها، وحتى كانت زوجه تعزف على البيانو شيئا من ألحان موزار، أما هو فكان محزونا يلعن الهدهد، وأما هي فكانت راضية تثني على الهدهد ثناء كثيرا، وأما الناس فكان منهم الراضي المستبشر وكان منهم من مزق الغيظ قلبه تمزيقا.
يأس
لم يكد يرفع قدح الشاي إلى فمه حتى رده إلى المائدة متعجلا حذرا، فقد أحس رعدة خفيفة تصعد في جسمه وتنتشر وتوشك أن تبلغ ذراعه، فتضطرب يده بهذا القدح الممتلئ الذي كانت ترفعه، ويحدث هذا الاضطراب - وإن خف - حدثا على هذه المائدة الأنيقة التي لا ينبغي أن يفسد جمالها قدح يميل إلى يمين أو إلى شمال ويتخفف من بعض ما يحتويه، ولم يسأل نفسه عن مصدر هذه الرعدة التي جعلت تسعى في جسمه كما يسعى النمل، فقد كان وقته أضيق من السؤال والجواب ومن البحث والاستقصاء، وقد كان هو عالما في دخيلة نفسه بمصدر هذه الرعدة، فلم يكن من الممكن أن تعرض له إلا إذا أقبلت عليه ربة الدار عامدة إليه كأنما تريد أن تختصه ببعض الحديث، ومن أجل هذا تعجل وضع القدح على المائدة، ورفع رأسه، وعدل قامته وتهيأ للنهوض.
وما هي إلا لحظة أو لحظتان حتى رآها تقبل مشرقة الوجه مبسوطة الأسارير قد رسمت على ثغرها الجميل ابتسامة حلوة غامضة، فلما تبين أنها عامدة إليه نهض، ولكنها أشارت إليه ألا يفعل، ثم قالت له في صوت خافت يوشك أن يكون همسا ولكن فيه شيئا من غضب: هل تعلم يا سيدي أن صمتك اليوم يسوءني؟ قال: وهل سرك قط منطقي يا سيدتي؟ قالت وقد اتسعت ابتسامتها: هذا حساب سنستوفيه إذا خلت لنا الجنة بعد حين. قال وهو يدافع غيظا يريد أن ينفجر: تريدين أن تقولي إذا خلا لنا الجحيم بعد حين. هنالك انصرفت عنه رفيقة رشيقة بعد أن ألقت إليه نظرة ذهبت بقلبه كل مذهب وسلكت بعقله كل سبيل، وقد ظل واجما في مكانه لحظات ثم أقبل على ما كان أمامه، فأكل قليلا وشرب كثيرا، وترك مجلسه بعد ذلك وجعل يتنقل في الحديقة بأحاديثه وتحياته وابتساماته فرحا مرحا منطلق اللسان خفيف الحركة حتى قال بعض الزائرين لبعض: لقد عرفت ربة الدار كيف ترد إليه الحياة، وتشجع فيه النشاط، وتنقله من جمود وخمود إلى نشاط يوشك أن يخلو من الوقار. أما هي فقد مضت في تحية الزائرين كأن لم يكن شيء، وجعلت توزع بينهم بالقسط حينا وبغير القسط أحيانا سحر اللحظ واللفظ، تقف إلى هذا فتطيل الوقوف، وتلقي إلى هذا كلمة سريعة عابرة، وإلى هذا نظرة كأنما تختلسها اختلاسا، وتشرف مع هذا كله أو رغم هذا كله على حركة الخدم الذين كانوا يسعون بألوان الطعام والشراب على الزائرين حتى كأنها لم تكن ذات نفس واحدة، وإنما كانت ذات نفوس كثيرة يعنى بعضها بالزائرين ويعنى بعضها الآخر بالخدم، يعنى بعضها بتوزيع الخبز ويعنى بعضها الآخر بتوزيع الدعاية، وعيون الزائرين على كثرتهم ترمقها في إعجاب وإكبار أحيانا، وترشقها في غيظ وحسد أحيانا أخرى، وربما تعلقت بعض العيون بوجهها المشرق الجميل، وربما تعلقت عيون أخرى بهذا الفن أو ذاك من فنون زينتها الرائعة البارعة، وربما اجترأت بعض العيون الوقحة فتزلقت على شخصها كلها من رأسها إلى قدميها تعرب بذلك عن عواطف فيها كثير من الكلف والفتون.
