وتنكرين يا سيدتي الآنسة أن تلتمس الثقافة عند التعليم المنظم، فأذني لي في أن ألاحظ أن إنكارك هذا غريب؛ فالتعليم المنظم هو الذي يسيطر على تهيئة العقل لفهم الحياة والتأثر بها والاستزادة من هذا التأثر وذلك الفهم، فإذا فسد هذا التعليم وجف وأصبح صورا وصيغا تتحدث إلى الذاكرة لا إلى العقل ولا إلى القلب، لم يثر نشاطا ولم يرغب في ثقافة ولم يدع إلى استزادة من علم وفهم واستقصاء. وأنت تستطيعين أن تلاحظي ما بين الصبية الذين يختلفون إلى المدارس المصرية الخالصة والذين يختلفون إلى بعض المدارس الأجنبية في مصر، كلهم يتلقى تعليما منظما قد رسمت برنامجه دولة من الدول ووزارة من وزارات المعارف، ولكن بعضهم يحفظ ما يتلقى من هذا التعليم لا يزيد عليه ولا يستبقيه إلا ريثما ينساه، وبعضهم لا يكفيه ما يتلقى وإنما يدفعه إلى الاستزادة، فإذا هو يقرأ ويبحث ويحاول الاستكشاف، وإذا هو يثقف نفسه تثقيفا لا يظفر به الشباب الجامعيون عندنا.
لا تظني أني أغلو أو أسرف، فقد تركت لك الغلو والإسراف، إنما أنا أصور لك حقائق أشهدها كل يوم، وأستطيع أن أدلك عليها متى أحببت، وأستطيع أن أحضر أمامك صبيا في الثانية عشرة لم يتقدم في التعليم وشابا في الثامنة عشرة قد دخل الجامعة، وأن أترك لك سؤال هذين التلميذين، فسترين أن حظ الصبي من الثقافة العامة والخاصة أعظم جدا من حظ الشاب؛ لأن التعليم المنظم الذي تلقاه الصبي أخصب وأدنى إلى النفع وأقدر على إثارة النشاط من التعليم المنظم الذي تلقاه الشاب في مدارسنا المصرية الخاصة. ولقد رأيت منذ يومين اثنين كتبا يتبادلها صبيان يتعلمان في بعض المدارس الأجنبية فقرأت فيها من الشعر والنثر الفرنسيين ما أتمنى أن أقرأ مثلهما في كتب الشباب المصريين حين يكتب بعضهم إلى بعض في الصيف، وإنك لتعلمين حق العلم أن للصبية في أوروبا صحفا ومجلات يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الصحف والمجلات ترتفع جدا عما ينشر لشبابنا وكهولنا من أمثالها في الشرق، وإنك لتعلمين أن للصبية في أوروبا كتبا يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الكتب ترتفع عن كثير جدا مما يصدره كثير من الكتاب لشبابنا في مصر والشرق.
عللي ذلك بما شئت وأوليه كما تحبين، فإن التعليل والتأويل لا يغيران من الحقيقة الواقعة شيئا، والحقيقة الواقعة هي أن ثقافتنا ضعيفة مسرفة في الضعف، ضيقة مسرفة في الضيق، والحقيقة الواقعة أيضا هي أن الذين يحبون الرقي للشرق لا ينبغي لهم أن يرضوا بهذه الثقافة فضلا عن أن يعجبوا بها ويلتمسوا لأصحابها المعاذير.
وأراك يا سيدتي الآنسة تضيقين بعض الضيق أو كله بما ينتجه الأوروبيون من الآثار الأدبية في هذه الأيام، وتزعمين أن هذه الآثار أدنى إلى المادية وتعجل المنفعة المالية والتجارية منها إلى العناية الخالصة بالأدب والفن، وأخشى أن تكوني مسرفة في هذا إسرافك في تسميتي أبا العلاء، فعند الأوروبيين ميل ظاهر إلى المادة وتهالك بين على المنفعة، ولكن معبدي أبولون وأثينا لا يزالان مفتوحين في جميع المدن والبيئات الأوروبية الكبرى، وما زال العقل الأوروبي والقلب الأوروبي ينتجان آثارا عالية قيمة في الأدب والفن تسعد بها النفس الراقية ويحتفظ بها الإنسان على أنها متاع روحي خالد حقا.
