افکار و رجال: قصہ فکر غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
اصناف
إن المؤرخ الذي يحاول أن يصوغ أحكاما عامة عن ظهور الثقافات وازدهارها وسقوطها (أو المجتمعات، أو الحضارات) يواجه في العصور الوسطى مشكلة خطيرة. إن التقسيم الشائع الذي يتخذه أمثال هؤلاء المؤرخين - أو فلاسفة التاريخ - في الأزمنة الحديثة هو تحديد ثقافة إغريقية لاتينية تمتد على وجه التقريب من الإغريق لعهد هومر إلى الرومان في القرن الخامس بعد الميلاد وثقافة غربية حديثة تبدأ في العصور المظلمة وتمتد إلى الحاضر (وهو الحاضر الذي يعده الكثيرون منهم أيام التدهور الأخيرة في ثقافتنا). ويعد أزولد شبنجلر الألماني مثالا طيبا في القرن العشرين لهؤلاء المؤرخين. يرى شبنجلر أن هذه الثقافات نوع من الكائنات العضوية لها عمر يبلغ نحو ألف عام، ولها طفولة، وشباب، وشيخوخة، أو ربيع، وصيف، وخريف، وشتاء. كان شبنجلر يرى أن الثقافة الإغريقية الرومانية ثقافة «أبولية»، وثقافتنا «فاوستية». غير أن هناك كثيرين، ومن بينهم المستر أرنولد توينبي، يرون القديم، أو الكلاسيكي، نوعا من الثقافة، والغربي الحديث نوعا آخر، ربما يتصل بالنوع الأول، ولكنها ثقافة منفصلة من حيث أهدافها - وذلك بالرغم من أن هؤلاء المؤرخين لا يقبلون كل آراء شبنجلر في عمر الثقافات وفي كثير غير ذلك. وإذا أخذنا بهذا الرأي كانت العصور المظلمة هي طفولة ثقافتنا الحديثة، والعصور الوسطى شبابها؛ أي إن العصور الوسطى - بعبارة أخرى - ليست ثقافة في حد ذاتها. في حين أن كثيرين ممن تعمقوا دراسة العصور الوسطى ومن بينهم أكثر عشاق هذه العصور من المحدثين، يرونها ثقافة في حد ذاتها - إن جاز هذا التعبير، وليست مجرد مقدمة لثقافتنا. وهم يرون أن العصور الوسطى قد بلغت أوجها في القرن الثالث عشر، ثم تدهورت في القرنين التاليين. وأولئك من بينهم الذين يمقتون العالم الحديث أشد المقت يحسبون هذا التدهور مستمرا إلى الحاضر، ولا يرى المستر بتريم سوروكين - مثلا - سوى نقطتين اثنتين ثقافيتين مرتفعتين في تاريخ العرب - أثينا في القرن الخامس، وغرب أوروبا في القرن الثالث عشر. ويضع غيرهم المحدثين في القمة، التي يميلون اليوم إلى أن يردوها إلى القرن التاسع عشر.
إن تنوع الصور الذي تتضمنه أية محاولة لقياس الارتفاع والانخفاض في حياة الجماعات البشرية معقد إلى درجة يتعذر معها تحقيق الدقة أو حتى الاتفاق في دراسة هذه الصور. ومن الواضح أننا هنا نعالج المعرفة اللاتراكمية. غير أن الجماعات لها من ناحية أخرى ارتفاعها وانخفاضها. وإنكار هذه الحقيقة يجرد التاريخ من كل معنى من المعاني.