ولو خير الزائرون لاختاروا ولأطالوا المقام في هذه الحديقة الجميلة، وفي هذا الاجتماع الحلو، وحول هذه الغادة الفاتنة حتى يتقدم الليل، ولكن للحياة الاجتماعية أوضاعها وتقاليدها، وساعات الشاي محدودة يقاس طولها وقصرها بما للزائرين عند أصحاب الدار من مكانة. هؤلاء يلمون إلمامة قصيرة ثم ينصرفون، وهؤلاء يقيمون ساعة أو بعض ساعة ثم يمضون، وهؤلاء يمدون الإقامة حتى يخلو لهم وجه صاحبة الدار لحظات قصارا أو طوالا، والمقربون المقربون من الخاصة يتخلفون وينظرون إلى المنصرفين في شيء من الإشفاق والازدراء أو التعجل، حتى إذا انصرفت كثرة الزائرين أحاطوا بصاحبة الدار مهنئين لها مترفقين بها، متندرين بقوم كانوا يترضونهم ويتملقونهم منذ حين، وكان صاحبنا ذلك من أخص الخاصة وأقرب المقربين، وهو من أجل ذلك قد تخلف مع المتخلفين، فلم ينصرف حين انصرفت الكثرة، ولم ينصرف حين انصرفت القلة، وما كان له أن ينصرف وبينه وبين صاحبة الدار حساب سيستوفيانه إذا خلت لهما الجنة كما قالت، أو إذا خلا لهما الجحيم كما قال .
وفي الحق أن هذه الحديقة التي مدت فيها موائد الشاي كانت جنة وجحيما في وقت واحد، كانت جنة بهذه الأشجار الباسقة الملتفة المتكاثفة وبهذا الزهر الباسم عن ألوان مختلفة من الجمال، وبهذه البسط الخضر الرائعة التي كست أرضها ونشرت فيها رائحة ودعة ولذة للجسم والنفس جميعا، وبهذه النجوم التي كانت ترسل بين حين وحين أشعتها الضئيلة النحيلة كأنما تبحث بها عن شيء في أفناء هذه البسط أو في أحناء هذا الشجر، ثم بضوء القمر هذا الرفيق الذي نشر على شجرها وزهرها وعشبها أردية دقاقا تريد أن تصفو كل الصفاء، ولكن ظلمة الليل تشوبها بعض الشيء، فتشيع فيها ما يملأ النفس رضا يريد أن يصفو لولا هذا القلق اليسير الذي يتردد في جنباته بين حين وحين.
نامعلوم صفحہ
وكانت جحيما بالقياس إلى هذا الموله المفتون الذي يرى النعيم من حوله قريبا أشد القرب ولكنه بعيد أشد البعد؛ لأن في قلبه نارا تتأرجح وتتلظى وتمنعه من أن يبسط يده إلى شيء من هذا النعيم القريب. قد فتن بصاحبة الدار فتنة جامحة طغت على كل شيء كأنها السيل العنيف المندفع الذي لا يحفل بما يعترضه في طريقه من المصاعب والعقبات، فهذه الجنة الرائعة الشائقة تغريه بألوان من النعيم وتثير في نفسه ضروبا من الأماني وتخيل إليه أن كل ما يشتهي ميسر له، يكفي أن يريد ليبلغ ما يريد، ولكن هذه النار التي تتلظى في قلبه ترده عن هذا النعيم ردا، وتخيل إليه أنه لن يمس منه شيئا إلا أحرقه وجعله رمادا تذروه الرياح.
وكان يكفي أن يرى هذه الغادة الحسناء في هذه الروضة الفيحاء ليجن جنونه وليبلغ اليأس به أقصاه، فلم يكن يعرف شيئا أجمل ولا أروع ولا أشد ملاءمة لذوقه وطبعه وهواه من هذه الغادة حين تسعى في حديقتها الجميلة، ولم يكن يعرف شيئا أبعد منالا ولا أشد امتناعا من إرضاء ذوقه وطبعه وهواه، فقد كان حبه يائسا أو قل كان حبه هو اليأس نفسه، وكان هذا اليأس ثقيلا بغيضا؛ لأنه لم يستطع من جهة أن يريحه كما تعود اليأس أن يريح اليائسين، ولأنه لم يكن من جهة أخرى يعرف له أصلا ولا يتبين له مصدرا، فلم يكن منفردا بالحب من دون صاحبته، ولعل حظه من الكلف والهيام ألا يكون أقل من حظها منهما.