والخير يا سيدتي الآنسة في ألا نصدق الأوروبيين إذا أظهروا الضيق بمادياتهم وثقافاتهم، فهم في ذلك بين ساخط لا يرضى بما وصلت إليه أوروبا طامح إلى المثل الأعلى مستزيد من الرقي، ورجل قد أخذه السأم فهو لا يرضى عن شيء ولا يطمئن إلى شيء، وإنما يريد أن يغير بيئته وحياته على أي نحو من التغيير. والخير أيضا ألا نطمئن إلى ما يقوله بعض الشرقيين ويكرره من أن الثقافة الأوروبية والحضارة الأوروبية والحياة الأوروبية قد فسدت فسادا لا صلاح بعده، فهذا كلام مصدره الضعف والعجز، وما زالت في أوروبا قوة خصبة غزيرة تؤهلها للبقاء الطويل وتؤهلها للسلطان وللسلطان الواسع، والأيام دول وقد ينتقل مركز الحياة القوية من الغرب إلى الشرق كما انتقل من الشرق إلى الغرب، ولكن وقت هذا الانتقال ما يزال بعيدا، فمن العجز أن نعلل أنفسنا به وأن نلهيها عن السعي والجد حتى نبلغ ما بلغه الغربيون، وحتى نحس إذا لقيناهم أو خلونا إلى أنفسنا أنهم ليسوا خيرا منا ولا أقدر على الحياة والفوز فيما تحتاج إليه من جهاد. وهل تأذنين في أن أعاتبك عتابا رقيقا وددت لو أهديه إليك في طاقة حسنة التنسيق من الورد والقرنفل حتى لا تغضبي ولا تذكري مقالي عن محاضرتك في الجامعة الأمريكية: تذكرين ما قاله رينان من أن الذين يعرفون أفلاطون لا يكادون يتجاوزون عشرة في كل جيل ثم تسألين عن الذين يعرفون هوميروس وغيره من شعراء اليونان أيزيدون عن هذا العدد؟! كثير منك هذا السؤال وأنت تترجمين شعر الممثلين من اليونان، وأنت تعلمين أن أفلاطون فيلسوف وأن الفلسفة أقل انتشارا من الشعر والأساطير، وأنت تعلمين أن رينان كان مثلك يحب الدعابة ويكلف بالغلو والإسراف، وأن هؤلاء العشرة الذين يذكرهم يستطيعون أن يبلغوا الآلاف في غير مشقة ولا جهد، وأن معرفة أفلاطون التي أرادها رينان هي معرفة المتقن المجيد الذي يحسن العلم بما يعالج من الموضوعات، فلا بأس على جيل من الأجيال إذا قل فيه المتقنون لفلسفة أفلاطون.
وبعد فهل تظنين أن للشرق كله واحدا أو اثنين بين هؤلاء العشرة الذين يحسنون العلم بفلسفة أفلاطون؟ أليس يؤلمك أن الجواب على هذا السؤال قد يكون نفيا، وأن هؤلاء العشرة قد يكونون جميعا من الأوروبيين والأميركيين؟
صدقيني يا آنسة، ليست ثقافتنا العامة مرضية ولا قريبة من المرضية، وصدقيني يا آنسة لا مصدر لضعف هذه الثقافة إلا فساد التعليم المنظم من جهة، وكسل الأدباء وأصحاب الصحف من جهة أخرى، ثم تعالي نتعاون يا آنسة على أن نصلح هذا الفساد ونرتفع بالثقافة إلى حيث نستطيع أن نلقى الغربيين فلا نستحي منهم، وأن نقرأ «الرسالة» وأشباه «الرسالة» من الصحف فلا نجد فيها فصولا موضوعها الإلياذة والأودسا وبسائط التمثيل، ثم تفضلي يا آنسة فاقبلي تحيتي الخالصة وإجلالي العظيم.
ذات القفاز الأخضر
أو قل ذات القفازين الأخضرين إن كنت لا تحب أن تجتزئ في مثل هذا الموضع بالواحد عن المثنى، بل تؤثر ثقل التثنية على خفة الإفراد؛ فالعنوان في نفسه واضح ، فما يظهر يؤدي معناه أحسن الأداء، ويكفي أن تعلم أن ذات القفاز الأخضر أو القفازين الأخضرين سيدة من أهل باريس عرضت نفسها للمصور فاتخذ لها صورة جميلة رائعة، وأبت عليه أن يعلن اسمها إلى الناس فرمزت لنفسها بهذا الوصف، وهي - فيما يفهم من هذا العنوان - صاحبة الشخصية الممتازة في القصة، وسترى أثناء هذا الحديث أنها شخصية ممتازة حقا، ولكن للقصة بطلا آخر أشد منها امتيازا وأعظم منها حظا من عناية النظارة والقراء.
وقد فهم النقاد الفرنسيون - وليس من شك في أنهم لم يخطئوا - أن شخصية هذه السيدة ليست هي الأولى ولا التي ألفت القصة من أجلها، وإنما الشخصية الأولى، الشخصية التي قصد الكاتب إلى تصويرها واتخذها مرآة لعصر من العصور، ووسيلة إلى نقد جيل من الأجيال الفرنسية كألذع ما يكون النقد، شخصية رجل، هو بطل القصة حقا، والغريب أنه فيما يظهر ليس شخصا خياليا، وإنما هو شخص قد عرفه الوجود الواقعي، وظهرت آثاره قوية جلية في حياة الفرنسيين قبيل الحرب الكبرى، ثم ظهرت في العام الماضي شخصية تشبهها من بعض الوجوه، وتحدث في الحياة الفرنسية مثل ما أحدثت من الآن، وهي شخصية ستافسكي، والرجل الذي قصد المؤلف إلى تصويره ليس فرنسيا، وإنما هو شرقي ولد في مصر من أبوين شرقيين من هؤلاء الشرقيين الذين لا تستطيع أن تعرف لهم وطنا ولا جنسا، ولا أن تضيفهم إلى جيل من أجيال الناس معروف، إنما هم يتكلمون لغات كثيرة، وينتسبون إلى أمم مختلفة، ويتخذ كل واحد منهم لنفسه آخر الأمر جنسية سياسية أوروبية يحتمي بها من قوانين مصر في هذه الأيام أو من قوانين الشرق حين كان الشرق كله خاضعا لنظام الامتيازات.
نامعلوم صفحہ