ومن العقبات الأولية في دراسة المجتمع الغربي أن هذا المجتمع لم يكن قط وحدة «سياسية»، اللهم إلا لفترة وجيزة في عهد الإمبراطورية الرومانية. كان هذا المجتمع ينقسم سياسيا إلى مجموعات مستقلة - هي المدن الحكومية، أو الولايات الإقطاعية، أو الدول القائمة على القوميات - وقد مرت بهذه الوحدات فترات من الازدهار والاندحار. ولما كانت روما في أوجها كانت أثينا مجرد مدينة جامعية. وكذلك إسبانيا هوت إلى مكانة تافهة بعدما بلغت القمة في القرن السادس عشر. وأي صحفي يشعر الآن بالحرية في وصف فرنسا بأنها دولة من الدرجة الثانية، بعد ما كانت في وقت من الأوقات توصف بأنها «الأمة العظيمة». ثم إن تنوع النشاط البشري يشكل هنا مشكلة من المشكلات. ذلك أن «ازدهار» حضارة ما ليس ثمرة زهرة واحدة، وإنما هو ثمرة كائن عضوي معقد. وقد تزدهر بعض أنواع النشاط البشري في مجتمع معين ويذبل غيرها، وقد يبدو نوع من أنوع النشاط أشد دلالة من غيره كناحية من نواحي الثقافة، وقد يزعم زاعم أن القمة الثقافية التي بلغتها إنجلترا الضئيلة لعهد إليزابث كانت أعلى من القمة التي تسنمتها بريطانيا الغنية القوية في أيام فكتوريا. وقد انتشر التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي عرفه المجتمع الغربي انتشارا واسعا في القرنين الأخيرين، حتى لقد بات مستوى المعيشة في إسبانيا المنهارة في القرن العشرين أعلى منه بالتأكيد في إسبانيا لعهد سرفانتيس، ولوب دي فيجا، والكنكستادور. ويكاد الكل يجمع على أن القمة الثقافية في ألمانيا من باخ وكانت وجيته إلى الأعمال العلمية والدراسية العظمى التي قامت بها الجامعات الألمانية في القرن التاسع عشر، تسبق في تاريخها القمة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي بلغتها ألمانيا في عهد وليام الثاني أو هتلر.
وبهذا التحذير نصب أعيننا نستطيع أن نعود إلى المشكلة التي بدأنا بها. ومن الممكن أن نوفق بين الرأي القائل بأن العصور الوسطى كانت بداية، أو كانت فترة الشباب، بالنسبة إلى المجتمع الغربي الحديث والرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى كانت في حد ذاتها قمة، وازدهارا، ونوعا من أنواع النضج، وذلك بالرغم من المبالغة البادية في هذا النوع من التقسيم التاريخي. وإذا أنت وجهت اهتمامك نحو التكامل السياسي والاقتصادي في الجماعات الفرعية الجغرافية في المجتمع الغربي (وأقصد بها القوميات) لاقيت نتيجتين واضحتين في تاريخنا - إحداهما - من التنوع الملموس في المدن الحكومية والقبائل والأمم حوالي عام 1000ق.م، التي كانت في حالة بدائية من الناحية الاقتصادية، مستقلا بعضها عن بعض، إلى العالم الأوحد المتحد، الغني، المركب، في الإمبراطورية الرومانية. والنتيجة الثانية من الانحلال الإقطاعي المتطرف والبدائية الاقتصادية في العصور المظلمة، إلى الوقت الحاضر ، حيث لا يوجد سوى سبعين وحدة مستقلة منفردة في العالم بأسره، وحيث بلغ التقدم الاقتصادي درجات لم تعرف من قبل، وحيث تبدو عملية التكامل هذه للكثيرين خطوة في الطريق نحو الدولة العالمية. وإذا أنت وجهت اهتمامك إلى المشكلات الصغرى وتفصيلاتها الدقيقة، كتطور نظم التمثيل النيابي، أو نمو البنوك، أو التفكير العلمي، وجدت مستوى منخفضا يكاد يكون تصدعا في العصور المظلمة، ووجدت بدايات لا تخطئها في العصور الوسطى اتصل منها التقدم بصورة ما حتى العهد الحاضر. وفي مثل هذا الضوء تبدو العصور الوسطى في وضوح شديد بداية للأشياء الحديثة.
وأما إذا أنت وجهت اهتمامك بقدر المستطاع نحو الثقافة الوسيطة ك «كل»؛ نحو ما أسميناه في ضعف ب «أسلوب العيش»، نحو الأفكار الوسيطة عن الحق والجمال ومكانة الإنسان في النظام العام، لما وسعك إلا أن تؤمن بشيء من الرأي القائل بأن العصور الوسطى تستحق باعتبارها درجة من درجات العيش أن توضع في مكانة تغاير مكانة الدرجة التي بلغناها اليوم، وإن تكن وثيقة الصلة بها بشكل واضح. إنك لا تستطيع أن تقرأ دانتي، أو أكويناس، أو شوسر، أو أن تتطلع إلى كاتدرائية شارتر، أو حتى أن تدرس مصورا مفصلا لإقطاعية وسيطة قائمة بذاتها، دون أن تحس أنك في عالم آخر. ومن الحق أن هذا العالم ربما بدا للرجل الأمريكي في القرن العشرين الذي يكلف نفسه مشقة العيش في هذا العالم وفي ذاك، عالما أشد اختلافا من عالمه عن عالم أثينا في القرن الخامس.
وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى أحكام عامة عريضة عن هذا العالم الوسيط، وإلى نبذ عن ثقافة العصور الوسطى، وإلى دلالات معينة على ذوقها أو طعمها.
فهناك أولا الوجود المباشر لما هو فوق الطبيعي، وقبول الإدراك العام له. وقد التقينا من قبل بهذا العنصر غير الطبيعي. وهناك في القرن العشرين الملايين من النساء والرجال الذين يؤمنون بالمسيحية إيمانا صادقا. وكثيرون منهم يشعرون بالإساءة الشديدة إذا نحن ذكرنا لهم أن إيمانهم أقل ولو قليلا في شدته عن إيمان أسلافهم في العصور الوسطى. ولكن المؤمنين اليوم قد أبعدوا عنهم حدود ما ليس بالطبيعي، وخضعت نواح بأكملها من حياتهم الواعية للنظم التي نحسبها طبيعية. إنهم قد يدعون الله أن ينزل عليهم ماء من السماء، ولكنهم إلى جانب ذلك يقرءون النشرة الجوية التي يعدها المختصون بالأرصاد الذين لا يعتقدون - مهما تكن دياناتهم - بأن الله يتدخل تدخلا مباشرا في هبوب الرياح الباردة. وهناك أيضا ملايين من الرجال والنساء في الوقت الحاضر، لا يدري إلا الله كم يبلغ عددهم، ممن لا يعتقدون خلود الروح البشري، ومن ثم فإن فكرة النعيم والجحيم لا تعني لهم شيئا، أو لعلها تصدم مشاعرهم فعلا. وهناك عدد آخر أكبر من هذا بكثير ممن أصبح النعيم والجحيم بالنسبة إليهم أفكارا غامضة حقا. إنهم يؤمنون بالخلود، والفردوس، والجحيم، ولكن باعتبارها أمورا بعيدة، يمكن تأجيل التعرف الدقيق إليها إلى ما لا نهاية. وقد فقدت «النار» بصفة خاصة جذوتها بالنسبة إلى كثير من أبناء العصر الحديث. وباتت في رأيهم مكانا للمذنبين المتميزين وحدهم، كما كانت النار عند الإغريق.
ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى أهل العصور الوسطى. كان الإله - كما أشرنا إلى ذلك من قبل - بالنسبة إليهم حقيقيا موجودا كالجو بالنسبة إلينا، والجنة والنار لكل امرئ، أمرا أكيدا كضوء الشمس أو المطر. وكان رجال الفكر في العصور الوسطى في أكثر الأحيان يعتقدون أن الله يحدث الأشياء على هذه الأرض طبقا لنظم معينة وضعت أساسا لصالح الإنسان - أي إن الكون في أساسه خلقي، ومن ثم فإن أمورا كثيرة معروفة ويمكن التنبؤ بها. كان إلههم إلها يعتمد عليه، بمعنى يشبه إلى حد ما ما يؤمن به العلماء المحدثون من أن الطبيعة يعتمد عليها. وكانت الجماهير تشعر بشيء من هذا الإحساس بالانتظام على الأقل بالصورة التي نسميها الإدراك العام، وإلا لتعسر عليهم أن يعيشوا حياتهم اليومية. وقد شاع بين الجماهير في العصور الوسطى، بل وبين المثقفين، بالرغم من ذلك شعور بعدم المعقولية، وعدم اليقين، و«المفاجأة» في الحياة في هذه الدنيا. ويظهر ذلك - على مستوى واضح جدا - في سيادة ما نسميه اليوم الخرافة في العصور الوسطى. ولو تعمقنا قليلا في آداب العصور الوسطى ظفرنا بمثال لما نقول - كانوا يعتقدون أن البيض الذي يوضع يوم الجمعة اليتيمة ينفع في إطفاء النيران، وأن الجنيات تجعل اللبن حامضا، وأن لمسة الملك تشفي من داء الخنازير ... إلخ ... إلخ. ومن الحق أن كثيرا من هذه الخرافات لا يزال باقيا، وأننا زدنا عليها بعضا من عندنا. غير أن امتداد الخرافة في العصور الوسطى وعمقها تجعل الخرافة في عهدنا تبدو شيئا تافها. وقد أحال انتشار العلوم بين العامة - على أقل تقدير - أكثر خرافاتنا إلى الجانب العاطفي المحض. من ذلك «لمس الخشب» على سبيل المثال. ونحن لا نعتبر هذه الخرافات - كما كان يعتبرها أهل العصور الوسطى - تفسيرا للظواهر، أو نظريات أساسية.