لم يكن يستطيع عن لقائها صبرا، ولم تكن تستطيع عن لقائه سلوا، وما أكثر ما امتحن هذا الحب فشغل نفسه عن صاحبته يومين أو أياما وأكره نفسه أحيانا على القطيعة، ولكنه كان ينعم دائما حين يستوثق من أنه لم يألم وحده لهذا الهجر، ولم يشق وحده بهذه القطيعة، وكان يسعد حين يتحقق أنه لم يكن وحده يلتمس الوسائل ويعمل الحيلة ويتكلف الممكن وغير الممكن ليصل ما انقطع من الود ويجدد ما رث من صلات الحب ويستأنف ما أهمل من اللقاء في كل يوم.
ولكن هذا اللقاء كان جدبا لا حظ له من خصب، كان أشبه بالصحراء المحرقة التي لا يجد الإنسان فيها روحا ولا أملا في الروح، وإنما هي الشمس المتوهجة والرملة المحترقة والعذاب الذي يأخذ الإنسان من كل مكان. كان هذا اللقاء شكاة متصلة تصدر عنه ورثاء متصلا يصدر عنها، ولكنه لم يكن يتجاوز الشكاة والرثاء، وإنما كان يقف عندهما كأنهما غاية الحب أن يألم العاشق ويرحم المعشوق، وربما كان أشد الأشياء تعذيبا لقلبه ومشقة على نفسه جهله بهذه المصادر الخفية التي تملأ حبه يأسا وقنوطا. كان يحب وكان محبوبا وكان مشوقا وكان مشوقا إليه. لم يكن يسعد وحده باللقاء حين يبتدئ، ولم يكن يشقى وحده باللقاء حين يتصل، ولم يكن يتعذب وحده بالفراق حين يأتي موعده، ولم يكن بينه وبين صاحبته من الفروق في الطبقة والمنزلة ما يحول بين هذا الحب الشقي وبين أن يستحيل إلى زواج سعيد، ولكنه لم يكن يذكر الزواج أو يشير إليه من بعيد حتى تثور الثائرة، وتفور الفائرة، وتعصف العواصف التي تفسد على الحبيبين من أمرهما كل شيء.
قالت له ذات يوم وقد شكا إليها حتى أملها وألح عليها حتى أبرمها واتهمها بالبغي عليه والتحكم فيه، وبأنها قد خدعته عن نفسه وأظهرت له من الحب ما أطمعه وأغراه، حتى إذا استوثقت من أنها قد ملكت عقله وسحرت لبه واستأثرت بقلبه واستيقنت أنه لن يجد عن حبها منصرفا ولا عن لقائها عزاء، تناءت عنه وتنكرت له وجعلت تنضجه على هذه النار الهادئة التي هي شر أنواع النار. قالت له ذات يوم وقد شق عليها بهذا كله: إنك لتعلم أني لا أضمر من حبك أقل مما تضمر من حبي، وأني لا أجد إلى السلو عنك سبيلا كما أنك لا تجد إلى السلو عني سبيلا، ولكن بينك وبيني فرقا عظيما وأمدا بعيدا من فهم الحب وتقديره؛ فحبي نقي ممعن في النقاء صاف مغرق في الصفاء يجد غايته في نفسه ولا يريد بعد هذه الغاية شيئا، فأنا أحبك وحسبي أني أحبك، وقد لا يوئسني أن أعرف أن في حبك لي ضعفا وفتورا وأنك تستطيع أن تلهو عني بما شئت من أسباب اللهو، وأما أنت فإن حبك لا يقنع بنفسه، وإنما يتجاوزها إلى أشياء لعل الاتصال بينها وبين الحب النقي البريء ليس من القوة بمقدار ما تظن، وإني لأمنحك خير ما عندي وأصفيك مودتي وأشغل بك عقلي وقلبي وضميري، وأرى أن هذه المنزلة هي أرفع منازل الحب وأرقاها وأدناها إلى الكمال، ولكنك لا تقنع مني بذلك، ولعلك لا تحفل بذلك بمقدار ما تحفل بما هو أقل منه خطرا وأهون منه شأنا وأسرع منه إلى الزوال والانحلال.
