وأسرع تحللا مع البخار وبخاصة متى كان الجوهر المتحلل مع البخار موافقا للروح النفساني، لان الروح الموافقة له تستلذه وتستطيبه وتسكن له.
وأما حاسة الذوق، فإنها لما كانت بلقاء جرم المحسوس بجواهره المختلفة، قوي فعل المخالف منها على الموافق لان الحاسة تسكن عند الجوهر (1) الموافق وتهدأ عن الحركة لاستلذاذها ومشاكلته لها، وتقلق وتضطرب عند الجوهر المخالف وتكثر حركتها لما بينهما من المنافرة. والدليل على ذلك: أنا نجد الورد لذيذا عند حاسة الشم، كريها عند حاسة الذوق، من قبل أن الذي يتحلل منه مع البخار بسرعة ويصل إلى حاسة الشم لطيفة ومحمودة. وأما جوهره الغليظ الكريه العفص، فلقوة أرضيته، يعسر تحلله مع البخار جدا. ولذلك لا يتحلل منه إلا ما لا مقدار له عند الحاسة. ومن قبل ذلك يخفى ولا يظهر إلا بالقرب من فناء الجوهر اللطيف.
وللفيلسوف (2) في كتابه المعروف بكتاب (النفس) في هذا فصل قال فيه: إن الشم ليس هو كسائر الحواس، من قبل أن كل حاسة من الحواس تدرك اللذيذ من محسوساتها والكريه والوسائط التي بين اللذيذ والكريه جميعا، كالبصر فإنه يدرك البياض والسواد وما بينهما من الألوان. والذوق يدرك الحلو والمر وما بينهما من الطعوم. وأما الشم فليس كذلك لأنه إنما يدرك الرائحة الطيبة والكريهة فقط، ولا يدرك ما بينهما من الوسائط. ولذلك لم يفصل بين رائحة المر والمسك، والصبر والعنبر إلا أن نعلم أن بعضها طيب وبعضها كريه، ولا نعلم فصولها الغاشمة لها المميزة لبعضها من بعض، لان الحاسة لما ضعفت عن إدراكها لم تدل على كيفياتها، ولما لم تدل على كيفياتها (3) لم تقف على صفتها، ولما لم تقف على صفتها، لم يقف (4) العقل على تسميتها فاشتق لها اسما من الطعوم وقال: طيب وكريه. وقد نستدل على ذلك من الحيوان الذي لا أشفار (5) له تنطبق على عينيه ويريح الروح الحيواني البصري حتى يجتمع ويقوى، ولذلك لا يبصر جيدا لدوام انفتاح عينيه وخسائها (6) لكثرة ما يتحلل من الروح الحيواني منها بدوام ملاقاة نور الشمس له واستغراقه لنورها (7). وهذا موجود في دواب البحر لأنها خاسئة الأعين، من قبل أن ليس لها أشفار تطبقها على أعينها فتريح الروح الحيواني ليقوى ويخرج على زاوية حادة صنوبرية.
وكذلك حاسة الشم لا تميز الروائح على الحقيقة لخسائها وغلظها وبعدها من موضع الشم. فإن قال قائل: فإذا كان الشم إنما يدرك محسوساته بالاستنشاق فكيف صار ما لا مناخر له من الحيوان يشتم؟
قلنا له: إن المجاري التي يشتم بها الحيوان الذي لا مناخر له ليس عليها مانع يمنع من وصول الهواء
صفحہ 47