إن تأثير ما فوق الطبيعة (وليست الخرافة إلا جانبا تافها غير كريم منها) واضح في عمل ينبغي أن يتنبه إليه على الأقل أي فرد يحاول أن يفهم العصور الوسطى. ذلك أن الجحيم، والمطهر، والفردوس كانت بالنسبة إلى دانتي في «الكوميديا الإلهية» حقيقة، كما كانت لندن بالنسبة إلى دكنز. والجحيم - كما قيل مرات عديدة - هو أكثر الثلاثة محسوسية. كان دانتي شاعرا عظيما، ولكنه كان كذلك سياسيا ممرورا مبعدا، رأى بلده فلورنسة وإيطاليا تسير في اتجاه يثير حسه الخلقي. فألقى بخصومه في الجحيم - في كتابه - وكان ذلك عنده جزءا طبيعيا من عملية الصراع، كما كانت الانفجارات المعنوية التي يقنع بها الرجل من أتباع تروتسكي في العصر الحديث. إن صفة الوهم، التي لا يستطيع أن يتحاشاها الرجل الحديث وهو يحاول أن يعالج ما ليس بالطبيعي، لم تكن ماثلة في «جحيم» دانتي. إنه يسوق قارئه إلى جحيم يراها القارئ واقعية حتى إذا ما حاول أحد المصورين أن يرسمها بلون من عنده أزال عنها واقعيتها وجعلها أقل صدقا. وينطبق ذلك بصفة خاصة على أشهر مصوري دانتي، جوستاف دوري الفنان الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر. ولم يفلح جوستاف إلا في أن يجعل جحيم دانتي «رومانسية» كما نقول، في حين أنها لم تكن كذلك.
إلا أن الكتاب الرومانسيين في القرن التاسع عشر - وهنا يقفز إلى الذهن والتر سكوت مباشرة - عثروا على شيء كانوا يبحثون عنه في القرون الوسطى، التي أعادوا إليها سمعتها الثقافية الطيبة، وذلك الشيء الذي عثروا عليه أفسدوه بالمبالغة، ولكنه موجود، وهو النغمة الثانية التي يرن صداها في ثقافة العصور الوسطى، وينبغي لنا أن ننبه إليها الأسماع. وهي وجه آخر من قبول العصور الوسطى لما ليس بالطبيعي كأنه طبيعي. إننا نحب أن نقول إن الصدق أغرب من الخيال. ولكنا نحن المحدثين لا نعني بهذا القول أن حياتنا اليومية مليئة بالعجائب وإنما نعني - على سبيل المثال - أن من بين مئات حالات القتل الواقعية التي تقدم إلى محاكمنا لا توجد سوى حالة واحدة تنم عن درجة من الفساد البشري وعن الحيلة التي تفوق الخيال الذي نجده في أغرب القصص البوليسية. أما الغالبية العظمى من حوادث القتل الواقعية فلا تبلغ - كما نعلم - من التشويق مقدار ما تبلغه القصص الخيالية. إنها في الواقع أمور عادية في باب الجرائم. ولو عبرنا عن ذلك تعبيرا عاديا، وأخذنا بنوع من النظر الإحصائي الذي يقبله الإدراك العام - وهي النظرة التي تضع الأمثلة في خط بياني تقليدي يبين نسبة التوزيع - قلنا إن مائة في المائة هي في ندرتها كصفر في المائة، والكثرة العظمى تقع حول الخمسين في المائة.
نامعلوم صفحہ