أصفيك حبا من شأنه البقاء والاتصال الذي يشبه الخلود، وتسألني حبا هينا رخيصا ينعم الإنسان به ساعة قصيرة ثم يشقى به ساعات طوالا، وإني لأكبر ما بيننا من الحب وأرتفع به عن هذه الصغائر التي تدنسه وتفسده، ولولا أن هذا شيء غير مألوف وأني أرفع نفسي عنه وأبرئها منه، لأبحت لكل واحد منا أن يلتمس متاعه ورضا جسمه حيث شاء، حتى إذا التقينا لم يكن بيننا إلا طهر لا تشوبه شائبة، ونقاء لا يعرض له الكدر بما تثير غرائز الجسم من هذه العواطف الآثمة الهوجاء. ولكنه سمع لها وفهم عنها، وأبى إلا أن يمضي في شكاته المتصلة وإلحاحه العنيف، وإلا أن يكرر ما كان يقوله دائما، وهو أن الحب واحد لا يتعدد، وكل لا يتجزأ، وهو لا يفرق بين رضا النفس والعقل والقلب وإرضاء العواطف الجامحة والأهواء الثائرة.
وكذلك كانت حياتهما ماضية على هذا النحو: إلحاح وامتناع، وشكاة ورثاء، ورضا وغضب، ورجاء وقنوط، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم أقبل على صاحبته فيمن أقبل لحفل دعت إليه فجأة ولغير علة واضحة ولا سبب معروف، وقد رأى نفسه في الحديقة ضيق الصدر مفرق النفس برما بما حوله من الأشياء وبمن حوله من الناس، ولو استطاع لعاد أدراجه ولرجع إلى صاحبته في أول الليل حين ينصرف عنها الزائرون، ولكنه لم يستطع، وقد علل بقاءه بأن الناس قد رأوا وعرفوا مكانه، وبأن انصرافه قد يثير الريبة ويغري به بعض الألسنة الطوال الحداد، وكان هذا التعليل حقا لا شك فيه ولا غبار عليه ولكنه لم يكن وحده هو الذي يفسر بقاءه، وإنما كانت هناك علة أخرى أو علل أخرى، فهو قد رأى صاحبته وكان يكفي أن يراها ليقيده منظرها في مكانه، ورأى الزائرين يقبلون عليها وكان يكفي أن يرى أحدا يدنو منها أو ينظر إليها لتضطرم في قلبه نار تجعل حياته جحيما كلها، ومن أجل ذلك أقام وأقام ساخطا برما عابس الوجه مغرقا في الصمت، حتى نبهته صاحبته إلى ما في هذا الصمت من إغراء للذين يلاحظون ثم لا يكتفون بالملاحظة وإنما يتندرون بما لاحظوا، وهي قد وعدته بأنهما سيستوفيان ما بينهما من حساب حين تخلو لهما الجنة بعد حين كما قالت أو حين يخلو لهما الجحيم بعد حين كما قال، وقد خلت لهما الحديقة آخر الأمر، ونظر صاحبنا، فإذا هو قائم من مصدر شقائه وسعادته غير بعيد كأنه الخادم ينتظر أن يصدر إليه مولاه أمرا.
وقد نظرت إليه فأطالت النظر ثم لم تملك أن تغرق في ضحك متصل طويل ملأه حفيظة وزاده اضطرابا إلى اضطراب، فلما كاد الضحك يسكت عنها، قالت له في صوت متقطع: وما يغيظك من هذا الضحك وإن مقامك هذا لمضحك حقا، ادن مني وخذ مجلسك الذي ألفته حين يخلص كل منا لصاحبه ولنبدأ في تمثيل القصة التي لا نمل تمثيلها، ولكني أريد في هذه الليلة ألا يطول التمثيل، فقد أتعبني هذا الاستقبال وأظنني في حاجة إلى شيء من راحة، وإن شئت فسأمنحك عشر دقائق تشكو فيها بثك وتفجر فيها غضبك ثم تغسل هذا الغضب بما تذرف من دموع، وسأمنح نفسي عشر دقائق أرد فيها على تجنيك وأزجر فيها غضبك الذي سيكون جامحا وقحا، وأمسح فيها دموعك التي ستكون غزارا، ثم أخصص عشر دقائق أخرى للتصافي بعد العتاب والتراضي بعد التغاضب والائتلاف بعد الاختلاف، فإذا بلغنا ذلك انتهى التمثيل وأسدل الستار، وانصرفت أنت إلى ما شئت أن تنفق فيه أول الليل من لقاء الأصدقاء أو الخلوة إلى الكتاب أو الخلوة إلى حبك هذا الذي يعذبك ويضنيك في غير طائل ولا غناء.
ولست أدري أأنفذ العاشقان برنامجهما كما رسمته الغادة الحسناء لم يتجاوز الخطة المرسومة بقصر أو طول، أم لم ينفذاه، وإنما أراهما حين تقدم الليل قد جلسا إلى مائدة الطعام يصيبان في دعة وهدوء مما يقدم إليهما من ألوان، وأراهما بعد ذلك يتصرفان في ألوان من الحديث الهادئ المطمئن كأنهما صديقان لم تكن بينهما ثورة ولا خصام، ثم أراهما وقد نهضا ليفترقا، وهي تبسم له ابتسامة فيها كثير من حزن، وهو يبسم لها ابتسامة فيها كثير من غيظ، حتى إذا بلغا باب الحجرة قالت له في صوت هادئ مكظوم: أما الليلة فإني قد أعددت لك مفاجأة لم تكن تقدر في يوم من الأيام أني سأعدها لك، وهم أن يسألها عن هذه المفاجأة، ولكنها لم تمهله وإنما وضعت يديها على كتفيه وأدنت جبهتها من فمه وهي تقول: سأمنحك الليلة قبلة، فإذا ظفرت بها فانصرف موفورا ولا تسألني غيرها.
ولست أدري أطالت هذه القبلة على الجبهة أم قصرت ولكني أعلم أن الفتى صدع بالأمر وانصرف موفورا سعيدا لم يسأل غيرها ولم يستجب للنوم أو لم يستجب له النوم حتى تجاوز الليل ثلثيه، ثم دخلت عليه خادمه مع الصبح تحمل إليه طعام الإفطار وتحمل إليه الصحف أيضا، ولكنها قدمت إليه غلافا لم يكد يأخذه حتى أحس من ورائه شيئا صلبا، ولم يكد ينظر فيه حتى عرف خط صاحبته، ولم يكد يفضه حتى وقعت في يده صورة، نظر فيها فأخذته رعدة عنيفة وسال على جسمه كله عرق بارد، وقد وقع في يده مع الصورة قرطاس صغير قد خطت عليه هذه الأسطر: لعلك عرفت صاحب هذه الصورة وتبينت ما بينك وبينه من شبه قريب، وفهمت مصدر اليأس الذي كتب على حبنا، وفهمت كذلك أن القبلة التي منحتك إياها كانت قبلة الوداع، فإن الحب والموت صديقان تفرق بينهما الحياة حينا ثم لا يلبثان أن يلتقيا ذات صباح أو ذات مساء، أما حبي وموتي فسيلتقيان قبل أن يسفر الصبح.
نامعلوم صفحہ
ربع مية
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد
ولم يكن ربع مية بالعلياء فالسند، وإنما كان في صحن الأزهر، وعند القبلتين القديمة والجديدة، حيث كانت الحركة المتصلة في الليل والنهار، وحيث كان ذلك الدوي الغريب الذي لم يكن ينقطع إلا في أوقات الصلاة العامة، والذي كثيرا ما فكرت فيه وسألت نفسي عن هذه الأجزاء التي لا تحصى، والذرات التي لا تعد، والتي كانت تؤلف جوهره وتكون مزاجه، وتجعل منه وحدة لا يظهر فيها الاختلاف، ولا يحس فيها التباين، فإذا حللتها رأيت اختلافا لا حد له، وتباينا ليس له آخر؛ رأيت أصوات قوم يتحدثون في متاع الدنيا ولهوها، وأصوات قوم آخرين يتحدثون في جد الحياة وآلامها، وقوما يذكرون الله، وقوما يدرسون العلم، وقوما يتلون القرآن، وقوما يقرءون ما يخطر لهم وما لا يخطر لك على بال، وقوما يخوضون فيما تظن وفيما لا تظن من فنون الحديث، ومن هذه الأصوات كلها ينعقد صوت واحد قوي ضخم عميق عنيف متحد يملأ فضاء الأزهر منذ تدخله إلى حين تخرج منه، ويملأ فضاء الأزهر من أي باب ولجته، وإلى أي باب تجاوزته، ويملأ فضاء الأزهر في جميع أرجائه وأنحائه على كثرة ما فيها من الانحناء والالتواء والانعطاف.
نعم في هذا الربع الذي لم يكن يخلو في نهار ولا في ليل، ولم يكن يهدأ في شتاء ولا في صيف، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى الحياة لأنه كان حياة كله، وكان حياة كأشد ما تكون الحياة قوة وحركة وإنتاجا، في هذا الربع وقفت كما وقف النابغة في ربع مية، ولكني لم أقف أصيلا، وإنما وقفت بعد صلاة العتمة ففهمت هذا النحو من شعر القدماء، أو قل أحسست هذا النحو من شعر القدماء، فما أكثر ما نفهم الشعر القديم والحديث دون أن نحسه كما يحسه قائلوه، ودون أن نتأثر به كما يتأثر به الشعراء.
وكان الأزهر كربع مية، خلا بعد عمران، وسكن بعد حركة، وأعيا عن جواب السؤال حين وجه إليه السؤال، وكان الأزهر كربع مية قد طال عليه الأمد وبعد به العهد، طال عليه الأمد أكثر مما طال على ربع مية، فما أظن أن ذلك الأمد الذي ذكره النابغة والذي طال على ربع مية كان طويلا مسرفا في الطول يكاد يبلغ ألف سنة كهذا الأمد الذي أذكره حين أتحدث عن الأزهر، والذي ذكرته حين تحدثت إلى الأزهر منذ أسبوعين، وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال، فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عاما، ولكني حملت في نفسي دائما للأزهر صورة حية قوية شديدة الحركة، عظيمة النشاط، رائعة الدوي، عسيرة التحليل، وكنت أسعى إلى الأزهر منذ أسبوعين، وإن قلبي ليخفق سعادة واغتباطا وحنينا إلى هذه الصورة التي صحبتني ربع قرن وطوفت معي في أقطار الأرض، واستقبلت معي ألوان الخطوب لم تضعف ولم تفتر ولم تتضاءل، والتي كنت أسعى بها إلى أصلها الأصيل في صحن الأزهر وعند القبلتين لتستمد قوة إلى قوتها وحياة إلى حياتها، فلما بلغت الربع - وليتني لم أبلغه - نظرت فإذا الصورة أقوى من الأصل، وإذا الأزهر الذي أحمله في قلبي أشد حركة وأعظم نشاطا وأقوى حياة من الأزهر القائم هناك في حي من أحياء القاهرة.
قال أصحابي وكلهم مثلي من أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب؟ قلت: وإني في ذلك لراغب، وإني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدوي الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطا، ونمتزج به امتزاجا، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف، نتنقل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوعاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له، ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو إلقاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله أربا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العذاب.
كنا نقدر هذا كله، فلما دخلنا الأزهر لم نر إلا وحشة ولم نحس إلا صمتا، لم نعرف شيئا ولا أحدا، ولم يعرفنا شيء ولا أحد، وإنما كنا أشبه شيء بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خال موحش لا حياة فيه ولا عمران، وأشهد لقد لقينا خدم الأزهر باسمين لنا محتفين بنا، يسعون بين أيدينا ومن حولنا، كأنما نحن جماعة من السائحين الذين لا علم لهم بالأزهر ولا معرفة لهم بخفاياه، فهم يهدوننا ويدلوننا ويرفقون بنا في الحديث: ويحكم! فأنا أعلم منكم بالأزهر وأعرف بمعالمه، وإنا لم نأت لنلقى منكم هذا الرفق، وإنا لنفضل أن تلقونا بما كان يلقانا به أسلافكم من ذلك العنف الذي كانت تحبه نفوسنا وإن أظهرنا منه النفور. أين الجبلاوي وأعوان الجبلاوي؟ أين تلك العصي التي كانوا يهزونها فتسمع لها أصوات خفيفة ولكنها مخيفة؟ أين الغراب وأيام الغراب؟ أين رضوان وجنود رضوان؟ أين الجندي وأعوان الجندي؟ أين هؤلاء جميعا وما كان يحيط بهؤلاء جميعا من جلال كنا نزدريه وكنا نضيق به، وها نحن أولاء نذكره الآن فتذهب نفوسنا في أثره حسرات؟ ولست أدري من هذا الذي عرفنا فأسرع بأسمائنا إلى رجل كريم من أصحاب الفضيلة المفتشين، وإني لأطوف مع صاحبي في الأزهر يتحدث إلي وأتحدث إليه بهذا الصوت الهادئ الخافت الذي نصطنعه إذا خلا أحدنا إلى صاحبه، كأنما نحن في دار من الدور أو في بيعة من البيع التي يحسن فيها الهمس لا في الأزهر الذي لم يكن يحب إلا الجهر ورفع الصوت، وما راعنا إلا صاحب الفضيلة وقد أقبل علينا طلق الوجه باسم الثغر مبسوط الأسارير يحيينا تحية الرجل الكريم، ويدعونا إلى ضيافته ويلح علينا في أن نصعد معه إلى حيث يتلى القرآن ويشرب الشاي.
نامعلوم صفحہ
وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى الأيام، ولنسألها عما ألم بها من الحوادث واختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثرا في النفوس، ولكن الشيخ دعا فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالا ورهبة وإكبارا، في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار، وفي تلك الغرف كانت تدبر أمور الأزهر وتصرف شئون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم، وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعظة والفكاهة، وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها ذخرا لما يعقدون من مجالسهم إذا أشرق الصبح أو أقبل المساء.
صعدنا مع الشيخ إلى تلك الغرفات ونحن نسأله عن الأزهر ما خطبه، وعن هذا الصمت ما مصدره، والشيخ صامت كالأزهر لا يستطيع رجع الجواب، ثم انتهينا مع الشيخ إلى طائفة من أصحابه كرام مثله لقونا لقاء حسنا، وحيونا تحية حسنة، كما لقينا الشيخ وكما حيانا، ونسألهم عن الأزهر ما خطبه؟ وعن هذا الصمت ما مصدره؟ فإذا هم صامتون كالأزهر، وإذا هم صامتون كالشيخ، وإذا هم لا يستطيعون رجع الجواب.
ثم تدور علينا أكواب الشاي، ثم تتلى علينا آيات الله في صوت عذب ولهجة حلوة وقراءة صحيحة مستقيمة نقية تصل إلى أعماق القلوب، ولكن من القارئ؟ من أين جاء؟ ما شكله؟ وما زيه؟ إنه رجل مطربش قد اتخذ زيا غير زي الأزهر، لأنه ليس من أهل الأزهر وإنما هو من عمال العنابر. تبارك الله! رجل من غير الأزهريين يتلو القرآن بين الأزهريين! هذا خير، هذا خير كثير ولكنه غريب لم نكن نقدر أن نلقاه في أيامنا تلك، وكنا نحب أن نلقاه الآن والأزهر معمور يموج بالناس وترتفع فيه أصوات الشيوخ بقراءة القرآن، ولكن الأزهر ساكن صامت، وهذه الطائفة الكريمة من العلماء الواعظين قد استمعوا وأنصتوا لتلاوة القرآن الكريم تخرج من رأس عليه طربوش، هذا خير ما في ذلك شك، ولكن هذه الصورة ما زالت غريبة في أنفسنا، وما زال موقعها من قلوبنا شاذا قلقا، ومع ذلك فقد يقال إن الشيوخ محافظون، وإننا نحن من أصحاب التجديد.
ثم انصرفنا محزونين مستيئسين، جئنا نزور الأزهر فلم نر الأزهر، وإنما رأينا أطلاله ولم نستطع أن نطيل عندها الوقف. قلت لأصحابي: ولكن ما هذا الصمت وكيف انتهى الأزهر إليه؟ وأيكم كان يظن أن ذلك الصوت العظيم يقضى عليه في يوم من الأيام أو في ليلة من الليالي بهذا الخفوت المنكر المخيف؟ قال أصحابي: فإنك تنسى أن الأزهر قد كان جامعا فأصبح جامعة، وإنك تنسى أن الجامعة إن استيقظت في النهار فهي تنام في الليل، وإنك تنسى أن للجامعة نظاما يحد حظها من الحركة وحظها من النشاط، فاذكر هذا كله واذكر أنك تخطئ أشد الخطأ إن ظننت أن التجديد مقصور على الجامعة وأصحاب الجامعة، فالتجديد أقوى وأنشط وأوسع سلطانا مما تظن. انظر إليه كيف وصل إلى الأزهر فعلمه كيف يكون الكلام في النهار والصمت في الليل، وقد كان الأزهر متصل الكلام في الليل والنهار. قلت لأصحابي: يا بؤسى للتجديد إذا انتهى بالأزهر إلى هذه الحال! كم كنت أوثر أن يظل الأزهر جامعا وألا يمسخ جامعة!
من وحي الريف
مدت عينها إلى التمثال معجبة به، ثم ردت عينها عن التمثال منكرة له، ثم قالت وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة حائرة بين الرضا والسخط: إن وجهه لشديد العبوس!
قالت صاحبتها: ومع ذلك فقد رأيته حين تكشفت عنه الأرض، وقبل أن يحط عنه ما لصق به من الطين، فوقع في نفسي منه أثر الرضا وابتسام الثغر وإشراق الوجه، وكنت أقدر أنه سيزداد رضا وابتساما وإشراقا حين يقوم مقامه هذا في وسط هذا الفناء، وقد أزيلت عنه آثار الرقاد الطويل في هذا التراب الرطب القذر، وقد غرست من حوله شجرات الزيتون هذه التي كان يكبرها ويعظمها حتى نقش اسمها عليه في هذه التقدمة التي يتقرب بها إلى آلهته، وإني لأراه الآن كما ترينه: مظلما عابسا كأنه مغضب مغيظ.
قال أستاذ من أهل العلم بالآثار: نعم، هذا هو الأثر الذي تركه في نفسي حين نظرت إليه منذ اليوم، ولقد اتخذت له صورا فتوغرافية حين تكشفت عنه الأرض، ويخيل إلي أن صورته أدنى إلى الرضا والابتسام مما نراه الآن.
قال قائل من أهل المجلس لا يكره العبث بالعلماء: من يدري؟ لعله كان راضيا مستريحا إلى نومه المتصل في أعماق الأرض، فلما أزلتم عنه الحجب، وهتكتم عنه الأستار، وأبيتم إلا أن توقظوه في عنف، وأن تقيموه حيث لم يكن يحب أن يقوم، ضاق بكم وسخط عليكم، فاربد وجهه بعد إشراق، وهذا أيسر ما استطاع أن يقدم إليكم من أدلة السخط والاشمئزاز. وتضاحك الجالسون، وانتقلوا إلى غير هذا من الحديث، ونسوا هذا التمثال الذي كان بعضهم مع ذلك يرمقه بين حين وحين، وكان هذا التمثال قد استكشف منذ أيام، أو قل قد انتهت إليه فئوس بعض الفلاحين الذين كانوا يحتفرون بئرا، وكان هؤلاء الفلاحون أمناء، فأسرعوا إلى الشرطة فأنبئوها، وأسرعت الشرطة إلى رجال الآثار فدعتهم، فلما جاءوا نظروا وبحثوا وقرءوا، ثم قالوا: هذا تمثال من تماثيل فرعون العظيم، ذلك الذي كثرت تماثيله وتفرقت في أقطار الأرض، والذي عظم ذكره في تاريخ مصر، وحسن بلاؤه في تشييد مجدها وبسط سلطانها، وهو رمسيس الثاني، وكنت في ذلك الوقت أقيم في الريف، قريبا من المكان الذي استكشف فيه هذا التمثال، وكنت أقيم في دار من دور مصلحة الآثار هناك، وقد رأت مصلحة الآثار أن مكان التمثال أولى به، وأن نقله إلى المتحف في هذه الأيام ليس ميسورا ولا مفيدا، فأقامته في فناء تلك الدار، وجعل الذين سمعوا عنه يسعون إليه ليزوروه، منهم من يدفعه إلى ذلك حب الفن، ومنهم من يدفعه إلى ذلك حب الاستطلاع، ومنهم من يدفعه إلى ذلك شيء أقوى من الفن والاستطلاع، وهو الحنان إلى تاريخنا القديم.
ومع أن القوم الذين رويت حديثهم آنفا لم يكونوا في هذا الحديث إلا عابثين، فقد استقر في نفسي لأمر ما أن هذا العبث يمكن أن يكون جدا، وأن هذا اللغو يمكن أن يكون حقا، وأن من الجائز أن يكون تمثال الملك قد ظل مشرقا باسما هذه القرون الطوال، فلما أخرج من ظلمة الأرض إلى ضوء الشمس استحال إشراقه إلى ظلمة، وابتسامه إلى عبوس.
نامعلوم صفحہ